أزمة جامعة أم أزمة مجتمع؟

أزمة جامعة أم أزمة مجتمع؟

أذكر أن أول مرة أضطر فيها للتفكير في الجامعة كمؤسسة، كان في درس للمتخصص الشهير في الدراسات الكانطية راينهارد براندت، الذي قضينا رفقته في جامعة ماربورغ فصلا دراسيًّا كاملا نقرأ كتاب «صراع الكليات» للفيلسوف إيمانويل كانط. أتذكر أيضًا أننا كنا طلبة من بلدان مختلفة، أغلبهم جاء من جامعات إيطالية أو إسبانية وبعضهم من كوريا واليابان، وكان من بيننا مترجم إسباني، أرسلته دار نشر إسبانية خِصِّيصَى لمتابعة هذا الدرس معنا؛ لأنه كان بصدد إنجاز ترجمة جديدة لهذا الكتاب.

كان كتاب «صراع الكليات» الذي صدر في عام 1789م من آخر الكتب التي أصدرها كانط خلال حياته إلى جانب كتابه «الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية»، ويمكن أن نحسبه لا ريب على الكتب التي تدخل في باب مرافعته من أجل التنوير، ولربما هذا ما جعل الرقابة البروسية تمنع صدوره، ولن يتمكن كانط من نشره إلا عندما استلم فريدريش فيلهلم الثالث مقاليد السلطة. تتمحور الفكرة الأساسية للكتاب حول أن أهمية العلوم لا تكمن في الفائدة المرجوة منها ولكن في الحقيقة التي تقدمها.

وعبر نقده لمؤسسة الجامعة في عصره، كان كانط يدعو لحرية أكاديمية أكبر للعلوم الإنسانية والعلوم الحقة تجاه الرقابة والدولة، منافحًا في الآن نفسه عن فكرة أن تقود شعبةُ الفلسفةِ الشُّعَبَ الثلاثَ الأخرى داخل الجامعة، التي هي اللاهوت والقانون والطب، باعتبار أن موضوعها هو العقل، وأن العقل هو الطريق الوحيد إلى الحرية والحقيقة. إن كتابه: «صراع الكليات» ينضاف لا ريب إلى سلسلة الكتب والمقالات التي دبجها دفاعًا عن التنوير، وعن مبدأ التفكير الذاتي المتحرر من كل وصاية وخصوصًا تلك المتعلقة بالرقابة السياسية أو الدينية المفروضة على النشاط الفلسفي في الجامعة، وعلى العقل وما ينتجه من معارف.

الجامعة موضوعًا للتفكير الفلسفي

ولأول مرة ستتحول مؤسسة الجامعة إلى موضوع للتفكير الفلسفي في تاريخ الفلسفة، وسيفتح عمل كانط الباب أمام فلاسفة آخرين لكي يفكروا من جهتهم في الجامعة؛ منهم: فيشته، وشيلينغ، وهيغل، وشلايرماخر، وصولًا إلى هايدغر الذي سيستبدل في خطابه الافتتاحي كرئيس لجامعة فرايبورخ سنة 1933م، مبدأَ الزعيمِ بمبدأ العقل، كما أوضح دريدا في «سياسات الصداقة». إذ على الجامعة الألمانية أن تكون معبِّرة عن الجوهر الألماني الخالص. ومقارنة مع كانط وعقله التوَّاق للاستقلال عن كل سلطة خارجية، يبدو مشروع هايدغر، مشروعًا رجعيًّا إلى حد كبير. سينتبه دريدا إلى لغة هايدغر في هذا الخطاب الذي سيطرت عليه كلمتا «الكفاح» و«إرادة القول»، في سياق تاريخي سيطر عليه مفهوم «الزعيم». إن مشروع هايدغر لإصلاح الجامعة الألمانية هدف إلى توحيد القوى العقلية لخدمة جوهر محدد، ولكنه في النهاية كان يهدف لإعلاء صوت الزعيم فوق صوت العقل، ولكن لربما يكون ذلك التأليه للعقل لدى كانط وكل المثالية الألمانية، قد عبَّدَ الطريق لمثل هذا التحول. أما دريدا الذي انتقد هايدغر وخطابه الافتتاحي في «سياسات الصداقة»، فسيَعمِد هو الآخر إلى التفكير في الجامعة في كتابه «الجامعة غير المشروطة»، ولن يبتعد كثيرًا عن كانط فيما سيقوله في هذا الكتاب، إذ سيدعم حق الجامعة في الدفاع عن نفسها ضد كل أشكال السلطة، وهو حق عليها أن تفكر به وتطوره. وفي الكتاب نفسه سيطالب دريدا العلوم الإنسانية بإعادة النظر بتاريخها ومفاهيمها وإلى أن تكون مكانًا للاختلاف والتفكيك.

إيمانويل كانط

لو كان لي أن أختار بين موقف من الموقفين الأساسيين اللذين حكما التفكير في الجامعة داخل الفلسفة الغربية؛ أي الموقف الذي يربطها بالعقل أم الموقف الذي يربطها بالهوية، لتوجَّب عليَّ، لا ريب، أن أرفض الموقفين معًا، وسأرفض الموقف الكانطي الذي يتردد صداه عند دريدا أيضًا؛ لأنه موقف غير واقعي، فلا يمكن للعقل أن يحكم الجامعة؛ لأنه أولًا لا وجود لشيء اسمه عقل بالمُطلَق، كما أنه لا يمكن لهذا العقل أن يتمتع بالحرية؛ لأن الحرية نفسها أضحت اليوم شأنها في ذلك شأن العقل موضع سؤال. وثالثًا، لأنه من الوهم أن نتحدث عن حرية مؤسسة تخضع للدولة، ولسياساتها ومرتبطة بدعمها. وقد نستمر في نقد هذا الموقف إلى ما لا نهاية. أما موقف هايدغر، فيمكن أن أقول، بأنه رغم كل الانتقادات التي وُجِّهت إليه، أقرب ما يكون إلى ما نحتاجه اليوم، نعم نحتاج لجامعة تعبر عن هوية السياق العربي، لكن اختلافنا مع هايدغر يتعلق بطبيعة هذه الهوية، ففي الوقت الذي يفهمها هايدغر بشكل قومي، أفهمها بوصفها هوية اجتماعية، وبلغة أخرى: إن هوية الجامعة أسئلة مجتمعها.

الجامعة والابتزاز النيوليبرالي

يتوجب على الجامعة في السياق العربي ألّا تخضع من جهة أخرى للابتزاز النيوليبرالي، الذي يبحث عن «الفائدة» خارج «الحقيقة»؛ لأن ذلك يعني تخليها عن وظيفتها النقدية، وبلغة أخرى إن مصير الجامعة مرتبط بالمصير النقدي للعلوم الإنسانية، فحين تتحول هذه العلوم عن دورها النقدي، ينتهي دور الجامعة وينغلق أفقها، وتتحول عن دراسة الواقع إلى دراسة التراث أو بالأحرى إلى اجتراره. وبلغة أخرى: هل سيكون على طالب الأدب اليوم أن يدرس الأدب من دون دراسة الكتابة الإبداعية؟ هل طرحنا يومًا السؤال: لماذا نقرأ القدامى؟ هل يكتفي طالب الفلسفة بدور المترجم الرديء للصرعات الأخيرة للفلسفة الغربية وفقاعاتها اللغوية؟ أم يدرسها انطلاقًا من أسئلة مجتمعه؟ هل يمكننا أن ندرس علم النفس من دون أن ندرس التحليل النفسي كعلم اجتماعي؟ هل يمكننا دراسة علم الاجتماع من دون معرفة بالثقافة الشعبية والجغرافيا البشرية للبلد الذي نعيش فيه، ومن دون بحوث ميدانية تُنجَزُ بالتساوق مع الدرس النظريّ، وفوق كل هذا وذاك، هل يمكن دراسة العلوم الإنسانية اليوم باللغة العربية فحسب؟ أخشى أن أقول: إن دولة ما بعد الاستقلال أجهزت على الجامعة المغربية، وأكبر مثال على ذلك أن تبدأ مثل هذه الجامعة بأمثال عبدالكبير الخطيبي وبول باسكون ومحمد عزيز لحبابي، لتنتهي في جبة فقيه.

التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أم موقف متعجرف؟

التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أم موقف متعجرف؟

يملك عنوان كتاب: «التسامح في النزاع» معنى رباعيًّا. أولًا: إن مفهوم التسامح يرتبط صميميًّا بالنزاع؛ لأنه سلوك أو ممارسة، لا يصبح ضروريًّا إلا عند اندلاع نزاع ما. لكن ما تجدر الإشارة إليه خصوصًا في هذا السياق، هو أن التسامح الذي يستوجبه النزاع، لا يحل هذا النزاع، بل يعمل فقط على تسييجه والتخفيف من حدته، أما تناقض القناعات والمصالح والممارسات فيظل قائمًا، لكنه يفقد، نزولًا عند اعتبارات معينة، طاقته التدميرية. ويعني «التسامح في النزاع» أن الفرقاء في نزاع ما، ينتهون إلى اتخاذ موقف متسامح؛ لأنهم يرون أن أسباب الرفض المتبادل تقف حيالها أسباب أخرى للقبول المتبادل، حتى إن كانت أسباب القبول المتبادل لا تسمح بتجاوز أسباب الرفض، لكنها تتحدث لصالح التسامح، بل تطالب به. إن وعد التسامح يقول بإمكانية التعايش في ظل الاختلاف.

وانطلاقًا من هذه الخلفية تطرح سلسلة من الأسئلة نفسها، يجب الإجابة عنها في هذا البحث: ما طبيعة النزاعات التي تستوجب التسامح أو تسمح به؟ ما  موضوعات التسامح؟ ما طبيعة أسباب رفض المتسامح معهم، وكيف يمكن أن نفهم أسباب القبول بهم التي تقف ضدها؟ وأين تقع الحدود الخاصة بالتسامح؟

كان الانشغال بمفهوم التسامح ولا يزال أمرًا ضروريًّا بالنسبة لفلسفة تطمح إلى فهم الواقع الاجتماعي، فالنزاعات، التي تبدو مستعصية على الحل، تنتمي، لا غرو، إلى الحياة البشرية، شأنها في ذلك شأن الرغبة في عدم وجودها. حتى هناك، حيث لم يكن مفهوم التسامح قد أخذ شكله المعاصر، الذي تشكل بعد الإصلاح الديني، كانت الإشكالية معروفة، ولنتذكر في هذا السياق هيرودوت ووصفه لتعدد الثقافات. فالتسامح موضوع عرفته الإنسانية جمعاء، ولا يمكن اختزاله في حقبة معينة أو ثقافة محددة. فمنذ ظهور الدين مثلًا ومشكلة أتباع الأديان الأخرى وأهل البدع وغير المؤمنين قائمة. وعمومًا، فحيثما تكونت لدى البشر قناعات قيمية، تأتي المواجهة مع الآخرين لتمثل تحدِّيًا لها. تحدٍّ لا يمكن الإجابة عنه انطلاقا من تلك القيم المشكوك فيها. لكن، حتى يؤدي هذا التحدي إلى تشكل موقف متسامح، يشترط القيام بعمل معقد على القناعات الشخصية. إذن، منذ زمن والكفاح قائم ضد ما يصطلح عليه انطلاقًا من مرحلة زمنية محددة بـ«اللاتسامح». هذا اللاتسامح الذي يبدو الظاهرة الأصلية، التي تتطلب رد فعل مُرضٍ ومتوازن وأخلاقي.

ويعني «التسامح في النزاع» ثانيًا، أن مطلب التسامح لا يمكن أن يتحقق فيما وراء الصراعات التي يعرفها مجتمع ما، بل يُولَد في رحمها، بشكل يجعل الشكل الواقعي للتسامح مرتبطًا بالظروف التي تحيط به. إن التسامح يوجد داخل النزاع، إنه تحزب، حتى لو وجب أن تقوم بنية التسامح، وفقًا لأسسها المعيارية، ضد كل شكل من أشكال التحزب لأجل أن يتحقق تسامح متبادل. ورغم أن التسامح يطلب تحقيق التوازن، لكنه لا يعني «الحياد». بل هو دعوة عملية إلى أطراف الصراع، بشكل مختلف جدًّا، مرة إلى النأي بأنفسهم عن التحيز، ومرة كمحاولة للحفاظ على علاقات القوى القائمة عبر ضمان للحرية. وهكذا فإن تاريخ التسامح وحاضره، كما سيظهر لنا ذلك، هو دائمًا تاريخ الصراعات الاجتماعية وحاضرها. إن مفهوم التسامح متجذر في هذا التاريخ، وكي نفهمه في كل تعقيده، يجب علينا استعادة هذا التاريخ. وبذلك يرتبط المعنى الثالث لعنوان الكتاب.

التسامح إهانة

إن التسامح ليس مطلوبًا فقط في ظل صراعات محددة، ولا يمثل فقط في النزاعات الاجتماعية دعوة خاصة إلى أطراف الصراع، بل إنه في حد ذاته موضوع لتلك النزاعات. وفي تاريخ المفهوم كما في حاضره، لا يظل معنى التسامح ضبابيًّا فقط، بل موضع خلاف بشكل عميق. إذ قد يُنظَر مثلًا إلى السياسة نفسها أو السلوك من جانب معين كتعبير عن التسامح، ومن جانب آخر كفعل غير متسامح. بل الأفدح من هذا وذاك، يتمثل في النزاع حول ما إذا كان التسامح عمومًا أمرًا خيّرًا. ففي الوقت الذي يعدّ بعض التسامح فضيلة يدعو إليها الرب أو الأخلاق أو العقل أو على الأقل الفطنة، يرى آخرون أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي بالقوة. ويرى بعض آخر أن التسامح تعبير عن اليقين الذاتي وقوة الشخصية، ولبعض آخر موقف، مصدره عدم الشعور بالأمان، وهو الإذعان والضعف، ويمثِّل لبعض تعبيرًا عن احترامهم للآخرين أو تقديرهم للأجنبي، في حين يُعَدّ التسامح لآخرين موقفًا ينمّ عن اللامبالاة والجهل والانغلاق على الذات. ولا نعدم أمثلة عن مثل هذه الآراء المتناقضة، فلنتذكر فولتير أو ليسينغ ومديحهما للتسامح كرمز للإنسانية الحقّة والثقافة السامية، في حين تحدث كانط عن «الاسم المتعجرف للتسامح» في حين نصادف عند غوته في النهاية الجملة الأكثر شهرة في سياق النقد الموجه للتسامح: «يجب على التسامح أن يكون موقفًا مؤقتًا فقط: عليه أن يقود إلى الاعتراف. فالتسامح إهانة».
ويقول المعنى الرابع أخيرًا إن الاختلافات المتعلقة باستعمال وتقييم مفهوم التسامح، تعود إلى التصورات المختلفة التي نشأت عبر التاريخ، وفي صراع بعضها مع بعض، حول هذا المفهوم. وهكذا يوجد داخل مفهوم التسامح صراع، سوف أستعرضه تحت المفاهيم العامة «للسلطة» و«الأخلاق»، بل أكثر من ذلك، ليس هناك فقط تصورات مختلفة عن التسامح، بل أيضًا سلسلة غنية من الأسس المختلفة للتسامح؛ دينية، وسياسية ـ براغماتية، ومعرفية، وأخلاقية، حتى تلك المتعلقة بعلم الواجبات. وهذه الأسس، ولِمَ لا، تقف هي الأخرى في صراع بعضها مع بعض. وفيما يلي عرض نسقي لهذه التصورات والأسس وللسؤال عن الأقرب منها إلى الصواب. تشكل هذه المعاني الأربعة لعنوان كتاب «التسامح في الصراع» منطلق التحليل الفلسفي الذي سأقوم به لهذا المفهوم. إن حاضرنا مطبوع وإلى حد كبير بالصراعات، ويبدو أن التسامح وحده قمين بتحقيق مخرج منها. وليس فقط داخل المجتمعات التي تتميز بتعدد الأديان وأشكال الحياة الثقافية والجماعات المختلفة، يطرح مشكل التسامح، وبشكل متنوع، نفسه. والحروب الأهلية، التي يعرف أطراف النزاع أنفسهم فيها بشكل إثني أو ديني تؤكد هذا الأمر بشكل كبير، لكن حتى داخل المجتمعات المنظمة بشكل ديمقراطي نقف على نزاعات عميقة حول قضية أين يجب أن يبدأ التسامح وأين ينتهي. وعلى المستوى الدولي نشهد دعوة إلى التسامح؛ بسبب الصراعات المتعددة وإكراهات الفعل المشتركة، ضد سيناريو صراع الحضارات. وبالنظر إلى هذه الوضعية تعالت الدعوة إلى التسامح سواء من جانب أحادي أو من جوانب متعددة، وأضحت عملية توضيح هذا المفهوم أمرًا ملحًّا، سواء فيما يتعلق بمعنى هذا المفهوم أو بطريقة تقييمه.

