رسائل فالتر بنيامين.. حـياة على الأوراق كتابة الرسالة كانت تحفزه على مواصلة الحياة وسط العالم المُتجمّد

رسائل فالتر بنيامين.. حـياة على الأوراق

كتابة الرسالة كانت تحفزه على مواصلة الحياة وسط العالم المُتجمّد

في سنة 1994م نشرتْ دار جامعة شيكاغو الأميركية ترجمةً إنجليزيةً لبعض رسائل المفكّر والناقد الألماني الشهير فالتر بنيامين (1892- 1940م) بترجمة مانفريد وإيفلين جاكبسون. كانت الرسائل قد جُمعتْ وحُرّرتْ على أيدي صديقَيْ بنيامين المُقربيْنِ؛ عالم الاجتماع والمنظِّر الألماني الكبير تيودور أدورنو ومؤرِّخ الأديان جيرهارد شولِم على مدار ثلاثة عقود تقريبًا، بدأتْ بعد وفاة بنيامين حتى سنة 1966م، لتصدرَ الرسائل الكاملة عن دار نشر زوركامب الألمانية سنة 1978م، بمقدمتين ضافيتينِ لأدورنو وشولِم حول ظروف جمع الرسائل ومراجعتها وتنقيحها، وإضافة التعليقات الشارحة، والهوامش اللازمة لتفسير بعض النقاط الغامضة في الرسائل، بحكم صلة الصداقة الوثيقة التي كانت تجمع المحرّريْنِ بفالتر بنيامين.

وصفتِ المنظِّرة السياسية حنا أردندتْ فالتر بنيامين بأنه أهم ناقد ثقافي ظهر في النصف الأول من القرن العشرين، وذلك للدور المؤثِّر الذي لعبته كتابات بنيامين في النقد الثقافي داخل أوربا في أوائل القرن السابق، وعلى الأخص فيما يتصل بالعلاقة بين الثقافة والفن وإنتاج المعنى. المعروف أنّ بنيامين كان متعدد المواهب، حيث شملت اهتماماته النقدَيْنِ الأدبيّ والثقافيّ، والبحث التاريخي والفلسفي، كما كان مترجمًا محترفًا، حيث نقل إلى الألمانية ديوان بودلير «أزهار الشر»، إضافة إلى رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود»، وغيرها. ترسمُ رسائل بنيامين، التي شملت ثلاثين سنة، وتحديدًا المدة الزمنية من سنة 1910م إلى  سنة 1940م، صورةً بانورامية واسعة للمشهد الثقافي الأوربي في حقبة الحربين العالميتيْنِ، حيث ضمّ الكتاب رسائل نادرة لفالتر بنيامين مع كِبار أدباء ومفكري أوربا في ذلك الوقت، من بينهم الشاعر راينر ماريا ريلكه، والكاتب المسرحي الألماني بيرتولد بريشت، والأديب النمساوي هوغو فون هوفمانشتال، والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر (أحد مؤسسي حلقة فرانكفورت)، فضلًا عن مراسلات مع أصدقاء قدامى من مثـقـفين غير معروفين، جمعت بينهم وبين بنيامين أواصر صداقةٍ قويّة في عشرينيات القرن الماضي. ينوّه المحرر د. جيرهارد شولِم في مفتتح الكتاب إلى حقيقة ضياع كثيرٍ من رسائل بنيامين الشخصية إلى والدَيهِ، وإلى شقيقه جورج، وشقيقته دورا. نقدِّم في السطور التالية نماذج مُترجمة من رسائل بنيامين إلى كبار الأدباء، ومختارات من تأملاته حول الأدب والفنّ والثقافة.

*   *   *

يمهّدُ المنظّر الاجتماعي الألماني، وصديق بنيامين المُقرّب، الذي عيّنه بنيامين وصيًّا على تركته الأدبية، البروفيسور تيودور فيزِنجروند أدورنو، الكتابَ بمقدمةٍ قصيرة وكاشفة لطبيعة الرسائل تحت عنوان: «بنيامين، كاتب الرسائل»، يقول فيها:

«كان فالتر بنيامين كاتب رسائل من الطراز الأول، بل كانت مهارته الفائقة في كتابة الرسائل جانبًا آسرًا من جوانب شخصيته التي كانت تتسم بقدرٍ عالٍ من التهذيب والحميمية في التعامل مع الآخرين. كان بنيامين يكتب رسائله بشغفٍ واضح. نظرًا لأنّ الرجل قد شهِد حربيْن عالميتيْن، وشهد حقبة حُكم الاشتراكيين القوميين، وأحداثًا سياسية وشخصية عاصفة، ومن ثم فإن انتقاء جـزءٍ من الرسائل فقط هو أمر عسير؛ ذلك أنّ الرسالة –كشكلٍ- أدبي صارت جزءًا أصيلًا ومميزًا لأسلوبه في الكتابة، بل من أسلوب حياته بوجه عام، كما لو كانت الرسائل ناقلَ نبضات روح بنيامين إلى الأوراق. كان شكل الرسائل ملائمًا لبنيامين؛ إذ لعبتْ دور الحافز المعنوي لعقله للتواصل المباشر مع عملية الكتابة. وكانت كتابة الرسالة تحفزه على مواصلة الحياة وسط العالم المُتجمّد».

كان بنيامين قد التحق في سنوات شبابه الأولى بما يُسمى «حركة الشباب الألماني»، وهي حركة ثقافية وتعليمية بدأت في سنة 1896م، وتألّفتْ من عدد من جمعيات الشباب التي تُعنى بتنمية الأنشطة البدنية مثل الكشافة، إلا أنه انفصل عنها في وقت لاحق؛ بسبب انقسامها لأجنحة ليبرالية وقومية وفاشية. يقول أدورنو عن هذه الحقبة:

«كانت الرسائل حافزًا لعملية النقد الذاتي على الصعيديْن السياسي والفكري؛ إذ أغلق فالتر بنيامين صفحة انضمامه مع حركة الشباب الألماني حينما وصلَ إلى مرحلة اكتمال الوعي الذاتي، محتفظًا بعلاقة صداقةٍ مع عدد قليل، من بينهم ألفريد كون، وإرنست شون. الجدير بالذكر أنّ بنيامين وطّد أواصر صداقةٍ قوية مع جيرهارد شولِم، نعدّها أفضل صداقة حظي بها بنيامين حتى وفاته».

أما في مقدمة صديقه الأقرب جيرهارد شولِم، فيقول عن فالتر بنيامين: «حينما اقترحتُ على صديقي بروفيسور أدورنو المشاركة في جمع رسائل فالتر بنيامين لنشرها، وكنتُ على علمٍ بطبيعة الحال بموهبة بنيامين البارعة في كتابة الرسائل، لم أكن أعلم –بعد انتشار الخبر- أنني سوف أتلقى دعمًا من أصدقاء آخرين في حوزتهم رسائل مِنْ بنيامين وإليه، مثل فلورينس رانج وفيرنر كرافت. الحقيقة أنّ الهدف من وراء جمع الرسائل في سِفرٍ واحد هو تسليط الأضواء على السيرة الحياتية والعلمية/ البحثية لواحدٍ من أكثر مفكرينا عمقًا، وأبلغهم أثرًا في هذا القرن. في هذا السِّفر الضخم، اقتصرنا على ثلاث مئة رسالةٍ فقط من أصل ست مئة رسالةٍ. كان الانتقاء مبنيًّا على درجة تنوّع الرسائل، واختلافها من حيث الموضوعات، والأسلوب والأصدقاء، التي ارتأينا أيضًا أن تنوّعها سيعكس ثراء شخصية بنيامين وتعدد اهتماماته».

*   *   *

نقرأ في أولى رسائل الكتاب، المؤرّخة في 15 يوليو 1910م، رسالةً مُوجّهة إلى صديق عضوٍ في حركة الشباب الألماني، يُدعى هيلبرت بيلمور:

«لماذا من المفترض ألا أكتبَ إليكَ ولا حتى خطابًا واحدًا؟ أتعلم لماذا؟ الإجابة بمنتهى البساطة أنّه رغم إرسالي عددًا هائلًا من البطاقات البريدية، لم أتلقَّ منكَ سطرًا واحدًا! لكنني رغم ذلك، وبدافع من حبّي للخير، ومن رغبتي في أن أستهلّ عامي الجديد في الحياة (وُلِد بنيامين في 15 يوليو) بعملٍ طيّب، أودّ كتابة رسالةٍ دقيقة، وطويلة وصادقة».

وفي رسالةٍ ثانية إلى الصديق نفسه مؤرّخة في 29 إبريل 1913م:

«أعلم تمامًا أنني يتوجّب عليّ الردّ على رسالتكَ. لكن، لماذا؟ بقيتُ لمدة خمس عشرة دقيقة أحدّق من خلال نافذة شقتي، وتحديدًا إلى ميدان كيرشبلاتس، إلى أشجار الحور العملاقة، وأمامها نافورة قديمة، بينما تتسلّل أشعة الشمس الذهبية إلى جدران المنازل لتصنع أشكالًا جميلة. بعدها، ولعلكَ توقّعتَ ذلك، ارتميتُ على أريكة الغرفة وتناولتُ كتابًا لغُوتهْ، لأفقد السيطرة على عقلي تمامًا، في اللحظة التي وصلتُ فيها لتعبير حدود الألوهية».

