عبدالله راجع.. سادن المدن السفلى

عبدالله راجع.. سادن المدن السفلى

تنهض علاقتي بشعر عبدالله راجع على أساس المحبة القمينة بمنجزه الشعري، والحفر في طبقات النص الشعري المحمّل برؤى مختلفة ونابضة بالخلْق؛ ميزتها الخروج عن سمْتِ التجارب الشعرية الأخرى، الذي كان بمنزلة الجسر الذي متّن صلتي بالشاعر ومنجزه، ومنحني القدرة على الانغماس فيما يطرحه خطابه الشعري من إبدالات طالت اللغة والبناء والمحتوى ومن خلق لمتخيّل شعري غني وعميق. ولا غرابة في الأمر ما دمتُ من سلالة الآتين من المدن السفلى كما سمّاها الشاعر، التي كان سادنها، ومن المناطق الجبلية التي تزهر فيها النباتات البرية بكل عنفوانها وبأسرارها المثيرة للتساؤل والتفكير.

لذا عندما قرأت أولى قصائد عبدالله راجع أحسست بدبيب داخلي يسري في كوامن الذات، وهي في بداياتها الأولى في كتابة شيء ما يقال عنه إنه شعر، هي كتابة -فيما أعتقد- تجسد هواجس الجنوبي المثقل بسيرة الفقد والاغتراب، فعثرت في شعر هذا الشاعر عما أبحث عنه، فكانت صحبتي لتجربته الإبداعية مشوبة بنوع من الإنصات المحترز، وبأخذ المسافة منها قدر الممكن، نظرًا للسحر الخفي الذي تختزنه هذه التجربة حيث صوت الذات والواقع يتشكلان في لحمة واحدة، ويتداخلان في تشابكات علائقية بشكل يصعب فيه الفصل بينهما، وهنا مكمن شعريته، فالشاعر عبدالله راجع لم يسقط في فخ الخطابة الشعرية ولم ينتصر للتجريب المفضي إلى الإبهام، بقدر ما حافظ على ذلك الخيط الوثيق بين الذات كتجربة وتصور ورؤى، والنهل من الواقع وتحويله وفق متخيل شعري ينزاح عن المتداول والمألوف في النص الشعري المغربي والعربي.

وللشاعر أعمال شعرية ونقدية، نشير هنا إلى دواوين: «الهجرة إلى المدن السفلى» و«سلامًا وليشربوا البحار» و«أياد تسرق القمر» و«وردة المتاريس» و«أصوات بلون الخطى»، إضافة إلى دراسته النقدية «القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد».

الشاعر المشَّاء

قراءة تجربة الشاعر تستدعي توظيف الحواس والحدوسات بِفَراسَة متمعّنة، على اعتبار أنها تجربة شعرية مُدهشة ومُغرية بالعوالم الشعرية ذات البعد الجمالي والفني، ولما تزخر به من رؤى تمزج الواقعي بالخيالي، الرمزي بالأسطوري في سبائك مذهلة تكشف عن العمق والجدارة، والتجذر في الإبداع الإنساني، جراء التعدد المعرفي الذي يمتح منه الشاعر ويشكل خلفية ثقافية ثرة أسهمت في ترسيخ تجربته الشعرية في الحقل الشعري العربي.

لذا فمصاحبة تجربته تتطلب الإصغاء العميق لنهر شعري يجترح مجراه الشعري ببصيرة الشعراء التروبادوريين المشائين السالكين الحياة برحابة تجربة وخيال للتعبير عن التشظي الذي ترزح تحت سطوته الذات والعالَم بمعايير أسلوبية مختلفة كالسرد والوصف والتكثيف والترميز واللغة الاستعارية، وتوظيف الموروث بتجلياته المضيئة للخطاب الشعري المعاصر، وهو الأمر الذي جعل القصيدة تزيغ عن قوانين السائد مؤسسة بذلك قانونها الخاص بها، مستحضرة قولة الشاعر المغربي المختار السوسي: «لِمَ لا أقول الشعر كيف أريد» وبالطريقة التي تستجيب لنداء السياق الاجتماعي والسياسي والفكري. فجاءت القصيدة مع عبد الشاعر «عالمًا في حد ذاتها، كونًا مُقيمًا في بنيتها المتخيّلة، مما أدخلها في التعدّد والتنوع والتخالف والمغايرة والتكثّر، أي ما أخرجها من الواحدية، ومن التمّامية كذلك، إلى التباين والتكثر» كما قال شربل داغر.

