الخطاب الإعلامي بين كسر العزلة و خلق حالة كونية من التقارب الإنسانيّ

الخطاب الإعلامي بين كسر العزلة و خلق حالة كونية من التقارب الإنسانيّ

غير خافٍ أن العالَم صار يتحول بشكل سريع مؤسِّساً نظاماً مغايراً؛ على المستويات كافة؛ الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وهو نظام قوامه التدافع بين الحضارات، والاحتكاك بين الثقافات، والتصارع بين القيم والرموز، وهو وضع تؤدِّي فيه التكنولوجيا الحديثة؛ من وسائل الإعلام والتواصل وسبل تبادل المعلومات وأسس المعرفة دوراً مهماً، فرض تصوراتٍ وحقائقَ جديدةً، وغيَّب أموراً يقينيةً كانت مستقرَّة في شكل من أشكال إعادة هندسة الفكر والواقع، وإذا كان التحوّل سمةً جوهريةً من سمات التاريخ والحضارات، وكان التفاعلُ الثقافيُّ ظاهرةً لصيقةً بالصيرورة التاريخية الإنسانية، فإن ما يميز هذا التحول والتفاعل في العصر الراهن من غيره جملة أمور؛ أهمها شدة الاحتكار، وسرعة الامتداد، واختلال التوازن بين الثقافات المتفاعلة؛ مما يسبب الشعور بهيمنة الجانب القويّ، وزيادة سيطرة القطب الواحد؛ لهذا يفرض الواقعُ التفكيرَ في الأدوار التي صار يؤدِّيها الإعلامُ المعاصر، والبحث في الأهداف والمقاصد؛ للوقوف على طبيعة الفلسفة الموجِّهة له، وتأثيراتها الثقافية في الفكر والوعي معاً.

الخطاب الإعلامي.. مقاربة تشخيصية

الأدوار الإيجابية

ليس ثمة شكّ في أن الإعلام المعاصر -وبخاصة المرئيّ- يؤدِّي أدواراً على قدر كبير من الأهمية في التوعية، والتنمية المجتمعية والكونية، والمساهمة في التثقيف؛ للارتقاء بنوعية الحياة؛ من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر:

1- كسر العزلة المفروضة على الناس في مختلف المجتمعات؛ مما يرفع وضع الحصار المعلوماتيّ الذي طوَّق كثيراً من المجتمعات في زمن ليس بالقصير، فالإعلام يُخرِج الإنسان من المحلِّيَّة الضيِّقة إلى العالَمية والكونية، فتتحطم بذلك قيود الحظر المفروضة على معرفته؛ لهذا لم تعُدْ هناك رقابة ممكنة بمعنى الحصار والحظر. فمع كسر العزلة يقوم الإعلام الفضائيُّ خاصةً بفضح كلّ ممارسات القهر والاستبداد والغبن والفساد؛ ليصير بذلك «أداةً كبرى للشفافية والملاحقة»(1).

2- خلق حالة كونية من التقارب الإنسانيّ، وتوسيع الآفاق؛ لتحقيق المشاركة العالمية في قضايا المسار والمصير باستمرار، والاتصال بكلّ ما يجري في الكون في التوّ واللحظة(2)، وللمرء أن يتصوَّر مقدار النموّ المعرفيّ الناتج عن ذلك كلّه.

3- فتح سبل التثقيف والتعلُّم من الآخرين؛ مما يتيح فرصة فعلية لإثراء حياة الإنسان، والارتقاء بمستويات معارفه، وقراراته، وخياراته، وسلوكياته، وتطلُّعاته.

وغنيّ عن البيان أن ما ذُكر بوصفه إيجابيات الإعلام المعاصر يلتقي مسألةً أساسيةً، تتمثل في خلق أُفق إنسانيّ أكثر امتداداً، يتجاوز ما يمكن عدّه خصوصيات، وما تقتضيه من نقاء وأصالة وتميز وانعزال. إنه واقع جديد لا مكان فيه إلّا للكونيّ والمشترك، واقع مفتوح له منطقه الخاصّ، الذي لا يقبل إلا منطق التفاعل والمشاركة، وهُويته الخاصة التي لا تُعرَف إلا بالهُويات الهجينة المحكومة بتوجُّهات الثقافة الرأسمالية وأيديولوجيا الإعلام الموجّه -ابتداءً وانتهاءً- من قِبَل فلسفة العولمة التي ترومُ نسخَ ما كان يُعَدُّ قبلها من الثوابت أو اليقينيات.

