عنترة وعبلة في عالم ما بعد العولمة

عنترة وعبلة في عالم ما بعد العولمة

إبراهيم محمود

في اللحظة التي نتهجى فيها مفردة «التراث» نلتفت إلى الوراء، شعورًا اعتياديًّا منّا أنه ينتمي إلى الماضي، ولكن المعرفة الفعلية لا تنصح بهذه الالتفاتة حصرًا؛ إذ لو كان التراث يتموقع في الماضي، لما انشغلنا به، نحن وغيرنا، وبطرق شتى، فهو يمتد إلى المستقبل بعمق، وهو يقبل التحدث بأكثر من لغة، وقابلية «الهضم» المعرفية هذه، تترجم خطورته إلى جانب أهميته، بالنسبة إلى من يرتحل إليه، وهو ييمّم وجهه صوب الآتي. حسن إدلبي فنان الكاريكاتير السوري، الإماراتيّ الإقامة، رحالة أزمنة في متخيله الفني، ومعه زوجته الفنانة المغربية وفاء شرف، حيث تتصاهر كل من الفكرة الرأسية والزخرفة الأفقية.

يشار هنا إلى الثنائي التراثي- الفولكلوري العربي عنترة وعبلة، وكيف أنهما شكَّلا إلهامًا فنّيَّ الطابع، وجد طريقًا له في معرض فني، ضم أربعين لوحة «ولا أدري ما مغزى هذا الرقم، ما إذا كان عفويًّا أم تأكَّد عليه في اعتباره نضوجًا لمعنى فكرة؟» وفي إطار فعالية مؤتمرية أقامها ملتقى «الراوي» في معهد الشارقة في أكتوبر عام 2017م، تحت عنوان: «السير والملاحم»، لوحات تمضي إلى أرومة العاشقين: عنترة وعبلة: شبه الجزيرة العربية، ومسرح الصحراء الحي الوارف الظلال محتوًى، وهو يتنفس في هيئة زخرفية، كما لو أنها نسيج صحراوي متموج، والمعرض قائم إلى تاريخه. وربما عناوين مفصحة عن ذلك في الصحافة الخليجية خير تأكيد على وشائج القربى الفنية هذه: مروة السنهوري، في صحيفة الرؤية، 29 سبتمبر 2017م: عبلة تعشق ميسي، وعنترة يكتفي بالسيلفي في ساحة للكاريكاتير.

محمد الحمامصي، في ميدل إيست أونلاين، 5 أكتوبر 2017م: حسن إدلبي ووفاء شرف في عالم السوشيال ميديا… إلخ. فضيلة الفاروق، في صحيفة الرياض، 7 أكتوبر 2017م: عنترة وعبلة يسافران في الزمن. هذا الإيقاع الزمني المفتوح يتفاعل في جسد كل لوحة، واللوحة تنطق بألوانها، وألوانها تبث الناظر إيقاعاتها بتنوع درجاتها، فاللون تموسق، والموسيقا تلون، والعين إصغاء وساردة مرئية.

وكأني أكاشف هنا الطابع التشاركي في العمل: إدلبي وانشغاله بالفكرة والرسم، وشرف بما يمنح الفكرة روحًا، والرسم امتلاء ورواء أبعاد، وتحت مظلة الحب التي ترفع نخب توأم العشق التليد. الفن يوحّد المسافات، ويستظرف الوحشة، ولعل ذلك استلهام صحراوي مجاوِر ومؤانس.

وكأن الكاريكاتيري العتيد يصادق ما هو سيري وشعبي، ويوقظ النص الحكائي كينونة لونية، فيلتقي العاشقان؛ لا، بل يمنَحان «تفييزا» عوالميًّا ولا حدوديًّا ومواهب غير مسبوقة ولافتة:

فأن ينسَّب كل من عنترة وعبلة إلى عالم ما بعد العولمة، ويظهران أمامنا في ملعب كرة القدم، وفي المولات، ويتابعان الأخبار، وينشغلان بالكومبيوتر، ويرتديان لباس الرياضة، ويحملان الموبايل… إلخ، فهو تقدير من قبل الفنان إدلبي ومعه زوجته الفنانة شرف بأن ما هو تراثي إذا كان يتموقع ماضيًا، لكن ثراءه المكوّن له كتابة وآثارًا، حيث إن وعي ما كان يترجَم إلى وعي ما هو كائن وما يأتي مستقبلًا.

وفي فن الكاريكاتير، كما هي لوحات إدلبي- شرف، ثنائية الحار والبارد، تمازجهما، ما يحفز فينا ملَكة الانفتاح على ما هو خفي داخلنا، وهو عتبة الرؤية المثلى لما يغنينا روحًا ومراحًا.

إن مفهوم الذائقة الفنية ذات الثالوث المعتبَر: الفن اللوني- الصوتي- الكتابي، يرينا كونية الرائع والدهشة، والفن في مبتدئه ومنتهاه فن الدهشة وسيرورتها، ولسان حالها. الفن لابس قبعات الإخفاء، لا قبعة واحدة، ووحده من يتفاعل مع هذه الأهلية الراقية «الفن بوصفه إدهاشًا وتنويرًا داخليين»، يمكنه الارتقاء بروحه فنيًّا. ففي مجتمعاتنا، واليوم تحديدًا، تكون الحاجة إلى إدهاشات من هذا النوع، من مهام الذين يعبّدون طرقًا غير سالكة، وينيرونها بآثارهم، وفي الوقت الذي تفصح هذه الآثار عن تلك المعرفة التي تخوّل هذا الفنان أو ذاك، لأن يوسّع حدود النظر أبعد مما هو حسي بالذات، أي حيث يمتلك عنترة وعبلة جدارة إقامة بيننا، وبين آخرين، وهم ينتقلان من نطاق المسرود عنهما، إلى مضمار السرد عمن منحهما بطاقة انتماء مختلفة، وجنسية حضور بأشكال مختلفة، وما في ذلك من هارمونيا اللون وأبعاد المرسوم من خطوط وهيئات وتلوينات، حيث تستحيل الصحراء نفسها مجالًا يضج ظلالًا مزخرفة محلية البصمة.

لعل إدلبي بالذات، بموهبته التلقائية كقابلة إبداع أولى، كان على موعد مع هذا الثنائي، وثمة «جمهور متعدد» في انتظاره، من خلال قابلية تعامل مع الثنائي ذاك، ولا بد أن البيئات معلمات إدلبي وملهماته، لا بد أن دقة ملاحظاته، وقراءته الصامتة ذات الصدى تقديرًا لنفوس من حوله، وراء هذا الانشغال الفني، وهو يروّض وحشة الغربة عينها في ذاته، إنها مسيرة أخرى في لائحة مسيرات إدلبي، وفراهة القراءة البصرية للزمان والمكان، إذ إن عنترة وعبلة اللذين يعنياننا، هما خاصته، ويشيران إليه، فلولا الثنائي: إدلبي- شرف، لما برزا في الساحة، وأثارا انتباهًا، ويشهدان للثنائي الفني على أنهما عنترة وعبلة في داخلة، إنما يعيشان وهج التآلف، وبراعة التوحد في روحية الفن، وما في ذلك من انتصار لفن يختصر المسافات، ويحوّل مرارة ما كان بين عنترة وعبلة لأسباب معروفة إلى لقاء وامتلاء بالحياة، وهي تعبير فعال عن أن الحياة تستحق أن تعاش، مثلما أن الفن يستحق أن يولى اهتمامًا، فكيف وهو يمنحنا مثل هذا الإكسير الروحي، ويخرجنا من ضيق المحلية إلى رحابة العالمية؟