الشعر في السعودية.. أسباب تدفع الشاعر إلى العزلة

الشعر في السعودية.. أسباب تدفع الشاعر إلى العزلة

حين نتأمل المشهد الشعري في السعودية، فإن أكثر من سبب يدفع الشعراء، خصوصًا الجدد، إلى الإحباط ومن ثم الانكفاء على أنفسهم، وإذا حدث لهم أن كسروا قشرة العزلة، فإنهم سيكتفون بالتواصل مع دائرة ضيقة جدًّا من الأصدقاء. لعل أول الأسباب طغيان الرواية التي سرقت الاهتمام تقريبًا من الجميع، وانصراف عدد لا بأس به من غير كتاب السرد إلى كتابة الرواية؛ مما أدى إلى هجرة نقاد الشعر إلى حقل الرواية، طلبًا للأضواء ومزيد من الاهتمام الذي انحسر عنهم بانحسارها عن الشعراء. ومن الأسباب أنه إذا حدث وجرى الاهتمام بالشعر، فإن النوع الشعري محط الاهتمام لن يكون سوى العمودي وفي أفضل الأحوال شعر التفعيلة، أما قصيدة النثر فلا أحد يفكر فيها. على أن اللامبالاة وعدم الاهتمام تطال الشعر بأنواعه.

ومن هنا انشغال بعض التجارب الشعرية الجديدة بالذهاب إلى مناطق معينة، تصور فيها عزلة الشاعر وممارسته العيش في أماكن مغلقة. سبب آخر يحبط الشعراء، هو المستوى الثقافي المحدود لمن يدير دفة الثقافة ومؤسساتها؛ مما جعل ثقافة المجاملات والتحشيد تتفشى، من دون اعتبار لأي أي شيء آخر.

غياب الشاعر الرمز

جاسم-الصحيح

جاسم الصحيح

يعتقد الشاعر جاسم الصحيح أن راهن الشعر في السعودية مرتبط براهن الشعر العربي؛ إذ يستحيل في رأيه، الفصل بين المشهدين «خصوصًا في ظل انبثاق وسائل التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات، والتنسيق العام لمعارض الكتب في العالم العربي، فالتجارب الشعرية والثقافية عمومًا مفتوحة بعضها على بعض بكل يسر وسهولة».

ويلاحظ الصحيح أن أجيالًا جديدة من الشعراء صعدت إلى مسرح الشعرية العربية في معظم البلدان، «وقد يكون المشهد الشعري السعودي الجديد من أجمل المشاهد وإن خلا من فكرة الشاعر الرمز؛ لأن رمزية الشهرة لم تعد حاضرة في عصر ما بعد الحداثة عبر كل المجالات وليس الشعر فقط». ويتطرق الصحيح إلى «مختارات من الشعر السعودي الجديد» التي صدرت في «كتاب الفيصل» في مارس الماضي، وكانت فكرة اقترحتها «الفيصل» على الشاعر زكي الصدير فقام بتنفيذها، حول هذه المختارات يقول: في هذه المختارات اكتشفت عبقرية الشعراء الشباب، لكنني أرجو ألّا تكون عبقرية عجولة.. أي لا تنطفئ بسرعة.. كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري عن عبقرية الشاعر رامبو. الجماليات الشعرية لا يمكن أن تستقر على حال؛ لأن الشعر هو حال من القلق والفوران والهذيان. الشعر هو عملية استكشاف مستمرة لجغرافيا الروح، وكلما جاء جيل جديد بمراكبه ومناظيره، وأرسى على شواطئ الروح وحدَّق في التضاريس البعيدة داخل أعماقه؛ استطاع أن يواصل الاستكشافات التي بدأها أسلافه. هذا العمل الإبداعي يمثل مسؤولية كل موجة جديدة من الشعراء، للخروج من لحظتها الراهنة إلى المستقبل عبر مغامرة جامحة تضيف من خلالها مساحة جديدة من الكشف والابتكار».

الشعر عابر للعصور

محمد-عابس

محمد عابس

ويرى الشاعر محمد عابس أن الشعر فن عابر للعصور «وإن خفت ضوء الاهتمام به بين فترة وأخرى لأسباب متعددة منها: منافسة فنون أخرى، واهتمام الناس بأشياء أخرى، وانفتاح العالم على الفضائيات ووسائل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطور أدوات الترفيه، ومن ناحية أخرى سوء مناهج تعليم اللغة العربية وضعف النماذج المختارة في مواد الأدب».