المفعولات السلبية

إن إيجابيات الإعلام الراهن -على الرغم من كثرتها- لا يمكن قياسها أو مقارنتها بمفعولاته السلبية، وآثاره السيئة، سواء أكان5555 على المستوى الكمِّيّ العدديّ أم على مستوى الفاعلية والتأثير، فالإعلام اليوم هو الفاعل الأساسيّ في إعادة إنتاج الوعي، وصناعة الثقافة، وتشكيل الإدراك والأذواق والتوجُّهات والقيم، وتحديد المواقف والخيارات والسلوكيات، استناداً إلى إشاعة ثقافة الصورة المَشْهَد(3) ببلاغتها الجديدة، ونحوها المغاير، ومجازها المختلف عن مجاز ثقافة المكتوب التي كانت تقتضي آليات محدّدة للتلقِّي والفهم والتأويل؛ آليات لم تعُدْ قادرةً على التفاعل مع الثقافة الجديدة (ثقافة الصورة) بتوجُّهاتها وأهدافها المتعددة في المظهر، المتَّحِدة في الجوهر، على نحو ما يتَّضح من النماذج الآتية:

1- التركيز في التسلية والترفيه من خلال الإثارة الحِسِّيَّة؛ الشيء الذي جعل الترفيه وصناعة المتعة فلسفةً تجاريةً، وليس إسعاداً محضاً للمشاهِد، فالكثير من القنوات الإعلامية صارت متخصصةً في هذا النوع من الترفيه، ومروِّجة له بوصفه فلسفةً في الحياة (وبخاصة في محيط الشباب)؛ خدمةً لسياسة التخدير والإلهاء(4). وأصاب بريجنسكي، المُنظِّر المعروف للنظام العالميّ الجديد؛ إذ ابتدع -للدَّلالة على هذه الحال وتشجيعها- تعبير رضاعة التسلية Tittytainment، وهذه الرضاعة تقدِّم جرعاتٍ متواصلةً من عدم المبالاة، والحيوية المفرطة، والحداثة الشهوانية التي ترسِّخ اللذَّة بوصفها قيمةً مثاليةً.

2- تهميش الفاعلية، وتخدير الوعي من خلال النجومية وبزنسة الرياضة(5)؛ ففي أثناء بحثها عن الإثارة وجذب المشاهدين إليها تركز أغلبية وسائل الإعلام في النجومية بشتى أصنافها (رياضية، فنية، دينية،…)، وتخصِّص لأخبار النجوم من المساحة ووقت البثّ ما لا تُخصِّصه للموضوعات الأخرى، على الرغم من أن الرياضة هي أبرز ميادين النجومية على الشاشات وصفحات الصحف والمجلات، على نحو لا يحتاج إلى توضيح وتأكيد مساهمة الإعلام بشكل كبير في تسهيل سبل المتعة والمشاركة الرياضية لمليارات المشاهدين على مستوى العالم، فخَلَق ذلك إمكانيات غير معهودة من التفاعل الإنسانيّ في أكثر الأنشطة نبلاً وارتقاءً وهي الأنشطة الرياضية، فقد تحوَّلت الرياضة إلى لحظات من التحمُّس للإنجازات الخارقة، والتنافس في تجاوز الذات وقدرتها، وخلقتْ نوعاً من المشاركة العالمية بفضل الشاشات، حتى إنها صارت العقيدة الجديدة للشباب والأجيال الصاعدة التي حلَّت محلّ العقائد الاجتماعية والسياسية(6).

