علم غزير ونبل وتسامح

علم غزير ونبل وتسامح

دكتور-يحيى-بن-جنيدكان‭ ‬اختيار‭ ‬شخصية‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬الجنادرية‭ ‬موفقًا،‭ ‬ومفرحًا،‭ ‬وعادلًا؛‭ ‬لأن‭ ‬المُختار‭ ‬يستحق‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عزوفه‭ ‬عن‭ ‬الترشح‭ ‬للجوائز‭ ‬وخلافها‭. ‬والقول‭ ‬باستحقاقه‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مسوّغات‭ ‬كثيرة؛‭ ‬أكثرها‭ ‬يتصل‭ ‬بعلمه،‭ ‬ومشاركاته‭ ‬الثقافية،‭ ‬وأقلها‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مما‭ ‬له‭ ‬صلة‭ ‬بشخصيته.

أمَّا‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بعلمه‭ ‬فأمر‭ ‬واسع‭ ‬يصعب‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬تتبعه؛‭ ‬فهو‭ ‬عالم،‭ ‬وباحث،‭ ‬وفقيه،‭ ‬وأصولي،‭ ‬ومُحدّث،‭ ‬ومُفسّر،‭ ‬ونحويّ،‭ ‬ولغويّ،‭ ‬وعَروضيّ،‭ ‬وناقد،‭ ‬وقاصّ،‭ ‬وشاعر،‭ ‬ونسَّابة،‭ ‬وله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬مشاركات،‭ ‬توضحها‭ ‬مؤلفاته‭ ‬التي‭ ‬تجاوزت‭ ‬ثلاث‭ ‬مئة‭ ‬مؤلَّف،‭ ‬مع‭ ‬تأكيد‭ ‬الاختلاف‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬المحتوى،‭ ‬والحجم،‭ ‬والتأثير‭.‬ ثم‭ ‬هو‭ ‬فيما‭ ‬يخصّ‭ ‬صلته‭ ‬بالعلم‭:‬ محاضر،‭ ‬خطيب،‭ ‬جدلي‭ ‬بارع،‭ ‬يملك‭ ‬الحجة‭ ‬والبرهان‭ ‬عندما‭ ‬يُقدم‭ ‬رأيًا‭ ‬يسنده‭ ‬بذخيرته‭ ‬المكنوزة‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬يشكو‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬خيانتها‭ ‬إيَّاه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭.‬

أمَّا‭ ‬الجوانب‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الاختيار‭ ‬قد‭ ‬عرج‭ ‬عليها؛‭ ‬فهي‭ ‬أيضًا‭ ‬واسعة‭ ‬ذات‭ ‬تشعبات؛‭ ‬فهو‭ ‬إداري‭ ‬مميز،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬له‭ ‬بارتقاء‭ ‬المناصب‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬براعته‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬جليّ،‭ ‬لكن‭ ‬يوضحها‭ ‬تولِّيه‭ ‬الإدارة‭ ‬في‭ ‬وحدتين‭ ‬ثقافيتين؛‭ ‬هما‭:‬ رئاسة‭ ‬اللجنة‭ ‬الاستشارية‭ ‬للشؤون‭ ‬الثقافية‭ ‬بالجمعية‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬عند‭ ‬تأسيسها،‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬رئيسها‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الشدي،‭ ‬فاختير‭ ‬لعضويتها‭ ‬شخصيات‭ ‬متباعدة‭ ‬في‭ ‬توجهاتها،‭ ‬لكنها‭ ‬ذات‭ ‬مكانة‭ ‬علمية‭ ‬مرموقة؛‭ ‬منها‭:‬ الشيخ‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬أبو‭ ‬غدة،‭ ‬وهو‭ ‬يومئذ‭ ‬أستاذ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سعود‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وعالم‭ ‬حنفي‭ ‬المذهب‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬والشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الرفاعي،‭ ‬الأديب‭ ‬والشاعر‭ ‬الرائد،‭ ‬وكان‭ ‬مسؤولًا‭ ‬حكوميًّا‭ ‬يشغل‭ ‬منصبًا‭ ‬رفيعًا‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬رئاسة‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تبنيه‭ ‬ندوة‭ ‬أسبوعية‭ ‬كانت‭ ‬الأشهر‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المملكة،‭ ‬والدكتور‭ ‬محمد‭ ‬المفدى،‭ ‬عالم‭ ‬النحو‭ ‬المعروف،‭ ‬وكان‭ ‬أستاذًا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سعود‭ ‬الإسلامية،‭ ‬والدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الضبيب،‭ ‬وكان‭ ‬أستاذًا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الملك‭ ‬سعود،‭ ‬ومؤلفًا‭ ‬ومحققًا‭.‬ وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬جلال‭ ‬قدر‭ ‬الأعضاء‭ ‬وتميزهم،‭ ‬فإن‭ ‬الشيخ‭ ‬كان،‭ ‬بإدارته‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬الاحترام،‭ ‬والمدعومة‭ ‬بالرغبة‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬ما‭ ‬يخـدم‭ ‬الوسط‭ ‬الثقافي،‭ ‬ناجحًا‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الحوار،‭ ‬واستــخـلاص‭ ‬الفوائـد‭.‬ وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬اللجنة‭ ‬الاستشارية‭ ‬التي‭ ‬رأسها‭ ‬في‭ ‬الجمعية،‭ ‬تولى‭ ‬رئاسة‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬التوباد،‭ ‬واختار‭ ‬مسمى‭ ‬‮«‬رئيس‭ ‬الكتبة‮»‬‭ ‬عوضًا‭ ‬من‭:‬ رئيس‭ ‬التحرير،‭ ‬وكان‭ ‬متابعًا‭ ‬كل‭ ‬أعمالها‭.‬