ومن ناحية أخرى، يذكر عابس أن توجه الشعر إلى موضوعات ليست جماهيرية ولا علاقة لها بالقضايا الكبرى للمجتمعات لقيام وسائل أخرى بذلك الدور، دفع الشعر إلى الاتجاه إلى «قضايا ومفردات الإنسان وهمومه البسيطة، وإلى مفردات الهامش والمهمل والبسيط…».

ويلقي عابس باللوم على المؤسسات الثقافية في التراجع الذي يعيشه الشعر: «لم يعد هناك اهتمام بالشعر والشعراء على مستوى الدول والمؤسسات إلا على استحياء أو بشكل محدود، جوائز الشعر محدودة ومهمشة وغير مجزية ولا يمكن تجاوز الاهتمام الأكبر بالعاميات (الزجل) في مختلف الدول على حساب الشعر الفصيح، ولست ضد الاهتمام بالعامّي ولكن بشكل لا يلغي الفصيح»، مشيرًا إلى أن معظم النقد «توجه إلى البعد الثقافي العام وإلى الرواية، وكثير من النقاد لا يجيدون التعامل مع الشعر وبعضهم لا يستطيع قراءته بشكل سليم، ومن ثم تصدر عشرات الدواوين المميزة ولا أحد يعلم شيئًا عنها!!».

عدم تقبل النقد

محمد-الجلواح1

محمد الجلواح

أما الشاعر محمد الجلواح فيتوقف عند الحال النفسية والمزاجية للمواطن العربي بشكل عام، وكذلك الإفرازات السياسية وانعكاساتها على مشاعر وروح الشعراء. ويعزو الجلواح ذلك إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت -في شكل مؤثر وقوي- في صرف الشاعر والقارئ معًا عن القراءة العميقة. ويعزو الجلواح هروب الشعراء إلى الرواية، إلى تراجع الشعر عند هؤلاء «إضافة إلى استسهال الكتابة النثرية. كما أن انتشار الرواية لا يدل على وجود عافية فيها، فقد أصبح الجميع يكتب رواية»، مضيفًا سببًا آخر لعدم وجود حراك شعري في المملكة، وهو:«أننا لا نقبل النقد، ولا نرضى بالدراسات والملاحظات التي تُنشَر في الصحف، وتأتي من آخرين لهم قـَدَم السّبق وقـَصَبُه في الشعر، بل نطير فرحًا بالمجاملات حتى لو كانت على حساب الجودة، فينجم جراء ذلك التراجع من جهتين: جهة الشاعر الذي لا يريد أحدًا أن ينتقده. ومن جهة أخرى فإن المتلقي الناقد الذي لا يجد من يأخذ برأيه ونقده ودراسته، يشعر بالحزن والغضب والإحباط، وهو -في الوقت نفسه- يخشى أن يفقد بذلك صداقته وعلاقاته بالشعراء».

الشعر السعودي بلا تجارب عميقة

مسفر-العدواني

مسفر العدواني

ويقول الشاعر مسفر العدواني: إن الشعر السعودي «لم ينتج تجارب نتكئ عليها في حال النقد باستثناء تجربة الثبيتي، وما زلنا أيضًا في صراع كبير بين رفض وقبول قصيدة النثر لدينا ونحن في أمسّ الحاجة لتجارب شعرية نواجه بها من يعتقد أن الشعر السعودي ما زال خجولًا، ولن يصل إلى منصات العالم». ويرى العدواني أنّ الأصوات الشعرية المعاصرة «عندما لا تندمج مع الحاضر بكل معطياته فلن تتقدم، وإذا توقف خيال الشاعر عند حد معين خوفًا من المستقبل فلن نخلق موجات جديدة ومع ذلك نحن جزء من العالم، ولا شك أن ما يحدث فيه يؤثر فينا. أما من ناحية الجوائز الشعرية فليست مقياسًا لعمل تجربة شعرية؛ لكونها تخدم المؤسسة التابعة لها، ولا تخدم الشاعر، وفي زمن التقنية الحديثة يلزم الشاعر التفاعل معها بنصوص قصيرة مكثفة تسهل على القارئ، وتناسب الواقع، وتظهر الشاعرية. فالزمن الآن زمن التواصل الاجتماعي وقراءة الكتب الورقية أصبح من النادر جدًّا».