يؤسس عبدالله راجع لخطاب شعري حداثي ذي بنية مغايرة تشيّد كيانها النصي على أساس التعدد والاختلاف الذي هو جوهر الكتابة الشعرية، إضافة إلى التمرد على أحادية الشكل بخلق شكل مفتوح ومشرعٌ على الإبدال والانفتاح على أجناس إبداعية أخرى، مما ميز الخطاب الشعري بالتجدد والتغير، من خلال، تجاوز الشكل الشعري التقليدي الجام والمتكلس، متلونًا بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي.

إن ميزة الخروج عن المألوف تمثل الطابع المهيمن على هذه التجربة، والمشكل للرؤية الشعرية التي تتخلّل بنية الخطاب الشعري. واختيار الشاعر لشعر التفعيلة انتصار للتصور الحداثي المؤطّر للتجربة الشعرية ولحرية الإبداع، الذي يعتمد المغايرة وعدم التقيد بالقواعد الشكلية المنمطة. فالقصيدة الحداثية متمردة على سلطة الأب ومستعصية على الانقياد؛ لأنها متحررة من القوانين الموروثة ومجردة من ثقافة الاحتذاء، بل مقتنعة بقدراتها التركيبية وطاقاتها الدلالية المتحرّرة من قيود النموذج الشعري السائد في الشعرية العربية، فالحرية- حسب بنعيسى بوحمالة- «هي نسغ الحضارات والثقافات، وقبل ذلك، فهي، إن في الشعر أو في الرواية أو في المسرح أو في الموسيقا… روح الإبداع ومقوّم إبداعيته»، وبدونها لا يمكن الحديث عن الخلْق والإتيان بالمبهر والمفاجئ.

هكذا نجد الشاعر متحررًا من بنية النص التقليدي، منفتحًا على أفق شعري عموده الأساس بنية السطر الشعري، ومن نماذج هذا قوله: «يُخبرني النورس المقبلُ/ عن الليل تصهل في جوف الأحصنة/ تموت الحساسين عطشى على شرفات زمان طويل/ من القيظ يمتد جسرًا/ إلى آخر الأزمنة…» يقدم الشاعر المكان والزمان في صورة قاتمة حيث الليل والموت والحزن والرؤية السوداوية وذات نَفَس فجائعي، مما يعكس ملامح كتابة شعرية تنتمي إلى سياق سبعيني من القرن الماضي مشحون بأحداث تاريخية وسياسية شهدها المغرب، وأمام هذا يلجأ عبدالله راجع إلى الحلم كآلية من آليات الانفلات من واقع القهر والخوف والنكسات يقول: «ها أنذا أحلم يا دار القهر الصفراء/ بعيونك تشرق بعد النكسة والإعياء/ بالطرق المبتلة تزهر في حضرة ميراث الأموات/ أحلم بالمطر الدافئ يغسل أرصفة الأعين…» فدال الحلم يؤدي وظيفة إنقاذية -إن صح القول- تنقذ الذات من قيود واقع الجَوْر لمعانقة وطن متوهج ومترع بالحياة.

