أعشاب سامة

أعشاب سامة

.. التف بحذر حول خاصرة الجبل وتوغل في عتمة الخلاء. تنهد بارتياح: لم تكن الظلمة من الحلكة بحيث تعيق تقدمه. صحيح أن مدى رؤيته لا يكاد يتعدى خطوات قليلة، لكن ذلك كان كافيًا، بل ويناسبه على نحو مثالي: لم يكن بحاجة إلى أكثر من رؤية موطئ قدميه. ما عدا ذلك فإنه يعرف المكان جيدًا، وبإمكانه أن يحثَّ السير نحو وجهته دونما قلق..

قبل أن يبتعدَ من الجبل بمسافة تجعله يلوحُ مثل كائنٍ خرافي هاجع في حضن الظلمة، وقبل أن يستقيمَ خطُّ سيره فوق الأرض الخشنة المتحجرة؛ وخزته نبتةٌ شوكية اخترقَت سطح حذائه المطاطي. ندت عنه صرخة، وانحنى مقوسًا جذعَه كي يتفحصَ موضعَ الوخز. أخرج مصباحه اليدوي، وسلط ضوءه على الإصبع المصابة. كان قد انساب منها خيطٌ من الدم، لكن الرجل امتعضَ أكثرَ مما تألم: كان يريد أن يصلَ في الوقت المناسب، وكان يتمنى ألا يُعيقَه شيء. توسل إلى الإصبعِ ألا تنتفخ، فتزيدَ ألمه، ثم واصل السيرَ وهو يعرجُ على نحو خفيف.. امتدت يده بشكل تلقائي متحسسةً أعلى فخذه الأيمن، تحت الحزام بالضبط. شعر بالرزمةِ في مكانها، وضغط عليها لتستقر أكثر في قعر الجيب الداخلي. لقد خاط ذلك الجيبَ الإضافي بنفسه وثبته على نحو محكم، ثم أودعَ فيه المبلغَ الذي ادخره على مدى سنوات، كي يحققَ حلمه الذي يضرب من أجله الآن في ظلمةِ الخلاء: شراء بقرة.. استيقظ في الثالثة صباحًا، بعد ساعات قليلة من نوم مضطرب ومتقطع. لبثَ مستلقيًا بعينين مفتوحتين في الظلام، وقد وضعَ يديه خلف رأسه. استعرض في ذهنه من جديد مسارَ رحلته، توقيتَها وأخطارَها المحتملة، قبل أن يقومَ ويشرعَ في ارتداء ثيابه على ضوء شمعة تلفظ أنفاسَها الأخيرة. دسَّ علبةَ السجائر والمصباحَ اليدوي الصغير في جيوبه، ثم ألقى بالجلباب فوق كتفه. تململت الزوجةُ مكانها ثم قامت مندفعةً لكي تُعدَّ له زوادة الطريق، لكنه طلب منها بصوت خفيض أن تلزمَ فراشَها وتعودَ إلى النوم. كان يعرف أنها بحاجة ماسة للراحة، لأنها على وشك أن تبدأ يومًا طويلًا من الأعباء التي لا تنتهي.

وهو يحثُّ الخطو في الظلام، ويسمعُ أنينَ الحشائش اليابسة تحت ثقل حذائه، فكر: قبل غُبشة الفجر ستغادر فراشها. ستطعم الموقد الحجري بعضًا من الحطب، وبعد أن تضع قدرَ الحساء فوق النار، ستخترق عتمة آخر الليل باتجاه الزريبة لتحلبَ الشاة ذات الضرع المدرار، قبل أن يستيقظَ الحمَلُ وينقضَّ بنهم على الحلمات. ستملأ مقدار قدح صغير من الحليب الطازج ثم تسقيه الجروَ الصغير مثلما ألحَّ عليها. إنه ليس جروًا عاديًا، بل مشروع كلب صيد حقيقي.

وهو يربت على رأسه الصغيرة بالأمس، لاحظ برضى أنه يكبرُ على نحو جيد، وحدَس بنظرته الخبيرة أنه سيكون سلوقيًّا لا مثيل له. سيكون خير خلف ل «رطَّاح» الذي شاخ وصار يبرِّرُ أيامَه الأخيرةَ بصيد قنافذ تغادر مخابئها في رطوبة الليل التماسًا للطعام؛ يشم رائحة إحداها في الظلام فتنتصب أذناه توترًا، وعندما يجدها يدورُ حولَها ويوجه لها ضربات خاطفة بقائمتيه الأماميتين نابحًا أعلى فأعلى، إلى أن يصير على حافة الهيجان بسبب اللسعات الحادة للقنفذ الذي يتحول إلى كرة شوك دفاعًا عن نفسه. أما أرانب الجبل فلم تعد تهابه، بل وصارت تجرؤ على الاقتراب منه دون مساحة الأمان الضرورية.. لما مرَّ بالقرب منه لحظة خروجه هذه الليلة، نهض السلوقي العجوز نافضًا بدنَه ومحركًا ذيلَه بألفة معتقدًا أن صاحبَه سيصطحبه في رحلة أخرى لصيد القنافذ، لكن الرجلَ مسح على رأسه وهرشها بأصابع حانية ثم غادرَ بعد أن جرَّ مزلاج الباب الخشبي..