yahya2كما‭ ‬وُلّي‭ ‬أمر‭ ‬النادي‭ ‬الأدبي‭ ‬بالرياض؛‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬وقته‭ ‬شعلة‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬المنظم‭ ‬وغير‭ ‬المنظم؛‭ ‬فمن‭ ‬محاضرات‭ ‬يلقيها‭ ‬مرموقون‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬وغيرهم،‭ ‬إلى‭ ‬كتب‭ ‬متنوعة،‭ ‬إلى‭ ‬جلسات‭ ‬في‭ ‬فناء ‭)‬الفيلا‭ ‬الصغيرة)‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مقرًّا‭ ‬للنادي‭.‬ كان‭ ‬يتابع‭ ‬كل‭ ‬كبيرة‭ ‬وصغيرة؛‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الإعلام‭ ‬لفسح‭ ‬الكتب،‭ ‬ومع‭ ‬المحكمين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تصحيحها‭.‬ ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭ ‬خطابه‭ ‬التعقيبي‭ ‬الموجه‭ ‬إلى‭ ‬الدكتور‭ ‬حسن‭ ‬ظاظا،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬بخصوص‭ ‬كتاب‭ ‬الشعر‭ ‬الأندلسي،‭ ‬ونص‭ ‬الرسالة‭:‬

‮«‬سعادة‭ ‬الدكتور‭/‬ حسن‭ ‬ظاظا‭ ‬المحترم

السلام‭ ‬عليكم‭ ‬ورحمة‭ ‬الله‭ ‬وبركاته‭ ‬وبعد،

إلحاقًا‭ ‬لخطابنا‭ ‬رقم‭ ‬بدون‭ ‬وتاريخ 18 / 6 / 1399هـ،‭ ‬المرفق‭ ‬به‭ ‬ترجمة‭ ‬الدكتور‭ ‬الطاهر‭ ‬أحمد‭ ‬مكي،‭ ‬لكتاب‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الأندلسي‮»‬‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بتقرير‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬زغلول‭ ‬سلام،‭ ‬عن‭ ‬الكتاب‭ ‬والترجمة‭.‬ وحيث‭ ‬رغبنا‭ ‬من‭ ‬سعادتكم‭ ‬مراجعة‭ ‬الترجمة،‭ ‬وتلافي‭ ‬ما‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬زغلول‭ ‬من‭ ‬اضطراب‭ ‬بعض‭ ‬العبارات‭ ‬ووقوع‭ ‬بعض‭ ‬الأخطاء‭.‬ نفيد‭ ‬سعادتكم‭ ‬أنه،‭ ‬وحتى‭ ‬تاريخه،‭ ‬لم‭ ‬نتلق‭ ‬إجابتكم‭.‬ نرجو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلينا؛‭ ‬شاكرين‭ ‬لكم‭ ‬سلفًا‭ ‬حسن‭ ‬تجاوبكم‭.‬ وتفضلوا‭ ‬بقبول‭ ‬وافر‭ ‬تحياتنا‮»‬‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬فضل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬اقـتـناء‭ ‬مجموعة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والدوريات‭ ‬النادرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬النادي،‭ ‬واستطاع‭ ‬بعلاقاته‭ ‬الشخصية‭ ‬أن‭ ‬يستعين‭ ‬بأثرياء‭ ‬لدعم‭ ‬الميزانية‭ ‬الرسمية‭ ‬المتواضعة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭.‬

yaha3أمَّا‭ ‬النمط‭ ‬الآخر‭ ‬المتصل‭ ‬بشخصيته،‭ ‬خارج‭ ‬العمل‭ ‬العلمي‭ ‬والوظيفي؛‭ ‬فهو‭ ‬أكثر‭ ‬سعةً‭ ‬وعمقًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المتصل‭ ‬بالعلم‭ ‬والأدب‭ ‬والثقافة؛‭ ‬فالشيخ‭ ‬إنسان‭ ‬اجتماعي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬الأسبوع‭ ‬من‭ ‬مناسبة‭ ‬لديه،‭ ‬تحفل‭ ‬بمدعوين‭ ‬غير‭ ‬متجانسين،‭ ‬وهذه‭ ‬صفة‭ ‬مميزة‭ ‬لدعواته؛‭ ‬إذ‭ ‬ستجد‭ ‬العالم،‭ ‬والأديب،‭ ‬والثري،‭ ‬والمتدين،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬العامي‭ ‬والفقير،‭ ‬بلا‭ ‬تمايز‭ ‬في‭ ‬الجلوس‭ ‬أو‭ ‬الاحتفاء؛‭ ‬فهو‭ ‬يحتفي‭ ‬بالحضور‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬درجاتهم‭ ‬ومشاربهم‭.‬ ثم‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬البساطة‭ ‬والشفافية،‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬خاصة‭ ‬به‭ ‬أمام‭ ‬جمع‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وهو‭ ‬بعيد‭ ‬من‭ ‬النميمة‭ ‬والحسد‭ ‬والحقد،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬للمال‭ ‬قيمة‭ ‬غير‭ ‬السعادة‭ ‬الوقتية؛‭ ‬فإن‭ ‬جاءه‭ ‬‮«‬الرزق‮»‬‭ ‬أفناه‭ ‬في‭ ‬الولائم،‭ ‬ومساعدة‭ ‬المحتاجين،‭ ‬والصرف‭ ‬على‭ ‬الأبناء،‭ ‬وبالطبع‭ ‬تسديد‭ ‬الديون،‭ ‬ودعم‭ ‬احتياجات‭ ‬المجلة‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬ينشرها‭:‬ ‮«‬الدرعية‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬مما‭ ‬يقدم‭ ‬الشيخ‭ ‬المبجل‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تشمل‭ ‬البساطة،‭ ‬والتواضع،‭ ‬وخفة‭ ‬الظل،‭ ‬علاقته‭ ‬المتميزة‭ ‬بإنسان‭ ‬بسيط‭ ‬فقير‭ ‬عامي،‭ ‬كان‭ ‬يُعرف‭ ‬بأبي‭ ‬عزيز،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬يهنأ‭ ‬له‭ ‬بال‭ ‬إلا‭ ‬بوجوده،‭ ‬فإن‭ ‬لم‭ ‬يحضر‭ ‬أرسل‭ ‬في‭ ‬طلبه‭ ‬سائقه‭ ‬الخاص،‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬أبنائه،‭ ‬ولا‭ ‬يجلس‭ ‬أبو‭ ‬عزيز‭ ‬إلا‭ ‬متصدرًا،‭ ‬ولا‭ ‬يبخل‭ ‬عليه‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬تعج‭ ‬بأدباء‭ ‬وشعراء‭ ‬ومثقفين‭ ‬بالسؤال‭ ‬والمناكفة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وكم‭ ‬حزن‭ ‬عند‭ ‬وفاته‭ ‬وتألم‭ ‬لفراقه‭.‬ ومن‭ ‬يتعمق‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬أبي‭ ‬عزيز‭ ‬وأبي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬سيجد‭ ‬المثل‭ ‬الواضح‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬الشيخ‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬إنسانية‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬تواضع‭ ‬جم،‭ ‬وخلق‭ ‬رفيع،‭ ‬وحب‭ ‬المساعدة،‭ ‬واحترام‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬مكانته‭.‬ كان‭ ‬أبو‭ ‬عزيز‭ ‬لصيقًا‭ ‬بالشيخ‭ ‬محبًّا‭ ‬إياه،‭ ‬لا‭ ‬يفتأ‭ ‬يشيد‭ ‬به‭ ‬وبما‭ ‬يقدمه‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬عون،‭ ‬وهو‭ ‬الفقير‭ ‬المعدم (المقطوع‭ ‬من‭ ‬شجرة)‬؛‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الأهل‭ ‬والأقارب‭ ‬غير‭ ‬ابن‭ ‬مريض‭ ‬وابنة‭ ‬متزوجة‭.‬ ولم‭ ‬يكن‭ ‬أبو‭ ‬عزيز‭ ‬الوحيد‭ ‬من‭ ‬البسطاء‭ ‬الذين‭ ‬ربطتهم‭ ‬علاقة‭ ‬بالشيخ؛‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬غيره‭ ‬ممن‭ ‬يأتون‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬وقرى،‭ ‬بعيدة‭ ‬أو‭ ‬قريبة،‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬استضافتهم‭ ‬في‭ ‬منزله،‭ ‬مُخصّصًا‭ ‬لهم‭ ‬مكانًا‭ ‬للنوم،‭ ‬مع‭ ‬إكرامهم‭ ‬مدة‭ ‬إقامتهم،‭ ‬ومساعدتهم‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬حوائجهم‭.‬

