ليليث وشياطين الرأسمال: الاقتصاد على سرير فرويد

ليليث وشياطين الرأسمال: الاقتصاد على سرير فرويد

«ليليث وشياطين الرأسمال: الاقتصاد على سرير فرويد»، صدر عن دار هانزر، لتوماس سيدالشيك وأوليفر تانسر. أحدهما تشيكي، عمل لسنوات في القطاع البنكي، إلى جانب تدريسه الاقتصاد في الجامعة التشيكية، وحصوله على عضوية المجلس الأخلاقي لمنتدى الاقتصاد العالمي، والثاني صحفي نمساوي، يعمل في الصحافة اليومية، وعمل لسنوات مراسلًا للإذاعة والصحافة المكتوبة النمساوية لدى الاتحاد الأوربي. كلاهما سيبحر في مغامرة لم يسبق لغيرهما أن قام بها، تطبيق منهجية التحليل النفسي على نظام اقتصادي، أضحى يشكل مشكلًا للسياسة والمجتمع عامة، بل كما يقولان، لطريقتنا في التفكير. «إن طوطم عصرنا هو الاقتصاد، وسنضع الاقتصاد على سرير المحلل النفسي ونصغي إليه؛ لنعرف ما الذي يقوله؟ ما الذي يأمل أو يحلم به؟ عن أي شيء يفضل الحديث؟ وما الذي يكبته في الأعماق؟.. إلخ». يبدو كما لو أن الاقتصاد يعاني اليوم اضطرابًا ثنائي القطب: الهوس الاكتئابي. وينتج عن ذلك الفوضى. إن الفكر الاقتصادي نتاج للنفعية الفردانية التي تتعامل مع كل القيم الأخرى بسخرية، وحتى إذا ما دخل الاقتصاد كعلم في علاقة بالتخصصات الأخرى، تراه لا يسعى إلى تعلم شيء جديد، إنما للسيطرة عليها وفرض منطقه.

يهتم التحليل النفسي تقليديًّا بالأفراد وحيواتهم، لكن الباحثين يسعيان إلى تطبيقه على مستوى أكبر، وبحث إن لم تكن تلك السلوكيات المنحرفة التي نجدها عند الأفراد، حاضرة بشكل جمعي لدى المجتمع. وهما يعتقدان أنهما ربما يصلان عبر ذلك إلى علاج للاقتصاد، علاج جمعي، أو «علاج الحضارة» كما أسماها الكاتب والمحلل النفسي الإيطالي Luigi Zoja.

لقد اعتدنا على تحليلات تهم «جسد» الاقتصاد، أي الاقتصاد الواقعي، المادي، الوظيفي، الذي يمكن حسابه، والصناعة، وعالم الإنتاج والاستهلاك.. إلخ لكن ما ندر القيام به برأي الباحثين هو دراسة «روح» الاقتصاد. فداخل تلك الروح، أي داخل الاقتصاد كعلم، تتموقع معتقداته، ومخاوفه وآماله، وفعلنا السياسي، وأيضًا تصوراتنا عن الحرية والمراقبة، على الرغم من أنها تعبر عن نفسها بداية في «جسد» الاقتصاد، في الاقتصاد الواقعي. وكما الحال عند الإنسان وأمراضه النفسية، فإن جسد الاقتصاد وروحه ملتحمان.

