«حشرات الذاكرة» لجمال حسن.. الفانتازيا والواقع

«حشرات الذاكرة» لجمال حسن.. الفانتازيا والواقع

الرواية متمردة، ترفض الواقع لكنها لا تتخلى عنه، وتظل تخاطبه حتى في شكلها الفانتازي. وهذا ما تفعله رواية «حشرات الذاكرة» لجمال حسن، الصادرة عن دار ضفاف – بيروت. السرد فيها مزيج من الفانتازيا والواقعية: السقوط من حلم إلى حفرة عجائبية، ومن الواقع إلى صدع كابوسي، في دائرة يتوارى فيها اليقين وراء الشك، والشك خلف اليقين ليصب المزيج أخيرًا في محطة اللايقين، ولهذا الغموض دلالة تخلخل اليقينيات في حلبة تتنازع فيها سلطة الفرد مع سلطات الدين والسياسة والمجتمع. مع قليل من التبصر في البنية السردية سنعثر على خطين رئيسيين: خط فانتازي عجائبي وخط واقعي. وتتوزع الشخصيات على الخطين في خمسة خطوط متداخلة. الرواية مقسمة إلى (64) فصلا وخاتمة. وهذا التقسيم شكلي؛ فالسرد يتَّبع أسلوب تقطيع الخطوط في ومضات بتقنية «التواتر التكراري»، وأغلب الفصول تشتمل على ومضات من الخطوط السابقة تطول أو تقصر مع التركيز على الخط الرئيسي (لقاء مروان وسميرة) الذي تتشابك معه بقية الخطوط.

لأن الرواية فانتازية واقعية فقد جمعت نوعين من الشخصيات. شخصيات الخط الواقعي تدعو القارئ للتعاطف معها سلبًا أو إيجابًا، وهي: (يسرا، واللواء أمين، والشيخ علي عمر، وزوجته الطفلة). وأكثر الشخصيات مدعاة للتعاطف هما: يسرا والزوجة الطفلة. وشخصيات الخط الفانتازي: (مروان، وسميرة، وفتحي، وأحمد كمال)، وهي باهتة بحكم طبيعة شخصيات المحكي الفانتازي المتسمة بالضبابية والتحول والامتساخ. وهكذا سيختلف مفهوم الحبكة في الخط الواقعي، بمعناه فن إدارة الشخصيات، عنه في الخط الفانتازي بوصفه فن إدارة الفكرة الذي يؤدي فيه الهذيان دورًا بارزًا في خلط الحلم بالواقع.

شبكة الشخصيات

جمال حسن

شخصية مروان مثال لحالة «فقدت تاريخها». والأمر لا يتعلق بفقدان الذاكرة، بل بحالة «إرباك، تجعل التاريخ الذي تختزنه الذاكرة يضيع ويصير بياضًا كليًّا يمسخ الحواس، يصبح المسرح الوجودي غير مفهوم البتة، وكذلك أصالة الموت. وفيما يتعلق بالحياة كغريزة أساسية تتجلى في البقاء، يضيع المفهوم الغرائزي». يتدخل السارد في تفسير هذه الحالة بقوله: إنها «الذاكرة باعتبارها على صلة مشوشة بالواقع. وهذا لا علاقة له بالنسيان كنمط ضياع للأحداث، بل بالتدخل الإنساني المتكرر على الذكريات» (208). يسرا واحدة من ثلاث حالات عن اغتصاب الطفولة. اغتصبها قريب لها وهي طفلة، ثم أصبحت بائعة هوى فاتنة. تتمحور فكرة يسرا عن المستقبل حول معاشرة ذاكرتها التي تختزن ثروة من المواقف المثيرة. يتم وأد هذا الطموح بقتلها فتورث ذاكرتها ومجوهراتها للساردة التي تتماهى معها في نهاية الرواية. قتل يسرا حال دون وضع حد للقصة الدائرية. أرادت يسرا لابنة الشيخ حياة مختلفة عن حياتها، أن تعيش «حياة أكثر تماسكًا، لكن الموت حال دون أن تفي بعهدها»، وحالت الحياة دون الوفاء بعهد ابنة الشيخ ليسرا، ففقدت بكارتها تحت رجل سمين وغصت في حياة الليل تبيع الهوى والحب (212).

الشيخ علي واجهة دينية يتم من خلالها عرض مشكلة زواج القاصرات. يتزوج الشيخ بنت أحد أصدقائه وهي فتاة صغيرة، فتموت في ليلة الدخلة، ويبقى موتها سرًّا يتخذه السرد أداةً للتشويق بين احتمالين: نتيجة نزيف، أو بسبب لدغة عنكبوت سامة. تبدو حكاية الشيخ مقحمة على سياق الأحداث لولا ربطها بطفلته التي تفر من البيت بعد اكتشافها سبب مقتل صديقتها فتتبناها يسرا ثم تورثها أموالها وذاكرتها. ويمثل اللواء أمين عباس واجهة لفساد الدولة وعالم السياسة والمؤسسة العسكرية. وبقصة لطم ابن أحد المشايخ لضابط في المطار ينتهي الخلاف إلى صلح قبلي يدل على أن سلطة القبيلة أقوى من سلطة الدولة والمؤسسة العسكرية.