ذلكم‭ ‬هو‭ ‬المكرم‭ ‬في‭ ‬جنادرية‭ ‬هذا‭ ‬العام (‭‬1437هـ)‭ ،‬والحائز‭ ‬وسام‭ ‬الملك‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭:‬ الشيخ‭ ‬المبجل‭ ‬محمد‭ ‬ابن‭ ‬عمر‭ ‬العقيل ‭)‬أبو‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬عقيل‭ ‬الظاهري‭‬،(‭‬ المتفرد‭ ‬بشخصية‭ ‬يصعب‭ ‬وصفها‭ ‬وتحديد‭ ‬إطارها،‭ ‬لكن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬صاحبها‭:‬ عالم‭ ‬موسوعي،‭ ‬نبيه،‭ ‬كريم،‭ ‬متسامح،‭ ‬بسيط،‭ ‬محب‭ ‬الحياة؛‭ ‬لإفادة‭ ‬الآخرين‭.‬

دقة‭ ‬وطموح

العـودة إلى محاضـر اللجنة الاستشارية للشؤون الثقافية بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون وأوراقها الرسمية، يكشف لمن سيقف عليها مشاريع كبيرة كان يطمح إلى تحقيقها؛ من بينها:

موسوعة «الألفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون»، وقد أوضح ما يتعلق بها في خطاب وجَّهه إلى أعضاء اللجنة الاستشارية الدائمة للشؤون الثقافية بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وقد بسط فكرتها في ثماني نقاط، هي:

أولًاأن تكون بحوثًا تستوعب الألفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون.

ثانيًاأن تغطي الفنون الجمالية؛ مثل: الفنون التشكيلية، والألوان، والعروض، والقافية، والبديع، وما له علاقة بالنقد الأدبي الجمالي.

ثالثًاأن يكون بحث المادة مستوعبًا من الناحية اللغوية وعلومها، ومن الناحية الفنية، ومن الناحية التاريخية، ومن الناحية الشرعية، ومن الناحية الأدبية.

رابعًاأن تصدر مرتبة على الحروف وفق منهج القاموس المحيط.

خامسًاأن تُرتَّب معاني المادة اللغوية على طريقة ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، مع محاولة إرجاع المعاني إلى معنى واحد أصلي يدلّ دلالة مطابقة؛ لأن ابن فارس يُرجع المعاني إلى أكثر من أصل.

سادسًاأن تُدرَس الحروف الأصلية لكل مادة؛ صوتًا ومعنى، على نحو دراسات ابن جِنّي في سِرّ صناعة الأعراب ودراسة ابن هشام في المُغنِي.

سابعًاأن تُستخدم الإحالات في الإشارة إلى المواد المبحوثة من قبلُ.

ثامنًاأن تصبح دراسة تطبيقية لكل علوم اللغة والنحو والصرف والرسم الإملائي والتشكيل.

أما مراحل العمل فيها، فسردها في تسع نقاط؛ أقـتبسها بنصها فيما يأتي:

أولًامن الضروري اشتراك أعضاء اللجنة الاستشارية في تحرير دراسة أنموذجية لإحدى المواد، وبتحرير تصور كامل للموسوعة.

ثانيًامن الممكن تكليف رئيس الشؤون الثقافية بتحرير التصور الكامل للموسوعة؛ عن أهدافها، وضرورتها، ومنهجها من دراسة مستفيضة للاشتقاق اللفظيّ والمعنويّ الذي سيُبنى عليه منهج الموسوعة.