اقتصاد يعاني اضطرابات نفسية

freud-commerce-bookيسجل الباحثان وجود خمسة أنواع من الاضطرابات النفسية في الاقتصاد المعاصر، لا تمثل فقط جزءًا منه، بل تسيره بالطريقة التي تريد. أولًا: اضطراب في معرفة الواقع: ويريان ذلك نتيجة لمبدأ اللذة الذي يطالب باستمرار بمزيد من الإنتاج والاستهلاك. ثانيًا: اضطرابات ناتجة عن الخوف. وهي ما يدفعنا للنظر إلى الواقع بشكل سلبي، ويقود إلى سلوكيات غير عادية، وخصوصًا في مراحل الأزمة. ثالثًا: اضطرابات لها علاقة بالوضع النفسي، أو ما يسمى بالاضطرابات العاطفية، وهنا ستتم دراسة دورات الهوس الاكتئابي، التي تتعلق بالتطورات المتصلة بالطفرات والأزمات الاقتصادية. رابعًا: اضطرابات تتعلق بالسيطرة على الدوافع، وهنا ستتم دراسة نموذجين للسلوك: إدمان اللعب الذي نلحظه لدى البنوك الاستثمارية، والسلوك الثاني المرتبط بإدمان السرقة «الكليبوتوماني»؛ إذ من المثير للانتباه أن ذلك الذي يحقق نجاحًا داخل هذا النظام الاقتصادي، ويملك العمل والسلع والرأسمال، هو الذي لا يقدم شيئًا مقابل ذلك. خامسًا: اضطرابات الشخصية: من أجل المحافظة على النظام الذي يقوم على العنف والمنافسة، يتوجب على المشاركين فيه أن يتلقوا تكوينًا مناسبًا لطبيعته، يصنع منهم أشخاصًا أنانيين وعنيفين، بعيدًا من كل إحساس بالإنسانية والغيرية، وبعيدًا من كل حس سليم. إنهم مجرد أدوات في نظام لم يعد يخدم مَن صنعه، بل استولى بنفسه على السلطة. إن هذا لا يعني أن المشاركين في النظام أناس سيئون، بل إن النظام من يرغم خَدَمهُ على الاضطلاع بأدوار باثولوجية.

يؤكد الكاتبان أنهما سينهجان طريق التحليل النفسي. فليس هدفهما إصدار أحكام واتهامات، لكن الإصغاء لما يقوله الاقتصاد. فهذا الكتاب لا يجب عدّه كتابًا ضد اقتصاد السوق الرأسمالي، البنوك والأسواق المالية. إنهما يريان النظام الاقتصادي الحالي خطوة في مسار تقدم البشرية، جعل من حياة الإنسان على الأرض أفضل مما كانت عليه من قبل. لكنهما يؤكدان أيضًا أن ذلك لا يجب أن يمنعنا من انتقاد انحرافات النظام، وتوصيف أمراضه، وبحث سبل علاجه. إن أسطورة «ليليث» العبرية، التي اختير اسمها عنوانًا لهذا الكتاب، تلخص بنظر الباحثين، حقيقة الاقتصاد الرأسمالي. إن ليليث، وفقًا للرواية العبرية، أول امرأة لآدم. لقد خلقت هي الأخرى مثله من طين، وكانت تشبهه في كل شيء. بل إن تمسكها بهذه المساواة بينها وآدم، هو ما جعلها تدخل في صراع معه. إنها رمز لأول كائن بشري طالب بالحرية. ومن أجل ذلك هرب من جنة عدن وحقت عليه لعنة الرب. ستتحول إلى شيطان يقوم بقتل المواليد الجدد وامتصاص دمهم. ومن هذه الطاقة التي ستحصل عليها، ستضع شياطين جددًا، مئة كل يوم، لتقوم بعدها بقتلهم أيضًا. وسبب كل هذه الثورة، هو أنها وجدت في الوضع الجنسي، أن تتمدد تحت جسد آدم خلال المضاجعة، رمزًا للقمع والحط من كرامتها. إن سلوك ليليث يقوم على مبدأين: الاستهلاك والتدمير. ولهذا هي تشبه في كثير الاقتصاد الذي يقوم على التدمير. إنها ماكينة استهلاك، لا تتوقف عن الإنتاج كما لا تتوقف عن التدمير. إنها رمز للحياة والموت، للإنسانية والسمو، وفي الآن نفسه للبدائية والتوحش، جوع لا يشبعه شيء. فمبدأ عصرنا، كما يؤكد الباحثان، ليس سد رمق الجائع، بل إشباع الشبعان. وهو ما يشكل في حد ذاته مشكلة كبيرة. فالإشهار، على سبيل المثال لا الحصر، لا يقوم بشيء آخر أكثر من «إيقاظ جوعنا غير الحقيقي بشكل ليبيدي». إننا أمام «دونجوانية اقتصادية»، لا تتحقق إلا كاستهلاك مستمر، وكما يستهلك الدونجوان نساءه، يستهلك الاقتصاد العالمي السلع والموارد. وهناك حيث يعجز عن الاستهلاك، يحل الركود وتسيطر الكآبة. إننا نقف أمام نظام اقتصادي واقعي لا يتورع عن إنتاج المرض من أجل تسويق الدواء، وفي هذا السياق يسجل الباحثان أنه «كلما ازداد الناس سمنة، كلما ازداد الاقتصاد نموًّا». إن هذا الاستنتاج لا يدخل في باب النكتة أو السخرية السوداء. إن الأرقام والإحصائيات في الدول الغربية تؤكد ذلك.