أدب بلا أدب

وتنتقد الشاعرة هند المطيري شعر اليوم وأدبه بشكل عام قائلة: «يصدر عدد هائل من الأعمال الأدبية سنويًّا، لكن بلا أدب. صرنا نسمع أسماء كثير من الشعراء لكننا لا نسمع شعرًا؛ من أجل ذلك كله، كان من الطبيعي جدًّا أن تذبل جنان الشعر التي كانت قد أبدعها الرواد في عصرنا والعصور السابقة». ولا ترى المطيري أن طغيان الرواية تسبب في تراجع الشعر؛ «لأن ازدهار الرواية الجيدة قد يدفع الشعر الجيد إلى المنافسة، لكن المسألة تتعلق بالوعي الجمالي الجمعي. الشعر يهب نفسه للأمة التي تقدره وتحفظ قيمته، فإذا تخلت عنه تخلى عنها تمامًا».

وتقول المطيري: «في العصور القديمة كانت العرب تقدس الشعر لدرجة دفعتهم للمقارنة بينه وبين القرآن (كلام الرب جلّ وعلا)؛ لذلك حفظ الشعر لهم أقدارهم وأخبارهم وأيامهم التي لم يكن التاريخ ليتحملها من دونه. أما اليوم وقد انصرفوا إلى صفصفة الكلام فلا أظن الشعر يبقى يانعًا مزدهرًا، أو على الأقل لن يبقى كثير منه. لم نفتقد الدواوين فهي كثيرة، وتصدر عشرات منها كل عام، لكننا نفتقد الشعر». وفي ظن المطيري أن وضع الشعر سيستمر هكذا «حتى تحين التفاتة من مؤسسات الثقافة، تُعلي شأنه وترفع أركانه. حين ذاك يعود، ويزدهر، ويطرح ثماره اليانعة».

مقولة غياب النقد تدحضها الدراسات الأكاديمية

أحمد-التيهاني

أحمد التيهاني

لا يثق الشاعر أحمد التيهاني كثيرًا في الأقوال المعمّمة التي تميل إلى تفضيل جنسٍ أدبي على حساب جنسٍ آخر، ويرى ذلك «كلامًا» إعلاميًّا استهلاكيًّا؛ «ذلك أنه –في الأغلب– يصدر عن المبدعين أنفسهم انتصارًا للأجناس الأدبية التي يكتبونها». وينتقد التيهاني المبدعين قائلًا: «يُفترض لعقل المبدع أن يكون تفكيره متجهًا نحو النص بوصفه نصًّا، لا نحو النص بوصفه جنسًا أدبيًّا، وهي نظرة متقدمة بمراحل على رجعية «التجنيس» التي تعيدنا إلى التصنيف اليوناني السابق لما آل إليه الإبداع اللغوي في اللغات كلّها».

ويؤكد التيهاني على المكانة التي يحتلها الشعر قائلًا: «سيبقى الشعر المختلف والمميز بذاته، لا بالقواعد التي يضعها النقاد؛ لذلك يندر أن يتداخل الشعر مع غيره من الأجناس الأدبية، فيما نجد الأجناس الأخرى تتداخل رغم صرامة القواعد»، مشيرًا إلى أن القول بانحسار الشعر، «قولٌ عاطفي يُقصد به التهوين لا غير؛ ذلك أنه لا يستند على معطيات واضحة، ولا يقوم على حججٍ بينة، إضافة إلى أن يُبنى على إحصاءات دقيقة؛ لأن القول بذلك يناقض مسألة إشباع شكل من أشكال الجوع الجمالي الذي لا يسده إلا الشعر». ويلمح التيهاني إلى أن كل ما يقال عن انحسار الشعر، وتمدد أجناس أخرى، سيذوب حتمًا، «فالشعر يبقى حاضرًا، ويستمر متجددًا، وليس أدلّ على ذلك ممّا آلت إليه الشعرية العربية الحديثة، في القصيدتين: الإيقاعية، والنثرية، على السواء، من تطور سريع جدًّا، مداه الزمني لا يتجاوز نصف قرن». وفي تصور التيهاني أنه: «ربما كانت عوامل التحول من شفاهية القصيدة، إلى كتابيتها، سببًا في خلق وهم انحسار الشعر». ويلفت إلى أن القول بغياب العمل النقدي المتعلق بالشعر، تدحضه الدراسات الأكاديمية الغزيرة التي تشتغل بالشعر، «ولو أننا أجرينا عملًا إحصائيًّا عن الأجناس الأدبية التي اهتمت بها هذه الدراسات، لوجدنا الغلبة للدراسات المتعلقة بالشعر».