ثالثًايُكلف الدكتور محمد المفدى ومحمد عبدالخالق عضيمة بجرد جميع الصيغ الصرفية لمادة «زمر» للماضي والمضارع والأمر، واللازم والمتعدي، والمبني للمجهول والمبني للمعلوم، والجمع، والتصغير، والتفضيل، والمبالغة. ويذكران القاعدة فيها عند تركيبها في سياق الكلام؛ كالقاعدة في اتصال الفعل بالضمائر، وكالقاعدة في تحويل الفعل الماضي إلى مضارع، أو اللازم إلى متعدّإلخ.

شريطة أن يكون لهذا التركيب أثر في حروف الصيغة. ويذكران المعنى لكل صيغة حقيقية ومجازًا؛ كالأصل في صيغة فعال وفعالة ومفعال. ويُشَكِّلان كل صيغة بالقدر الكافي الذي يميز الصيغة ويمنع من التباسها بغيرها. ويضعان القاعدةكلما سنحت الفرصةللقدر المكتفى به من الشكل.

مثال ذلك: «كسرت مزمار زيد»، يُكتفى بالجزم للزاي، ويُقال في القاعدة أو المسوغ: لم تشكل الميم بالكسرة؛ لأنه لم يرد فتحها أو ضمها لا سماعًا ولا قياسًا؛ لأن العرب لا تبدأ المفردة بالسكون فتعين الكسر. ولم تشكل الراء بالفتح؛ لأن وقوع مزمار مفعولًا به دون أي احتمال برهان على فتحها. ويذكران ما له علاقة بهذه المادة من علم النحو: كـ «مزامير»؛ يذكران القاعدة والعلة من منعها من الصرف. وإذا استوعبا الصيغ القياسية يذكران الصيغ السماعية، ويُبينان وجه مخالفتها للقياس ووجهة التجوز بها. ويذكران وجه الاشتقاق لكل صيغة والقاعدة في ذلك

رابعًايكلف أبو عبدالرحمن بن عقيل بحصر معاني «زمر» في اللغة الفصحى. ويعين المعنى الحقيقي الأوَّلي الأصلي الوضعي، ويستدل عليه، ويذكر المعاني المجازية، ويرتبها تاريخيًّا حسب الإمكان، ويستوفي الاستعمال العامي ويحقق أصله، كما يستوفي المصطلحات العلمية من هذه المادة إن وجد مصطلحات.

خامسًايكلف فضيلة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة ببحث ما ورد في الزمر من نصوص الشرع، ويمحصها دلالة وثبوتًا.

سادسًايكلف أحد الفنانينكطارق عبدالحكيمببحث المزمار تاريخيًّا وفنيًّا.

سابعًايكلف معالي الشيخ عبدالعزيز الرفاعي، وسعادة الدكتور أحمد الضبيب، والأستاذ يحيى ساعاتي بجمع ما ورد من الشعر والأمثال والنثر الفني عن الزمر.

ثامنًابعد ذلك تُعيّن لجنة لصياغة هذا الأنموذج بحيث يدمج البحث اللغوي والصرفي والشرعي ونصوص الأدباء وفق ترتيب منطقي؛ لتتضح دلالة المادة مضمونًا وسياقًا.

تاسعًابعد إرسال الأنموذج إلى المجامع والأفراد المكلفين بالاشتراك وأخذ آرائهم، يُعقد المؤتمر المصغر لدراسة فكرة الموسوعة، ويتم توزيعها على الباحثين، ويعين نصيب كل باحث، وتكلّف لجنة بجرد جميع المصطلحات الفنية في بيان وترتيبها ترتيبًا معجميًّا.

وقد سردت ما سبق لإظهار ما كان لدى الشيخ من طموح عظيم؛ لإخراج أعمال مرجعية كبيرة، ولتبيين دقته في التحديد.

«التصيين» بعض أشكال الترابط بين الصين والعرب

«التصيين» بعض أشكال الترابط بين الصين والعرب


دكتور-يحيى-بن-جنيدتهدف‭ ‬المقالة‭ ‬إلى‭ ‬تتبع‭ ‬بعض‭ ‬أشكال‭ ‬الترابط‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والصين،‭ ‬وتبادل‭ ‬الانتماء‭ ‬والفعل‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬مسميات‭ ‬بلدان‭ ‬ومواقع‭ ‬عربية،‭ ‬والنسبة‭ ‬إليها،‭ ‬وإطلاقها‭ ‬لتكون‭ ‬مسمى‭ ‬شمولياً‭ ‬لنمط‭ ‬من‭ ‬الأواني‭ (‬الصواني‭) ‬والأطباق؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬عمق‭ ‬التأثير‭ ‬الصينيّ‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭.‬
  ‬وسأبدأ‭ ‬بلمحات‭ ‬موجزة‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬العلاقات‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬العربية؛‭ ‬فوفقاً‭ ‬للمصادر‭ ‬العربية،‭ ‬تعود‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والصين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬التجارة‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬البدء،‭ ‬وأن‭ ‬الطريق‭ ‬البحريّ‭ ‬كان‭ ‬الأقدم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬بين‭ ‬سواحل‭ ‬جنوبي‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وسواحل‭ ‬جنوبي‭ ‬الصين،‭ ‬ولعل‭ ‬الصين‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭ ‬بحكم‭ ‬أساطيلها‭ ‬الكبيرة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجوب‭ ‬البحار‭ ‬حاملةً‭ ‬البضائع‭ ‬الصينية‭ ‬إلى‭ ‬غربي‭ ‬العالم،‭ ‬وتعود‭ ‬منه‭ ‬بموادَّ،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الصمغ‭ ‬العربيّ‭ ‬من‭ ‬جنوبي‭ ‬الجزيرة‭.‬

الاحتكاك‭ ‬العسكري

كانت‭ ‬هناك‭ – ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬التراثية‭ ‬العربية‭- ‬غزوات‭ ‬عسكرية‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬العربي؛‭ ‬أقدمها‭ ‬غزو‭ ‬تُـبَّع‭ – ‬ملك‭ ‬اليمن‭ – ‬الصين،‭ ‬ووصوله‭ ‬إلى‭ ‬التبت‭. ‬