وتظهر هذه الأفكار الأولية أن تحليلًا شاملًا لهذا المفهوم يستدعي أخذ ثلاثة عناصر جوهرية بعين الاعتبار. يجب على هذا التحليل أولًا أن يتأكد من تاريخ المفهوم من أجل معرفة أوجه الصراع حوله ومضامينه في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه. إذ الوعي بالتعقيد الذي يطبع تاريخ التسامح كفيل وحده بأن يعمق الوعي بالتعقيد الذي يطبع حاضره. وفي هذا السياق ليس من الممكن فقط، بل من الضروري مراجعة القراءات الأحادية البعد لهذا التاريخ والأحكام والأحكام المُسبَقة حول التسامح، مثلًا حول التسامح لدى المسيحيين أو الحركة الإنسانوية أو لدى المذهب الشكي، وفي ظل الدول الحرة والليبرالية والأنوار. وسيظهر للعيان غنى الحجج التي قام عليها التسامح، وفي أي سياقات نشأت هذه الحجج وأية قوة نسقية، متجاوزة للسياق الذي نشأت فيه، تتمتع بها. وأخيرًا يجب أن تكون هذه النظرة إلى التاريخ نظرة جينالوجية، تظهر كيف أنه في «تاريخ الحاضر» كان ولا يزال للتسامح علاقة ملتبسة مع السلطة.

ويجب على هذا البحث النظر ثانيًا في الأبعاد الحاسمة التي تميز المفهوم وبخاصة المعيارية منها والإبستمولوجية. والهدف من ذلك بناء نظرية للتسامح انطلاقًا مما يمكن العثور عليه في التعددية من مسوغات له، من أجل تجنّب مآزق المحاولات البديلة. وبناءً عليه ثالثًا، أن يضع المفهوم، وقد أُوضِح بهذه الطريقة، في سياق نزاعات الحاضر السياسية وفحص مضمونه بشكل ملموس، مما يتطلب ألّا نسأل فقط عما يجعل الشخص متسامحًا، بل أيضا عما يصنع المجتمع المتسامح. إنها المهمة التي يحملها هذا البحث على عاتقه، وهذا يتطلب إبداء ملاحظة محددة، وهي أنه لا يمكن في هذا السياق إنجاز بحث «شامل» حقًّا، بمقدوره استعادة، وضمن المنظور التاريخي أيضًا، طاقات التسامح الكامنة في جميع الأديان. ولأن فكرة نهائية العقل البشري تلعب دورًا مهمًّا في استدلالي، فإنه من المرغوب فيه أن يكون المرء على وعي بها في هذا المكان أيضًا.

تصور مركب ومعياري

وبالنظر إلى ذلك، سيتمحور الأمر فيما يلي حول فهم نسقين ومناقشتهما، ينطلقان من السياق المعين للأدلة، التي طورها الخطاب الأوربي لصالح التسامح منذ الرواقيين، وصولًا إلى صياغة اقتراح نسقي خاص، يستند إلى هذه الخلفية، يجب أن يتمكن من إثبات صلاحيته في سياقات أخرى. تعكس الأدبيات المتنوعة والواسعة حول هذه المسألةِ ذلك الغموضَ، الذي يعود إلى الصراع التحليلي والمعياري، الذي سبق ذكره، ويميز مفهوم التسامح؛ لذلك ثمة أسباب جيدة لعدِّه «مفهومًا من الصعب الإمساك به فلسفيًّا». وإنني لأتحدث عن مفهوم «مختلف عليه»، لكنني أعتقد أيضًا أن أسباب هذا الشجار يمكن تفسيرها تاريخيًّا ونسقيًّا. ففيما وراء الاختيار بين دفاع أحادي البعد عن فهم معين للتسامح، يتعامى عن الصور التكوينية الأخرى والمجردة لهذه المعاني جميعها، يبقى الطريق مفتوحًا إلى تصور مركب ومعياري للتسامح. ومع ذلك، لا يسد بحث من هذا النمط وبهذا المعنى وحده ثغرة قائمة في أدبيات التسامح، بل هو حاجة منهجية أيضًا، ما دامت معالجة التسامح تنقسم عادة إلى مجالات خاصة بما هو تاريخي، معياري (غالبًا دون الإبستمولوجيا والبعد النفسي)، أو «الإثيقا التطبيقية» (أو السياسية التطبيقية والنظرية الحقوقية). وقد حاولت التأليف بين هذه المنظورات.

قد يكون أمرًا مفيدًا أن أعرج باختصار في هذا الموضع على الأفكار الأساسية الواردة في جزأي الكتاب. لكنني، وبالنظر إلى وفرة طرائق فهم التسامح وتقويمه في التاريخ والحاضر، سأبدأ بمعارضة الشبهة التي تفرض نفسها، وهي أننا لن ننشغل بمفهوم واحد للتسامح، بل بعدد كبير من مفاهيمه. في رأيي، وكما سبق لي القول، من الضروري الانطلاق من مفهوم (أو تصور) واحد للتسامح، وكذلك من تنوع رؤاه (أو تصوراته) – التي أميز بين أربع منها. وترتبط هذه التصورات بمسوغات مختلفة للتسامح، علما بأنه ليس لكل تصور مسوغ واحد وحسب. إن تطوير نسق خاص بمسوغات التسامح هو هدف الجزء الأول من هذا البحث.

إن بنية مفهوم التسامح، المعروضة في الفصل الأول والمفارقة من وجوه متنوعة، تعطينا هدف البحث بصورة سابقة، والمتمثل في تفكيك هذه المفارقات. أما أطروحته المركزية، فتبدو بدورها في كون تصور التسامح وتقويمه الذي أقترحه، متفوقًا في هذا المنظور على ما عداه من تصورات. وإلى جانب ذلك، سيظهر في القسم الأول أن خطاب التسامح يتسم، إذا ما ألقينا عليه نظرة تاريخية، بمنظورين يتموقع أحدهما فوق الآخر: منظور تاريخي للدولة بالأساس، يمكن عدّه منظورًا «عموديًّا» أيضًا، ومنظور «أفقي» بيذاتي. في المنظور الأول، يفهم التسامح أساسًا بصفته ممارسة سياسية، شكلًا من أشكال سياسة الدولة، شغله الشاغل صيانة السلام والنظام العام والاستقرار والقانون أو الدستور – ومع هذا كله أيضًا: الحفاظ على السلطة. أما في المنظور الثاني، فيفهم التسامح كسلوك، أي كخلق يتحلى به أشخاص في سلوكياتهم، وفي تصرفاتهم إزاء النزاعات التي تنشب بينهم بسبب قناعاتهم المختلفة، يبدو التسامح مسلكًا مناسبًا وصحيحًا بالنسبة لهم. هذان المنظوران لا يمكن الفصل دومًا بينهما بوضوح، وهما يفعلان فعلهما في وقت واحد لدى بعض المؤلفين، مع أن التفريق بينهما يوضح بدرجة رفيعة خطاب التسامح المعقد.

يساعد هذا التمييز على إثبات وجود تطور موازٍ وغني بالصراع، في آنٍ واحد، ضمن هذا الخطاب، يتخذ شكل عقلنة للسلطة السياسية من جانب، وعقلنة للأخلاق من جانب آخر، علمًا بأن الأولى تعني أنه تكون على مر الزمن استقلالًا متعاظمًا لسلطة الدولة عن سلطان الكنيسة، وجرى (تدريجيًّا) التحرر من الشرعية الدينية، بحيث يقود منظور نظرية الدولة من جهة إلى تسويغ سياسي أولي للتسامح بما هو تدبير خاص بدولة ذات سيادة، التي تعترضها من جهة أخرى أسئلة نقدية تضع شرعيتها موضع سؤال ومطالب بالحرية من جانب المواطن. إن القول، في سياق عقلنة السلطة: إن سياسة التسامح هي دومًا سياسة سلطوية أيضًا، لا يعني فقط أن المطالبة بالتسامح هي شكل من أشكال نقد السلطة غير المتسامحة وحسب (وهو تاليًا شكل من أشكال السلطة)، إنما يعني أن السلطة السياسية السائدة تطمح هي نفسها للإفادة من التسامح، وترى في السياسة المتسامحة استمرارًا أكثر عقلانية لحكمها بوسائل أخرى. علمًا بأن طابعها يبدل خلال ذلك من سلطة « قمعية » إلى سلطة «رعائية حاكمة ومنتجة»، حسب قول ميشيل فوكو – سلطة تقرر محددات تتصل بما هو «معياري» و«منحرف عن المعايير»، ويمكن أن نميز فيها ما يمكن وما لا يمكن التسامح معه. هذه السلطة لا تحكم من خلال تقييد مباشر للحرية، بل عبر ضمانها بصورة قصدية ومحدودة، وليس عبر عمليات الإقصاء، بل من خلال احتواء يستهدف الضبط والتحكم وفي الوقت نفسه التحرير.