رؤية حول المشهد الشعري السعودي الحديث

زكي-الصدير

زكي الصدير

يوضح الشاعر زكي الصدير أنه في ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقافي بعموميته، وقدرتها على تحويل نفسها للدراما التلفزيونية، أو لفلم سينمائي، «لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية المحضة الوصول إلى القارئ غير النخبوي. الأمر الذي يجعله قابعًا في إطار لا يستطيع من خلاله الاتّساع ومعانقة القارئ البسيط. ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء على ذواتهم، ولعدم قدرتهم على تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحياتي اليومي. ومن بين هذه التجارب خرجت تجارب سعودية، هنا وهناك، استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغالات شعرية مهمة، لكنها قليلة، ولا يمكن اعتبارها ظاهرة من الممكن القياس عليها».

ويقول: «إذا ما كنا نتحدث عن مشهد جغرافي متسع مثل السعودية، فإنه من الصعب الحديث عن هوية الشعر أو ملامحه بشكل دقيق، حيث لكل منطقة من مناطقها المترامية الأطراف أسئلة شعرائها وقلقهم ورؤاهم الكونية الخاصة، والتي تنعكس على واقع ما يشتغلون عليه شعريًّا. هذا الاتّساع الجغرافي يجعلنا أمام مشهديات شعرية مختلفة ذات هويات مشتتة، يجمعها الاسم، ويفرقها الاشتغال. والحديث هنا بالطبع يشمل مضمون الشعر وليس هندسته المعمارية فحسب». ويلفت إلى أن الجغرافيا المكانية جعلت من التجارب الشعرية السعودية القريبة من الخليج «تمتلك سمات على مستوى اللغة والهوية تختلف عن تلك الحجازية أو الجنوبية أو التي تتوالد بندرة في الشمال والوسط. نجد شعراء الشرقية -على سبيل المثال- متماهين إلى حد كبير في نصوصهم مع التجارب الشعرية المنجزة في العراق ودول الخليج، على حين يغيب أو يخفت هذا التأثر عن التجارب الشعرية في بقية المناطق، الأمر نفسه بالنسبة لتجارب شعراء الجنوب، حيث تحضر التجارب اليمنية بقوة، وتخفت في بقية المناطق».

عن الشعر في اللحظة الراهنة

مسفر-الغامدي

مسفر الغامدي

إذا استعرنا لغة الحروب التي نعيش على وقعها الآن، فإنه يمكننا القول: إن الشعر تضخم كثيرًا، وبشكل مبالغ فيه، في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم… إنه تحول إلى قنبلة انفجرت لتنتشر شظاياها في كل مكان. نحن في هذه اللحظة نعيش في زمن الشظايا. لم يعد للشعر رموزه وتكتلاته وملاحقه ونقاده، بل أصبح متناثرًا في كل مكان. شعراء لا يحصون، ودواوين لا تعد، وسيل جارف من الحروف التي لا تكفّ عن التناسل من بعضها البعض، ثم لا أثر مهم يذكر بعد ذلك، حتى مع تعدد المهرجانات الشعرية، أو تكاثر الجوائز وتنوعها. مع كل ذلك هناك ورود حقيقية ومدهشة، تنبت في كثير من الزوايا القصية، لكن الأغصان الكثيفة للغابة تحجبها. هناك أسماء تستحق القراءة والاحتفاء، ولكن ليس هناك بستاني ماهر، يحول الغابة إلى حديقة. هذه مهمة نقدية بامتياز، لكن النقد تعوّد في العقود السابقة على التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة)، وليس في وسعه، حتى الآن على الأقل، أن يتعامل مع النتف المتناثرة هنا وهناك…

قد نعزو السبب للانفجار المعلوماتي، للطبيعة السائلة للأفكار وللعالم، لعزلة الفرد، لموت الأيديولوجيات الكبرى، لوسائل التواصل الاجتماعي، للحظات الترقب والخوف التي نعيشها، لعجز الخيال عن مجاراة الواقع، لتسرب الشعر من قبضة اللغة وهروبه إلى فنون بصرية أكثر إقناعًا… لكل ذلك ولأكثر من ذلك. في كل الأحوال وبالعودة إلى لغة الحروب: أصبح الشعر ملجأ أكثر منه سلاحًا. الشعراء الذين ما زالوا يظنونه سلاحًا يبدون هزليين ومضحكين بشكل كبير. لم يعد الشعر وسيلة نقل مناسبة للأفكار والعنتريات البالية، بل أصبح درعًا واقيًا لاتقاء التلوث في أحسن الأحوال… كمامًا واقيًا لكي لا نلتقط المزيد من الجراثيم والأوبئة اللغوية والحياتية الضارة.