وينقل‭ ‬ياقوت‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬عتيق‭ ‬وردت‭ ‬فيه‭ ‬معلومات‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬دلف‭ ‬مِسعْر‭ ‬بن‭ ‬مهلهل،‭ ‬يذكر‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬شاهده‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الترك‭ ‬والصين‭ ‬والهند،‭ ‬ومما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬ثم‭ ‬انتهينا‭ ‬إلى‭ ‬موضع‭ ‬يُقال‭ ‬له‭: ‬القُليب،‭ ‬فيه‭ ‬بوادي‭ ‬عرب‭ ‬ممن‭ ‬تخلف‭ ‬عن‭ ‬تُـبَّع‭ ‬لما‭ ‬غزا‭ ‬بلاد‭ ‬الصين،‭ ‬لهم‭ ‬مصايف‭ ‬ومَشاتٍ‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬ورمال،‭ ‬يتكلمون‭ ‬بالعربية‭ ‬القديمة‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬غيرها،‭ ‬ويكتبون‭ ‬بالحِمْيرية،‭ ‬ولا‭ ‬يعرفون‭ ‬قلمنا،‭ ‬يعبدون‭ ‬الأصنام،‭ ‬وملِكهم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬بيت‭ ‬منهم‭ ‬لا‭ ‬يُخرجون‭ ‬المُلك‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬ذلك‭ ‬البيت،‭ ‬ولهم‭ ‬أحكام‭… ‬وملِكهم‭ ‬يهادي‭ ‬ملك‭ ‬الصين،‭ ‬فسرنا‭ ‬فيهم‭ ‬شهراً‭ ‬في‭ ‬خوف‭ ‬وتغرير‮»‬‭ [‬معجم‭ ‬البلدان،‭ ‬3‭/‬443‭-‬444‭]. ‬

ثم‭ ‬كان‭ ‬الاحتكاك‭ ‬العسكريّ‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والصين‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬آسيا،‭ ‬وهناك‭ ‬حكاية‭ ‬معروفة‭ ‬متداولة‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬تُشير‭ ‬إلى‭ ‬وصول‭ ‬قوات‭ ‬قتيبة‭ ‬بن‭ ‬مسلم‭ ‬الباهليّ‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الصين‭ ‬وفـَتْحِه‭ ‬‮«‬كاشغر‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬يُنسب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬قَسَمٍ‭ ‬بأن‭ ‬يطأ‭ ‬أرضها،‭ ‬وإيفاد‭ ‬ملك‭ ‬الصين‭ ‬رسولاً‭ ‬إليه‭ ‬ومعه‭ ‬صحاف‭ ‬عليها‭ ‬تراب‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬الصين‭ ‬ليطأه‭ ‬قتيبة‭ ‬براً‭ ‬بقسمه،‭ ‬وبعث‭ ‬معها‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬أولاده‭ ‬وأولاد‭ ‬الملوك،‭ ‬ومالاً‭ ‬جزيلاً،‭ ‬فلما‭ ‬انتهى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬قتيبة،‭ ‬اكتفى‭ ‬بما‭ ‬اقترحه‭ ‬الملك‭. ‬

وتُشير‭ ‬المصادر‭ ‬إلى‭ ‬أَسْرِ‭ ‬صينيين‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬المعارك،‭ ‬استُـفيد‭ ‬منهم‭ -‬فيما‭ ‬بعد‭- ‬في‭ ‬نقل‭ ‬صناعة‭ ‬الورق‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬وسط‭ ‬آسيا؛‭ ‬مثل‭: ‬بخارى‭ ‬وسمرقند؛‭ ‬مما‭ ‬أدَّى‭ ‬إلى‭ ‬انتزاع‭ ‬سِرّ‭ ‬صناعة‭ ‬الورق‭ ‬من‭ ‬الصينيين‭ ‬لينتشر‭ -‬فيما‭ ‬بعد‭- ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬عبر‭ ‬الوسيط‭ ‬العربيّ؛‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ -‬بدوره‭- ‬إلى‭ ‬نقلة‭ ‬حضارية‭ ‬كبيرة‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬تمدُّد‭ ‬حركة‭ ‬التأليف‭ ‬بوساطة‭ ‬إنتاج‭ ‬الكِتاب‭ ‬الورقيّ‭ ‬والتخلِّي‭ ‬عن‭ ‬الكتاب‭ ‬الجلديّ،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُـعتمد‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الـرَّقِّ‭ ‬المأخوذ‭ ‬مـن‭ ‬جـلـود‭ ‬الغـنم‭ ‬والأبقار،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بقدر‭ ‬فاعلية‭ ‬الورق‭ ‬الميسّر‭ ‬للكتابة‭ ‬فيه،‭ ‬وكان‭ ‬هـذا‭ ‬الانـتـقال‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الهجـري‭ ‬الأول‭. ‬

أما‭ ‬الاحــتكاك‭ ‬الجماعيّ‭ ‬الثالـث،‭ ‬فـتـمثـل‭ ‬فـي‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬بعـث‭ ‬بـها‭ ‬الخليفة‭ ‬أبو‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور‭ ‬لنجدة‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الصيني‭ ‬المعاصر‭ ‬له،‭ ‬الذي‭ ‬واجهَ‭ ‬ثورة‭ ‬عارمة‭ ‬كان‭ ‬للجيش‭ ‬العربيّ‭ ‬دورٌ‭ ‬في‭ ‬إخمادها،‭ ‬ثُـمَّ‭ ‬استقرار‭ ‬أغلبية‭ ‬أفراد‭ ‬ذلك‭ ‬الجيش‭ ‬في‭ ‬الصين،‭ ‬وعدم‭ ‬عودتهم‭ ‬إلى‭ ‬موطنهم‭.‬‭ ‬