ترتبط عقلنة الحجج المعيارية المؤيدة للتسامح ارتباطًا وثيقًا بعقلنة هذه السلطة، مع أنها تتعارض معها من منظور معياري. هنا، يتبلور تسويغ أخلاقي متعاظم وقائم بذاته لمطلب التسامح باسم العدالة، وطبعًا، من ناحية سجالية ضد التعصب الديني، والدولوي والمدني، لكن أيضًا ضد ممارسات التسامح الأحادية الجانب والتراتبية. وثمة، في المنظور الأخلاقي الفلسفي، نزوع إلى إضفاء طابع مستقل على الحجج الأخلاقية، ليس فقط اتجاه المسوغات الدينية، إنما أيضًا اتجاه تعليلات التسامح، التي تقوم على تصورات معينة، كتلك المتعلقة بـ«الحياة الخيّرة». ولا يواكب الوعي بتنوع تصورات الخير تطور فكرة التسامح فقط، بل يلازم أيضًا شرعية هذه التعددية. وبذلك يصير الحديث عن «خطاب التسامح» انعكاسيًّا، ويصف –استنادًا إلى مفهوم الخطاب عند يورغن هابرماس- خطاب شرعنة التسامح، الذي يجب على الحجج المعيارية دعمه، بما أن لها، بذلك، نوعية معيارية تراتبية وملزمة، تبرز في مواجهة القناعات والسلوكات القيمية المنخرطة في النزاع. هكذا يكون تاريخ التسامح تاريخَ تبلورِ فهمٍ جديد للأخلاق، ونظرة جديدة إلى هوية الأشخاص الإثيقية والقانونية والسياسية والأخلاقية، وهو تاريخ مفعم بالصراع لمطالب معيارية وللنزاعات ولإعادة تعريف مستمرة لفهم الإنسان لذاته.

تنافر السلطة والأخلاق

يتابع عرض خطاب التسامح التاريخي في القسم الأول قصدًا ديالكتيكيًّا مزدوجًا. ينصب الأمر أولًا على موقعة خطاب التسامح في حقل التوتر الواقع بين السلطة والأخلاق، من أجل إبراز دينامية تطور التسامح المعيارية والمجتمعية، وإظهار أن تنافر مساري الأخلاق والسلطة يجعل مطلب التسامح مدفوعًا بالمساءلة المستمرة لشرعية علاقات التسامح القائمة. ويحرر تاريخ العقلنة المزدوجة منطق حيازة الحق في التسويغ، الذي مثل في الشكل التاريخي السائد، نقدًا محسوسًا للتعصب أو للتسامح الخاطئ، وقاعدة لمطالب الانعتاق، وفي الوقت نفسه، ومن منظور معياري، أرضية تعليل ما أعتقد أنه تصور التسامح النقدي ـ الانعكاسي الأكثر جذرية. هذه الأرضية هي بالتالي وبالقدر نفسه «حقيقة تاريخية»، مثلما هي

«حقيقة العقل».

ثانيًا- ينجم عن مسار القسم الأول نسق يتصل بتصورات وتعليلات التسامح التي عرفها التاريخ، وتشكل الأساس اللازم لمناقشة مزاياها ومثالبها، ولنظرية تتخطاها، تطويرها سيكون مهمة القسم الثاني. وهنا يظهر، ليس فقط بالنظر إلى تنوع التصورات الأخلاقية المتضاربة حول الخير، لكن أيضًا بسبب تنوع تعليلات التسامح الضيقة، التي، في سياق جدلي، تبرز خطورتها المتمثلة في الانحسار ضمن حدود ضيقة. هنا يظهر إذن أن مفهومًا معياريًّا ومستقلًّا للتسامح، ومتجاوزًا تلك المفاهيم الضيقة، أمر لا مناص منه، مفهومًا يقوم على القانون الأساس، الذي هو محرِّك خطاب التسامح التاريخي. هكذا تتوافر لنا إمكانية بناء نظرية عن التسامح ذات تسويغ انعكاسي – أخلاقي، لا أساس فيها للتسامح غير مبدأ التسويغ المتجاوز نفسه. أما النكهة النسقية للنظرية المقترحة فتكمن في ظهور مبدأ التسويغ، أو الحق فيه بوصفه جوهر مفهوم التسامح، سواء في المنظورين التاريخي أو النسقي، بما أن الأمر الجوهري في التسامح ينصب على الأسباب التي تسوغ حريات معينة أو تبرر تقييدها. أن نفسر لأنفسنا هذا انعكاسيًّا وتوليديًّا، يعني عندئذ أننا قمنا بخطوة حاسمة نحو تقديم جواب عن السؤال حول قاعدة التسامح.

وعبر تبني فكرة نظرية للتسامح، مستقلة عن المذاهب الأخلاقية المختلف عليها لكن التي من الممكن ربطها رغم ذلك معها، وهي بمعنى محدد نظرية «متسامحة» حول التسامح، أنضم إلى جون راولز في فكرة مركزية طورها في سياق نظريته عن العدالة. لكن هناك في الوقت نفسه، يكمن الفارق الأكبر أيضًا، الذي يفصلني عن راولز؛ لأن هذا لا يقودني إلى تصور «سياسي» حول التسامح، يمثل حصرًا نقطة تقاطع إجماع لمذاهب إثيقية، بل يأخذني إلى تصور للتسامح كانطي الوجهة، يمتلك أساسًا أخلاقيًّا مستقلًّا، يتأصل في نهاية الأمر في مفهوم محدد للعقل العملي – التبريري – والاستقلالية الأخلاقية.

سيجري عرض نواة التصور المقترح حول التسامح ضمن القسم الثاني، على أنه سيأخذ أول الأمر صورة نظرية للتبرير العملي، تعني أن المعايير في السياق، الذي تدعي فيه الصلاحية المتبادلة والعامة، يجب أن تكون معللة بصورة متبادلة وعامة – أو في لغة أدق: لا يجوز أن تكون قابلة للرفض بصورة عامة ومتبادلة. استنادًا إلى مبدأ العقل العملي، وبفضل معايير التبادلية والعمومية، تنشأ إمكانية التفريق بين معايير ملزمة أخلاقيًّا وبين القيم الإثيقية، التي يمكن للمرء، في استقلال عن الاعتبارات الأخلاقية، قبولها أو رفضها معياريًّا (أو ألّا يكترث بها). ينشأ، بناءً على هذه القاعدة، ذلك التمييز التكويني لمسألة التسامح بين 1. تصورات الخير الإثيقية الخاصة، التي يوافق عليها المرء بتمامها، 2. المعايير الأخلاقية ذات الصلاحية العامة، 3. تصورات الخير الأخرى، التي ينتقدها المرء أو يرفضها، لكنه يستطيع التسامح معها، و4. تلك الأفكار، التي لا يدينها المرء بالدرجة الأولى لأسباب إثيقية، بل لأسباب أخلاقية، لانتهاكها مبادئ التبادلية والعمومية. لكنه سيظهر على كل حال، أن التفريق، بخصوص صراعات تسامح محددة، بين معايير أخلاقية وقيم إثيقية، يصير هو نفسه موضوع صراع، وأنه يجب إعادة تعريفه، على ألّا يتم مبدئيًّا الشك في بنيته، وإلا كان التسامح، الذي يُبرَّر بصورة متبادلة، أمرًا مستحيلًا.