الشاعر هنا أصبح حارسًا ولم يعد محاربًا.

الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة أحلام بلا حدود تكبحها مواضعات المجتمع

الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة أحلام بلا حدود تكبحها مواضعات المجتمع

الإشكاليات الاجتماعية التي تواجهها الكاتبة الخليجية، كثيرًا ما يتردد أنها أكثر وأعقد من تلك الإشكاليات التي يواجهها المثقف الخليجي، إذ إن الفضاء حول هذا المثقف ومن أمامه مفتوح ومهيأ للاندماج والحضور الفعّال، ما يجعل منه، في تصور البعض، نموذجًا حضاريًّا حاضرًا في التفاعل والإسهام في التنمية. وعلى الضد منه تواجه المرأة الخليجية، كاتبة وأديبة ومثقفة وأكاديمية، كثيرًا من التحديات التي، بحسب عدد من المهتمين، تعزلها عن المناخين العام والثقافي بشكل أو بآخر، الأمر الذي يعوق، في رأيهم، جهودها وفاعليتها في الفضاء العام بشكل ملحوظ ليساعد على تكوين وترسيخ دورها الثقافي بوصفها منتجة لفكر حر، في دفع وتقويم حركة التنمية وتنشيط المعرفة وترسيخ الأدب.

هذه التداخلات والتعقيدات هل تعمل على تضييق خطا الكاتبة الخليجية، وتصيبها بالإحباطات، التي قد تذهب في تأثيرها إلى حد يشلّ حركة الأجيال الجديدة المتقدمة من الفتيات اللاتي يراهن على خبرات ثقافية متنوعة، تحفزها فضاءات عائلية منفتحة على الأفق؟ أحلام الكاتبة بلا حدود، إلا أن الواقع المتوتر حتى في أكثر المدن انفتاحًا لا يزال مشدودًا إلى مواضعات اجتماعية.

«الفيصل» ناقشت هذه القضية، قضية الكاتبة الخليجية والتحديات التي تواجهها، مع مبدعات وأكاديميات وأديبات من عدد من دول الخليج.

لطيفة قاري: امرأة مجنونة من ترغب في تكريس حياتها للإبداع في واقع كهذا؟

لا يمكن الجمع بين الصعوبات التي تواجه المبدعة في السعودية وبقية دول الخليج؛ المبدعة في المملكة حالة خاصة، وعلى الرغم من كل ما يقال عن توجهات الدولة لدعم المرأة فإن الموافقة والمباركة والدعم الحقيقي لا يمنح لها إلا من جهة لا تملك الدولة أي سلطة عليها، ولي الأمر الحاكم بأمره في مصيرها ومصير إبداعها.

قد تنفي حال بعض المثقفات والمبدعات هذه الحقيقة، ولكن الحقيقة أنهن من الفئة المحظوظة التي سخّر الله لهن رجالهن، سواء أكان أبًا أو أخًا أو زوجًا منحها الضوء الأخضر لتبدع، منحها الإذن لترفق اسمه باسمها، منحها جواز السفر، منحها حتى فرصة المشاركة في مهرجان أو مؤتمر أو معرض، لو قال كلمة الفصل وصرخ بلا، فمن ذا الذي يمنعه، لا القضاء ولا المحكمة ولا حتى …؛ لأن مصيرها إليه أو إلى دور الإيواء.