travel-by-camels-in-chinaبداية‭ ‬التلاقح‭ ‬الحضاري

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الأخبار‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابقة‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬العربية‭ ‬بداية‭ ‬التعارف‭ ‬المباشر‭ ‬بين‭ ‬الأُمَّتينِ؛‭ ‬فإن‭ ‬الشكوك‭ ‬تحوم‭ ‬حول‭ ‬الأول‭ ‬والثالث‭ ‬منها؛‭ ‬أمَّا‭ ‬الثاني‭ ‬المتَّصل‭ ‬بالفتوح‭ ‬وتوقُّفها‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬الصين‭ ‬فهو‭ ‬الخبر‭ ‬الموثق،‭ ‬وهو‭ – ‬رغم‭ ‬صِبْغته‭ ‬العسكرية‭- ‬يمثل‭ ‬بداية‭ ‬التلاقـح‭ ‬الحضاريّ‭ ‬بين‭ ‬الأمتين‭: ‬الصين‭ ‬مخترِعة‭ ‬الورق،‭ ‬والعرب‭ ‬وسيط‭ ‬نقلِ‭ ‬صناعته‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬وعقب‭ ‬استقرار‭ ‬الأوضاع‭ ‬الأمنية‭ ‬بين‭ ‬إمبراطورية‭ ‬الصين‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬شرقاً‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬النهر،‭ ‬ودولة‭ ‬الإسلام‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسيّ‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬بلاد‭ ‬التُّرك‭ ‬فيما‭ ‬وراء‭ ‬النهر؛‭ ‬نشأت‭ ‬علاقات‭ ‬تجارية‭ ‬وثقافية‭ ‬بين‭ ‬الأُمتين‭ ‬كان‭ ‬مسارها‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬البَرِّيّ،‭ ‬فانتشرت‭ ‬بضائع‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬الإسلام؛‭ ‬مثل‭: ‬مصر،‭ ‬وسمرقند،‭ ‬ونيسابور،‭ ‬وبغداد‭. ‬وجال‭ ‬التجار‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الصين؛‭ ‬لشراء‭ ‬البضائع،‭ ‬والعودة‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الأقاليم‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬مما‭ ‬أدَّى‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬صناعات‭ ‬أصيلة‭ ‬في‭ ‬الأقاليم‭ ‬الإسلامية‭ ‬متأثرة‭ ‬بالنمط‭ ‬الصينيّ،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفخاريات‭ ‬والزجاج‭ ‬والأقمشة،‭ ‬وازدهرت‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬الأُمتين‭ ‬ازدهاراً‭ ‬تأسَّستْ‭ ‬معه‭ ‬بلدات‭ ‬وأحياء‭ ‬باسم‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص؛‭ ‬منها‭: ‬صين‭ ‬الكوفة،‭ ‬وصين‭ ‬إسكندرية‭ ‬العراق‭ [‬ياقوت،‭ ‬المشترك‭ ‬وضعاً،‭ ‬ص288‭-‬289‭]‬،‭ ‬والأشهر‭ ‬منهما‭: ‬الصِّـينية،‭ ‬وكانت‭ ‬بُليدة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬واسط‭ [‬ياقوت،‭ ‬معجم‭ ‬البلدان،‭ ‬3‭/‬448‭]. ‬

صينية‭ ‬الحوانيت

يُقدِّم‭ ‬لنا‭ ‬الخطيبُ‭ ‬البغداديُّ‭ ‬في‭ ‬تاريخه،‭ ‬ويتابعه‭ ‬ابنُ‭ ‬القيسرانيِّ،‭ ‬وأبو‭ ‬سعد‭ ‬السَّمْعَانِيُّ،‭ ‬معلومةً‭ ‬فريدةً‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬البلدة؛‭ ‬فيذكرها‭ ‬باسم‭: ‬صينية‭ ‬الحوانيت،‭ ‬وأنها‭ ‬بين‭ ‬واسط‭ ‬والصليق‭ ‬بالعراق‭. ‬ووُرُود‭ ‬كلمة‭ ‬الحوانيت‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بالمدينة‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأهمية؛‭ ‬فالحوانيت‭ ‬جمع‭ ‬حانوت،‭ ‬وهو‭ ‬الدُّكَّان‭ ‬أو‭ ‬المحلُّ‭ ‬التِّجاريّ،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البلدة‭ ‬كانت‭ ‬تشتهر‭ -‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭- ‬بكثرة‭ ‬محلاتها‭ ‬التجارية‭ ‬ذات‭ ‬العلاقة‭ ‬بالصين؛‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬أن‭ ‬أصحابها‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الصين؟‭ ‬أم‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعجُّ‭ ‬بالبضائع‭ ‬الصينية؟‭ ‬وفي‭ ‬كلتا‭ ‬الحالَيْنِ‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬بــ«تشايـنا‭ ‬تاون‮»‬‭ ‬Chaintown،‭ ‬أو‭ ‬الحيّ‭ ‬الصينيّ،‭ ‬ولعل‭ ‬المدينتيْنِ‭ ‬اللتين‭ ‬كانَتا‭ ‬قرب‭ ‬الكوفة‭ ‬والإسكندرية‭ ‬من‭ ‬النمط‭ ‬نفسه؛‭ ‬أي‭: ‬إنهما‭ ‬كانتا‭ ‬تحفلان‭ ‬بالحوانيت‭ ‬الصينية‭. ‬فإن‭ ‬قُبِـلَ‭ ‬هذا‭ ‬الرأي،‭ ‬فإنه‭ ‬يؤسِّس‭ ‬لرؤية‭ ‬جديدة،‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬تجارية‭ ‬واسعة،‭ ‬ربطت‭ ‬بين‭ ‬العراق‭ ‬مقرّ‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية،‭ ‬ومركز‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬قروناً‭ ‬طوالاً،‭ ‬وبين‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الصينية‭.‬