منذ أيام قليلة أخبره أحد الرعاة بأنه شاهد قطيعًا من الأرانب البرية يرعى غير بعيد من الجبل. شعر حينها برغبة حارقة في أن يخرج للصيد من جديد، لكنه كره أن يضع السلوقي العجوز في ذات الموقف المذل كما حدث في المرة الأخيرة؛ تلاعبت به الأرانب، وجرته في مختلف الاتجاهات إلى أن تبددت طاقته، دون أن يظفر منها بشيء. وفي الأخير توقف منهارًا وعاجزًا تمامًا. أخذ يلهث وقد تدلى لسانه بالكامل…

شعر فجأة بأنه يمشي في الاتجاه الخاطئ فتوقف. لقد شردَ طويلًا فشردَت خطاه. نظر إلى أعلى كأنما يبحث عن علامة يهتدي بها. التفت نحو الجهات الأربع، حيث ستائرُ الظلمة الغامقة لا تسفر عن شيء، ثم انحرف قليلًا باتجاه اليمين واستأنف السيرَ بخطى واثقة. أدخل يدَه في جيب كنزته الداخلية وأخرج علبة سجائر. استل منها سيجارة وولاعة وشرع في التدخين، دون أن يتوقف. تمنى لو يجلس على حجر ليستمتع بسيجارته في هدأة الليل، لكنه لم يرد أن يضيع الوقت. إذا جلس فإنه سيحس أكثر بوحشة الخلاء، وربما انتابه الخوف أيضًا، فآثرَ مواصلة السير. التدخين من متعه القليلة التي يقاوم بها حياة الشظف في بلدته المعزولة. اكتشفها مبكرًا، في مطلع يفاعته. كان أبناء البلدة الذين يعملون في المدن يأتون لزيارة عائلاتهم في المناسبات. وفي كل مرة يجلبون معهم شيئًا جديدًا: أشرطةً غنائية، قصاتِ شعر غريبة وعلبَ سجائر يرشقونها في جيوب القمصان كما لو كانت أوسمة فخر، ويوزعونها بسخاء على فتيان البلدة. يحرص دائمًا على رصيده الضروري من السجائر، كي لا تحاصره الرغبةُ الملحةُ وهو في الحقل البعيد، أو في الخلاء وسفوح الجبال راكضًا خلف الطرائد.. بقي ممسكًا بالعقب يمصه إلى أن أحرقَ أصبعيه فألقاه جانبًا، طاردًا الدخان من منخريه بانتشاء. شعر فجأة بالتعب وأخذ يلهث. هل المسافة أطول مما قدر، أم أن التفافَه حول الجبل كان أطول مما ينبغي؟ خطر له أن يتوقف قليلًا ريثما يستعيد أنفاسه، لكنه فضل أن يواصل. إنه يعرف نفسه جيدًا. إذا استسلم لرغبة جسده فإن الجسدَ سيخذله لا محالة. وقد يضطجع في أي مكان وكيفما اتفق مستسلمًا لسطوةِ النوم..