ومن الواضح أن صناعة النجوم إنما تكون لأغراض ترويجية على صلة وثيقة بثقافة الربح والتشجيع على الاستهلاك، أما نجومية الجهد والإنتاج والعمل فهي قابعة في مكانها المتواضع، فقد صارت النجومية ومتعة المشاهدة الرياضية كالنجوم التي تملأ على الشباب دنياهم التي خلت من حماس العطاء والمشاركة، وغدت أملاً يحلم به الشاب؛ كي يصبح نجماً كروياً، فيقفز بذلك من فوق حاجز الفقر والبؤس، وينضمّ إلى عالم المشهورين الأثرياء(7).

3- خلق ما يسمى بصناعة الموافقة التي تتحقق حين يتعطل الحسّ النقديّ، وتثار الشهوات والرغبات؛ لذلك تسيطر الإعلانات الاستهلاكية على الفضاء الإعلاميّ، فيتحوّل البثّ إلى إطار إعلانات محض، يملأ الفراغ ببرامج متنوعة توافق الأيدولوجيا الاستهلاكية التي تعمل على بناء تصوُّر للعالم، ونمط حياة تقوم مرجعيته وأحكام قيمته على الاستهلاك(8).

إنه ترويج للفلسفة الاستهلاكية للوجود، وهي فلسفة تقترن أساساً بالأنانية والحظ والحظوة الفرديين، والقدرة الفردية على الاستهلاك، مقارنة بالآخرين الأقل قدرة وحظاً، وأدَّى ترسيخ هذا النوع من التفكير والشعور إلى إصابة الانتماء الاجتماعيّ في مقتله، وتعطّل العطاء مثل تعطل النحن المشارِكة(9).

4- تكثيف المعلومة، وضغط الزمن، أو ترسيخ السرعة والآنية، فالشاشة دائماً في عجلة من أمرها، لا مجالَ للتوقُّف353 والتفكير والعودة إلى الوراء، إنها تعمل على ضغط الزمن قدر الإمكان؛ لذلك نرى الأحداث والإيقاعات سريعةً، وكذلك الاتصالات (سؤال يليه جواب؛ الآن، بسرعة). وصور الفيديو متتابعة متلاحقة؛ على هذا النحو «يعيش المشاهِد في حاضر أبديّ، واهتمامات اللحظة. إنها ثقافة الراهن، أما الديمومة وحِسّ الاستمرارية فيغيبان عن الوعي الاجتماعيّ والأفق السياسيّ، وذلك ما يفرض البحث عن متع اللحظة الراهنة»(10)، ولعل أخطر ما في ثقافة اللحظة كونها تساهم في نسف التاريخ والهُوِيَّة لصالح الاستهلاك والإثارة وفق تعبير باتريك شارودو(11).

على هذا الأساس، فإن ثمة ما يحضّ على القول: إن وظيفة وسائل الإعلام -كما يرى فريديريك جيمسون أحد أساتذة تاريخ الحضارة بجامعة كاليفورنيا- ليست سوى دفع الوقائع الحاضرة إلى الماضي بأسرع وقت ممكن، وكأننا تحت رحمة وكلاء آليات فقدان الذاكرة، وهذا يؤدِّي إلى أن المشاهِد المتلقِّي يعيش في الآنية والراهنية ومتطلبات اللحظة التي تدفعها ما قبلها؛ كي يدفعها ما بعدها، فلا يكاد يصل إلى نهاية النشرة أو البرنامج حتى يكون قد طُوي أولُهما، ووفق هذا فلا وقت للتفكير والاستيعاب والتحليل والنقد، إنها انطباعات تتراكم من دون إتاحة المجال للاشتغال بها، واتِّخاذ مواقف منها؛ الأمر الذي يحوِّل المشارَكة والفاعلية إلى المشاهدة والسلبية.

وإذا نُسفت الديمومة بهذا الشكل، وتسارع الزمن حتى يصير محض لحظات ولقطات متدافعة ينسخ بعضُها بعضاً، لا تقدِّم من القضايا إلا مظهرها، ومن الحقائق إلا سطحها، فإن التاريخ ذاته يُنسَف معها، وإذا تفتَّت التاريخ تعذَّر التموقع في الزمن، وبالتالي تُهدَّد الهُويةُ من خلال العيش في الراهنية الدائمة؛ مما يرسِّخ مرجعية كونية غير راسخة لا في الزمان، ولا في المكان(12).