إضافة إلى ذلك، فإن مبدأ النمو المستمر الذي يقوم عليه الاقتصاد المعاصر، دفع الإنسان إلى تسويق كل شيء، بل إلى تسويق أجزاء من شخصيته. أما الشخصية التي يحبذها الاقتصاد المنفلت من عقاله، فهي سادية، نرجسية، عدوانية، وكلما ازدادت عدوانيتها، زادت أرباحها. يشير الباحثان إلى مئة مقابلة أجراها كل من عالم النفس الكندي روبيرت هار والمستشار الاقتصادي الأميركي بول بابياك، التي تظهر بأن عدد المرضى النفسيين في المناصب الرئيسة لدى الشركات الكبرى يتجاوز ثلاث مرات عددهم في المجتمع العادي.

نقرأ في الكتاب: «منذ آلاف السنين والبشر يفكرون في سبل توزيع السلع بشكل عادل بين البشر. منذ أفلاطون وأرسطو إلى سينيكا وتوما الأكويني والسكولائية حتى آدم سميث ودافيد ريكاردو، وكارل ماركس، وكينز وميلتون فريدمان. فموضوع تاريخ الاقتصاد كان دومًا توزيع السلع والاتجار بها. وكيفما كانت الاختلافات بين المدارس المتعددة أفلاطونية، كلاسيكية، اشتراكية، طوباوية، كينزية، بروتستانتية أو نيو كلاسيكية، لم يسبق أن وجدت مدرسة تدعو إلى السرقة كأفضل السبل إلى السعادة الإنسانية» (ص138). لكن اقتصاد الشركات الكبرى اليوم، والمنافسة المحتدمة بين الفاعلين الماليين تؤكد أن من يجني الأرباح، ليس هو من يحسن لعبة الأخذ والعطاء، ولكن ذاك الذي لا يعطي شيئًا ويأخذ كل شيء. إننا أمام «تحول في الباراديم» يقول الباحثان، في تاريخ الاقتصاد الإنساني. وهنا تكمن المشكلة في رأيهم. فالحرية الاقتصادية والاجتماعية تشكل ربحًا للجميع، متى ارتبطت بقدرة البشر على التحلي بالمسؤولية. أما ما نعيشه اليوم، فهو حرية العدوانية وبطلها «الكليبتومان» الذي تصفه السيكولوجيا كشخص يعاني اضطرابات في التحكم بنوازعه. يعتقد «الكليبتومان» الذي يجد نفسه مضطرًّا للسرقة، لسبب نفسي وليس لسبب خارجي كالفقر مثلًا، وعانى في الأغلب الأعم تجارب صادمة كالعنف وزنا المحارم، ويرى أنه، عبر السرقة، يتجاوز رهابه واكتئابه، لكنه لا يزيد في الواقع إلا من استفحالهما.