يتضح إذن إلى أي حد يمثل احترام آخرين، يعدّون أشخاصًا مستقلين أخلاقيًّا، قاعدة للتسامح، وإلى أي حد يعد التسامح فضيلة أخلاقية للعدالة – وفضيلة أساسية للعقل العملي. هذا التصور يجب أن يسمح بمقايسته في نهاية الأمر مع تصورات وتسويغات التسامح البديلة، الكلاسيكية والمعاصرة، التي يتنازع معها، وأن يظهر إلى أي حد هو متفوق عليها، أي إلى أي حد هو محق حين يدّعي أنه نظرية مستقلة ومتفوقة.

وفي خطوة تالية، سأعالج التضمينات الإبستمولوجية لمفهوم «التسامح القائم على الاحترام»، الذي أفضله على غيره. هنا، سيكون على مفهوم العقل العملي، الذي سبق استعماله، الإفصاح عن جانبه النظري، أعني: أي تصور «للحقيقة »الإثيقية –فيما يخص القناعات الخاصة وقناعات الآخرين– يتفق مع النظرية المعيارية؟ وهل هو تشككي أم نسبي، خاطئ، تعددي أم واحدي، إذا ما اكتفينا بذكر بعض هذه التصورات؟ وبالتلازم مع النقاش المعياري، سيجري هنا القيام بمحاولة لتبني رؤية إبستمولوجية أرقى تضفي طابعًا نسبيًّا ذاتيًّا على ادعاءات الحقيقة الإثيقية، دون أن تقود إلى النسبية، أو تستند إلى أي نظرية جزئية أخرى من نظريات الحقيقة. وبقدر ما يتعرف العقل إلى نهائيته الذاتية في مسائل الحقيقة الإثيقية، ينفتح مجال اختلافات أكثر عقلانية، لكنها عميقة الغور مع ذلك، يسمح لها بالتوافق على حدود التفاهم المتبادل. أما النزعة التكوينية المفترضة هنا، فهي من طبيعة عملية وليست من طبيعة ميتافيزيقية.

النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم

أخيرًا، سيكون علينا التساؤل عن طبيعة العلاقة الذاتية، وأي صفات وقدرات انفعالية تسم الشخص المتسامح. وسيظهر أن فضيلة التسامح لا تقول بوجود مثال شخصي أخلاقي معين، وإن كانت بعض القناعات «الثابتة» تستطيع أن تنتمي إليها، وقدرة معينة على التنصل من الذات، ليكون بالإمكان التسامح معها. سأقدم في الفصل الأخير من هذه الدراسة شرحًا سياسيًّا – عمليًّا للتصور المقترح، يبيِّن أنه ليس فقط من الضروري أن ينتمي إليه تصور حول الديمقراطية، يضفي ماهية سياسية على مبدأ التسويغ، بل إن ثمة، وفق أرضية المحاولة المقترحة، إمكانية لبلورة نظرية نقدية للتسامح، لا تستطيع تقديم تحليل نقدي لأشكال التسامح وحده، إنما بوسعها أيضًا نقد أشكال التسامح القمعية والضبطية. انطلاقًا من هذه الخلفية، سيُطرَح السؤال عن «المجتمع المتسامح»، وسيُناقَش بمعونة أمثلة، على أن تُختار صراعات من دول مختلفة، تتصل بمكانة أقليات دينية وثقافية ـ إثنية، وبمسائل التسامح مع علاقات داخل الجنس الواحد، والعلاقة مع مجموعات سياسية متطرفة. سيتضح بجلاء في هذه التحليلات أن مفهوم التسامح مختلف عليه في الحاضر، مثلما كان مختلفًا عليه من قبل، ذلك أن ما نوقش هنا لا يقتصر على حدود التسامح، إنما يشمل بصورة عامة فهمه وتسويغه أيضًا.

هذه مقالة في التسامح. لكن تعقيد مفهومه يجعلها شيئًا يتخطى ذلك أيضًا. إنها تعالج في آن واحد الدينامية المعقدة بين السلطة والأخلاق، والعلاقة بين الدين والإثيقا، وبين القدرة وحدود العقل العملي فيما يتصل بالصراعات الإثيقية العميقة الغور، وأخيرًا بين حتمية وضرورة وجود تصور للأخلاق متعالٍ على هذا الشجار، مستقلّ عن التقويمات المتنازع عليها (إن لم يكن منفصلًا عنها بصورة تامة). ربما تكون العبرة المركزية، التي يجب استخلاصها من الاشتغال بهذه القضية، هي التالية: إن النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم يعني القدرة على التمييز بين ما يستطيع البشر طلبه أخلاقيًّا بعضهم من بعض، وما ربما يكون أكثر أهمية بكثير بالنسبة لهم، ألا وهو أفكارهم حول ما يجعل الحياة خيرة وتستحق أن تعاش. هذا يعني أن علينا رؤية الشجار الذي لا نهاية له، المتصل بالنقطة الأخيرة، ويجب ألّا يمس صلاحية الأخلاق أو حقيقة القناعات الخاصة أو اندماج المجتمع. هذه النظرة هي منجز العقل، الذي يمثلها مفهوم التسامح، وهي تعني، إذا ما تحدثنا بلغة فلسفية مجردة، فهم هوية البشر واختلافها بصورة صحيحة.

ليليث وشياطين الرأسمال: الاقتصاد على سرير فرويد

ليليث وشياطين الرأسمال: الاقتصاد على سرير فرويد

«ليليث وشياطين الرأسمال: الاقتصاد على سرير فرويد»، صدر عن دار هانزر، لتوماس سيدالشيك وأوليفر تانسر. أحدهما تشيكي، عمل لسنوات في القطاع البنكي، إلى جانب تدريسه الاقتصاد في الجامعة التشيكية، وحصوله على عضوية المجلس الأخلاقي لمنتدى الاقتصاد العالمي، والثاني صحفي نمساوي، يعمل في الصحافة اليومية، وعمل لسنوات مراسلًا للإذاعة والصحافة المكتوبة النمساوية لدى الاتحاد الأوربي. كلاهما سيبحر في مغامرة لم يسبق لغيرهما أن قام بها، تطبيق منهجية التحليل النفسي على نظام اقتصادي، أضحى يشكل مشكلًا للسياسة والمجتمع عامة، بل كما يقولان، لطريقتنا في التفكير. «إن طوطم عصرنا هو الاقتصاد، وسنضع الاقتصاد على سرير المحلل النفسي ونصغي إليه؛ لنعرف ما الذي يقوله؟ ما الذي يأمل أو يحلم به؟ عن أي شيء يفضل الحديث؟ وما الذي يكبته في الأعماق؟.. إلخ». يبدو كما لو أن الاقتصاد يعاني اليوم اضطرابًا ثنائي القطب: الهوس الاكتئابي. وينتج عن ذلك الفوضى. إن الفكر الاقتصادي نتاج للنفعية الفردانية التي تتعامل مع كل القيم الأخرى بسخرية، وحتى إذا ما دخل الاقتصاد كعلم في علاقة بالتخصصات الأخرى، تراه لا يسعى إلى تعلم شيء جديد، إنما للسيطرة عليها وفرض منطقه.

يهتم التحليل النفسي تقليديًّا بالأفراد وحيواتهم، لكن الباحثين يسعيان إلى تطبيقه على مستوى أكبر، وبحث إن لم تكن تلك السلوكيات المنحرفة التي نجدها عند الأفراد، حاضرة بشكل جمعي لدى المجتمع. وهما يعتقدان أنهما ربما يصلان عبر ذلك إلى علاج للاقتصاد، علاج جمعي، أو «علاج الحضارة» كما أسماها الكاتب والمحلل النفسي الإيطالي Luigi Zoja.

لقد اعتدنا على تحليلات تهم «جسد» الاقتصاد، أي الاقتصاد الواقعي، المادي، الوظيفي، الذي يمكن حسابه، والصناعة، وعالم الإنتاج والاستهلاك.. إلخ لكن ما ندر القيام به برأي الباحثين هو دراسة «روح» الاقتصاد. فداخل تلك الروح، أي داخل الاقتصاد كعلم، تتموقع معتقداته، ومخاوفه وآماله، وفعلنا السياسي، وأيضًا تصوراتنا عن الحرية والمراقبة، على الرغم من أنها تعبر عن نفسها بداية في «جسد» الاقتصاد، في الاقتصاد الواقعي. وكما الحال عند الإنسان وأمراضه النفسية، فإن جسد الاقتصاد وروحه ملتحمان.