فالخُطا السريعة لثقافة الواقع المفرط تخترق الأفق الدنيويّ والشخصيّ والجماعيّ إلى اللحظة الفورية، وتصبح التقاليد والعادات والموروثات شبه متلاشية. إنَّ ما هو محتسب الآن، وما هو مُعدّ هو كونُك قادراً على الشعور باللحظة الآنية، والتمتُّع بها، فالنشوة والتنفيس عن العواطف يصبحان من فئةٍ تتفوّق على الكفاءة والإنتاجية(13). وفق هذا السياق غير العادي، يرى جاك جوتراند J.Gautrand أن الوسائل السمعية والبصرية الحديثة أسست علاقةً إنسانيةً مع الزمن، وذلك بإيهامة أنها يمكنها أن تؤثِّر في هذا الزمن، وأن تُوقِفه، أو تسرعه، أو تعود به إلى الوراء(14).

5- مزج قيم الأصالة وبخاصة في المجتمعات العربية، وتعميق الغزو الثقافيّ، فوسائل الإعلام وأدواته بوصفهما المرتكزات الأساسية التي تستند إليهما العولمة، يُروِّجان توجُّهات وقيماً تضادّ الانتماء، والعطاء، والالتزام بقضايا الوطن والأمة والمصير، والمشاركة في صناعتها(15)، بوساطة إخضاع الناس لنوع من التنميط الثقافيّ والاجتماعيّ في صورة (نمذجة) الحياة، وصناعة الذوق، وهذا لا يقضي على الخصوصيات الاجتماعية فحسْب، إنما يقضي -أيضاً- على القيم الثقافية والذهنية في الاختيار والتذوُّق وحركة التمييز، على نحو ما يقول بودريارد  J. Boudrillard.

لعلَّ ذلك ما أفضى إلى حرمان (العلامة الثقافية) من أيّ مرجعية سياقية، فظهرت العلامات الثقافية خاليةً من مرجعياتها؛ مما جعلها خاويةً وهشةً وسطحيةً، فصار الإعلام المرئيّ خاصةً آلةً اقتصاديةً، وليس مصدراً للأفكار الخلَّاقة، ومَوْرداً للثقافة الرصينة، وطبيعيٌّ أن تتخلَّق الآلةُ بأخلاق صيانتها منسجمةً مع مجتمع (الفردية) المركَّب من المرح والاستهلاك الفوريّ؛ لذلك لا يمكن أن تتواءم مع إثارة النقد، وإنتاج القناعات الراسخة، والمبادئ الثابتة، وإنما شيء ما بين القَبول السطحيّ والإشاعة الاجتماعية وقبول الإشاعة(16).

إن الثقافة البصرية تصير وفق هذا التخلُّق ثقافةً مجزأةً سطحيةً استهلاكيةً، تُساهِم في تفكيك البِنَى الثقافية القائمة وتدميرها، والأخطر من ذلك أن هذه الثقافة (الثقافة البصرية) غير قادرة وحدَها على تشكيل بِنَى جديدة؛ لأن الإعلام المرئيّ خاصةً يقدِّم تصوُّراً للعالم يسوده التركيز الاعتباطيّ المفاجئ في القضايا، والإيقاف المفاجئ لها؛ لذلك فهو «أداة مميزة لفرض الكثير من مفاهيم العصر، لفرض وتيرة الحدث، ولاختزال التعقيد إلى صورة بسيطة»(17).