نتحدث بعدها عن بقية الصعوبات التي تتعلق أيضًا بالرجل؛ إذ بمجرد أن تخطو خارج عتبة البيت وتحلق ستواجه عالم الرجال في الصحف، والأندية، ودور النشر، وجمعيات الفنون، وعليها أن تناضل على جميع الجبهات. ثانيًا- لتثبت لأهلها أهليتها بالثقة الممنوحة لها. ثالثًا- لتثبت للمجتمع أنها مبدعة حقًّا. رابعًا- لتنشر وتطبع وتدير أعمالها وتسوق إنتاجها؛ مما يضطرها لتكوين شبكة من العلاقات العامة في غياب أي مؤسسة ترفع عن كاهل المبدعة هذا الهم. خامسًا- أن تكون كبش الفداء لكل الجهات المؤيدة والمستنكرة من المتأسلمين والليبراليين والصحويين، ومن بنات جنسها اللواتي يقفن مع أو ضد. سادسًا- كيف تعيش حياة طبيعية، تتزوج وتنجب وتبدع، ونظرة واحدة لأي مناسبة تجعلك ترى رجالًا بلا نسائهم ونساء بلا رجالهن إلا في القليل النادر، بل في معظم الأحيان يكون ثمن تمتعها بالأمومة التضحية بإبداعها حيث يكون شرطًا للزواج. أما أولًا، فكيف تحافظ على وهج إبداعها لتظل متقدة، لتبقى كما كانت في البدء.؟

وأخيرًا من ترغب في أن تكرس حياتها لإبداعها في واقع هكذا، هي امرأة مجنونة حقًّا.
شاعرة سعودية

عائشة الدرمكي: مقارنات وتمركز حول الذات

دكتورة-عائشة-الدرمكية

عائشة الدرمكي

تبوأت المرأة المشتغلة في المجال الثقافي في الخليج مكانة مرموقة سواء في منطقة الخليج العربي أو العالم العربي وغير العربي، ولهذا فإننا عندما نتحدث عن التحديات التي تواجه هذه المرأة، فإننا نتحدث عن مدى قدرة المرأة في الخليج على الإبداع واللحاق بالركب الثقافي، وعلى الرغم من أنني لا أحبذ التحدث عن المرأة بشكل خاص وفصلها عن نسيج المجتمع العام فإنني هنا أقول: إن أكبر التحديات التي تواجهها المرأة المبدعة في الخليج هي مقارنتها بالرجل المبدع من ناحية، وبالمرأة في العالم العربي من ناحية أخرى، وهي مقارنات تخلقها المرأة نفسها أو محيطها بحيث تجعلها في جهة مقابلة، ولهذا فإن تلك المقارنات قد تؤدي إلى إشكاليات عدة على مستوى النص، ومستوى الشخصية، والحافز للاستمرار. إن المرأة المبدعة في المجال الثقافي في الخليج العربي تتميز بمميزات وسمات خاصة مستمدة من محيطها الاجتماعي والثقافي والفكري الذي تأسست عليه، ولهذا فإن المقارنات تشكل من وجهة نظري الخاصة تحديًا أساسيًّا أمامها، وهو تحدٍّ لا تستطيع الفكاك من ربقته إلا إذا نظرت إلى ذاتها بوصفها مستقلة فكريًّا، فهي لا تكتب سوى نصها، ولا تعبر سوى عن ذاتها، وعن مجتمعها، وفكرها الثقافي العام بتداعياته المتعددة.

وعليه فإن التحدي الآخر الذي تواجهه في هذا الصدد هو التمركز حول ذاتها؛ حيث نجد أنها تنشغل بالكتابة عن قضاياها الشخصية (وأقصد هنا قضايا المرأة تحديدًا)؛ ما يجعلها غير مواكبة لقضايا الأمة التي ينشغل بها الآخر (الرجل المبدع) وهذا فيه الكثير من الظلم للمرأة المبدعة، فعندما نقول: إنها يجب أن تعبر عن ذاتها فإن هذا لا يعني أنها تكتب عن نفسها، بل يعني أن تعبر عن رأيها وتصورها للقضايا التي تشغل العالم من حولها بحيث تكون لها رؤية شخصية لتلك القضايا، سواء أكانت قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك.