التحرر من أحلام اليقظة

يقوم الاقتصاد العالمي اليوم على إشباع رغبات الدول المتقدمة على حساب الدول المتخلفة والفقيرة. اللذة من جهة، والألم من جهة أخرى. سلوك سادي وعدوانية استقلت بنفسها، لم يعد هدفها التقدم، ولكن التدمير الذاتي. لكن إضافة إلى «الكليبتومانية»، يؤدي الخوف دورًا مركزيًّا في هذا السياق. «إن الخوف، كما كتب عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، هو المبدأ الذي يستمر بالعمل حين تتوقف كل المبادئ الأخرى». ولقد تحول إلى أداة بيد السياسيين والاقتصاديين كما كان بالأمس القريب أداة بيد رجال الدين، فرجال السياسة يمكنهم التأثير في الملايين وهم يستعملون الخوف، وينشرون الحقد ويشعلون الحروب، وما الحروب على الإرهاب إلا نموذج بسيط عن ذلك، أما رجال المال والاقتصاد، فيعيشون على صناعة الخوف وتسويقه وتقديم أجوبة عن تلك المخاوف التي صنعوها، من المجالات الأمنية والصحية والغذائية حتى المجال المالي، تمامًا كما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية وهي تبيع الخلاص الروحي للمؤمنين. لم يبالغ سلافو جيجيك حين أكد «أن خلق المخاوف مكون للذاتية المعاصرة. إن للخوف حظوظًا جيدة في أن يتحول إلى الأيديولوجية التي تحدد كل شيء داخل الرأسمالية المعولمة». إن الخوف إذن، برأي الكاتبين، هو رديف الحرية في السوق الحرة.

«إن الرأسمالية قادرة على التطور، لكن نقدها أصابه التكلس». يكتب المفكر الألماني فولف لوتر في كتابه، «الرأسمالية المدنية». ربما يأتي هذا الكتاب، على الرغم من ثغراته، والغضب الذي يخضب كلماته، محاولة لتجاوز هذا التكلس الذي أصاب «نقد الرأسمالية». إن التحليل النفسي لا يهدف إلى العلاج، لكنه يمنحنا الوعي بوضعنا، فهو يحررنا من أحلام اليقظة ليربطنا بالواقع. ولربما يكون الوعي بالمرض أهم من وصفات العلاج السحرية التي لا تسهم سوى في استمرار تكلس النقد، ومنها خصوصًا تلك البكائيات الدينية المعاصرة التي لا تفعل بنقدها المتهاوي سوى تأبيد سلطة الرأسمال. «لقد حاولنا إعطاء صوت للاستلاب الذي يعانيه الإنسان الغربي المعاصر، وتوضيح عناصر هذا الاستلاب»، هذا ما نقرؤه في الفصل الأخير من الكتاب. لكن، وعلى أطراف الإمبراطورية الاقتصادية العالمية، هذه الأطراف التي تجد نفسها مرغمة على استيراد، ليس فقط السلع التي ينتجها المركز، بل أزماته أيضًا، فإن هذا الاستلاب يعبر عن نفسه في سلوكيات استهلاكية أكثر دموية، ليس أقلها الحروب الإثنية والمذهبية.

العقل السياسي الألماني بين «الثقافة الرائدة» و«الوطنية الدستورية»

العقل السياسي الألماني بين «الثقافة الرائدة» و«الوطنية الدستورية»

تعيش النخبة السياسية الألمانية اليوم على وقع الصدمة التي خلفتها نتائج الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» في الانتخابات المحلية. ويبدو واضحًا أن الأحزاب التقليدية في حيرة من أمرها، أمام الشعبية الكبيرة التي بدأ يحظى بها هذا الحزب، ليس فقط في شرق البلاد، بل في غربها أيضًا.

لقد أعلن حزب «البديل من أجل ألمانيا» في برنامجه عداءه الواضح للاتحاد الأوربي، وطالب باستعادة الدولة القومية لسلطاتها السياسية والاقتصادية من بروكسل. وتساوق هجومه على المشروع الأوربي، مع هجومه على المهاجرين من أصول مسلمة، ومطالبته بإغلاق الكتاتيب القرآنية ومراقبة المساجد، ووقف استقدام اليد العاملة من الخارج.

أكد الفيلسوف الألماني هابرماس أن الانفتاح على المهاجرين وثقافتهم، يشجع ويعبد الطريق إلى انفتاح أكبر للشعوب الأوربية بعضها على بعض، وخلق ثقافة أوربية متعددة ومنفتحة. كما أوضح في محاضرته الشهيرة «أوربا ومهاجروها» التي ألقاها عام 2005م: «إنه من غير الممكن تشكل هوية أوربية مشتركة، إلا عبر انفتاح أكبر داخل دول الاتحاد وثقافاتها الوطنية على مواطنيها الذين ينتمون إلى أصول إثنية ودينية مختلفة. إن الاندماج ليس طريقًا باتجاه واحد، وإذا ما نجح، فإنه سيتسبب في رجة حيوية للثقافات الوطنية القوية، لتصبح أكثر انفتاحًا وأكثر حساسية، وأكثر قدرة على الاستيعاب نحو الداخل والخارج في الآن نفسه».