أزمة اللغة العربية في الإعلام المعاصر

أزمة اللغة العربية في الإعلام المعاصر

أضحت العلاقة العضوية بين اللغة العربية بمختلف مستوياتها وعوالم الإعلام، وعمق التحولات التي طرأت على اللسان العربي، يغريان بالبحث والتأمل ووضع السؤال لأجل الوقوف على معالم تلك العلاقة ومفعولاتها. إنها علاقة على قدر من الالتباس والتعقيد؛ لأن الباحث لا يدري أكانت مستويات اللغة متاحة كي توظف لتبسيط أغراض الإعلام ومقاصده أم أن هذا الإعلام صار وسيلةً لترويج خصوصيات وأنماط مخصوصة وتعميمها؛ مما ينعكس -بشكل أو بآخر- على سبل التواصل لدى المتلقي العربي من جهة، وعلى وعيه وإدراكه وهويته من جهة أخرى.

معلوم أنه خلال العقد الأخير من القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، عرف العالم العربي انفتاحاً إعلامياً غير مسبوق، تمثّل أساساً في التطور المهول الذي لحق قطاع الإعلام، فضلاً عن تنوّع مواقعه ووظائفه وتغيّرها، وصولاً إلى تحوّل مرجعية هذا القطاع من العام إلى الخاصّ. ولا شك أن ذلك وضع مستجدّ يُوشك أن يكون استثنائياً بالنسبة إلى الأعراف والثوابت الراسخة في ثقافة الإعلام العربي عامةً(1).

ولم تُترك التجاذبات السياسية، والاختلافات الأيديولوجية، والتوجهات الفكرية -سواء تلك التي يستقلّ بها كلّ قطر عن آخر بشكل عام، أم تلك التي تشكّل تنوعاً داخل بلد بعينه- بعيداً من الصراع السياسي والتصادم الأيديولوجي، بل توسّله مختلف الفاعلين لتمرير الأطروحات السياسية والدعاوى الفكرية.

ومن الطبيعي أن يكون من مترتّبات هذا الوضع تشرذم المؤسسات الإعلامية الرسمية القائمة، وانحسار تأثيرها وفاعليتها، ومن ثَمّ التخلي عن مركزيتها أمام اكتساح القنوات الخاصة (التجارية تحديداً)، وانتشار الفضائيات الأجنبية الناطقة باللغة العربية. كلّ ذلك جعل الوسيلة مقدمةً على الرسالة، والربح سابقاً على الجودة (جودة الخطاب)، ومطلب الانتشار والتنافس مفضّلاً على داعي تحرّي الدقة والإتقان في صياغة الخطابات، وصناعة الرسائل كما تقتضي أعراف اللسان الفصيح وسننه.

إن هذا (الفتح الإعلامي) الفضائي -إذاً- لم ينزل برداً وسلاماً على المجال اللغوي العربي؛ فقد ترك تأثيرات انتهكت باسم الانفتاح وزيادة الانتشار حرمة اللسان العربي الفصيح؛ فمجيء العولمة بمطامحها الاستقطابية (التوحيدية) التنميطية، وثقافتها الاستهلاكية الفائقة، دخل عاملاً لغوياً جديداً إلى فضائنا الثقافي الإعلامي؛ إذ غزت اللغات الأجنبية، والإنجليزية على رأسها، عوالم المرئي والمسموع، وتحديداً ألسنة مذيعي الربط، ومقدمي البرامج، ومروّجي الإعلانات، وغيرهم.

تمدّدت المفردات والتعبيرات الإنجليزية والفرنسية في رحاب المذيعين وأساليبهم، وتلوّنت طرائق نطقهم وتنغيمهم ونبرهم بأساليب ومقترضات واستعارات تعود إلى هذه اللغات، وباتت الأدوات اللغوية المستخدمة اليوم تشكّل مزيجاً هجيناً يغرف من كلّ منهل من دون أن يحمل بالضرورة ملامح شخصية البيئة الثقافية والاجتماعية التي يُفترض به أن يتوجه إليها أو يكون ثابتاً من ثوابت هويتها التعبيرية(2).