ناقدة وأكاديمية عمانية

إيمان أسيري: هيمنة ذكورية

إيمان-أسيري

إيمان أسيري

في واقع المرأة العربية ليست هناك خصوصية بين مجتمع وآخر، تبقى المرأة هي واقع مشترك في هذه المجتمعات، تحمل النظرة ذاتها إلى المرأة، بحكم العقلية العربية، التي من خصائصها الهيمنة الذكورية، التي لا تفسح المجال لضوء آخر يشاركها، كما أن هذه المجتمعات المحافظة، كثيرة الحجر على ما يخدش سكونها، ويكسر جمودها، وهو ما يبدو جليًّا في السياق التاريخي لهذه المجتمعات. المقدمة تختصر التحدي الأكثر قسوة أمام المرأة وهي السلطة الذكورية المطلقة، هذه السلطة المهيمنة على معظم مناحي الحياة في عالمنا العربي، بدءًا بالأسرة، وانتهاءً بسدّة الحكم في هذه البلدان. الآنية الخزفية تمتص الماء، إن أغلقت، بينما الأواني الزجاجية يأسن الماء فيها، عطفًا على تشبيه العرب بأن النساء قوارير، هذه القوارير لو ظلت مفتوحة لتجدد الماء فيها، بحكم المصدر، في حالة المرأة العربية المصدر آسِن، وهو ما يجعل التحدي أصعب وأشدّ وطأة مما نظن. إذًا نحن أمام مجتمعات تحكمها مرجعيات ثقافية اجتماعية، تعدّ المرأة كائنًا طارئًا في حياة الرجل، مهمته مواصلة النسل والإمتاع. التحدي الأكبر يكمن في تغيير هذه العقلية، وتوجيهها بشكل منطقي لاحترام الكائن الآخر، على اختلاف نوعه وجنسه ولونه ودينه، عندما تصل المجتمعات إلى هذه الدرجة من السمو الأخلاقي، عندها بإمكاننا الحديث عن تحدّيات مختلفة خاصة بالإبداع والمبدعين.

المجتمعات الخليجية الحديثة تعاني ثقل هذا الموروث، ونظرته الدونية للمرأة، على الرغم من الطفرة الحداثية التي طالت العمارة والتجارة بفعل النفط، فإنها لم تطل العقول، السطحية الحداثية أصابت السكن والملابس والتعليم في أرقى الجامعات للدلالة على المقام الاجتماعي «برستيج» لكنها لم تهتم بخلخلة المفاهيم القديمة، أو الوقوف على علّات العقول الآسنة، للمُضيّ في بناء تنمية بشرية حقيقية لهذه المجتمعات الفتية.

المرأة تابع لا حول له ولا قوة في هذه المجتمعات، وكونها تابعًا، حاولت ولا تزال تعمل وفق هذه المنهجية المتاحة لها، سواءٌ في العمل أو الحياة الخاصة، إلا أن المبدعة هي التي تشذ في جزئية عن هذه القاعدة، الجزئية المتعلقة بالمجال الإبداعي (الفني والأدبي)، تجد المبدعة الخليجية أجرأ من غيرها في التعبير القاسي عما تعيشه، سيل الروائيات والشاعرات والفنانات دليل غضب أنثوي، يمهد لانفجار قادم في القيم والمفاهيم المتوارثة، على الرغم من الحصار الذكوري العفوي كسلوك مكتسب عبر الأجيال.

شاعرة بحرينية

فوزية البكر: انفصال المرأة عن الرجل

فوزية-البكر

فوزية البكر

أعتقد أن قضية العزل موجودة؛ لأن المرأة منفصلة عن الرجل، فهي ليست موجودة في المكان العام ولا في الحياة العامة، لذلك لا تستطيع أن تنضج، ولا أن تعيش التفاصيل الطبيعية للحياة العامة بالطريقة ذاتها التي يعيشها الرجل، ولذلك فإن كثيرًا من التفاصيل اليومية تغيب عنها، ولا تستطيع الكتابة عنها. ونتيجة لهذا العزل فهي لا تستطيع التفاعل مع الجهات الثقافية الرسمية بشكل كافٍ، ربما لم يعد ذلك العزل مطلقًا إلا أنه لم يزل قائمًا، فالرجال يستطيعون الجلوس بعضهم مع بعض بعد العشاء وليس لديهم قيود في الدخول والخروج والتفاعل وعقد الصداقات مع الموجودين في المؤسسات الثقافية المختلفة، في حين أن الكاتبة لا تستطيع فعل ذلك بالمطلق؛ لأنها محدودة بالحكم الاجتماعي وتوقعات الآخرين ووضعها وواقعها وموقعها كزوجة أو كمطلقة … إلخ.