رفض قيم المجتمع الليبرالي

لكن يبدو أن أحزاب اليمين المتطرف، وليس في ألمانيا فقط، اختارت الطريق المعاكس. فهي تتخذ مواقف عدائية ضد المهاجرين وضد الفكرة الأوربية في آن. ويشتمّ من برنامجها رفض لقيم المجتمع الليبرالي، بل وتعلن صراحة إعلاءها للقومي ولفكرة ضيقة للهوية على حساب المجتمع متعدد الثقافات. إن حزب «البديل من أجل ألمانيا» يعلن في برنامجه الحزبي انتصاره لفكرة «الثقافة الألمانية الرائدة» Leitkultur ضد ما يسميه «أيديولوجية المجتمع متعدد الثقافات»، مغفلًا أن التعدد الثقافي مكون من مكونات كل مجتمع، لا يمكن القفز عليه ولا تجاهله. كما أن برنامج الحزب يعلن رفضه لما يسميه باستيراد التيارات الثقافية، أي يرفض التأثيرات الثقافية الخارجية، وهو ما يفضح فكرته العنصرية عن الثقافة، وعن الوحدة الثقافية المزعومة لألمانيا، التي يؤكد التاريخ الثقافي الألماني نفسه أنها مجرد شطح أيديولوجي.

لكن هذه اليعقوبية الثقافية تفضح نفسها أكثر حين حديثها عن الإسلام، معتبرة أن الإسلام لا مكان له في ألمانيا، وأن تزايد أعداد القادمين إلى ألمانيا من بلدان مسلمة يشكل خطرًا على الهوية الألمانية. بل إن برنامج الحزب يدافع عن «الإسلاموفوبيا» باعتبارها نقدًا مشروعًا للإسلام.

هذا المنعطف باتجاه اليمين، وباتجاه أفكار ومعتقدات، اعتقدت النخبة الفكرية في ألمانيا أنها أضحت جزءًا من ماضٍ مظلم، طواه التاريخ، وتجاوزه العقل السياسي الألماني مع انهزام النازية، ليس وليد اليوم. فهذا رئيس البرلمان الألماني نوربرت لامرت يلح مرارًا على ضرورة دعم ثقافة ألمانية رائدة، تكون بمثابة النموذج الذي يحتذى بالنسبة للأقليات، مؤكدًا أن الوطنية الدستورية وحدها لا تكفي للاندماج. وهو الشخص نفسه الذي أعلن غير مرة اعتراضه على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، باعتبار أنها دولة إسلامية، أو دولة لم تعرف تقليد التنوير، وكلها ادعاءات واهية، فدول شرق أوربا التي انضمت إلى الاتحاد، لا تتوافر على تقاليد ديمقراطية راسخة، ولم تعش تنويرًا، وهو ما يبدو اليوم على الأقل في أمرين:

أولًا- مسيحيتها التي ما زالت يطبعها الطابع القومي، المُعادي للسامية وللإسلام.

وثانيًا- سطوة الأفكار اليمينية عليها، وخضوعها اليوم، كما الحال في بولندا وهنغاريا لأحزاب شعبوية، معادية لأوربا.

مبادئ ديمقراطية بطابع كوني

إن تيار «الثقافة الرائدة» داخل ألمانيا، يقف على النقيض من تيار «الوطنية الدستورية». فإذا كان التيار الأول يعلي من قيمة هوية جمعية على الهوية الفردية، فإن تيار «الوطنية الدستورية» جاء كرد فعل على الأخطاء والجرائم التي ارتكبت باسم الوطنية الألمانية. وبالنسبة لهذا التيار فإن الدستور لا يعبر عن أمة، ولكن عن مبادئ ديمقراطية تتمتع بطابع كوني.