في رسالةٍ بعث بها بنيامين إلى صديقه المُقرّب أستاذ اللاهوت جيرهارد شولِم، مؤرّخة في 11 نوفمبر 1916م:

«عزيزي السيد شولِم، أشكركَ شكرًا جزيلًا على سرعة تزويدي بالمعلومات التي طلبتها للانتهاء من كتابة البحث الذي بين يدَيّ. بدأت الأسبوع الماضي في كتابة رسالةٍ إليكَ، وصلَتْ إلى ثماني عشرة صفحة. كانت الرسالة محاولةً مبدئية من جانبي للإجابة عن بعض الأسئلة التي طرحتَها في رسالتكَ السابقة. إلا إنني وجدتُ أنه من الأفضل كتابتها في صورة مقالةٍ قصيرة، وصياغة فكرتي في شكل أكثر دقّة وتركيزًا. في هذه المقالة، سأحاول أن أطرح تصوري عن طبيعة اللغة -بقدر ما يسعفني فهمي للمسألة- وعلاقة ذلك بفهم الديانة اليهودية، منتظرًا تعليقاتك حول الموضوع، وكلي ثقة من استفادتي من خبرتك في هذه المسألة..تحياتي لكَ ولزوجتكَ».

وفي رسالة أخرى إلى صديقه شولِم، مؤرّخة في12 يونيو 1936م، ناقش بنيامين رؤيته حول أدب فرانتس كافكا، فكتب:

«إيماءً إلى طلبكَ، سأكتب لكَ بالتفصيل رؤيتي لماكس برود (صديق كافكا والأمين على تركته الأدبية)، كما سأكتبُ عن بعض تأملاتي الشخصية لأعمال فرانتس كافكا على نحو ما فهمتها. في البداية أنتَ تعلمُ أنني سأتحدّث عن موضوع أثير لدينا على حد سواء. كتاب برود عن كافكا يتسمُ بتناقض نظري شديد، التناقض بين الأطروحة النظرية وبين تأريخه لسيرة حياة كافكا. ففي الطرح النظري يقول برود: إنّ كافكا كان في طريقه إلى الذوبان في القداسة الدينية (صفحة 65 من كتاب برود)، بينما التأريخ لسيرته الذاتية يشير إلى تحوّله إلى الغموض التام».

إن شعور ماكس برود بتهافت تأويله لأدب كافكا، جعل منه شخصًا شديد الحساسية إزاء أي تأويل آخر. يضاف إلى ذلك سعي برود الواضح للحطِّ من قيمة أي شيء يُكتب عن كافكا. لا يروق لي تكرار نغمة أن آلام كافكا الشخصية ومعاناته تسهم في فهم أعماله بوصفها تفكيكًا وتأويلًا للفقه اليهودي (في صفحة 213 مثلًا). في ظني كان كافكا يعيش في عالمٍ خاص متكامل الأركان، شأنه في ذلك شأن الرسّام باول كلييه الذي كانت لوحاته الفنية متفرّدة في طبعها كأعمال كافكا».

وفي رسالةٍ أخرى مؤرّخة في يوليو 1938م:

«تتجسّد أعمال كافكا على شكل (قطع ناقص) بيضاوي، في قلبه بؤرتان ثابتتان: البؤرة الأولى تجربته الغنوصية، والبؤرة الثانية تجربته الشخصية كفردٍ في المجتمع المعاصر مع أبناء المدن الكُبرى، وأقصد الإنسان الرازح تحت نير سلطة الجهاز البيروقراطي، الذي تديره جهاتٌ غير معروفة (يلاحظ ذلك بشكل واضح في روايته المُحاكمة)».

وفي رسالةٍ أخرى إلى شولِم، مؤرخة في 4 فبراير 1939م، يقول بنيامين عن كافكا:

«نظرة كافكا للعالم هي نظرة رجلٍ وقع في فَـخٍّ. وشيئًا فشيئًا تتضّح لي روح السخرية عند كافكا، لا أقصد أنّ كافكا كان كاتبًا ساخرًا، بل أعني أنّ قـَدرَه في الحياة قد قيّضَ له الاصطدام المتواصل مع شخصيات اتّخذتْ من العبثية مهنة بدوامٍ كامل، كان كافكا يصطدم في أثناء سيره في الحياة بمهرّجين، لا ببشر طبيعيين، ولا سيما في روايته (أميركا)، التي كانت أشبه بمنزل مُهرجين».

*   *   *

حرِص فالتر بنيامين طوال حياته على توطيد علاقته برموز المجتمع الفكري، داخل ألمانيا وخارجها، وقد تطورت علاقات الصداقة إلى رسائل مُتبادلة. من بين أبرز الأدباء الذين تبادل بنيامين معهم الرسائل، الشاعر التشيكي راينر ماريا ريلكه. فكتبَ بنيامين رسالة إلى ريلكه، يشكره فيها على ترشيح الأخير لترجمة ديوان «أناباز» للشاعر الفرنسي سان جون بيرس، وكان الاختيار قد وقع في البداية على ريلكه لترجمة ديوان بيرس إلى الألمانية، إلا أنّه اعتذر، ورشّحَ بنيامين لترجمة الديوان.

الرسالة مؤرّخة في 3 يوليو 1925م:

«عزيزي السيد ريلكه، أتقدم إليكَ بخالص الشكر على ثقتكَ الغالية في شخصي، وكذلك على ترشيحي لترجمة ديون أناباز للشاعر سان جون بيرس. الحقيقة أنني قد بدأتُ بالفعل في قراءة الكتابِ مرارًا وتكرارًا، قبل الشروع في الترجمة، لأقفَ على دقائق الديوان. وقد أعرب كل من السيدة هيسّل والسيد مونشهاوزن (صديقان لريلكه) عن استعدادهما الكامل لتقديم العون والمشورة في حال وجود صعوبات في الترجمة، والديوان لا يعدم صعوباتٍ بالفعل. أرفق لكَ الفصل السابع من الديوان، مشفوعًا بملاحظات دوّنتها على هامش الأوراق، مع علامات استفهام، راجيًا أن تتفضّل بموافاتي بملاحظاتك على الترجمة إذا ما واجهتَ مواضع (صادمة) في أثناء قراءتكَ بغرض التعديل وإسداء النصح؛ للوصول إلى أفضل حل أسلوبي ينأى عن التعسّف في نقل المعنى، أو في التأويل المُفرط لمقصد سان جون بيرس. أعدكُ بأنني سوف أولي عنايةً فائقة إلى كل مفردةٍ وجهتَ بتعديلها وتصحيحها. تقبّل فائق تقديري واحترامي».

وفي رسالةٍ ثانية إلى ريلكه، مؤرّخة في 9 نوفمبر 1925 يقول بنيامين:

«حضرة المحترم السيد ريلكه، أعتذر لكَ عن عدم كتابة ردّ سريع على برقيتكَ السابقة لظروف متعلقة بمكتب البريد هنا وكذلك ظروف تغيير محل إقامتي. لقد غمرتني سعادةٌ بالغة حينما قرأتُ تعليقكَ على ترجمتي. وقد وضحتْ رؤيتكَ لي تمامًا حول مشكلات الترجمة، وعلى صعوبة اتخاذ قرارٍ بعينه حول اختيار مفردةٍ عن غيرها. يحدوني أمل في معرفة رأيكَ، ونصحكَ حول مواضع بعينها في الترجمة قبل طبع مسوَّدة الترجمة. ويعتريني فضولٌ بالغ لمعرفة دار النشر التي ستطبع الترجمة. هل وُقّع عقدٌ مع دار بعينها؟ وما فهمتُ من السيدة هيسّل أنكَ ستتفضل بكتابة كلمةٍ افتتاحية للطبعة الألمانية (يقصد الترجمة). إن سمحتَ لي أن أضيف أنني غارقٌ الآن في ترجمة سدوم وعمورة (أحد أجزاء رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست) إلى الألمانية، وكلما اندمجتُ في تفاصيل العمل الكبير، مسّتني تفاصيله من الأعماق. عمل بروست عمل رائع بكل المقاييس (نهاية الرسالة ناقصة)».

كما ضمّ الكتاب مراسلات عدة من الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريشت، حيث تبادل الكاتبان الأفكار والرؤى حول قضايا علاقة الكاتب بقضايا عصره.

تيودور أدورنو

في رسالة مؤرخة في 5 مارس 1934م، كتب بنيامين إلى بريشت:

«عزيزي السيد بريشت، أرسلتْ إليَّ مساعدتُكَ السيدةُ هاوبتمان خطابًا يضمُّ –إلى جانب التحيات بطبيعة الحال- سطورًا حول مجلّدكَ الشعريّ «أغانٍ وِأشعار». هل صدر المجلّد بالفعل؟ أشتاق إلى الحصول على نسخة منه. يُقال في محل إقامتي في باريس: لو أنّ برتولد بريشت هنا، لصار شأنه كبيرًا، لو جاء إلى باريس لن يصادف أي نوع من الصعوبات، وسوف يبزغ نجمه بسرعة».