استلهام التاريخ والسِّيرة

ما يميز تجربة عبدالله راجع الشعرية أنها تمتح من روافد معرفية وتاريخية وجودها الشعري؛ إذ يستثمر رموزًا تاريخية وأدبية لها أثر في الحضارة العربية مثل: عروة بن الورد، وأبي الطيب المتنبي، والحلاج، وعبدالرحمن بن الأشعث، وثورة الزنج وغيرها من الرموز التي أضفى عليها مسحة جمالية وفنية، إضافة إلى أن الشاعر استطاع تطويع اللغة لرسم ملامح شخصية واقعية وهي «صالح الشكدالي» وتحويلها إلى شخصية أسطورية تضيء ملامح مدينة الفقيه بن صالح وهي من المدن السفلى كما سماها الشاعر نفسه «من هذا الماشي يصطاد البرق ويطلقه/ من هذا الآكل صورته بالخَلّ/ ومن هذا المجنون الساكن في وحدته، التفتْ/ بعض إناث الرّخّ/ وكان على شفة من سقطته اليوميه/ حين اكتشف الحرف الناقص في قافية ظل يطاردها شهرًا/ قلن: انتح يا شكدالي الزيتونة…» فالشكدالي مرآة المدينة السفلى وهي تعبير عن جراحات وآمال وأحلام وارتكاسات الوطن.

كما أن تجربته الشعرية موسومة بالطابع السيري، بوساطة الاعتماد على سيرة الذات مع العالَم. يقول في أجمل قصائده، بالنسبة لي شخصيًّا، وهي قصيدة «تروبادور»: لأني أحسّ بأن السياحة في الأرض ليست تدوم دوام العمر/ وأني على الأرض سائح/ سينبت في جسدي من بقاع البلاد التي قد رأيت شجرْ/ سيذكرني لحظة في المقاهي التي عرفتني/ رفاق رأوا جبهتي تتغضّن قبل الأوان/ يقولون راح هدرا وهدْرا/ وكان يطارحنا الهمّ حينًا بهذا المكان/ وحينًا يخبئ حزن البلاد وراء ابتسامته/ ثم كان وكان وكان…» هكذا تتجلى الذات بمحمولها الوجودي والواقعي في لغة شفّافة نابضة بالخلْق والحياة.

وفي مقام الختام، لا بد من الإشارة إلى أن تجربة هذا الشاعر تحتاج إلى أكثر من وقفة نقدية قصد إضاءتها؛ نظرًا لثرائها وجدّتها وعمقها الرؤيوي المنسوج من تجربة الذات وتجربة الواقع والانفتاح على الثقافة الأخرى، مما أضفى على الخطاب الشعري للشاعر العمق والأصالة. فالأصالة متجلية في تجسير صلته الوثيقة والواعية بالتراث العربي، والعمق المتمثل في اجتراح أفق شعري متجدد.