إن الوطنية الدستورية في مفهوم كل من عالم السياسة الألماني، دولف ستيرنبرغر والفيلسوف يورغن هابرماس تقوم على مطلبين أساسيين:

أولًا- ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي وأخطائه (القدرة على النقد الذاتي التاريخي).

وثانيًا- الاستعداد للدفاع عن القيم الليبرالية – الديمقراطية.

وصف ستيرنبرغر في محاضرة له ألقاها في الأربعينيات المواطن «كذات مفكرة ومسؤولة داخل جماعة سياسية». وهذه الجماعة السياسية يتوجب أن نفهمها برأيه كمجتمع مدني يتكون من مواطنين أحرار ومتساوين. إنه نموذج لم يتحقق من قبل في رأي ستيرنبرغر في التاريخ الألماني. وفي رأيه كلما تقدمنا في مشروع المواطنة، أي كلما شاركنا في إدارة مصير مجتمعاتنا وفي تشكيل دولتنا؛ ازددنا مدنية. إن أهم نقطة فيما كتبه ستيرنبرغر، كما يرى عالم السياسة الألمانية يان فيرنر مولر، تكمن في تحريره لمفهوم المواطن من حمولته السلبية التي نجدها عند منتقديه مثل ماركس ونيتشه، ليضعه في قلب الفكرة السياسية. إن شخصية المواطن كما يرى ليست بالضرورة سيئة أو تقوم على النفاق كما تقول الماركسية. وفي الآن نفسه يتساءل إذا ما كان بإمكاننا أن نكون مواطنين من دون أن نعتقد أننا محاربون، دون فكرة البطولة؟ في مقال آخر سيفرق ستيرنبرغر بين مفهوم «البلد» Heimat ومفهوم «الوطن» Vaterland مؤكدًا أن مفهوم الوطن يرتبط دائمًا بمسؤولية سياسية، ويتطلب مواطنين راشدين. إنه مفهوم لا يتحقق إلا في الدستور. فهو لا علاقة له بكل تلك الخطابات التي تتحدث عن الأصل والهوية وروح الشعب. وحبنا لهذا الوطن لا يتحقق عاطفيًّا بل يمر عبر حريتنا ومشاركتنا في دستوره الواقعي. إن المواطن ليس جنديًّا، تتحقق مسؤوليته كطاعة، والجمهورية برأيه ليست جيشًا، يطلب من جنوده الطاعة والاستعداد للتضحية.

سيتبنى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في أواسط عقد الثمانينيات مفهوم الوطنية الدستورية الذي نحته عالم السياسة دولف ستيرنبرغر، ويمنحه بعدًا كونيًّا ونبرة نقدية ذاتية. لقد بدأ أولًا بإعادة النظر إلى الموقف الذي عبرت عنه مدرسة فرانكفورت النقدية بالدستور والقانون حين شككت فيهما واعتبرتهما أدوات بورجوازية، لكن هابرماس سيطور نظرية تواصلية، عبرها سينتقل بالمدرسة النقدية إلى فهم جديد لدولة الحق والقانون وللديمقراطية، وخصوصًا خلال النقاش الذي دار في الثمانينيات حول الهوية السياسية لألمانيا الاتحادية (Historikerstreit) وهنا، وضد تلك المحاولات التي كانت تدعو إلى دعم وعي قومي ألماني، من أجل دعم ارتباطها بالغرب، رأى هابرماس أن طريق الارتباط الوحيد بالغرب يمر عبر وطنية دستورية، وعبر الارتباط بالقيم الدستورية الكونية، تلك القيم التي برأيه لم تعرفها ألمانيا وثقافتها إلا بعد وعبر آوشفيتز (المحرقة). فبالنسبة لهابرماس، فإنه لم يبق لألمانيا، بسبب ماضيها المظلم، سوى الارتباط بمبادئ سياسية كونية، وعبر تلك المبادئ يتوجب عليها الدخول في حوار نقدي مع تقاليدها القومية وممارسة النقد الذاتي. إن الهوية ما بعد التقليدية، كما يسميها هابرماس، تفقد طابعها الجوهراني؛ لأنها تتحقق في سياق الفضاء العام فقط، كوطنية دستورية.