وفي رسالة مؤرخة في 31 مايو 1934م:

«عزيزي السيد بريشت، مرّتْ مدة طويلة قبل أن تتضح الأمور أمامي هنا في باريس. أردتُ أن أبعثَ لكَ بخبرٍ مؤكّد قبل إرسال أي خطاب، لذلك تأخّرتُ قليلًا. قبل أيام التقيتُ السيد هانز آيزلر، وأخبرني بضرورة الكتابة إليكَ لأخبركَ بأهمية عرض مسرحيتكَ الأخيرة على خشبة أحد مسارح لندن. أظنّ أنّ الأهمية التي يعنيها السيد آيزلر نابعة من عدم وجودٍ مسرحيّ يستطيع أن يقدّم للجمهور عرضًا مسرحيًّا يتسم بالعُمق والإمتاع والشمولية في طرح الرؤية كما تفعل أنتَ في أعمالكَ المسرحية».

جيرهارد شولِم

وفي رسالة مؤرخة في 9 يناير 1935م:

«لستُ متأكدًا من موضوع السفر إلى الدنمارك. بعثَ إليّ د. هوركهايمر برسالةٍ مفادها أنه سوف يسعى لتدبير منحة علمية لي إلى الولايات المتحدة لمدة عام. لكن الأمر لا يزال معلقًا، أخبرته أنني سأقبل المنحة إذا صدر قرار بشأنها. قرأتُ مسرحيتكَ «أوبرا القروش الثلاثة»، وقد أعجبتني جدًّا، ومسّتْ قلبي فقراتٌ كثيرةٌ منها. سأبقى هنا حتى عطلة عيد الفصح، حيث يجب على شتيفان (*ابن فالتر بنيامين) الذهاب إلى المدرسة المحلية هنا. بالمناسبة، هل اطلعتَ على كتاب بلوخ «ميراث زماننا»؟ لقد أتى بلوخ على ذكرِ بعض أعمالكَ في هذا الكتاب».

*   *   *

لم تقتصر علاقات بنيامين على الأدباء والشعراء وحدهم، بل امتدّتْ لتشمل منظّرين وعُلماء اجتماع؛ من أشهرهم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر (1895- 1973م)، الذي ألّفَ كتاب «جدل التنوير» بالاشتراك مع تيودور أدورنو (محرّر كتاب الرسائل).

نقرأ في رسالةٍ مؤرخة في سنة 1934م (من دون تاريخ محدد)، بعث بها بنيامين إلى هوركهايمر:

«عزيزي السيد هوركهايمر، وصلني خطابكَ في اليوم الذي أستعدّ فيه للرحيل عن باريس. خالص الشكر على سؤالكَ. تُسعدني بطبيعة الحال فرصة السفر إلى الولايات المتحدة، سواء أكان السفر للمشاركة في أبحاثكَ، أم في إطار منحة علمية في أحد المعاهد البحثية. واسمح لي أن أخبركَ أنني أفوِّضكَ تمامًا في اتخاذ أيّ ترتيب تراه مناسبًا في هذا الشأن».

وفي رسالة مؤرخة في 19 فبراير 1935م:

«عزيزي السيد هوركهايمر، أشكركُ من القلب على رسالتكَ المؤرّخة في 28 يناير الماضي، وأسعدني وصولنا إلى وجهات نظرٍ متقاربة بعد مناقشاتنا الشفهية في الماضي. كما أودّ أن أخبركَ بسعادتي البالغة باهتمامكَ الرقيق بخصوص دراستي عن الباحث الألماني إدوارد فوكس كباحثٍ تاريخي. بعد هذا الخطاب، يسعدني أن أعرضَ عليكَ مستقبلًا خُططي البحثية القادمة. أما بخصوص سؤالكَ حول بحثي حول كافكا، فقد ظهر هنا منشورًا في صحيفة روندشاو اليهودية، لكنهم نشروا شذرات منه. إن كنتَ مهتمًّا بالبحث، يسرّني أن أجلبَ لك نسخةً منه عند لقائنا. لي رجاء أخير، أودّ أن تُطلعني على مشروعاتك البحثية بصورة مفصّلة؛ لأنني أودّ أن أرسل لكَ أيضًا جانبًا من خُططي البحثية في هذا الصدد».

وفي رسالةٍ أخرى بتاريخ 10 أغسطس 1937م:

«عزيزي السيد هوركهايمر، نما إلى علمي رغبتكَ في المرور بأوربا في شهر أغسطس، وهو ما أسعدني كثيرًا، وآمل أن أحظى بفرصة لقائكَ في هذا الشهر أو في مطلع الشهر المقبل. قرأتُ مقالكَ «النظرية التقليدية والنظرية النقدية»، وأشاطركَ آراءكَ فيه تمامًا. كما مسّتني للغاية إشارتكَ إلى المناخ الذي نعمل فيه، وإلى الظروف التي تجعلنا نعيش في عزلة عن الجوّ العلمي العامّ، من المؤكد أننا سوف نناقش هذه النقاط لدى لقائنا».

*   *   *

كما تواصل بنيامين مع الشاعر والمسرحي النمساوي الكبير هوغو فون هوفمشتال، اخترتُ منها الرسائل التالية:

رسالة مؤرخة في 28 ديسمبر 1925م:

«عزيزي السيد هوفمنشتال، أشكركَ شكرًا جزيلًا على السطور الرقيقة الواردة في رسالتكَ. لكني للأسف لن أتمكّن من الردّ عليها ردًّا تفصيليًّا، وعلى الأخص فيما يتصل برؤيتي إزاء طبيعة الاستعارات الأسلوبية واللغوية في مسرح شكسبير. الحقيقة أنني لم أقف على أعمال شكسبير بشكل متعمق، إنما مررتُ عليها مرورًا سريعًا. في الوقت الحاليّ أنا مشغول بدراسة أشكال الاستعارات لدى مارسيل بروست، الذي أعلن صراحةً أن الاستعارات هي قلب الأسلوب الأدبي وروحه».

رسالة مؤرخة في 30 أكتوبر 1926م:

«عزيزي السيد هوفمنشتال، مع كل خطابٍ جديد أتلقاه منكَ، أتشجّع على التفكير في أنّ إنتاجي الأدبي مرهونٌ بدعمكَ المعنويّ. وقد عمّقَ من هذا الشعور خطابكَ الأخير، الذي وجدتُ فيه عزاءً وسلوانًا. كان الصيف الماضي صيفًا قاسيًا، حيث تُوفي والدي في شهر يوليو، فشغلتني الشواغل بعدها عن الردّ على خطابكَ بسرعة. شكرٌ خالصٌ من القلب على مواساتكَ الداعمة الرقيقة».

راينر ماريا ريلكه

رسالة مؤرخة في 30 أكتوبر 1926م:

«انقضتْ سنةٌ تقريبًا على رسالتي الأخيرة إليكَ. في أثناء هذه المدة سافرتُ إلى روسيا، وخلال الشهريْن اللذين قضيتهما في موسكو، لزمتُ الصمت لعدم قدرتي على كتابة أي شيء بسبب الانطباع الأول الذي خلّفته إقامتي في بيئة مختلفة كليًّا؛ لذا أرجأتُ الكتابة إليكَ عن رحلتي إلى روسيا. سأحاول في معرض وصفي للرحلة، عرضَ الظواهر المعيشية التي لمستني بشكل خاص كما هي، من دون مقاربةٍ تنظيرية، ولا اتخاذ موقف شخصي تجاه ما رأيت. بالطبع شكّل عدم إلمامي باللغة الروسية عائقًا واضحًا للنفاذ إلى فهم بعض الأشياء عن قرب، لكنني سوف أركّز على معايشتي الشخصية في رؤية الأمور أكثر من الرؤية التحليلية».

رسالة مؤرخة في 8 فبراير 1928م:

«عزيزي السيد هوفمنشتال، لديكَ الآن نسختان من عمليَّ الأخيريْنِ. فيما يخص كتاب «شارع ذو اتجاه واحد» أعلم أنني لم أخبركَ شيئًا عنه في أثناء تأليفه، وها هو الكتاب بين يديكَ الآن. لي رجاءٌ واحد؛ ألا تَعُدَّ كتاب «شارع ذو اتجاه واحد»، سواء من حيث الشكل أو المضمون، حلًّا توفيقيًّا من جانبي لمجاراة «روح العصر السائدة»، فالكتاب ليس سوى وثيقة صراع داخلي، انسابتْ منها الكلمات لتتدفّق على الأوراق. الكتاب يدين بالفضل لإقامتي في باريس، التي شهدتْ ميلاد فكرة الكتاب، وسوف أعمل على جزءٍ ثانٍ من الكتاب بعنوان: « شوارع باريس».

هناك رسائل إلى بِرنارد برينـتـانو، الشاعر والمسرحي والصحافي الألماني:

رسالة مؤرخة في 22 إبريل 1939م:

«عزيزي السيد برينـتـانو، خالص الشكر على رسالتكَ الأخيرة. كان من المهم جدًّا لي أن نتبادل الأفكار. إن لم تكن ظروف الحرب قد مزّقت آخر خيوط التواصل القديمة، فلسوف نستأنف روابط صداقتنا القديمة. أنا الآن مشغول بتحرير جزءٍ مهم من كتابي حول الشاعر الفرنسي بودلير، وتحديدًا حول كسل ولا مبالاة المجتمع البرجوازي».