تمنى لو كان الآن على ظهر أتانه الطيعة. كان سيتفادى السفر عبر هذا الخلاء الموحش، ويسلك سبيلَ السوق المطروقةَ، بل أكثر من ذلك سيكون بوسعه أن يتخذ وضعًا مريحًا على مطيته، ثم يستغرق في النوم تاركًا أمرَ الطريق للأتان التي تعرفُ وجهتها جيدًا ولن تزيغَ عنها، لأن الطريق مجرد خط ترابي ضيق رسمته الأرجل والحوافر، وتحدُّه الأحجار من الجانبين.. لكن لم يكن أمامه من خيار: اللصوصُ وقطاعُ الطرق يكمنون في جنبات الطريق الوحيدة المؤدية إلى السوق الأسبوعي متربصين بالفلاحين وصغار التجار. لا يجرؤ على المرور منها سوى من كان مؤازرًا بأبناء شداد مسلحين بالهراواتِ والمناجلِ أحيانًا، بينما هو رجلٌ وحيد لا ذكرَ من صلبه. هو ليس رجلًا شجاعًا إلى درجة اقتحام هذا الخلاء الموحش ليلًا دونما خوف، لكن وحشةَ هذا العراء باتت ـ في الآونة الأخيرة ـ أكثرَ أمنًا من الطرقِ المأهولة التي يحفُّ جنباتِها قطاعُ الطرق مثلَ أعشاب سامة.. إنهم أجلاف قساة زادت العطالةُ وتعاقبُ سنواتِ الجفاف قلوبَهم قسوة. قد يُجهزون على ضحيتهم بلا رحمة بضربة حجر أو هراوة، قبل أن يسلبوه مالَه ويتواروا في جنح الظلام.. هو بعيدٌ منهم الآن. ولن يفكرَ أحدُهم في التربص به في ظلمة هذا الخلاء.. قدر أنه قطع معظمَ المسافة، فسرى ماءُ الطمأنينة في صدره. لاحظ أن الظلمةَ بدأت تتخففُ من دكنتها شيئًا فشيئًا. لسعه فجأة برد الفجر الوليد وأنعشَ قواه في الآن ذاته. سحب جلبابَه من فوق كتفه، ودسَّ جسدَه داخله، ثم خطا بهمة أكبرَ يغمره شعورٌ بالرضا..

* * *

كان النهيقُ أولَ صوت يبلغ أذنيه المتحفزتين. نهيقٌ بعيد حمله هواء الصباح وأطال أمده قليلًا في الفضاء قيل أن يتلاشى. عما قليل، وبمجرد أن يلتف حول هذه التلَّة الصغيرة، ستلوح له قطعان الحمير وقد رُبطت إلى مذاودها خلف الخيام المنصوبة في العراء. وعندما يقترب أكثر ستطالعه سحبُ الغبار التي تثيرها البهائم بحوافرها وأظلافها فوق أرض السوق المتربة، قبل أن تخترقَ سمعَه دفعةً واحدة جلبةُ السوق المحببة. غمره شعور بالرضا عن رحلته. لقد وصل في وقت مبكر مثلما تمنى، وسيحظى بالوقت الكافي لمعاينة قطعان الأبقار على مهل بحثًا عن بقرته. يعرف أنها تنتظره في مكان ما من السوق: بضرع معطاء، بطنٍ ولود وهيأةٍ تسرُّ الناظرين. لكنه قبل ذلك سيكافئ نفسَه بإفطار شهي يعيد إليه قواه. سيزدرد إسفنجتين ساخنتين أو ثلاثًا، مع كؤوس شاي مُعدّ بنعناع لاذع الطعم مثلما يحبه، ثم يُلقي بنفسه وسط جلبة السوق. تحسَّس من جديد الرزمةَ في مكانها ودفعها بطرفِ إبهامه لتغوصَ أكثرَ في قعر الجيب، ثم أسرع الخطوَ فيما مدى الرؤية من حولَه يتَّسعُ شيئًا فشيئًا..

ضيفٌ لا ينوي المكُوثَ طويلًا

ضيفٌ لا ينوي المكُوثَ طويلًا

بمجرد أن أزاحت اللِّحافَ عن وجهها عرفَت بأنه جاء. تسربت رائحتُه من خصاص النوافذ ومن الفجوة الصغيرة تحت باب الغرفة الخشبي. مسَّت الرائحةُ طرفَ أنفها فأسرَّت لنفسها: أجل، إنها رائحته، لا يمكن أن تكون لأحد سواه!

أسندت شيخوخَتَها إلى العكاز الساهر إلى جانب السرير، وخطت الهوينى باتجاه الحمام.

***

حملت فنجان قهوتها وقصدت الشرفة، حيث وجدتْه ينتظر. كان لا بد أن تتجملَ قليلًا وتتعطر، فليس من اللَّائق أن تُقابل ضيفًا مثله بهيئة مهملة وجسد تفوح منه رائحةُ النوم، كما لا تستطيع أن تبدأ صباحها دون فنجانِ قهوةٍ يحملها إلى مرتبة الصَّحو الكامل. عندما رأته شهقتْ رغمًا عنها فاضطرب الفنجان في يديها، حتى إنها أهرقت قليلا من القهوة في صحن الفنجان. تمالكت نفسها، وضعت الفنجانَ فوق الطاولة وجلست. كان هو في الطرف الآخر للشرفة الواسعة المطلة على الشارع، في عينيه وداعة، ويبدو غير مسترخٍ تمامًا في جلسته مثلَ ضيف لا ينوي المكوثَ طويلًا. فوق صدره العريض تنسَدلُ لحية مهيبةٌ ناصعةُ البياض، فيما عيناه تشعان فتوةً وحياة.