حوار نقدي مع الماضي

لقد ربط هابرماس دائمًا بين الوطنية الدستورية وبين ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي ومع التقاليد الألمانية. أما واجب المواطنين فلا يتمثل فقط في الوفاء بمبادئ الدستور، ولكن أيضًا في الممارسات التواصلية التي تبحث عن تحقيق تفاهم حول التأويل الصحيح لتلك المبادئ. فالوطنية الدستورية هي صيرورة وممارسة، وعلى المواطنين ألا يهتموا فقط بالدستور، ولكن أن ينخرطوا أيضًا في النقاشات التي يعرفها الفضاء العام. إن مفهوم الوطنية الدستورية يدعم، في رأي عالم السياسة الألماني يان فيرنر مولر، تعايش الثقافات المختلفة داخل المجتمع الواحد. بل يظهر أنه الضمان العقلاني للحفاظ على التعدد الثقافي والوقوف ضد سيطرة ثقافة الأغلبية. فكل ثقافة لا تحترم تلك القيم الكونية، تهدد العيش المشترك.

تقدم الوطنية الدستورية إذن ضمانًا لوحدة المجتمع، متجنبة المخاطر التي قد تنتج عن الوطنية في نسختها التقليدية. وهي بذلك تختلف عن القومية الليبرالية، وعن التصورات التقليدية التي تقدمها المدرسة الجمهورية. فالوطنية الدستورية تعتبر مصدر الثقة السياسية السائدة بين المواطنين، وتساهم في استقرار المجتمع. كما أنها تدعو المواطنين للاتحاد ضد الأخطار التي تهدد مبادئ الدستور، كما تحثهم على العمل على تحسين أداء مؤسساتهم أو انتقادها. ولأنه لا يمكن أن يحدث توافق بين مبادئ الدستور وواقع الدستور؛ لأن الواقع غالبًا ما يكون أصغر من المبادئ، فإن الوطنية الدستورية تتميز بخاصيتين أساسيتين:

أولًا- إنها تحقق الاستقرار.

ثانيًا: إنها تشحذ العقل النقدي للمواطن، بل قد تذهب بالنقد إلى مستوى التمرد المدني.

اعتزاز قومي لا يقبل المساءلة

ما لا يمكن تصوره لدى الوطنيين الدستوريين، كما يكتب يان فيرنر مولر، هو ذلك الاعتزاز القومي الذي لا يقبل المساءلة، أو تلك السردية القومية المغلقة، التي لا تتحدث إلا عن الانتصارات والبطولات، وهو أمر ممكن لدى القوميين الليبراليين. إن هابرماس يتحدث عن تضامن بين غرباء، يتأسس على القانون. وعلاوة على ذلك، من الخطأ اعتبار الوطنية الدستورية نوعًا من العلاقة العمودية بين المواطنين والدولة، بل هي لا تتحقق إلا في العلاقة بين المواطنين أنفسهم، بين مواطنين أحرار ومتساوين.

تملك الوطنية الدستورية أهمية كبيرة في سياق النقاش الدائر حول الاندماج، سواء تعلق الأمر باندماج المهاجرين في مجتمعهم الجديد، أو باندماج الدول في إطار أكبر كالاتحاد الأوربي مثلًا. ففيما يتعلق باندماج المهاجرين، فإن الوطنية الدستورية ترفض فرض ثقافة الأغلبية المجتمعية عليهم. وبدلًا من ذلك تدعو الأقلية والأغلبية إلى الاتفاق على مبادئ عامة للعيش المشترك داخل الدولة الواحدة التي لا يتوجب القفز فوقها سواء باسم الثقافة أو الدين. أما القومية الليبرالية فإنها تعتمد مفهومًا ضيقًا عن الثقافة القومية، يقوم في نهاية المطاف على أحادية ثقافية. إنه يقوم على مبدأ الانتماء -انتماء غير محايد إلى ثقافة معينة- وليس على المسؤولية تجاه الدستور، وهو ما تعبر عنه بوضوح قضية منع الحجاب في بعض البلدان الأوربية، وما تطمح لفرضه على المجتمع أحزاب يمينية ويمينية متطرفة، كما هي الحال مع حزب «البديل من أجل ألمانيا».