إن حابل الإعلام أصبح مختلطاً إلى أبعد حد بنابل اللغة، ولم تعُدْ تبعاً لذلك حدود استخدام كلّ منهما وضوابطه وتوظيفه في خدمة الآخر واضحة المعالم. وعلى هذا الأساس، فالتداخل البيّن بين مستويات اللسان العربي في مختلف وسائل الإعلام، إضافةً إلى الغموض الحاصل في الدور المرتقب لهذه الوسائط، يحتّمان وضع أكثر من استفهام على هذا المستوى، سواء في ذلك ما يمكن أن يصيب (هوية اللغة العربية الفصيحة) من تدجين وتدمير من خلال خلخلة أركانها المنبنية عليها (صوتاً، وصرفاً، ونحواً، وتركيباً، ودلالةً)، وتخريب نسقها المعياري، أو ما يمكن أن يلحق (هوية) الناطقين بها من ارتجاج ومسخ، بوصف (اللغة هي صلب الهوية)، مثلما أن تحديد اللغة يقع في قلب تحديد (الهوية)، وكلاهما يتبوأان موقعاً مركزياً في فهم التحولات الآخذة في البروز كما يبدو من المظاهر الآتية:

– التداخل بين اللغة الفصيحة واللغة العامية في الخطاب الإعلامي:

وهو تداخل ليس بريئاً أو عفوياً، وإنما هو مقصود، الهدف منه عزل اللغة العربية الفصيحة (بما تحمله من قيم ورموز وعمق تاريخي وبعد أيديولوجي)، وإحلال العاميات محلها؛ أي: الابتعاد ما أمكن -كما يتّضح في الخطاب الإعلامي- من اللغة الأم، وترسيخ (النسق الدارج). ولأن «الإعلام بمختلف وسائله الخطية والسمعية والمرئية هو أكثر المنظومات التصاقاً بالجمهور والواقع فإن كلّ التركيز يقع على قنواته ووسائطه للنيل من اللسان الفصيح؛ لذلك فنصيب الفصحى ما انفكّ يتقلّص، ونزعة الاستسهال بحكم قانون المجهود الأدنى ما فتئت تزرع الوهم بأن العربية لا تتلاءم مع برامج الحياة اليومية»(3)، وكأن العربية لغة مفارقة للواقع الحيّ المعيش؛ لذا يحاول هذا التوظيف الإعلامي أن يبثّ الإيهام والخداع بكون لغة الواقع (اللغة العامية) هي التي يجب أن تغدو اللغة الرسمية، وهذا معناه جعلها لغةً تعليميةً أولاً، ثم لغةً إبداعيةً ينتج بها الفكر ثانياً، ومن هنا تجد أطروحات تحطيم اللغة الفصيحة مداخلها المبتغاة!!.

ولا يبعد أن يكون المقصد الأساسي من وراء كلّ هذا هو أن تلقى لغة الضاد المصير نفسه الذي لقيته اللغة اللاتينية بأن تنحل وتتفتت إلى لهجات تتطور إلى لغات قائمة الذات.

شجّعت هيمنة ثقافة الصورة (الثقافة البصرية) في مقابل تراجع ثقافة الكلمة (ثقافة المقروء)، وطغيان مبدأ الإغواء المشهدي في شكل من أشكال تفشي (لعبة الإغراء The game of seduction)، على انتشار الثقافة الجماهيرية بمختلف مظاهرها ووجوهها، وانحسار ثقافة النخبة بتجلياتها وصورها شتى؛ لذا من البديهي في مثل هذا الحال أن يتوسل الإعلام بالعاميات بدءاً بلغة التخاطب التي يستعملها المنشطون والمنشطات للبرامج التلفازية والإذاعية.

ولعلّ ما يزيد من استغراب المتابع للوضع الإعلامي أن البرامج الدينية قد انجرّت -في شكل من أشكال تحوّل الوعظ والإرشاد الدينيين من المنبر إلى الشاشة، أو من المسجد إلى الأستوديو- إلى المآل عينه، بل إن جمهور العلماء والدعاة والوعّاظ أضحوا يميلون إلى التداول اللهجي عبر البرامج الإعلامية، حتى الذين يتناولون منهم قضايا على قدر من التعقيد والدقة في علم القراءات أو علم الأصول أو غير ذلك، بل للأسف حتى في علم اللغة(4).