فِي رَأْسِي أُفْرغُ رَصَاصَ الْحَيْرَةِ

فِي رَأْسِي أُفْرغُ رَصَاصَ الْحَيْرَةِ

صَوْبَ الرِّيحِ

تَنَامُ الْغُيُومُ عَلَى شَجَر الْعَاصِفَة
تَسْتَيْقِظُ عَصَافِيرُ الطَّمي بِلَا مَاءٍ
الطِّينُ وَجْهِي
أَنَا الْمَلَّاحُ الرَّاكِبُ سَفِينَةَ التِّيهِ
خَلْفِي تَرَكْتُ الْيَابِسَةَ تَعْوِي
يَلْبَسُهَا فَرَاغُ الْحَيْرَة
تَلْطِمُهَا أَمْوَاجُ الْجَرَادِ الْإِلِكْترُونِيِّ
وَتَقُودُهَا بُوصَلَةُ الْفَيْرُوساتِ نَحْوَ حَتْفِهَا الْأَزَلِيِّ
تُطَوِّقُهَا صُوَرُ الْفَايْس الَّتِي فَقَدَتْ صَلَاحِيةَ الْحَيَاة
وَنَامَتْ فِي سَلَّةِ الْحَاسُوبِ الْمُهْمَلَةِ
لَا آدَمَ يُدْرِكُ أَيَّ الْأَسْلَاكِ الْمَعْدِنِيَّةِ تَسْكُنُهَا
وَحَوَّاءُ تَأْسِرُهَا بُروفَايْلَاتٌ مُزَوَّرَةٌ
تُشْعِلُ الْعَالَمَ بِكَرَزِ الْأَنْفَاسِ
وَتَغَارُ مِنْ مِقَصِّ الْحَذْفِ
وَأَنْتَ وَحْدَكَ تُرَوِّضُ خَيَالَ اللّيْل
مَجَازَاتِ النُّجُومِ الْمَأْسُورَةَ فِي سَمَاءِ الْحَرْبِ
تَعُدُّ الرَّصَاصَاتِ الَّـتِي اغْتَالَت شَمْسَ الْعَرَبِ
وَسَكَنَتْ فَجْرَ الْخَرَابِ
خَرَابٌ يَصُولُ… خَرَابٌ يَجُودُ… خَرَابٌ يَجُولُ
خَرَابٌ يَقُولُ:
هَذَا أَوَانُ الطُّوفَانِ فَارْكَبَ يَا صَاحِبِي بُرَاقَ الدَّهْشَةِ
عَلَّ الْفَنَاءَ يَأْتِي بِحُشُودِ الْقِيَامَةِ
لِيُصَلِّيَ عَلَى جُثَّةِ الْمَعْنَى وَخُذْ مَعَكَ ما تَبَقَّى مِنْ رِيشِ الذَّاكِرَةِ
وَمِنْ نَكْهَةِ البُنِّ الصَّاعِدة مِنْ إِبْرِيقِ الْوَالِدَة
وَمِنْ نَبِيذِ الْحَنِينِ مَا يَكْفِينَا فِي لَيَالِي الْمَجَرَّاتِ

هَاوِيَةٌ تَصُبُّ مَاءَ الْجَسَدِ

تَرْشُقُ الْمَدَى بِزَغَارِيدِ الْحِدآتِ
تَرْتُقُ هُوَّةَ الْفَرَاغِ بِصَدَى شُعَرَاء ثَمِلُوا فِي حَانَة الْجَاذِبِيَّةِ
وَنَامُوا عَلَى لَيْلِ الْمِصْبَاحِ فُرَادَى
وَاحِدُهُمْ تَأْكُلُهُ أَرَضَةُ النَّارِ
ثَانِيهِمْ تَلْبَسُهُ غِبْطَةُ النَّاي
ثَالِثُهُمْ يَسْلَخُ غُمُوضَ الْمَغَارَاتِ
رَابِعُهُمْ يَفْتِلُ حَبْلَ الْمَشِيئَةِ
وَخَامِسُهُمْ تُلَعْلِعُ فِي رَأْسِهِ رَصَاصَاتُ الْحَيْرةِ
وَسَادِسُهُمْ يَنْغَلُ فِي دَمِهِ فُقْدَانُ الْخَيَالِ
وَسَابِعُهُمْ يَجْلِسُ نَحِيلَ الرُّؤَى
يُشَيِّدُ كَيْنُونَةَ الْعَمَاءِ
وَثَامِنُهُمْ أَنَا الْأَعْمَى
أُطَرِّزُ غُنَّةَ الْمَجْرَى بِنَحِيبِ الْجِبَالِ
أَتْبَعُ النَّهْرَ إِلَى آخِرِهِ
وَأَخِيطُ طَرِيقِي بِعُكَّازِ التِّيهِ
لَا أَلْوِي سِوَى عَلَى رَائِحَةِ التُّرَابِ
وَجُذُورِ مِحْنَةِ الْأَسْلَافِ
وَهَمْهَمَاتٍ يَقْطُنَّ فِي مَشِيمَةِ الذَّاكِرَة. أصْغِي لِفَاتِحَةِ النَّبْعِ
لِطَيْرِ الْفِجَاجِ السَّابِحِ
فِي ظِلِّ الْأَعَالِي
أُطَارِدُ أَيَاديَ تَسْتَحِمُّ بِمِلْحِ الْأَرْضِ
تُغَنِّي جُرْحَ الْأَبَدِ
تَخُطُّ وَتَمْحُو أَثَرَ الْقَادِمِينَ مِنْ قصِيِّ النَّسْغِ
تَقُضُّ أَضْرِحَةً تَشْتَعِلُ بِبَخُورِ الْمَوْتَى
وَتَكْتُبُ سِيرَةَ الْمُنْحَدرَاتِ
نَشِيدَ الْأَغْوَارِ
حَرَائِقَ تَغْسِلُ رَمَادَ الْقَبِيلَة
وَأَنْتَ مَعِي
تَرُشُّ بَلَلَ الْحَيْرَةِ عَلَى سَمَاءٍ تَبْكِي
صَوَارِيخَ تُوَزِّعُ الْجَثَامِينَ
طَائِرَاتٍ تُشَيِّعُ الْحَيَاةَ إِلَى الْقَبْرِ
قَنَابِلَ تُلْقِي التَّحِيَّةَ الْأَخِيرَةَ عَلَى جِذْلِ الزَّيْتُونِ
وَتَطْرُدُ الْهَدِيلَ مِنْ ذَاكِرَةِ الْحَمَامِ
وَتَضُخُّ النَّعِيقَ فِي الْيَابِسَة نُونُ أَنَا بَيْنَ أَلِفَيْنِ حَائِرَةٌ
حَبِيسَةُ خَطَّيْنِ مُتَآلِفَيْنِ
وَدَائِرَةٍ تُفْرِغُ سُؤَالَ التُّخُومِ عَلَى مَدَى يُفَكِّكُ مُعَادَلَةَ الظُّنُونِ.