اقتصاد يعاني اضطرابات نفسية

freud-commerce-bookيسجل الباحثان وجود خمسة أنواع من الاضطرابات النفسية في الاقتصاد المعاصر، لا تمثل فقط جزءًا منه، بل تسيره بالطريقة التي تريد. أولًا: اضطراب في معرفة الواقع: ويريان ذلك نتيجة لمبدأ اللذة الذي يطالب باستمرار بمزيد من الإنتاج والاستهلاك. ثانيًا: اضطرابات ناتجة عن الخوف. وهي ما يدفعنا للنظر إلى الواقع بشكل سلبي، ويقود إلى سلوكيات غير عادية، وخصوصًا في مراحل الأزمة. ثالثًا: اضطرابات لها علاقة بالوضع النفسي، أو ما يسمى بالاضطرابات العاطفية، وهنا ستتم دراسة دورات الهوس الاكتئابي، التي تتعلق بالتطورات المتصلة بالطفرات والأزمات الاقتصادية. رابعًا: اضطرابات تتعلق بالسيطرة على الدوافع، وهنا ستتم دراسة نموذجين للسلوك: إدمان اللعب الذي نلحظه لدى البنوك الاستثمارية، والسلوك الثاني المرتبط بإدمان السرقة «الكليبوتوماني»؛ إذ من المثير للانتباه أن ذلك الذي يحقق نجاحًا داخل هذا النظام الاقتصادي، ويملك العمل والسلع والرأسمال، هو الذي لا يقدم شيئًا مقابل ذلك. خامسًا: اضطرابات الشخصية: من أجل المحافظة على النظام الذي يقوم على العنف والمنافسة، يتوجب على المشاركين فيه أن يتلقوا تكوينًا مناسبًا لطبيعته، يصنع منهم أشخاصًا أنانيين وعنيفين، بعيدًا من كل إحساس بالإنسانية والغيرية، وبعيدًا من كل حس سليم. إنهم مجرد أدوات في نظام لم يعد يخدم مَن صنعه، بل استولى بنفسه على السلطة. إن هذا لا يعني أن المشاركين في النظام أناس سيئون، بل إن النظام من يرغم خَدَمهُ على الاضطلاع بأدوار باثولوجية.

يؤكد الكاتبان أنهما سينهجان طريق التحليل النفسي. فليس هدفهما إصدار أحكام واتهامات، لكن الإصغاء لما يقوله الاقتصاد. فهذا الكتاب لا يجب عدّه كتابًا ضد اقتصاد السوق الرأسمالي، البنوك والأسواق المالية. إنهما يريان النظام الاقتصادي الحالي خطوة في مسار تقدم البشرية، جعل من حياة الإنسان على الأرض أفضل مما كانت عليه من قبل. لكنهما يؤكدان أيضًا أن ذلك لا يجب أن يمنعنا من انتقاد انحرافات النظام، وتوصيف أمراضه، وبحث سبل علاجه. إن أسطورة «ليليث» العبرية، التي اختير اسمها عنوانًا لهذا الكتاب، تلخص بنظر الباحثين، حقيقة الاقتصاد الرأسمالي. إن ليليث، وفقًا للرواية العبرية، أول امرأة لآدم. لقد خلقت هي الأخرى مثله من طين، وكانت تشبهه في كل شيء. بل إن تمسكها بهذه المساواة بينها وآدم، هو ما جعلها تدخل في صراع معه. إنها رمز لأول كائن بشري طالب بالحرية. ومن أجل ذلك هرب من جنة عدن وحقت عليه لعنة الرب. ستتحول إلى شيطان يقوم بقتل المواليد الجدد وامتصاص دمهم. ومن هذه الطاقة التي ستحصل عليها، ستضع شياطين جددًا، مئة كل يوم، لتقوم بعدها بقتلهم أيضًا. وسبب كل هذه الثورة، هو أنها وجدت في الوضع الجنسي، أن تتمدد تحت جسد آدم خلال المضاجعة، رمزًا للقمع والحط من كرامتها. إن سلوك ليليث يقوم على مبدأين: الاستهلاك والتدمير. ولهذا هي تشبه في كثير الاقتصاد الذي يقوم على التدمير. إنها ماكينة استهلاك، لا تتوقف عن الإنتاج كما لا تتوقف عن التدمير. إنها رمز للحياة والموت، للإنسانية والسمو، وفي الآن نفسه للبدائية والتوحش، جوع لا يشبعه شيء. فمبدأ عصرنا، كما يؤكد الباحثان، ليس سد رمق الجائع، بل إشباع الشبعان. وهو ما يشكل في حد ذاته مشكلة كبيرة. فالإشهار، على سبيل المثال لا الحصر، لا يقوم بشيء آخر أكثر من «إيقاظ جوعنا غير الحقيقي بشكل ليبيدي». إننا أمام «دونجوانية اقتصادية»، لا تتحقق إلا كاستهلاك مستمر، وكما يستهلك الدونجوان نساءه، يستهلك الاقتصاد العالمي السلع والموارد. وهناك حيث يعجز عن الاستهلاك، يحل الركود وتسيطر الكآبة. إننا نقف أمام نظام اقتصادي واقعي لا يتورع عن إنتاج المرض من أجل تسويق الدواء، وفي هذا السياق يسجل الباحثان أنه «كلما ازداد الناس سمنة، كلما ازداد الاقتصاد نموًّا». إن هذا الاستنتاج لا يدخل في باب النكتة أو السخرية السوداء. إن الأرقام والإحصائيات في الدول الغربية تؤكد ذلك.

إضافة إلى ذلك، فإن مبدأ النمو المستمر الذي يقوم عليه الاقتصاد المعاصر، دفع الإنسان إلى تسويق كل شيء، بل إلى تسويق أجزاء من شخصيته. أما الشخصية التي يحبذها الاقتصاد المنفلت من عقاله، فهي سادية، نرجسية، عدوانية، وكلما ازدادت عدوانيتها، زادت أرباحها. يشير الباحثان إلى مئة مقابلة أجراها كل من عالم النفس الكندي روبيرت هار والمستشار الاقتصادي الأميركي بول بابياك، التي تظهر بأن عدد المرضى النفسيين في المناصب الرئيسة لدى الشركات الكبرى يتجاوز ثلاث مرات عددهم في المجتمع العادي.

نقرأ في الكتاب: «منذ آلاف السنين والبشر يفكرون في سبل توزيع السلع بشكل عادل بين البشر. منذ أفلاطون وأرسطو إلى سينيكا وتوما الأكويني والسكولائية حتى آدم سميث ودافيد ريكاردو، وكارل ماركس، وكينز وميلتون فريدمان. فموضوع تاريخ الاقتصاد كان دومًا توزيع السلع والاتجار بها. وكيفما كانت الاختلافات بين المدارس المتعددة أفلاطونية، كلاسيكية، اشتراكية، طوباوية، كينزية، بروتستانتية أو نيو كلاسيكية، لم يسبق أن وجدت مدرسة تدعو إلى السرقة كأفضل السبل إلى السعادة الإنسانية» (ص138). لكن اقتصاد الشركات الكبرى اليوم، والمنافسة المحتدمة بين الفاعلين الماليين تؤكد أن من يجني الأرباح، ليس هو من يحسن لعبة الأخذ والعطاء، ولكن ذاك الذي لا يعطي شيئًا ويأخذ كل شيء. إننا أمام «تحول في الباراديم» يقول الباحثان، في تاريخ الاقتصاد الإنساني. وهنا تكمن المشكلة في رأيهم. فالحرية الاقتصادية والاجتماعية تشكل ربحًا للجميع، متى ارتبطت بقدرة البشر على التحلي بالمسؤولية. أما ما نعيشه اليوم، فهو حرية العدوانية وبطلها «الكليبتومان» الذي تصفه السيكولوجيا كشخص يعاني اضطرابات في التحكم بنوازعه. يعتقد «الكليبتومان» الذي يجد نفسه مضطرًّا للسرقة، لسبب نفسي وليس لسبب خارجي كالفقر مثلًا، وعانى في الأغلب الأعم تجارب صادمة كالعنف وزنا المحارم، ويرى أنه، عبر السرقة، يتجاوز رهابه واكتئابه، لكنه لا يزيد في الواقع إلا من استفحالهما.