هوغو فون هوفمانشتال

رسالة مؤرخة في صيف 1939م:

«عزيزي السيد برينـتـانو، سعدتُ كثيرًا بحصولي على نسخةٍ من كتابكَ «مشاعر أبدية»، وأنهيتُ قراءة الكتاب في ثمانٍ وعشرين ساعة. كنتُ قد أمضيتُ ثلاثة أسابيع في قراءة رواية بوليسية، شعرتُ بحاجةٍ ماسّة لقراءتها، وهو أمر نادر الحدوث. في الحقيقة كتابكَ مذهل. للمرة الأولى يمسّني موضوع بمثل هذا القدر من الحميمية؛ معالجة مسألة العشق من الناحية التاريخية. كان اختيار شخصية (الدوقة أورلوف) ضربةً موفّقة. حيث استدعيتَ شخصية امرأةٍ، لم تكن السنون الطويلة تمثّل لها أي وزن مقارنةً بأيام الحب القليلة التي عاشتها في حياتها. تعرّفتُ إلى امرأةٍ لها التجربة نفسها، وكنتُ أصغر منها بنحو عشرين سنة. سوف أرسل إليكَ في الأيام القادمة كتابيْن من مؤلفاتي. أما كتابي عن بودلير، فهو العمل الأول، سأتبعه بأعمال أخرى حول الشاعر، إذا ما سمحت الظروف بطبيعة الحال».

*   *   *

رسائل السنوات الأخيرة إلى صديقه تيودور أدورنو، الذي عيّنه وصيًّا على التركة الأدبية:

باريس في 7 مايو 1940م:

«عزيزي تيدي، شكرًا على خطابك في 29 فبراير. للأسف يتوجّب علينا في ظل الظروف الراهنة تفهّم المدة الزمنية الطويلة بين كتابتكَ للخطاب وبين تسلُّمي إياه. بالطبع، سعدتُ، وما زلتُ سعيدًا، بكلامكَ حول كتابي عن الشاعر بودلير. {…}. هل سمعتَ عن الكاتب الأميركي وليام فوكنر؟ أنا مهتمّ بمعرفة رأيكَ حول أعماله».

ماكس هوركهايمر

اخترتُ هذه الرسالة، وهي من أواخر الرسائل التي كتبها فالتر بنيامين

قبل انتحاره في 27 سبتمبر 1940م:

2 أغسطس سنة 1940: «عزيزي تيودور؛ لأسبابٍ عدة، سعدتُ كثيرًا بخطابكَ الأخير المؤرّخ في 15 يوليو. أولًا لأنّكَ لم تنسَ قط هذا اليوم 15 يوليو (*عيد ميلاد فالتر بنيامين)، وثانيًا التفهّم العميق لظروفي النفسية الراهنة، والواضحة بين سطور الخطاب. سأصدقكَ القول، ليس من السهل عليّ الآن كتابة رسالة. لقد تحدّثتُ إلى فيليسيتاس كثيرًا حول القلق الشديد الذي يطوّقني بشأن أعمالي. كما تعلمُ جيدًا، فإنني أقف أمام أعمالي عاجزًا عن تطوير أو تحسين أي شيء فيها. منذ أسابيع عديدة بدأ يطوّقني شعور كامل بالقلق حول بقائي على قيد الحياة، وما قد تجلبه لي الأيام القادمة، بل الساعات القادمة. فيما عدا ذلك، فأقصى طموحٍ لي الآن هو الوصول إلى مدينة مرسيليا، والتقدّم بطلب اللجوء إلى القنصلية. ملاحظة أخيرة: أستميحكَ عذرًا على توقيعي المتألّم المضطرب».

انتحر فالتر بنيامين في بورت بو على الحدود الإسبانية الفرنسية في السابع والعشرين من سبتمبر سنة 1940م، بينما كان يحاول الهرب من ملاحقة جنود النازي.

ماكس فريش وفريدريش دورينمات: صداقة عرجاء علاقة مضطربة دامت أربعة عقود  بدأتْ بإعجاب وتقدير ثمّ غـيرة وقطيعة

ماكس فريش وفريدريش دورينمات: صداقة عرجاء

علاقة مضطربة دامت أربعة عقود بدأتْ بإعجاب وتقدير ثمّ غـيرة وقطيعة

يحلو للمهتمّين بالدراسات الجرمانية وصف علاقة قطبي الأدب السويسري ماكس فريش (1911- 1991م)، وفريدريش دورينمّـات (1921– 1990م)، بأنها صداقة بالكاد، وفي تعبير آخر صداقة عرجاء تسـير على ساقٍ واحدة، إما ساق فريش أو ساق دورينمات، طالما كانت هناك كِفّــة أثـقـل من الأخرى. وذلك في إشارة إلى الصداقة المضطربة التي جمعت الكاتبيْن، وشهدت على مدار أربعة عقود تقلُّبات حـادة، بدأتْ بإعجاب وتقدير متبادل، ثمّ وصلت إلى غـيرة وقطيعة تامّة في نهاية المطاف. فرغم توطّد صداقة قـويّة في بواكير أيامهما، لم تخلُ تلك الصداقة يومًا مِـن الشدّ والجذب، ومن شوائب غـيـرة مهنية، بل من تراشق لفظي عنيف أحيانًا. فوهنتْ خيوطها، حتى تآكلت تمامًا في العقد الأخير من حياتيهما.

ماكس فريش هو الأكبر سنًّا. ولد في 15 مايو 1911م في زيوريخ، وكان الابن الثاني للمعماري فرانتس برونو فريش وزوجته كارولينا فريش. عاشت العائلة في أحوال معيشية بسيطة، ثمّ ساءت حالتها المادية حينما فقد الأب عمله بسبب الحـرب العالمية الأولى. كتب فريش أولى مسرحياته في مرحلة الدراسة الثانوية بين عامي 1924م و 1934م، وحاول عرضها على خشبة المسرح، لكنه أخفق، فيئِس وأحرقها فيما بعد.

في المدرسة الثانوية تـعـرّف فريش إلى فيرنر كونينك، الذي كان والده يمتلك دارَ نشر. وقد أفادته تلك الصداقة الممتدّة في إثراء تكوينه الثقافي والمعرفيّ. بدأ فريش حياته مهندسًا معماريًّا ناجحًا، لكنه ترك الهندسة ليتفرّغ للكتابة المسرحية والروائية. شقّ فريش طريقه معتمدًا على موهبته ومجهوده الشخصي دونما تأثّر من كُـتــاب المسرح المعاصرين (ما عدا برتولد بريشت بطبيعة الحال). من بين أشهر مسرحياته «بيدرمان ومشعلو الحرائق»، و«آندورا»، ومن أشهر رواياته ثلاثيته الروائية الشهيرة التي تناولت موضوع هويّة الإنسان البرجوازي في القرن العشرين، «شتيللر»، و«هومو فابر» و«لنفترض أن اسمي جانتينباين».

أما فريدريش دورينمات فقد ولد في الخامس من يناير سنة 1921م، أي بعد مولد فريش بعشر سنوات لأبٍ يعمل راعيًا بالطائفة البروتستانتية، وتمنّى أن يسلك فريدريش الابن مساره. اشتهر دورينمات بمسرحية «مكتوب 1946»، ومسرحية «رومولوس الكبير 1949»، «والملاك يهبط في بابل»، ثمّ إبداعه الأكثر شهرةً واكتمالًا من الناحية الفنيّة، وهي مسرحية «زيارة السيدة العجوز سنة 1956»، التي تعدّ من أعظم إنتاجات المسرح العالمي في القرن العشرين.

في سنة 1998م قرّر ناشر السيرة الذاتية لدورينمات، بيتر رودِي نشر الرسائل المتبادلة بين الكاتبيْن، مـنـوّهًـا في مقدمة الكتاب بأنّ الوقت قد حان لإماطة اللثام عن الطبيعة الملتبسة لعلاقة فريش بدورينمات. جاء قرار الناشر على خلفية دراسة معمّقة لشخصيتيهما وحياتيهما؛ إذ انتهى رودي بعد دراسته إلى أنّ مواطن الاختلاف بين شخصيتهما أكثر من مواطن الاتفاق. فماكس فريش رجل عصريّ، متشكّـك، منفتح على العالم، في حين دورينمات ريفي ذو نزعة دينية، وروحٍ تأملية ساخـرة. صدر الكتاب عن دار نشر ديوجينس فيرلاج- زيوريخ بسويسرا في مئتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، وقد ضمّ أربعين رسالة متبادلة، شـملت الحقبة من يناير 1947م إلى مايو 1986م، فضلًا عن مجموعة من الصور الفوتوغرافية لأسرة الكاتبيْن، وصورًا زنكوغرافية لأصول الخطابات المتبادلة، إضافة إلى ملحوظات وتعليقات من جانب دورينمات على أعمال فريش والعكس. يُـصدِّر المحرِّر والناشر الكتابَ بمقولة لافتة تشير إلا أنّه رغم تواصل الخطابات بين فريش ودورينمات على مدار سنوات، فإن ذلك التواصل لم يفلح في تقريب وجهات النظر أو تلطيف العلاقة المتوتّرة بين الكاتبيْن. وهو ما قد يستــشـفّه القاري مِـن ضمـور حجم الكتاب، الذي حـوى أربعين خطابًا فقط على مدار أربعين سنة، أي بمعدل خطابٍ واحد كل عام، وهو عدد هـزيل، مقارنةً بما عُرف عـن مراسلات كبار الأدباء مثل مراسلات غوته وشيللر، أو مراسلات هيرمان هسّه وتوماس مان، على سبيل المثال. إذ وصف المحرّر والناشر حجم الخطابات المتبادلة بين الكاتبيْن بأنها «تدعو للرثاء»، قياسًا بعُمر الصداقة التي امتدت إلى ما يزيد على أربعين عامًا.