– اللسان الفصيح واللسان الدارج وسؤال المرجعية في الفضاء الإعلامي:

باتت وسائل الاتصال والإعلام العربية والأجنبية على حدٍّ سواء؛ بفعل قوة انتشارها، وازدياد تأثيرها في المتلقي العربي، تمثّل شبه مرجعية ثقافية ولغوية لا تقلّ أهميةً عما سواها من المرجعيات القائمة المورثة. ولعل المقلق -فيما نحن فيه- الشكل الموصول بفعالية هذه (المرجعية الجديدة)، وقدرتها على القيام بتوجيه جمهورها وتطويره لغوياً؛ لأن أهدافها التسويقية، وخلفياتها الاستهلاكية، ومنطقها الربحي، وفلسفتها التجارية، غير المنفكة عن تجديداتها وإبداعاتها اللهجية الغربية، تكاد تطغى على همومها اللغوية؛ فمبدأ الغاية التوصيلية (النفعية) مُقدَّم على العناية بالوسيلة اللغوية وما تقتضيه من ضبط وإتقان، إن لم نقل: إن غاية حفظ شدّ المتلقي إلى الوسيلة الإعلامية أكبر وقت ممكن تسوّغ انتهاك حرمة اللغة الفصيحة واللسان الرصين.

أما ما يرتبط بالتأثير والتأثر المتبادلين بين مستويي الفصحى والعامية في اللسان العربي المعاصر، فيوجب التذكير بأن العرف اللساني يؤكد أن المستوى الفصيح ينحو منحى التكيّف مع المستوى التعبيري اليومي؛ بمعنى أن التلاقي والتفاعل يحدثان انطلاقاً من المستوى الفصيح، وصولاً إلى المستوى العامي، بينما العكس هو الصحيح في حال اللسان العربي الذي تتطور عاميته تدريجاً -بفعل الاحتكاك والاستعمال الإعلامي تحديداً- (نحو الشكل المفصّح)(5).

وإذا تبيّن هذا تبيّن معه كذلك أن (الانحراف) في المجال الإعلامي نحو التوظيف اللهجي (استعمال العاميات) على حساب اللسان الفصيح إنما هو انحراف على مستوى المرجعية اللغوية التي هي مرتكز الهوية العربية، وأساس الانتماء الحضاري للأمة الناطقة بلغة الضاد. وليس من نافلة القول التذكير في هذا السياق بأن اللغة العربية تنفرد عن غيرها من اللغات العالمية بأنها كانت -ولا تزال- تشكّل المحور الذي تلتصق به هوية الفرد العربي وهوية الجماعة على حدٍّ سواء، وبين هذه وتلك هوية الدين. كما أنه غنيٌّ عن البيان أن هوية الدين ترتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، ولغة الحديث النبوي الشريف.

وبناءً على ذلك، فإن التفريط في هذه اللغة في المجال التداولي الإعلامي -من حيث إن الإعلام هو الصانع الأساسي للتصورات والتمثّلات، والمشكل الأبرز للوعي والإدراك- إنما هو تفريط في المرجعية الحاضنة لها، التي قوامها الامتداد في العمق التاريخي، والامتلاء الحضاري، والانسجام بين العناصر المكونة لها، وما يستتبع ذلك من أصالة وثبات، على نقيض ما تحيل عليه (اللغة الهجينة) التي أضحت -كما تبيّن- العلامة المميزة للخطاب الإعلامي المعاصر، وهي (لغة) لا هوية حقيقية لها، ولا مرجعية محددة تحضنها، أو أنها -في أحسن الأحوال- ذات (هوية هجينة مدجنة): عامية، وعاميات، ولغة فصيحة، وإنجليزية، وفرنسية، وغيرها.