حيَّتْه بإيماءة خفيفة من رأسها مبتسمةً في وجهه، وشرعت ترشُفُ قهوتها على مهل، وهي تُعاين استيقاظَ الحياة في الأسفل. رأت شيوخَ الحي يدبون نحو المنتزه القريب مثلَ أشجار متحركة، تتساقط خلفهم أوراق العمر الميتة دون أن يأبهوا. رأت تلك اللافتةَ العملاقة بخطئها اللغوي الشنيع؛ أمضَت عمرًا كاملًا تتمنى أن تُصلحه كلما تجهَّم في وجهها وهي جالسةٌ في الشرفة. لطالما تمنت لو تقفزُ من مكانها، تسبحُ في الفضاء باتجاه المبنى التجاري الضخم، وفي يدها فرشاةٌ ووعاءُ صباغة. تُسعف جُرحَ اللغة ذاك، ثم تعود لتُكمل احتساء قهوتها.

رأت حارس موقف السيارات يؤرجح هراوته ويتثاءب بعد ليلة طويلة من الحراسة؛ رفع رأسه نحوها وحياها بإشارة من يده. بحركة صغيرة من رأسها التفتت جهة المقهى.. مثلما توقعتْ وجدت الرجلَ النحيف الأسمر متمترسًا في ركنه الأثير، يُشهر في وجه الصباح سيجارته المشتعلة على الدوام. راودها مرة أخرى ذلك الخاطرُ الطريف: حياة هذا الرجل سيجارة عملاقة يومًا ما سيدخنها كاملة؛ وحينذاك سيركب آخر دفقةِ دخانٍ ينفثها لتطيرَ به بعيدًا، مثلما تركب المشعوذاتُ المكانسَ في حكايات الأطفال..

ثم رأت نباتات شرفتها وقد مسَّها الذبول.. لامتْ نفسها لأنها نسيتها مرة أخرى، وقرَّرت تخصيص قدْر من الوقت هذا اليوم لتمُدَّ يد العناية لتلك الكائنات الهشة.. رشفَت رشفة أخيرة من قهوتها، وتأملت قليلًا قاع الفنجان، حيث رسمتِ الثُّمالة السوداء أشكالًا غريبة. بطرف عينها رمقتِ الضيفَ فوجدته على ذات الهيئة: لا يسترخي تمامًا كأنما يتهيأ للمغادرة في أي لحظة، ولا يتملْملُ في جلسته، كما قد يفعل شخصٌ عجولٌ أو متذمِّر. رغبت بحرقة أن تتفقَّد مرافقَ الشقة، وتمُسّ محتوياتِها ببعض العناية والترتيب، لكنها عجزت تمامًا عن النهوض. أدارت عُنقها قليلًا ملقيةً نظرةً نحو الداخل، فلم ترَ سوى ساعةِ الجدار والقفصِ المعلَّق أسفلَها.

تمنَّت لو كانت الخادمة هنا لتوصيها خيرًا بالشقة، بنباتات الأصص فوق الشرفة تحرّك وريقاتِها الرفيعةَ مُطالبةً بماء الصباح، وبالعصفورِ في القفص ينطُّ بعصبية وينقرُ الأسلاك.. ندمَت من جديد لأنها طردتها، لكنها كان لا بُدَّ أن تفعل؛ لقد استيقظَت ذات صباح لتدرك على الفور بأن رجلًا غريبًا أمضى الليل في شقتها التي لم يدخلها رجلٌ منذ عشرين عامًا. كانت تفوح في المكان رائحة فظيعة كما لو أن جثةً متعفنة نُسيت في أحد الأركان. حاصرت الخادمةَ في المطبخ. حدجتها بتلك النظرة الحادة لتُسبل الأخيرةُ جفنيها وتلوذَ بالصمت. ولم يكن الرجل سوى حارس موقف السيارات الذي حياها منذ قليل وهو يؤرج هراوته حينًا ويثبِّج بها(*) حينًا مِثلَ راعٍ في الخلاء..

تنهَّدت بعمق. ألقت نظرةً على الشارع، حيث كان وجهُ المدينة قد اكتأب فجأة. تهادت غيومٌ داكنة على علوٍّ منخفض، وبدا كأنَّ السماء على وشك البكاء. حينذاك قام الضيف واقفًا فلاحت قامتُه مهيبة توشك أن تخرقَ الفضاء. دون أن تُغادر نظرةُ الوداعة عينيْه ناداها بإيماءة خفيفة. أسندتِ العكازَ إلى جدار الشرفة. تقدمت نحوَه باستسلام، ومدَّت له يدًا معروقةً شاحبةَ الأصابع كما لو كانت ستُراقصه.. حلَّق بها بعيدًا.

* ثبج بالعصا: وضعها وراء ظهره وجعل يديه خلفها.