يُمكن تقسيم الكتاب إلى قسميْن؛ القسم الأول عبارة عن مقالٍ مستـفـيض بقلم المحرّر والناشر بيتر رودي، ألقى فيه الضوء على جذور علاقة فريش – دورينمات على المستوييْن الأدبي والشخصيّ، في حين احتوى القسم الثاني على خطابات فريش ودورينمات وشذرات مبعثرة وملحوظات كل منهما على أعمال صاحبه، ليُختتم الكتاب بسيرة ذاتية مفصّلة للكاتبيْن. في مقدمة الكتاب يطرح الناشر بيتر رودي تصديرًا بعنوان: «صداقة بالكاد»، وهو عنوان دالّ على الطبيعة المتوتّرة لعلاقة الكاتبيْن رغم تعدد اللقاءات وتخصيص وقتيهما الثمين للمراسلات. يعترف رودي أيضًا بتعثّره في ردم الفجوات العديدة في رصد مسار علاقة الكاتبيْن.

نشوء الصداقة وبداية المراسلة

تبدأ أولى الرسائل في يناير من سنة 1947م بمبادرةٍ من ماكس فريش الذي أبدى تحمّسًا واضحًا لموهبة دورينمات، فشرع في إرسال أول خطاب إلى دورينمات بعد قراءة مسرحية «مكتوب»، يـقول فيه: «لقد تحمّستُ كثيرًا لأعمالكَ بعد مشاهدة عرض مسرحية «مكتوب»، وأنا على استعداد لتمهيد الطريق في سبيل وصول أعمالك إلى خشبة المسرح». استقبل دورينمات الشاب آنذاك (الأصغر منه بعشر سنوات) رسالة فريش بسعادة بالغة، فكتب الرسالة الآتية: السيد المحترم ماكس فريش، غمرتني سعادةٌ بالغة حينما علمتُ أن كاتبًا لا يُبارى في موهـبة وقـامة ماكس فريش يمدّ لي يد العون». الغريب أنّ دورينمات –في السنة نفسها- كتب خطابًا إلى أحد المتخصصين في اللغة الألمانية وآدابها، يُدعى فالتر موشج يقول فيه: «الحقيقة أنني لا أفهم أعمال ماكس فريش جيدًا، فأعماله معقّدة ومتكلّفة». في الوقت نفسه قال ماكس فريش في رسالة لم تُنشر: «رغم تحمّسي للطاقة الشعرية لدى دورينمات، فإنني لا يُمكنني الجزم بأنني أفهم كتاباته جيدًا».

رغم هذه المشاعر المكتومة، سعى الكاتبان إلى توطيد أركان علاقة مـتينة من خلال تبادل مسوّدات الأعمال المسرحية. فتطوّرت العلاقة مِـن علاقة كاتب معروف (فريش) بآخـر صاعدٍ بقوة (دورينمات) إلى علاقة نِـدِّيَّة. إذ بدأ الكاتبان من سنة 1949م في تبادل مسوّدات الأعمال المسرحية. ففي مارس 1949م أرسل فريش رسالة تهنئة إلى دورينمات بمناسبة عرض مسرحيته «رومولوس الكبير»، وقد جمعت رسالته بين التهنئة والنقد اللاذع؛ حيث يقول: «تهنئة قلبية خالصة بمناسبة عرض مسرحية «رومولوس الكبير» على خشبة المسرح، ورغم أنني أرى أنها مسرحية جيدة فإن ذلك لا يمنع من أن أعرب لكَ عن ملاحظة عــنّـت لي بخصوص الفصل الرابع، فقد لاحظتُ أنّ روح السخرية داخلها «متكلّفة» أكثر من كونها «تلقائية»، يبدو أنّكَ اكتفيت بـقـفـشات من أيام المدرسة الثانوية في بعض المشاهد!» أسرّها دورينمات في نفسه ولم يُبدها، فكتب ردًّا قصيرًا يقول: «عزيزي السيد فريش، اقتنعتُ بوجهة نظركَ إلى حد ما، لكن يخالجني شعورٌ أنّ سهامَ نقدكَ مُـصـوّبة نحو هدفٍ آخـر، مخـتـلف عن الهدف الذي وضعته نصب عيني، تحياتي فريتس».

لم ينسَ دورينمات الماكر تعليق فـريش القاسي، فانتهز أول فرصة ليردّ الصاع صاعيْن. حدث ذلك حينما أرسل ماكس فريش في صيف السنة نفسها (1949م) مسوّدة مسرحية «جراف أودرلاند» إلى دورينمات رِفق رسالة قصيرة يقول فيها: «عزيزي فريتس.. مرفق طيّه الصيغة النهائية لمسرحية جراف أودرلاند، آمل أن تأخذ حريّتكَ تمامًا في التعليق وفي إبداء الملاحظات». لم يفـوّت دورينمات فرصة الردّ الذهبية، فكتب تحليلًا مفصلًا شديد القسوة، فنّد فيه فصول مسرحية ماكس فريش فصلًا تلو الآخر. تبيّن فريش النيّة المُبيّتة من وراء كتابة هذا الردّ العنيف، فحاول إخفاء مشاعره السلبية، وكتب من فوره ردًّا مقتضبًا من سطرٍ واحد يقول: «يؤسفني حقًّا أنّكَ لم تُبرز الجوانب الإيجابية داخل المسرحية».

يقول محرّر الكتاب بيتر رودي: إنّ الهجمات المرتدّة المتبادلة لم تمنع من نشوء صداقة حقيقية بين الرجليْن. ففي 8 مايو 1949م، يرسل دورينمات رسالةً ثانية إلى فريش يقول فيها: «عزيزي السيد فريش: خالص الشكر على البرقية وعلى إرسال عددٍ من مجلة Weltwoche الأسبوعية. هـل أبصر طفلكَ نور الدنيا؟ وكيف حال زوجتكَ؟ لقد سألتُ الجميع هنا عن أحوالكَ، لكن أحدًا لم يقدّم لي إجابةً. ليس لدي ما أقوله عن ألمانيا، فلا أملكُ عينًا فاحصةً مثل عينكَ، كما أنك تعرف ألمانيا أفضل مني. مرفق أعمال الكاتب فرانك فيديكِند، لا ينقصها سوى الجزء السابع، لـتعـدّها إشارةً صغيرة إلى امتناني العميق لشخصكَ، خالص التحيات القلبية لكَ ولزوجتكَ. ماكس فريش».

لطَّفَت الكلمات السابقة من سخـونة ضربات الرسائل السابقة، فتطوّع ماكس فريش لكتابة رسالة قصيرة إلى دورينمات، مؤرّخة في 14 يوليو 1949م يقول فيها: «كيلا أنسى، برجاء إرسال نسخة من مسرحية «مكتوب» ومسرحية «بيلاتوس» إلى دار زوركامب الألمانية (العنوان 31 فرانكينشتاينر شتراسِه، فرانكفورت/ ماين)، فقد تحدّثتُ مع السيد بيتر زوركامب بشأنهما، وأعرب عن اهتمامه بقراءة العمليْن. أنا هنا في منتجع كامبِن/ ستيل، المشهد باهر بين السماء الزرقاء والمياة اللامتناهية، هذا ما كنتُ أبحثُ عنه؛ عالمٌ مختلف كليًّا، تحياتي القلبية… ماكس». في إحدى الرسائل المؤرّخة في 11 مايو 1952م يقول ماكس فريش عن سبب ذيوع صيتهما خارج حدود سويسرا: «… أتعلم يا فريتس، لماذا ذاع صيتنا هكذا؟ لأن معظم الكتّاب الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كانوا في السجون أو في طور الاستعداد للعودة إلى ألمانيا. كانت الساحة خالية، وهو ما أدى إلى اشتهار اسميْنا بسرعة رغم الفارق الزمني بين عمريْنا».