وأيّ لسان بهذه المواصفات لا يمكن أن يسهم في خلق الإبداع، أو بناء فكر، أو صناعة ثقافة (بالمعنى الإيجابي العميق)، بل يمكن القول: إن وضعاً لغوياً كهذا من شأنه أن يقوّض الإبداع الثقافي والإنتاج الفكري؛ لأن اللسان الغريب عن التربة الحضارية للأمة لا يمكن أن يولد إلا (ثقافة غريبة)، و(فكراً مغترباً)، بل وإنساناً مغترباً عن محيطه المحلي والكوني؛ لكونه يُفقد صاحبه حقيقة وجوده، وصميم هويّته؛ أي: اللغة الأم؛ لذلك «فالنظرة إلى اللغة ينبغي ألا تقصر على أنها مجرد سوق استهلاكية جديدة، أو سوى فتح تلفزيوني إعلامي يتجلبب بالعباءة العربية، وإنما من جهة كونه يرطن بلغة هجينة مغربة»(6)، لها تداعيات مخيفة على الإنسان والفكر والثقافة والحضارة.

من هنا يمكن التنبيه إلى أنه بدل أن تمارس وسائل الإعلام في المجتمع العربي دورها في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وتقدم النماذج التي تبني الشخصية، وتحمل الرسالة، وتثير الاقتداء، وتحسن التعامل مع الإعلام الغازي وتواجهه، وتشعر الأمة بالاستفزاز والتحدي الذي يجمع طاقاتها، ويبصرها بطريقها، ويساهم في صمودها، بدل كلّ ذلك تحوّلت جلّها إلى وسائل هدم، تسهم في تكسير أسلحة الأمة، وعلى رأسها اللغة، ومن بعدها القيم والأخلاق، وإلغاء حدودها الفكرية والثقافية؛ لتمكن لمرور (الآخر)، واختراق الهوية العربية الإسلامية، وقد تتجاوز أكثر من ذلك؛ إذ تغدو أداةً لـ(الآخر)، فتبرز (العمالة الإعلامية) بوصفها تجلياً من تجليات العمالة الثقافية والسياسية في مراحل تطور الدولة التاريخي(7).

وإذا تبيّن هذا تبيّن معه كذلك أن الأزمة التي تعيشها اللغة العربية الفصيحة اليوم إنما هي أزمة متعددة المداخل، وفي مستويات كثيرة لم تعُدْ محتملةً: أزمة وضع (في التعليم والإدارة والاقتصاد)، أو مأسسة لغوية غير مناسبة ولا مجدية، وحقوق لغوية مجهضة، وقانون يتنافى والواقع، وأزمة متن (معاجم وقواعد ونصوص)، ووظيفيات (في الحياة العامة والإدارة)، واقتصاد وسياسة واجتماع وإعلام، وغيرها(8). وهذا الأمر يعكس مدى هشاشة الوضع اللغوي العربي، وحدّة الأخطار التي هي محدقة به؛ لما يعيشه من حصار بين اللغات الأجنبية الكاسحة من جهة والعاميات المتنامية من جهة أخرى، فضلاً عن التحامل المشهود على لغة الضاد بشكل مباشر أو غير مباشر محلياً وكونياً؛ لذا فالمعالجة الملحة والعقلانية صارت أمراً لا يتحمّل مزيد إهمال ولا تأجيل؛ لأن إصلاح الشأن اللغوي المتردّي وتقويم اعوجاجاته هو في الآن نفسه (ترميم) وإصلاح للهوية العربية؛ لكون الأزمة واحدة، والمآل واحد على سبيل اللزوم والتعدي. ومعنى هذا أنه لا فصل ممكناً بين أزمة اللغة العربية القائمة فعلاً وأزمة الهوية العربية الموجودة حقيقةً؛ فاندحار اللغة اندحار للهوية الموصولة بها، كما أن تأكّل هوية جماعة بشرية ينعكس على صفحات اللغة التي يتحدثونها. وإن كان من مزايا للإعلام المعاصر فإنها تتمثّل في كونه -من خلال توظيفاته اللغوية، وترسيخه نمطاً لغوياً متهرئاً- جعلنا نشاهد على شاشات القنوات الفضائية، وصفحات المواقع الإلكترونية حقيقة هويتنا المأزومة، ونقرأ على صفحات الصحف والمجلات معالم ضعفنا البارزة، ونعرف مدى تفريطنا في هويتنا ولغتنا معاً.