احتمالات

عَصَافِيرُ الْقَبِيلَة
حَمَامَاتُ بَيْتِنَا الْقَدِيم
نَوَارِسُ الْبَحْرِ الَّتِي تَحْرُسُ عُبُورِي
ذَاتَ بَحْرِ
ذَاتَ عِشْقٍ
كَيْ أُخْبِرَهُمْ بِمَا تَرَكْتُهُ مِنْ إِرْثٍ عَظِيمٍ
كِتَابٌ مَفْتُوحٌ عَلَى رِيحِ الْحَيَاة
شُمُوعٌ ضَيَّعْتُهَا احْتِرَاقًا فِي لَيَالٍ تَافِهَة
أَرَقٌ صَادَقَنِي فِي غُرْفَةٍ لَا تَنَام
تِلَالٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَنَدِي فِي عَطَالَتِي
جِبَالٌ مِنَ الدَّوَاوِينِ الَّتِي خَذَلَتْنِي فِي مُرَاوَدَةِ الْأُفْق
وَقَلِيلٌ مِن ابْتِسَامَةٍ تَسَلَّلَتْ خِلْسَةً مِنْ شَفَتَيَّ
وَنَصْرٌ ضَئِيلٌ عَلَى الْخَيْبَات

٭ ٭ ٭

أَعرِفُ
أَنِّي كُنْتُ قُرْبَكِ
أَجْهَشُ بِبُكَاءٍ طُفُولِيٍّ
فِي انْتِظَارِ الْحَيَاة
أَرْفَعُ بَصَرِي مِنْ تَلَّةِ ظَهْرِ أُمِّي
أَرَى الشُّمُوسَ تُزَغْرِدُ ضِيَاء
الْأُفْقَ يَبْتَسِمُ وَرْدًا تَحِيَّةً لِقُدُومِكِ
وَأَنَا هُنَاكَ قُرْبَ شَجَرَةِ التُّوتِ مَا زِلْتُ
أَنْتَظِرُك

لَنْ تَبْكِيَ الْبَحْرَ فِي ابْتِهَالِ الْأَرْض
الْأَرْضُ الَّتِي تَبِيعُ الظِّلَالَ
وَتُعَانِقُ الْعَرَاء