انكشاف هوة الصدع

في مطلع الخمسينيات، ومع سطوع نجمَيِ الكاتبيْن، ليس في سماء سويسرا فحسب، بل في سماء الأدب الناطق بالألمانية، تــنــكــشــف هوّة الصدع الذي شـقّــه مِعـول الشهـرة والانتشار الجماهيري. إذ نأى دورينمات بنفسه عن التعليق بأي ردّ فعل عن نجاح رواية فريش «شتيللر 1954»، التي كانت قد حقّقت نجاحًا مدوِّيًا بعد صدورها، مكتفيًا بتعليق مقتضبٍ حولها. يقول محرّر الكتاب: إنّ الأمر بدأ يتفاقم منذ ذلك الحين؛ ففي سنة 1961م تطلّب الأمر ثلاث محاولات من جانب المقرّبين من دورينمات لحـثـه على تهنئة صديقه ماكس فريش بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، وإرسال كلمات تهنئة بمناسبة عرض مسرحية «آندورا» على خشبات مسارح زيوريخ. إلا أنّ دورينمات رفض الأمر رفضًا قاطعًا، بل كتب رسالةَ نقدٍ حادٍّ للمسرحية، لكن الرسالة بقيت حبيسة الأدراج ولم ترَ النور. في منتصف الستينيات بدأ اسم فريش يلمع كروائيّ مخضرم بعد صدور ثلاثيته الروائية «شتيللر»، و«هومو فابر»، ثم «لنفترض أن اسمي جانتينباين»، التي رسّختْ اسمه في المشهد الأدبي الأوربي كروائيّ محنّكَ مثلما ترسّخ اسمه من قبلُ كمسرحيّ قدير. على أنّ الأمر لم يتوقـف على جفوة بين الكاتبيْن، إذ لم يستنكف الرجلان عن محاولات الاستفزاز، فاستمرّ ماكس فريش في رسم صور وبورتريهات شخصية تظهر دورينمات في مظهر القروي المُنعزل، في حين استمرّ دوريمنات في سخريته اللاذعة من حياة فريش.

إلى جانب المراسلات، ضـمَّ الكتاب شذرات ورسائل بقيتْ حبيسة الأدراج حتى أُفــرِجَ عنها بمعرفة الناشر. في إحدى الشذرات (أحد أيام سنة 1963م من دون تاريخ محدد)، التي كتبها دورينمات حول فريش، واحتفظ بها لنفسه قال: «أتساءل أحيانًا، ما الذي يجـمعني بمثل هذا الإنسان (يقصد فريش)؟ أخادع نفسي حين أطيل الحديث معه؟ هل يشعـر ماكس أيضًا بالشعور نفسه؟» يكشف الناشر بيتر رودي عن شذرة أخرى بقلم ماكس فريش يتحدّث فيها عن دورينمات قائلًا: «الحوار بيننا صعب، فآرائي لا تجد أذنًا مصغية لديه، لا يزال فريتس كما هو، لديه وقاحةٌ غير عادية، يحتاج دورينمات جمهورًا أعمى يركع أمامه من دون مناقشة، وهكذا الحال أيضًا مع أصدقائه، وإلا كانوا خونة… أي شخص لا يدور في فلك دورينمات يصير خائنًا من وجهة نظره». تتطوّر هذه الشذرة إلى خطاب، مؤرَّخ في يوليو 1969م، يرسله فريش إلى دورينمات: «عزيزي فريتس: لا أعلم إن كان أحد قد أخبركَ قبل ذلك أن مسلككَ في الحياة يجانبه الصواب، ربما أكتب الآن رسالة لا ينبغي أن تُرسلَ إلى صديق، ولكني بحكم دبلوماسية التعامل مع مواقف الحياة اليومية (أو سمِّها ما شئتَ) تبيّن لي أنك لا ترى إلا أمريْن: إما عدوًّا يغالي في قدحكَ، أو صديقًا يبالغُ في مدحكَ. وهذا خطأ، عليكَ اختيار السلوك السليم. لا أقصد بكلامي هنا مؤتمر بازِل الصحافي، بل أعني مقالَكَ في جريدة Sonntag-Journal».

في سنة 1973م حدثت قطيعة بين الكاتبيْن، وصفها دورينمات بالكلمات الآتية في شذرة دوَّنها في دفتر يومياته: منذ وقوع القطيعة قبل شهور (لأسبابٍ لم أستوعبها يومًا!)، «سقط ماكس في وحدة كاملة». وفي شذرة أخرى في السنة نفسها يقول: «كان ماكس لا يجد غضاضةً في مناقشة علاقاته الغرامية وتفاصيل زواجه، لذا عليّ الاعتراف أنني كنتُ أحبّه، وما زلتُ أحبه: ماكس هـو المقابل الجدليّ لشخصي، أودّ الاعتراف أيضًا أنني لم أحظَ بصديقٍ أكثر وفاءً من ماكس فريش». وفي سنة 1975م يُصدر ماكس فريش روايته السيرية «مونتاوك»، فيسخـر دورينمات من علاقات فريش النسائية المتعددة قائلًا في شذرة أخرى: «من الطريف أن يحوّل كاتب ذاته ومشاكله الشخصية إلى مادة أدبية».

تمضي السنوات وفتور العلاقة يزداد. في خريف سنة 1978م التقى دورينمات في حضور صديقٍ مشتركٍ «ماكسَ فريش» في مطعم Kronenhalle الشهير في قلب زيوريخ، حيث أهدى دورينمات إلى فريش كتابه الأخير، مُصدرًا الإهداء بكلمة: «إلى الـــKumpan ماكس، وهي كلمة دارجة، مِـن بين معانيها الحرفية (زميل في عـصابة). وكان فريش قد أفرط في الشراب، فـثارت ثائرته وألقى بالكتاب فوق الطاولة قائلًا: «هذا الإهداء الذي تتصدّره كلمة Kumpan غير لائق، وأعدّه تطاولًا ووقاحة.. سأتصل بالمحامي.. كلمة Kumpan تعـدّ سبًّا يليق بمجرمٍ، أنا لا أستحق منكَ ذلك». يعلّق الناشر على ذلك بقوله: «أخبرني صديق مشترك حضر السهرة أن دورينمات ذُهِـلَ من ردّ فعل فريش، وظـلّ مشدوهًا يحدّق إلى ماكس الثائر، ولم ينطق بكلمة واحدة». بعد هذه الواقعة بأيام، تلقى دورينمات من فريش الرسالة التالية، مؤرّخة في نوفمبر 1978م: «عزيزي فريتس، خالص الشكر على إهدائكَ نسخة من كتابكَ الأخير، وألتمس منك العذر على ما بدر مني ليلة أن التقينا في مطعم Kronenhalle، لم يكن الإفراط في تناول «الكونياك» هو السبب، بل كان اليأس الذي أخذ يتراكم فوق صدري منذ سنوات بسبب أخطائي المتكرّرة، تلك الأخطاء التي لا يعرفها أحدٌ سواي. عزيزي فريتس، أودّ إخباركَ شيئًا قبل أن نلتقي ثانيةً، إياكَ أن تظنّ أنني أرى في سلوكي الفـظّ شيئًا حسنًا أو حتى قابلًا للصفح، فلا ذنب لكَ في شيء، الأمر كله متعلّق بي أنا، هذا مرض، تحياتي، صديقك العجوز ماكس». بينما كتب فريش في سنة 1982م شذرة عن دورينمات لم يُرسلها تقول: «كلانا كان ظلًّا لصاحبه».

لأسباب متفرّقة من بينها تقدّم السنّ وعدم قدرته على الكتابة والإنتاج كما كان في السابق، مـرّ ماكس فريش بأوقات عصيبة أثّرتْ في حالته النفسية تأثيرًا سيئًا، وهو ما دفعه للتفريط في كلّ شيء، بما في ذلك صداقاته القديمة حتى إن كانت صداقات عرجاء. في هذه السنوات (1981– 1986م)، بدأت الجفوة بين الكاتبيْن تأخذ مسارًا رسميًّا صوب القطعية النهائية. قال ماكس فريش في حوارٍ غير منشور أدلى به سنة 1982م، وأورده المحرّر في الكتاب: «أشعر أنني تحرّرت من حمـلٍ ثقيل بعد تخلّصي من أواصر هذه الصداقة، لقد ذوت روابط هذه العلاقة بشكل طبيعي. أستطيع القول: إن تحرّري من صداقتي مع فريتس شيء رائع، بل ممتع، بل شكَّـل تحدّيًا مثيرًا لي. على الرغم من أننا كنا نعرف منذ زمنٍ بعيد بأننا نسير في مساريْن متعاكسيْن، فإنني كنتُ أشعر شعورًا قويًّا أنّ قطار دورينمات لا يزال واقفًا ومتشبثًا بمحطة لا هوتية، لا يغادرها أبدًا».

صداقة فريش ويونسون

أوفِه يونسون

ويبدو أنّ القدر قد هيأ صداقةً أخرى عميقة في أواخر السبعينيات بين ماكس فريش والكاتب الألماني أوفِه يونسون (1934- 1984م)، خـفّفـتْ قليلًا من أثـر انهيار صداقته بدورينمات. فقد تبادل الكاتبان (فريش ويونسون) مجموعة من الخطابات التي تناولت مختلف القضايا الأدبية والسياسية التي كانت محط اهتمام الكاتبيْن وقتها (وتناولت موضوعات متنوعة مثل الحرب الباردة وسياسة المستشار الألماني فييلي براندت،… إلخ). يقول المحرّر: إن فريش الذي كان يكبر يونسون بعشرين سنة تقريبًا، بدا أكثر انفتاحًا وتـقـبلًا للنقد والملاحظات من كاتب أصغر سنًّا وأقل تجربةً مثل يونسون، في حين لم يتقبّل النقد من رجل في مثل سنّه تقريبًا مثل دورينمات.