التحرر من أحلام اليقظة

يقوم الاقتصاد العالمي اليوم على إشباع رغبات الدول المتقدمة على حساب الدول المتخلفة والفقيرة. اللذة من جهة، والألم من جهة أخرى. سلوك سادي وعدوانية استقلت بنفسها، لم يعد هدفها التقدم، ولكن التدمير الذاتي. لكن إضافة إلى «الكليبتومانية»، يؤدي الخوف دورًا مركزيًّا في هذا السياق. «إن الخوف، كما كتب عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، هو المبدأ الذي يستمر بالعمل حين تتوقف كل المبادئ الأخرى». ولقد تحول إلى أداة بيد السياسيين والاقتصاديين كما كان بالأمس القريب أداة بيد رجال الدين، فرجال السياسة يمكنهم التأثير في الملايين وهم يستعملون الخوف، وينشرون الحقد ويشعلون الحروب، وما الحروب على الإرهاب إلا نموذج بسيط عن ذلك، أما رجال المال والاقتصاد، فيعيشون على صناعة الخوف وتسويقه وتقديم أجوبة عن تلك المخاوف التي صنعوها، من المجالات الأمنية والصحية والغذائية حتى المجال المالي، تمامًا كما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية وهي تبيع الخلاص الروحي للمؤمنين. لم يبالغ سلافو جيجيك حين أكد «أن خلق المخاوف مكون للذاتية المعاصرة. إن للخوف حظوظًا جيدة في أن يتحول إلى الأيديولوجية التي تحدد كل شيء داخل الرأسمالية المعولمة». إن الخوف إذن، برأي الكاتبين، هو رديف الحرية في السوق الحرة.

«إن الرأسمالية قادرة على التطور، لكن نقدها أصابه التكلس». يكتب المفكر الألماني فولف لوتر في كتابه، «الرأسمالية المدنية». ربما يأتي هذا الكتاب، على الرغم من ثغراته، والغضب الذي يخضب كلماته، محاولة لتجاوز هذا التكلس الذي أصاب «نقد الرأسمالية». إن التحليل النفسي لا يهدف إلى العلاج، لكنه يمنحنا الوعي بوضعنا، فهو يحررنا من أحلام اليقظة ليربطنا بالواقع. ولربما يكون الوعي بالمرض أهم من وصفات العلاج السحرية التي لا تسهم سوى في استمرار تكلس النقد، ومنها خصوصًا تلك البكائيات الدينية المعاصرة التي لا تفعل بنقدها المتهاوي سوى تأبيد سلطة الرأسمال. «لقد حاولنا إعطاء صوت للاستلاب الذي يعانيه الإنسان الغربي المعاصر، وتوضيح عناصر هذا الاستلاب»، هذا ما نقرؤه في الفصل الأخير من الكتاب. لكن، وعلى أطراف الإمبراطورية الاقتصادية العالمية، هذه الأطراف التي تجد نفسها مرغمة على استيراد، ليس فقط السلع التي ينتجها المركز، بل أزماته أيضًا، فإن هذا الاستلاب يعبر عن نفسه في سلوكيات استهلاكية أكثر دموية، ليس أقلها الحروب الإثنية والمذهبية.

العقل السياسي الألماني بين «الثقافة الرائدة» و«الوطنية الدستورية»

العقل السياسي الألماني بين «الثقافة الرائدة» و«الوطنية الدستورية»

تعيش النخبة السياسية الألمانية اليوم على وقع الصدمة التي خلفتها نتائج الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» في الانتخابات المحلية. ويبدو واضحًا أن الأحزاب التقليدية في حيرة من أمرها، أمام الشعبية الكبيرة التي بدأ يحظى بها هذا الحزب، ليس فقط في شرق البلاد، بل في غربها أيضًا.

لقد أعلن حزب «البديل من أجل ألمانيا» في برنامجه عداءه الواضح للاتحاد الأوربي، وطالب باستعادة الدولة القومية لسلطاتها السياسية والاقتصادية من بروكسل. وتساوق هجومه على المشروع الأوربي، مع هجومه على المهاجرين من أصول مسلمة، ومطالبته بإغلاق الكتاتيب القرآنية ومراقبة المساجد، ووقف استقدام اليد العاملة من الخارج.

أكد الفيلسوف الألماني هابرماس أن الانفتاح على المهاجرين وثقافتهم، يشجع ويعبد الطريق إلى انفتاح أكبر للشعوب الأوربية بعضها على بعض، وخلق ثقافة أوربية متعددة ومنفتحة. كما أوضح في محاضرته الشهيرة «أوربا ومهاجروها» التي ألقاها عام 2005م: «إنه من غير الممكن تشكل هوية أوربية مشتركة، إلا عبر انفتاح أكبر داخل دول الاتحاد وثقافاتها الوطنية على مواطنيها الذين ينتمون إلى أصول إثنية ودينية مختلفة. إن الاندماج ليس طريقًا باتجاه واحد، وإذا ما نجح، فإنه سيتسبب في رجة حيوية للثقافات الوطنية القوية، لتصبح أكثر انفتاحًا وأكثر حساسية، وأكثر قدرة على الاستيعاب نحو الداخل والخارج في الآن نفسه».

رفض قيم المجتمع الليبرالي

لكن يبدو أن أحزاب اليمين المتطرف، وليس في ألمانيا فقط، اختارت الطريق المعاكس. فهي تتخذ مواقف عدائية ضد المهاجرين وضد الفكرة الأوربية في آن. ويشتمّ من برنامجها رفض لقيم المجتمع الليبرالي، بل وتعلن صراحة إعلاءها للقومي ولفكرة ضيقة للهوية على حساب المجتمع متعدد الثقافات. إن حزب «البديل من أجل ألمانيا» يعلن في برنامجه الحزبي انتصاره لفكرة «الثقافة الألمانية الرائدة» Leitkultur ضد ما يسميه «أيديولوجية المجتمع متعدد الثقافات»، مغفلًا أن التعدد الثقافي مكون من مكونات كل مجتمع، لا يمكن القفز عليه ولا تجاهله. كما أن برنامج الحزب يعلن رفضه لما يسميه باستيراد التيارات الثقافية، أي يرفض التأثيرات الثقافية الخارجية، وهو ما يفضح فكرته العنصرية عن الثقافة، وعن الوحدة الثقافية المزعومة لألمانيا، التي يؤكد التاريخ الثقافي الألماني نفسه أنها مجرد شطح أيديولوجي.

لكن هذه اليعقوبية الثقافية تفضح نفسها أكثر حين حديثها عن الإسلام، معتبرة أن الإسلام لا مكان له في ألمانيا، وأن تزايد أعداد القادمين إلى ألمانيا من بلدان مسلمة يشكل خطرًا على الهوية الألمانية. بل إن برنامج الحزب يدافع عن «الإسلاموفوبيا» باعتبارها نقدًا مشروعًا للإسلام.

هذا المنعطف باتجاه اليمين، وباتجاه أفكار ومعتقدات، اعتقدت النخبة الفكرية في ألمانيا أنها أضحت جزءًا من ماضٍ مظلم، طواه التاريخ، وتجاوزه العقل السياسي الألماني مع انهزام النازية، ليس وليد اليوم. فهذا رئيس البرلمان الألماني نوربرت لامرت يلح مرارًا على ضرورة دعم ثقافة ألمانية رائدة، تكون بمثابة النموذج الذي يحتذى بالنسبة للأقليات، مؤكدًا أن الوطنية الدستورية وحدها لا تكفي للاندماج. وهو الشخص نفسه الذي أعلن غير مرة اعتراضه على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، باعتبار أنها دولة إسلامية، أو دولة لم تعرف تقليد التنوير، وكلها ادعاءات واهية، فدول شرق أوربا التي انضمت إلى الاتحاد، لا تتوافر على تقاليد ديمقراطية راسخة، ولم تعش تنويرًا، وهو ما يبدو اليوم على الأقل في أمرين:

أولًا- مسيحيتها التي ما زالت يطبعها الطابع القومي، المُعادي للسامية وللإسلام.

وثانيًا- سطوة الأفكار اليمينية عليها، وخضوعها اليوم، كما الحال في بولندا وهنغاريا لأحزاب شعبوية، معادية لأوربا.

مبادئ ديمقراطية بطابع كوني

إن تيار «الثقافة الرائدة» داخل ألمانيا، يقف على النقيض من تيار «الوطنية الدستورية». فإذا كان التيار الأول يعلي من قيمة هوية جمعية على الهوية الفردية، فإن تيار «الوطنية الدستورية» جاء كرد فعل على الأخطاء والجرائم التي ارتكبت باسم الوطنية الألمانية. وبالنسبة لهذا التيار فإن الدستور لا يعبر عن أمة، ولكن عن مبادئ ديمقراطية تتمتع بطابع كوني.