٭ ٭ ٭

أَعْرِفُ
أَنَّ الْبُيُوتَ لَنْ تَخُونَ أنْفَاسَ الْحَيَاة
أَنَّ الْأَبْوَابَ لَنْ تَخُونَ ذَاكِرَةَ الْمَفَاتِيح
لَنْ تَنْسَى بَصَمَاتِ أصَابِعِ بِنْتِ الْجِيرَان
وَهِيَ تَقْذِفُنِي بِقُبْلَةٍ فِي السَّمَاءِ
وَتَرْحَلُ بَعِيدًا فِي الْغِيَاب
أَنَّ النَّوَافِذَ لَنْ تَطْرُد نَظَرَاتِي الَّتِي عَلَّقْتُهَا
هُنَاكَ تَحْرُسُ قَمَرَ الْعَشِيَّة
تَنْدُبُ حَظَّ الْخَيْبَاتِ
وَتُغَنِّي نَحِيبَ الْحَيَاة

٭ ٭ ٭

أعْرِفُ
أَنِّي كَائِنٌ مَجْهُولٌ
فِي
مَتَاهَاتِ
الْحَيَاة
وَأَكْثَرُ يَقِينًا بِخَسَارَاتِي
لَدَيَّ مَا يَكْفِينِي مِنْ كَبَوَاتٍ فِي رِهَانِ الْخُيُولِ
مِنْ عَتَمَاتٍ تَغِيمُ فِي سَمَاوَاتِ الْآتِي

٭ ٭ ٭

أَعْرِفُ
أَنَّ رَحِيلِي وَشِيكٌ
أَنَّ كَفَنِي هَيَّأْتُهُ مُذْ صَادَرَنِي
رَحِمُ الظُّلُمَات
إِلَى جَحِيمِ النُّور
لِذَلِكَ
دَعَوْتُ رِفَاقِي فِي الْحَيَاة

أَعْرِفُ
أَنِّي غَرِيبٌ
وَالْمَدَى نُورُ النَّدَى
إِذْ يُنَادِينِي سَنَا الْغَيْمِ
لِغِبْطَةِ السَّمَا
وَهُنَا الْغُرْبَةُ مَقَامَا
تَغَرَّبْ
فِي سِحْرِ
السُّؤَالِ
وَخُضَّ رَمْلَ الرَّيْبِ عَلَّ
مَاءَ الْيَقِينِ يُقَبِّلُ مَبْسَمَا

٭ ٭ ٭

أَعْرِفُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَصْدِقَائِي فِي التِّيه
أَنَّ اللَّيْلَ كِتَابٌ مَفْتُوحٌ عَلَى أَسْرَارِ الْعُزْلَة
أَنَّ النَّهَارَ سَبِيلٌ صَوْبَ الْمَنْفَى
أَنَّ الصَّحْرَاءَ سَلِيلَةُ الصَّمْت
أَنَّ أَهْلِي يَشْرَبُونَ نَبِيذَ نَحْرِي
وَيَبْتَسِمُون

٭ ٭ ٭

أَعْرِفُ أَنَّ الْأَرْضَ لَنْ تَحْتَمِلُ شَغَبَ حَيْرَتِي
سُؤَالَ رَحِيلٍ يُرْبِكُ احْتِمَالَ الْآتِي
أَنَا الْعَصِيُّ عَنِ تَرْوِيضِ حَمَاقَاتِي
مُوقِنٌ أَنَّ الْعُبُورَ إلَى صَفْوِ الْعُزْلَاتِ مُوجِعٌ فِي ارْتِجَاجِ التَّآوِيل

وَيْقْظَةِ الْغَيْمِ مِنْ غَفْلَةِ الْبَحْرِ

٭ ٭ ٭

أَعْرِفُ
أَنَّ السَّمَاءَ لَنْ تَرُجَّ يَقِين الرُّيُوب
لَنْ تُخِيفَ هَدِيلَ الْغُيُوب
لَنْ تُقَايِضَ أَحْلَامَ الدَّرَاوِيشِ بِشُمُوسِ الشَّرْقِ