وردًّا على سؤال من أوفِه يونسون حول إمكانية «التصالح» مع دورينمات لعودة المياه إلى مجاريها، أجاب فريش في رسالة قصيرة: «نتصالح حول ماذا؟ أوشكُ أن أنسى موضوع فريتس برمّته، أريد أن أستريح». في خطاب أرسله دورينمات إلى فريش، والمؤرّخ في 15 مايو 1986م بمناسبة بلوغ فريش الخامسة والسبعين، قال: «عزيزي ماكس.. لقد اتّسمتْ صداقتنا بالشجاعة. أعلمُ أنني أثرتُ إعجابكَ في أوجه عدة، كما أثرتَ أنتَ اندهاشي في أوجه أخرى، لكن كل واحدٍ منا تركَ جروحًا لدى صاحبه، تركت بدورها ندوبًا غائرة. أكتب الآن هذه السطور ونوستالجيا الأيام الخوالي تغمرني. لم أهـتمّ يومًا بأعمال معاصرينا من الكُتّاب، وكنتَ أنت الكاتب الوحيد الذي شغـلتني أعماله، وبقيتَ كذلك الكاتب الوحيد الذي رأيت فيه منافسًا حقيقيًّا. أما وقد افترقتْ بنا السُّبـل، فهذا أمر محسوم سلفًا، لا يحتاج الأمر مني إلقاء محاضرة في تاريخ الأدب عن قضاء وقدر من هذا النوع. المحبّ دائمًا… فريتس».

كان دورينمات على يقين أنّ فريش لن يردّ على خطابه السابق، لكنه رغم ذلك أرسله. يقول دورينمات عن هذه اللحظة: «لقد وصل القطار الذي أقّلنا إلى محطّته الأخيرة، محطة المربع صفر، لقد كتبتُ خطابًا صادقًا، أعددته بحرصٍ وتدقيق، ذكرى وهــديةً إلى الصديق المفقود». وبالفعل، لم يُجب ماكس فريش عن رسالة دورينمات السالفة حتى توفيّ الكاتبان؛ حيث تـوفي فريدريش دورينمات في الرابع عشر من ديسمبر 1990م، وبعد أربعة أشهر فقط من وفاته، وتحديدًا في الرابع من إبريل سنة 1991م لحق به ظِـلّه الأكـبر سنًّا ماكس فـريش.

الكُتَّاب أقل قليلًا من البهلوانات، وأعلى قليلًا من الوحوش المدرّبة .. رسائل جون شتاينبِك ويومياته

الكُتَّاب أقل قليلًا من البهلوانات، وأعلى قليلًا من الوحوش المدرّبة .. رسائل جون شتاينبِك ويومياته

كان الروائي الأميريكي الحاصل على جائزة نوبل جون شتاينبك (1902– 1968م) مُغرمًا بعبارة للفيلسوف والمنظّر الشهير رالف والدو إيميرسون (1803- 1882م)، طالما أوردها في رسائله تقول: «..الموهبة وحدها لا تصنع كاتبًا، يجب أن يكون هناك رجلٌ قويّ وراء أي عمل يُكتَب». كانت هذه باختصار نظرة شتاينبِك لمسألة الكتابة. يعودُ شتاينبِك ليشرح وجهة نظره قائلا: «كتبتُ عددًا كبيرًا من القصص، لكنني لا أزالُ أجهل آلية كتابة قصّة، لا أعرف إلا شيئًا واحدًا: أن أجرّب حظي وأواصل الكتابة». ينتمي شتاينبك إلى صنف الروائيين المؤمنين بأنّ الكتابة ليست لهوًا ولا ترفًا، بقدر ما هي وقود الحياة وحطب نارها.

يقول شتاينبك في يومياته: «إنْ كانت الكلمات المكتوبة قد أسهمت بشيء نحو تطوير حياتنا أو حضارتنا بوجه عام، فأظنّ أن أعظم إسهام يكمن في النتيجة التالية: الكتابة العظيمة هي مادةٌ نتكئ عليها لنواصل حياتنا، هي أمٌّ نستشيرها في أمورنا كما كنا نفعل صغارًا، هي حكمة نستخلـصها من الحياة إذا تعثّرنا، هي قـوّة نستعين بها على الضعف، هـي شجاعة مجسّدة تشدّ من أزرنا في حربنا ضد الجُبـن والخوف..». في كتابه «مذكّرات رواية»، الصادر عن دار بنجوين سنة 1990م، يروي شتاينبِك تفاصيل كتابة روايته «شرق عدن»، وذلك من خلال مجموعة من الرسائل التي كتبها لصديقه باسكال كوفيتشي، الناقد والمحرّر الأدبي بدار فايكنغ للنشر. اعتاد جون شتاينبِك في صباح كل يومٍ من 29 يناير إلى 1 نوفمبر 1951م كتابة رسالةٍ إلى صديقه باسكال كوفيتشي، كانت أشبه – وفقًا لتعبير شتاينبك نفسه- بالقيام بتمرينات إحماءٍ يومية قبل بداية يوم العمل.

الكتابة مبارزة حامية

وصف شتاينبك هذه التمرينات بأنها الطريقة التي يحافظ بها على لياقة ذراع رأسه، ليجيد التسديد، وكأنّ الكتابة مبارزة حامية، وعليه الاستعداد جيّدًا لِمن يبارزه. كتب شتاينبِك هذه الرسائل إلى صديقه باسكال بصفة يومية كي يوثّق فيها رحلته الشاقّة مع كتابة رواية «شرق عدن»، ومسار الرواية، وتدفّق الأحداث، أو توقّفها، والوسائل التي كان يجرّبها للتخلّص من حُبسة الكتابة التي كانت تصيبه أحيانًا. كتب شتاينبِك الرسائل على الصفحات اليُسرى من دفتره، تاركًا الصفحات اليُمنى فارغةً ليدوّن فوقها أحداث رواية «شرق عدن». كتب شتاينبك على دفترٍ أزرق، فجاء الكتاب بمثابة مراسلات ثلاثية، أبطالها شتاينبك وصديقه المحرّر كوفيتشي والكتاب نفسه. وكان شتاينبِك في التاسعة والأربعين حينما شرع في كتابة هذه الرواية، أي في سنّ ناضجة تسمح له بالتحرّر من مخاوف الكاتب المبتدئ، إلا أنّه على العكس تمامًا، كان يشعر كأنه يخطو أوّل خطوة في عالم الكتابة.

لنقرأ الاقتباسات التالية من يوميات شتاينبِك إلى صديقه كوفيتشي: «تكمن قوّة الكتابة وجمالها في محاولة الروائي في العثور على رموزٍ تعبّر عما يعجز الكاتب عن التعبير عنه بالكلمات..». «الكُتَّاب أقل قليلًا من البهلوانات، وأعلى قليلًا من الوحوش المدرّبة..». «مهمّة الروائي أن يصعد ويهبط، أن يوسّع رئة أفكاره.. أن يشجّع نفسه على الاستمرار في الكتابة..». «ينبغي أن يكون كلّ فصل من الرواية وحدةً قائمةً بذاتها… أيها الكاتب، سأخبركَ بشيء: في اللحظة التي تخترق فيها روح الكتابِ عظامكَ، ستكون قادرًا على مواصلة الكتابة، وعندها ستأتي الحبكة وحدها دونما عناء..». «طالما أردتُ واجتهدتُ، وصلّيتُ إلى السماء لأكون قادرًا على الانتهاء من كتابة رواية «شرق عدن»، وسوف نرى إنْ كنتُ قادرًا على كتابتها أم لا». «عزيزي باسكال… أشعرُ بقلّة حيلة وأنا جالس لأكتب هذه الرواية، ولا يسعني إلا أن أردّد: «صلّوا مِن أجلي». «لو أنّ هناك سحرًا ما في كتابة قصّة، وأنا واثق أن كل كتابة تنطوي على هذا السحر، فمرجعه أنّه لا توجد وصفة جاهزة يمكن تمريرها من شخصٍ إلى آخر لكتابة رواية أو قصّة، ويبدو أنّ الوصفة السحرية تكمن في أعماق كل كاتب، وعليه أن يُخرجها ويقنع القارئ بها». «لا أنكر أنني أعاني دائمًا خوف كتابة السطر الأول من الرواية، لكن أتعلم شيئًا..؟ كم هو رائع ذلك الخوف والسحر والبريق الذي يمسّ روح الكاتب حيث يضع السطر الأول فوق الورقة، آه.. الكتابة ذلك العمل الغريب.. الغامض..».

في نهاية رسائله إلى صديقه باسكال، وبعدما فرغَ من كتابة الرواية، يتحدّث شتاينبِك عنها كأنما يتحدّث عن روح إنسانية فارقته، فيقول: «..الكتاب مثله مثل الإنسان، يجمع بين الذكاء والحُمق، بين الشجاعة والجُبن، بين الجمال والقُبح.. انتهى الكتاب بغتةً..إنه شيء أشبه بالموت.. وما أقوم به الآن قدّاس جنائزي على روحه..». «..انتهيتُ من الكتاب، وتساورني الآن رغبة حادة في أن أجهش بالبكاء.. بات (يقصد صديقه باسكال): أعِدْ إليّ الكتاب في الحال.. أريد إعادة كتابته من جديد، أو اتركني كي أحرقه.. لا تتركه وحيدًا يعاني البرد وسط الكتب وهو على هذه الحالة..». «.. لعلّك تعلم جيدًا عزيزي بات أنّ الكتاب لا ينتقل من الكاتب إلى القارئ، بل من القارئ إلى الوحوش والأسود، أي المحرّرين الأدبيين، والناشرين، والنقّاد، ورفوف العرض في المكتبات، وكأنما يُركل من قدمٍ إلى أخرى».