ويَرفِد‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬ويقويه‭ ‬معلوماتٌ‭ ‬عن‭ ‬حمل‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬نسبة‭ (‬الصينيّ‭)‬،‭ ‬عُـرفوا‭ ‬بها‭ ‬بين‭ ‬أقرانهم‭ ‬في‭ ‬حِقْبتهم،‭ ‬وتُرجم‭ ‬لهم‭ ‬بربطهم‭ ‬بهذه‭ ‬النسبة؛‭ ‬من‭ ‬أشهرهم‭: ‬حميد‭ ‬الصينيُّ‭: ‬وهو‭ ‬أبو‭ ‬عمرٍو‭ ‬حُميد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عليٍّ‭ ‬الشيبانيُّ،‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬السَّمْعَانِيُّ‭: ‬‮«‬سمع‭ ‬السريّ‭ ‬بن‭ ‬خزيمة‭ ‬وأقرانه،‭ ‬روى‭ ‬عنه‭ ‬أبو‭ ‬سعيدِ‭ ‬بنُ‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬عثمان‭ ‬وغيره‭. ‬ظنِّي‭ ‬أنه‭ ‬نُسب‭ ‬إلى‭ ‬الصين؛‭ ‬إما‭ ‬لأنه‭ ‬منها،‭ ‬أو‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يمضي‭ ‬إليها،‭ ‬والله‭ ‬أعلم‮»‬‭ [‬الأنساب،‭ ‬8‭/‬368‭]‬‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬شكِّ‭ ‬السَّمْعَانِيِّ‭ ‬في‭ ‬أصله،‭ ‬فإن‭ ‬وجود‭ ‬النسبة‭ ‬إلى‭ ‬القبيلة‭ ‬ضمن‭ ‬اسمه‭ (‬الشيباني‭)‬،‭ ‬يَعْنِي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬عربياً؛‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬ممن‭ ‬أكثروا‭ ‬دخول‭ ‬الصين،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬للتجارة‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭. ‬والآخر‭ ‬هو‭: ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬إسحاق‭ ‬الصينيُّ‭: ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الكوفة،‭ ‬قال‭ ‬عـنه‭ ‬السَّــمْعَـانِيُّ‭: ‬‮«‬كان‭ ‬يَـتَّـجِـرُ‭ ‬في‭ ‬البحـر،‭ ‬ورحـل‭ ‬إلى‭ ‬الصين،‭ ‬وهـو‭ ‬مـن‭ ‬بلاد‭ ‬المشرق،‭ ‬وروى‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬عاتكةَ،‭ ‬عن‭ ‬أنسٍ‭ ‬أن‭ ‬النبيَّ‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬قال‭: ‬‮«‬اطلبوا‭ ‬العلم‭ ‬ولو‭ ‬بالصين‮»‬‭. ‬

أشهر‭ ‬من‭ ‬حمل‭ ‬لقب‭ ‬الصيني

أَشهَرُ‭ ‬العربِ‭ ‬الذين‭ ‬حملوا‭ ‬لقب‭ ‬الصيـنيِّ،‭ ‬شـيخ‭ ‬السَّمْــعَانِيِّ‭: ‬أبو‭ ‬الحسنِ‭ ‬سعدُ‭ ‬الخيرِ‭ ‬بنُ‭ ‬محمدِ‭ ‬بنِ‭ ‬سهلِ‭ ‬بنِ‭ ‬سعدٍ‭ ‬الأنصاريُّ‭ ‬الأندلسيُّ،‭ ‬قال‭ ‬السَّمْعَانِيُّ‭: ‬‮«‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬لنفسه‭: ‬الصينيّ؛‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬سافر‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الغرب‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬بلاد‭ ‬الشرق،‭ ‬وهو‭ ‬الصين‭. ‬من‭ ‬أهل‭ ‬بَلَنْسِية‭ ‬مدينة‭ ‬بشرقي‭ ‬الأندلس‭. ‬كان‭ ‬فقيهاً‭ ‬صالحاً‭ ‬كثير‭ ‬المال،‭ ‬حَصَّـلَ‭ ‬الكتب‭ ‬والأصول‭… ‬سمعت‭ ‬منه‭ ‬جميع‭ ‬كتاب‭ ‬السُّنَن‭ ‬لأبي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬النسائيِّ‭… ‬تُـوُفِّـيَ‭ ‬في‭ ‬المحرَّم‭ ‬مـن‭ ‬سـنـة‭ ‬إحدى‭ ‬وأربعـين‭ ‬وخمس‭ ‬مئة‭ ‬ببغداد‮»‬‭ [‬الأنساب،‭ ‬8‭/‬368‭-‬369‭]‬‭. ‬وإشارة‭ ‬السَّمْعَانِيِّ‭ ‬إلى‭ ‬سعد‭ ‬الخير‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬المال،‭ ‬تُوحي‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬التجـارة‭ ‬إلى‭ ‬جانـب‭ ‬عنايـتـه‭ ‬بالعلم،‭ ‬ومن‭ ‬ثَـمَّ‭ ‬يكـون‭ ‬دخولُه‭ ‬الصينَ‭ ‬للتجارة‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭. ‬

هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الأعلام‭ ‬العرب‭ ‬حملوا‭ ‬النسبة‭ ‬‮«‬الصينيّ‮»‬،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬سفرهم‭ ‬إلى‭ ‬الصين؛‭ ‬مثل‭: ‬أبي‭ ‬عليٍّ‭ ‬الحسنِ‭ ‬بنِ‭ ‬أحمدَ‭ ‬بنِ‭ ‬ماهانَ‭ ‬الصينيِّ،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬صينية‭ ‬الحوانيت،‭ ‬وأبي‭ ‬عبدالله‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬إسحاقَ‭ ‬بن‭ ‬يزيدَ‭ ‬الصينيّ‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬بغداد،‭ ‬وأبي‭ ‬الحسن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬إبراهيمَ‭ ‬الرازيّ،‭ ‬المعروف‭ ‬بابن‭ ‬الصينيِّ،‭ ‬كان‭ ‬يسكن‭ ‬باب‭ ‬الشام‭ ‬ببغداد‭. ‬تُوُفِّيَ‭ ‬سنة‭ ‬410هـ‭ [‬الأنساب،‭ ‬8‭/‬369‭-‬370‭]  ‬وعُرف‭ ‬بعضُ‭ ‬الأعلام‭ ‬العرب‭ ‬بألقاب‭ ‬تربطهم‭ ‬بالصين؛‭ ‬مثل‭: ‬الشريف‭ ‬أشرف‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬العباسيّ‭ ‬العلويّ‭. ‬قال‭ ‬النسفيُّ‭ ‬في‭ ‬القند‭: ‬‮«‬السيد‭ ‬الإمام‭ ‬الأَجَـلُّ،‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين،‭ ‬قطب‭ ‬الإمامة‭ ‬في‭ ‬العالمين،‭ ‬ملك‭ ‬علماء‭ ‬الشرق‭ ‬والصين‭: ‬أبو‭ ‬المكارم‭ ‬أشرف‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬شجاع‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭… ‬ابن‭ ‬العباس‭ ‬بن‭ ‬عليّ‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭. ‬وُلد‭ ‬في‭ ‬رجب‭ ‬سنة‭ ‬ثمان‭ ‬وستين‭ ‬وأربع‭ ‬مئة‮»‬‭ [‬القند،‭ ‬ص93‭] ‬والإشارة‭ ‬إليه‭ ‬بملك‭ ‬علماء‭ ‬الشرق‭ ‬والصين‭ ‬توحي‭ ‬بوجود‭ ‬علماء‭ ‬مسلمين‭ ‬داخل‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭. ‬

كما‭ ‬عُرف‭ ‬أحد‭ ‬القادة‭ ‬العسكريين‭ ‬من‭ ‬الأشراف‭ ‬العباسيين،‭ ‬وهو‭ ‬أمير‭ ‬الجيوش‭ ‬طاهر‭ ‬العباسي،‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬باب‭ ‬ماجين‮»‬،‭ ‬ويُـقْصَـدُ‭ ‬بـباب‭ ‬هنا‭: ‬الشيخ‭ ‬أو‭ ‬الداعية؛‭ ‬فلعله‭ ‬دخل‭ ‬الصين‭ ‬للدعوة،‭ ‬فـعُرف‭ ‬بذلك‭. ‬

chainese-portrateمحلات‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬الصين

كانت‭ ‬هناك‭ ‬محلات‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬الإسلامية‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬الصين؛‭ ‬مثل‭: ‬باب‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬سمرقند،‭ ‬منها‭: ‬أزهر‭ ‬بن‭ ‬يونس‭ ‬بن‭ ‬العبدي‭ ‬السمرقندي‭ ‬‮«‬من‭ ‬باب‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬المدينة‮»‬،‭ ‬ولعل‭ ‬إطلاق‭ ‬هذا‭ ‬المسمى‭ ‬لكونه‭ ‬مدخل‭ ‬الواردين‭ ‬من‭ ‬الصين‭. ‬ويسود‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬قومية‭ ‬خوي‭ ‬الصينية‭ ‬المسلمة‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬عربي،‭ ‬وهي‭ ‬قومية‭ ‬تقطن‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬غربي‭ ‬الصين،‭ ‬وعاصمتها‭ ‬نينغيشيا‭. ‬ومن‭ ‬التأثيرات‭ ‬الصينية‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بالفنون‭: ‬رسم‭ ‬الشخوص‭ ‬الصينية‭ ‬في‭ ‬الأواني‭ ‬والمخطوطات‭ ‬العربية‭ ‬المنمنمة؛‭ ‬مثل‭: ‬مقامات‭ ‬الحريريّ،‭ ‬وكليلة‭ ‬ودمنة،‭ ‬ويُشار‭ ‬إليها‭ ‬عادة،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬لدى‭ ‬الغربيين،‭ ‬بالمغولية،‭ ‬والصواب‭ ‬أنها‭ ‬تأثيرات‭ ‬صينية؛‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للمغول‭ ‬أي‭ ‬تأثير‭ ‬حضاريّ‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلاميّ‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬النماذج‭ ‬الفنية‭: ‬زخرفة‭ ‬داخل‭ ‬زبدية‭ ‬من‭ ‬الخزف،‭ ‬رُسمت‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬الداخليّ‭ ‬صور‭ ‬نساء‭ ‬صينيات؛‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬زخارف‭ ‬نباتية،‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬السادس،‭ ‬أو‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الهجريين‭. ‬ولعل‭ ‬أوضح‭ ‬مثال‭ ‬للتأثير‭ ‬الصينيّ‭ ‬الماديّ،‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬صيني‮»‬‭ ‬أُطلقت‭ ‬على‭ ‬الصحون‭ ‬المستخدمة‭ ‬للطعام،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬هذا‭ ‬المسمى‭ ‬مستعملاً‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬فكل‭ ‬الصحون‭ ‬الفخارية‭ ‬يُطلق‭ ‬عليها‭: ‬صينيّ،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬بلاد‭ ‬صناعتها،‭ ‬ومنها‭ ‬استخدام‭ ‬الصينية‭ ‬للآنية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬توضع‭ ‬عليها‭ ‬أواني‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭. ‬ومن‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬أن‭ ‬الخط‭ ‬العربيّ‭ ‬انتشر‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬الصينيين‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬المصحف‭ ‬الشريف‭ ‬بخط‭ ‬مميز،‭ ‬يحمل‭ ‬تأثير‭ ‬الرسم‭ ‬الصيني‭ ‬للحروف‭.‬

وممن‭ ‬برع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭: ‬الخطاط‭ ‬الصيني‭ ‬الحاج‭ ‬نور‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬كتاباً‭ ‬كاملاً‭ ‬يضم‭ ‬أعماله‭ ‬الخطية،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬استخدم‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬التصيين‮»‬‭ ‬ببراعة،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬خطَّ‭ ‬غلافَ‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬شعبية‭ ‬من‭ ‬الصين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نشرته‭ ‬دار‭ ‬الفيصل‭ ‬الثقافية‭ ‬سنة‭ ‬1433هـ،‭ ‬بترجمة‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الحميد،‭ ‬بطريقة‭ ‬فنية‭ ‬مميزة،‭ ‬تخفَّى‭ ‬فيها‭ ‬الحرف‭ ‬العربيُّ‭ ‬وراء‭ ‬التصيين‭.‬