إن الوطنية الدستورية في مفهوم كل من عالم السياسة الألماني، دولف ستيرنبرغر والفيلسوف يورغن هابرماس تقوم على مطلبين أساسيين:

أولًا- ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي وأخطائه (القدرة على النقد الذاتي التاريخي).

وثانيًا- الاستعداد للدفاع عن القيم الليبرالية – الديمقراطية.

وصف ستيرنبرغر في محاضرة له ألقاها في الأربعينيات المواطن «كذات مفكرة ومسؤولة داخل جماعة سياسية». وهذه الجماعة السياسية يتوجب أن نفهمها برأيه كمجتمع مدني يتكون من مواطنين أحرار ومتساوين. إنه نموذج لم يتحقق من قبل في رأي ستيرنبرغر في التاريخ الألماني. وفي رأيه كلما تقدمنا في مشروع المواطنة، أي كلما شاركنا في إدارة مصير مجتمعاتنا وفي تشكيل دولتنا؛ ازددنا مدنية. إن أهم نقطة فيما كتبه ستيرنبرغر، كما يرى عالم السياسة الألمانية يان فيرنر مولر، تكمن في تحريره لمفهوم المواطن من حمولته السلبية التي نجدها عند منتقديه مثل ماركس ونيتشه، ليضعه في قلب الفكرة السياسية. إن شخصية المواطن كما يرى ليست بالضرورة سيئة أو تقوم على النفاق كما تقول الماركسية. وفي الآن نفسه يتساءل إذا ما كان بإمكاننا أن نكون مواطنين من دون أن نعتقد أننا محاربون، دون فكرة البطولة؟ في مقال آخر سيفرق ستيرنبرغر بين مفهوم «البلد» Heimat ومفهوم «الوطن» Vaterland مؤكدًا أن مفهوم الوطن يرتبط دائمًا بمسؤولية سياسية، ويتطلب مواطنين راشدين. إنه مفهوم لا يتحقق إلا في الدستور. فهو لا علاقة له بكل تلك الخطابات التي تتحدث عن الأصل والهوية وروح الشعب. وحبنا لهذا الوطن لا يتحقق عاطفيًّا بل يمر عبر حريتنا ومشاركتنا في دستوره الواقعي. إن المواطن ليس جنديًّا، تتحقق مسؤوليته كطاعة، والجمهورية برأيه ليست جيشًا، يطلب من جنوده الطاعة والاستعداد للتضحية.

سيتبنى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في أواسط عقد الثمانينيات مفهوم الوطنية الدستورية الذي نحته عالم السياسة دولف ستيرنبرغر، ويمنحه بعدًا كونيًّا ونبرة نقدية ذاتية. لقد بدأ أولًا بإعادة النظر إلى الموقف الذي عبرت عنه مدرسة فرانكفورت النقدية بالدستور والقانون حين شككت فيهما واعتبرتهما أدوات بورجوازية، لكن هابرماس سيطور نظرية تواصلية، عبرها سينتقل بالمدرسة النقدية إلى فهم جديد لدولة الحق والقانون وللديمقراطية، وخصوصًا خلال النقاش الذي دار في الثمانينيات حول الهوية السياسية لألمانيا الاتحادية (Historikerstreit) وهنا، وضد تلك المحاولات التي كانت تدعو إلى دعم وعي قومي ألماني، من أجل دعم ارتباطها بالغرب، رأى هابرماس أن طريق الارتباط الوحيد بالغرب يمر عبر وطنية دستورية، وعبر الارتباط بالقيم الدستورية الكونية، تلك القيم التي برأيه لم تعرفها ألمانيا وثقافتها إلا بعد وعبر آوشفيتز (المحرقة). فبالنسبة لهابرماس، فإنه لم يبق لألمانيا، بسبب ماضيها المظلم، سوى الارتباط بمبادئ سياسية كونية، وعبر تلك المبادئ يتوجب عليها الدخول في حوار نقدي مع تقاليدها القومية وممارسة النقد الذاتي. إن الهوية ما بعد التقليدية، كما يسميها هابرماس، تفقد طابعها الجوهراني؛ لأنها تتحقق في سياق الفضاء العام فقط، كوطنية دستورية.

حوار نقدي مع الماضي

لقد ربط هابرماس دائمًا بين الوطنية الدستورية وبين ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي ومع التقاليد الألمانية. أما واجب المواطنين فلا يتمثل فقط في الوفاء بمبادئ الدستور، ولكن أيضًا في الممارسات التواصلية التي تبحث عن تحقيق تفاهم حول التأويل الصحيح لتلك المبادئ. فالوطنية الدستورية هي صيرورة وممارسة، وعلى المواطنين ألا يهتموا فقط بالدستور، ولكن أن ينخرطوا أيضًا في النقاشات التي يعرفها الفضاء العام. إن مفهوم الوطنية الدستورية يدعم، في رأي عالم السياسة الألماني يان فيرنر مولر، تعايش الثقافات المختلفة داخل المجتمع الواحد. بل يظهر أنه الضمان العقلاني للحفاظ على التعدد الثقافي والوقوف ضد سيطرة ثقافة الأغلبية. فكل ثقافة لا تحترم تلك القيم الكونية، تهدد العيش المشترك.

تقدم الوطنية الدستورية إذن ضمانًا لوحدة المجتمع، متجنبة المخاطر التي قد تنتج عن الوطنية في نسختها التقليدية. وهي بذلك تختلف عن القومية الليبرالية، وعن التصورات التقليدية التي تقدمها المدرسة الجمهورية. فالوطنية الدستورية تعتبر مصدر الثقة السياسية السائدة بين المواطنين، وتساهم في استقرار المجتمع. كما أنها تدعو المواطنين للاتحاد ضد الأخطار التي تهدد مبادئ الدستور، كما تحثهم على العمل على تحسين أداء مؤسساتهم أو انتقادها. ولأنه لا يمكن أن يحدث توافق بين مبادئ الدستور وواقع الدستور؛ لأن الواقع غالبًا ما يكون أصغر من المبادئ، فإن الوطنية الدستورية تتميز بخاصيتين أساسيتين:

أولًا- إنها تحقق الاستقرار.

ثانيًا: إنها تشحذ العقل النقدي للمواطن، بل قد تذهب بالنقد إلى مستوى التمرد المدني.

اعتزاز قومي لا يقبل المساءلة

ما لا يمكن تصوره لدى الوطنيين الدستوريين، كما يكتب يان فيرنر مولر، هو ذلك الاعتزاز القومي الذي لا يقبل المساءلة، أو تلك السردية القومية المغلقة، التي لا تتحدث إلا عن الانتصارات والبطولات، وهو أمر ممكن لدى القوميين الليبراليين. إن هابرماس يتحدث عن تضامن بين غرباء، يتأسس على القانون. وعلاوة على ذلك، من الخطأ اعتبار الوطنية الدستورية نوعًا من العلاقة العمودية بين المواطنين والدولة، بل هي لا تتحقق إلا في العلاقة بين المواطنين أنفسهم، بين مواطنين أحرار ومتساوين.

تملك الوطنية الدستورية أهمية كبيرة في سياق النقاش الدائر حول الاندماج، سواء تعلق الأمر باندماج المهاجرين في مجتمعهم الجديد، أو باندماج الدول في إطار أكبر كالاتحاد الأوربي مثلًا. ففيما يتعلق باندماج المهاجرين، فإن الوطنية الدستورية ترفض فرض ثقافة الأغلبية المجتمعية عليهم. وبدلًا من ذلك تدعو الأقلية والأغلبية إلى الاتفاق على مبادئ عامة للعيش المشترك داخل الدولة الواحدة التي لا يتوجب القفز فوقها سواء باسم الثقافة أو الدين. أما القومية الليبرالية فإنها تعتمد مفهومًا ضيقًا عن الثقافة القومية، يقوم في نهاية المطاف على أحادية ثقافية. إنه يقوم على مبدأ الانتماء -انتماء غير محايد إلى ثقافة معينة- وليس على المسؤولية تجاه الدستور، وهو ما تعبر عنه بوضوح قضية منع الحجاب في بعض البلدان الأوربية، وما تطمح لفرضه على المجتمع أحزاب يمينية ويمينية متطرفة، كما هي الحال مع حزب «البديل من أجل ألمانيا».