كان شتاينبِك يكتب تلك الرسائل إلى صديقه باسكال كوفيتشي على الصفحات اليُسرى من دفتره الأزرق الكبير، تاركًا الصفحات اليُمنى فارغةً ليدوّن فوقها أحداث رواية «شرق عدن». وكأنّ شرق عدن هي الصفحة اليُمنى حيث يكتب الرواية، وغرب عدن هي الصفحة اليُسرى حيث يدوّن الرسائل، فيتحوّل الدفـتـر إلى جـنـة عدن حقيقية. الحقيقة أنّ هذه لم تكن المرّة الأولى التي يستعين فيها شتاينبِك بالرسائل واليوميات على الكتابة. ففي الوقت الذي كتب فيه روايته الأشهر «عناقيد الغضب»، كان شتاينبِك يحرّر دفتر يوميات سرّي، يسجّـل فيه وقائع يومية تتعلّق بمعاناته وقت كتابة الرواية. نتحدّث هنا عن المدة من أواخر مايو 1938م حتى أكتوبر من السنة ذاتها. يستيقظ شتاينبك باكرًا، فيسجّل في دفتره ما يتوقّع إنجازه، أو على الأقلّ ما يأمل في إنجازه. وفي المساء يُجمل الحساب الختامي لما أنـجـزَه بالفعل. انتهي شتاينبك من كتابة «عناقيد الغضب» في سبعة شهور، بعدما حدّد مسبقًا مـئة يوم فقط للانتهاء منها، بمعدل ألفيّ كلمة يوميًّا، بخلاف الوقت المخصّص لكتابة اليوميات. دوّن شتاينبِك في دفتره تفاصيل كثيرة تتصل بظروف كتابة الرواية وتطوّرها، والطموحات والإحباطات التي كانت تراوده في أثناء الكتابة. كانت اليوميات بمنزلة كاميرا دقيقة مثبّتة في غرفة الكتابة، مـزروعة فوق رأسه ترصد مشاعـره الحماسية أحيانًا، والسلبية غالبًا تجاه جودة ما يكتُـب.

لـنقرأ الشذرات التالية من دفتر يوميات رواية «عناقيد الغضب»: 31 مايو 1938م: «سأحاول تحرير دفتر يوميات يسجّل أيام عملي في الرواية، والجهد المبذول كلّ يوم، والنجاح الذي تمكّنت -قدر استطاعتي- من إحرازه… أريد معرفة كيف تسير الأمور..». «5 يونيو… أشعر أنّ جهازي العصبي قد استُنزفَ تمامًا… آمل ألا أكون عرضة لانهيار عصبيّ وشيك..». «9 يونيو.. لا بد لهذا الكتاب أن يكون جيدًا.. بأيّ ثمن…». «11 يونيو: لا أملك حياةً طويلة، وعليّ إنجاز الكتاب قبل انقضائها. للمرّة الأولى في حياتي أعمل على كتاب حقيقي..». «8 يوليو: كيف ستبدو الرواية بعد انتهائي منها..؟.. مجرد تساؤل..!. 24 أغسطس: أعصابي تكاد تفلت مِنّي.. أودّ لو أنني تواريت عن الأنظار… أين ذهب النظام الذي وضعته لنفسي..؟ هل فقدت السيطرة..؟». «7 سبتمبر: هناك أشياء كثيرة تدفعني نحو الجنون.. أخشى أن يتفتّت الكتاب إلى شظايا… ولو حدث ذلك، سأتفتّت أنا أيضًا.. ليتني لم آخذ موضوع تأليف الكتاب على محمل الجدّ هكذا، إنه مجرّد كتاب مصيره الموت عمّا قريب، كما سيكون مصيري أيضًا..». «4 أكتوبر: كسلي الشديد يُطوّقني.. عليَّ كـسـر هذا الطوق…».

لهاث أنفاس لا ينقطع

تسيرُ يوميات شتاينبِك على هذه الوتيرة؛ عملٌ مستمرّ، حـرقٌ متواصل للأعصاب وللأفكار ولُهاث أنفاس لا ينقطع. يرى دارسو شتاينبك أنّ كتابة اليوميات بهذا المنهج الصارم لم يكن مَـردّه إدمان العمل، بقدر ما كان رغبة مُلحّة لإنجاز أهمّ عـمـل قد يؤديه إنسان في حياته، يضيف شتاينبك: «حين أنهي هذا الكتاب لن أهتمّ كثيرًا بمسألة موتي أو حياتي؛ لأنّ العمل الأساسي الأهمّ أنجزَ بالفعل، وهذا يكفي، ولو انتهيتُ سوف آخذ قسطًا من الراحة، قسطًا قصيرًا لن يطول، أعلم أنّ حياتي قصيرة، وأن عليّ إنجاز كتابٍ آخر قبل أن تنقضي هذه الحياة». يواصل الروائي الأميركي جلد ذاته، مُستحثًّا إياها على مواصلة العمل بقوله: «كنتُ أظنّ أني أنجز يوميًّا نزرًا يسيرًا جيدًا، وبمجرّد انتهائي من الكتابة، ينتابني شعورٌ بأنّ ما كتبته ليس سوى شيئًا متوسّط القيمة، لم تكن كتابتي يومًا بالجودة التي كنت أحلُم بها، وهو ما يـشـعرني بحزنٍ عميق.. أحسّ أنّ قدميَّ تنزلقـان، كما كانت حياتي… ها هو هذا كاتبٌ شاب يريد التحدّث إليّ.. ماذا تريد..؟ هـه.. أن تصير كاتبًا..؟ ماذا يُمكنني أن أخبركَ..؟ لستُ كاتبًا من الأساس حتى أنصحكَ بشيء.. أنا على يقين من شيء واحدٍ فقط.. وهو أنّ ما كتبته رديء».

في سنة 1950م، يرسل شتاينبِك الدفتر إلى باسكال كوفيتشي، مشفوعًا برسالةٍ يقول فيها: «طالما راودتني الرغبة في التخلّص من هذا الدفتر، فالأمور التي يضمّها تصف معاناةً شخصية للغاية». في المقدمة الطويلة، والمزوّدة بشروح وتعليقات بيد المحرّر الأميركي «روبرت دي موت» ليوميات شتاينبك، التي صدرَتْ عن دار فايكنغ للنشر، بعد وفاته تحت بعنوان «أيام العمل: يوميات شتاينبِك (1938 – 1941م)»، يصف المحرّر اليوميات بأنّها عملٌ مُلهم للمبدعين والكتّاب الجدد، عصارة حياة وشاهد عيان على مخاضٍ لولادة رواية عظيمة مثل «عناقيد الغضب». يعثر قارئ يوميات شتاينبك، ولا سيما المهتمّ بالكتابة الإبداعية، على كـنـزٍ حقيقي، ولكنّه كنز مـحـاط بوحوشٍ شرسة؛ فالكتاب لا ينتمي إلى نوعية كتيّبات «نصائح الكتابة» الوديعة الهادئة. بل على العكس، الكاتب هنا وهو يخاطب نفسه، لا يترفّق بها، بل يـقـسـو عليها، ولا يأخذ بيدها، بل يضرب عليها بقسوة لتواصل الكتابة. مـن ضمن النقاط المهمّة التي كان يؤكّد عليها شتاينبك دائمًا في رسائله، فكرة الانتظام اليومي في الجلوس إلى المكتب، حيث يقول: «في الكتابة، تفرضُ عـادة الجلوس إلى الأوراق نفسها فرضًا، فتمارسُ بذلك تأثيرًا أقوى من تأثير الرغبة أو الإلهام. يتطلّب الأمر قدرًا من ممارسة الحـزم مع النفس، حتي تتحوّل عادةُ كتابة عددٍ محدّد من الكلمات يوميًّا إلى نظام صارم. لا أعـرف عبارة: سوف أكتبُ حين أشعر بالرغبة في ذلك، فالإنسان إذا ما أعطَى نفسَـه عذرًا بسيطًا للامتناع، فلن ينجز شيئًا على الإطلاق، ربما ثمّة أشخاص يمكنهم العمل بهذه الطريقة، أما أنا فلا. ينبغي لي أن أُردي الكلمات فوقَ الأوراق يوميًّا، ولا فارق عندي بين ما إذا كان ما كتبته جيدًا أم رديئًا». لكن شتاينبِك لا يتركُ نفسه ولا الأجيال القادمة من الكُـتّاب دونما أمل، فيقول: «ينبغي لكلّ كاتب أن يؤمن بأن ما يفعله هو أهم شيء في العالم، وعليه أن يتمسّك بهذا الوهم حتى إن تأكّد أنه على خطأ».