وقوع سميرة في حفرة يرمز للموت. والحفرة هنا أقرب إلى رحم يخرج منه طفل عنكبوتي يقتات على حشرات الذاكرة. وبمقابلة حياة مروان، المعيشة عبر أحلام وئدت في الماضي أو مشتهاة في المستقبل، مع صورة الطفل العنكبوتي، نكون أمام صراع ذاكرتين وزمنين: ذاكرة الشاب مروان التي تحيلنا الشواهد النصية إلى المستقبل أكثر مما ترجعها إلى الماضي، وذاكرة الطفل العنكبوتي التي ترمز إلى الماضي. ويمكن أن نرى في صورة الطفل المسخ مرآةً لحياة مروان الطفولية، ومثالًا للعود الأبدي المكبِّل لحياتنا حيث لا يكتسب المستقبل مشروعيته إلا بالعودة إلى الماضي. تُوظف قارورة «عطر الخلود» للربط بين زمنين وحكايتين: حكاية بلقيس وسليمان، عن «قارورة عطر خرافية شكلت سردابًا لا مرئيًّا بين واقع ووهم لنفس الشخص» (215). يُخفي الجني عاشق الملكة بلقيس القارورة في حكاية بلقيس وسليمان لتظهر فجأة في قصة سميرة ومروان. فإذا كان «العطر هروب من كبت الزجاجة» (41)، فالاستعارة تشير إلى هروب من كبت الحاضر إلى فضاء الأسطورة، أو لأن «متعنا الشخصية أحيانًا تريد أن تتحول تاريخًا يعلن عن نفسه بطريقة ما» (الرواية 57). وربما لأن «ثمة فاصل هش بين الوهم والحقيقة. وعندما تبلغ الأحلام ذروتها تتبدل العوالم» (الرواية 93). تُجزأ الحكايتان زمنيًّا: حاضر – ماض – حاضر… ثم تتحول قارورة العطر أخيرًا إلى زجاجة بيرة (80 – 81). ولهذا التحول دلالة سلبية تشير إلى تدهور الزمن. وابتكار الكاتب لحكاية بلقيس وسليمان يُلمح إلى اللبس المصاحب لشخصية بلقيس (التاريخية) وإلى النقد التاريخي المشكك في قصتها، فـ«التاريخ ليس سوى مسارات يعاد تشكيلها بكذبات» (140). و«الماضي، هو ما نرنو إليه بعيون لا ترى، بشبق الحنين. وليس ما نتذكره تحت كماشة الموت المنتظر» (197).

الفانتازيا وحكايات الجدات

«حشرات الذاكرة» تهدف فوق كل اعتبار أخلاقي أو واقعي إلى إعادة الدهشة الغرائبية في حكايات الجدات من باب الفانتازيا. ابتكار الكاتب لقصة بلقيس وسليمان يسعى لتفكيك المقدس وجعل الأساطير فنًّا قابلًا للابتكار بنقله من المعبد إلى الفن والأدب. وبهذا تحيل الفانتازيا إلى الأسطورة وتتبادل معها الأدوار لتجعل الديني دنيويًّا. وبهذا تسهم في نقل الإيمان من مجال العام إلى الخاص، وهذا جهد علماني. التركيز على قصة الحب بين بلقيس وسليمان يهدف إلى تأكيد بشريتهما، ووقوف إله سليمان وإله بلقيس ضد هذا الحب يضع الدين في مواجهة حدية مع الإنسان. والرواية بتقنيتها الفانتازية ترغب في التحرر من إكراهات الواقع ومبادئه الصارمة إلى فضاء غير مألوف. يُقدم فصل ما قبل الخاتمة محاولة لفلسفة فكرة الرواية من خلال تحليل أفكار طبيب نفساني يشعر بعظمة أفكاره لكنه يفتقر للإنجازات العملية. من هنا، يمكن اعتبار مروان فكرة نظرية في رأس نفساني «استغرق في تخيل المجد أكثر من العمل على فكرته» (210). والرواية بذلك أكثر من حادث ارتطام بصري في محل عطر، بين حبيبين سابقين أو مفترضين، وأكثر من سرد «لحكاية يصعب اكتمالها» (213)؛ لأنها حكايتنا أو حياتنا التي لم تبدأ أو لم تُعش بعد.