وبالتالي فإن علاقاتها كلها محدودة، وهذه أمور من شأنها أن تحرمها كثيرًا من فرص التدريب والتعلم والمناقشات ومعرفة ومتابعة آخر الإصدارات والكتب، وهي تحاول لكن العزل عن المناخ والفضاء العام يعدّ أحد أهم وأكثر التحديات التي تواجهها المرأة المثقفة كاتبة أو أكاديمية؛ لأنها تؤثر في كل فرصها في التعلم والمعرفة وتلقي الخبرات. كما أن المرأة محاطة بالشبكة العائلية والأسرية بمعنى أنها لا بد أن توازن بين احتياجات الأسرة واحتياجات الأطفال، ورغبة الزوج وموافقته من عدمها، وذلك كله ما يحدد قدرة المرأة على التحرك والانطلاق في الفضاء العام وسفرها من عدمه، وكل هذه الموانع التقليدية مجتمعة أو متفرقة تتسبب في إعاقة المرأة ثقافيًّا.

أكاديمية سعودية

سعاد العنزي: تعرضت لمحاولات إسقاط اسمي من الذاكرة عمدًا

سعاد-العنزي

سعاد العنزي

موضوع المرأة في الثقافة العربية من الموضوعات المطروقة كثيرًا في الآونة الأخيرة في الكتابة العربية، سواء في النص الإبداعي أو النص الموازي، ولكن على الرغم من ذلك الاهتمام فإن المرأة لا تزال تواجه الكثير من العراقيل في شق طريقها في الحياة العملية والعلمية. والمرأة الكاتبة الخليجية تواجه تحديات مضاعفة تفوق أي امرأة أخرى؛ بسبب قوة الارتباط بالثقافة الأبوية التقليدية والقبلية في الخليج العربي، والانفتاح الشكلي على الحضارة الغربية والشرقية الأكثر انفتاحًا، مع النظر إلى حداثة ممارسة المرأة في الخليج العربي لحقوقها المكتسبة مؤخرًا بعين الاعتبار.

من التحديات الثقافية التي تواجهها كما كررت في أكثر من حوار، هو التهميش الذي تتعرض له من الصحف والمجلات الثقافية والعلمية ومحرريها، فلا تستطيع أن تنشر نصوصها بسهولة؛ بسبب عدم قدرتها على التواصل بشكل مباشر مع المحررين الثقافيين، وبالمقابل عدم تعامل المحررين بموضوعية مع المواد، فالمواد المقدمة من مجموعتهم الأدبية والثقافية هي ذات الحظوة الكبرى في النشر. التهميش أيضًا مرتبط بتهميش بقية المثقفين لها، وعدم الاعتراف بوجودها، وفي أحيان كثيرة طمس معالم حضورها بالتشكيك بقدرتها الإبداعية، أو حتى إمكانية استمراريتها.

ومن خلال التجربة العملية أنا مررت بكثير من التجارب التي جرت فيها محاولة إسقاط اسمي من الذاكرة عمدًا لا سهوًا؛ بسبب أمراض الذات الإبداعية المتضخمة عند بعض المثقفين والمثقفات. وشاهدت أيضًا البعض وهو ينكر ويقلل من إبداعية النساء الكاتبات. كما أن الكتابة كفعل ثقافي لم تحظ بالتشجيع المادي والمعنوي المناسبين، فمن الوارد جدًّا أن تكتب كاتبة مدة من الزمن ولا تحظى بمقابل مادي، ولا بتقدير من مسؤولي الصحيفة والمجلة، ويعد النشر هو أكبر تقدير لها. ليس هذا وحسب، بل هناك تحدٍّ مهم جدًّا لا بد من التطرق له، وهو عدم قدرتها على تطوير ذاتها معرفيًّا؛ بسبب ثقافة التكرار والاجترار في الوطن العربي، فلو التفتنا إلى خطاب المثقف العربي منذ عشرة أعوام، وخطابه اليوم؛ ما الذي تغير فيه؟ لا أرى تقدمًا ملحوظًا حقيقة، لا أدري هنا هل نلوم الكاتبة العربية أم نلوم الثقافة العربية التي لا تخجل من أن تعيد نفسها باستمرار؟!

ولا ننسى أيضًا أن المرأة تكتب من أجل المرأة الخليجية المشغولة جدًّا في تسليع ذاتها كثيرًا للآخرين، مستفيدة من كل المظاهر الاستهلاكية المتاحة بوفرة في المجتمعات المترفة.

إذا افترضنا نجاح الكاتبة الخليجية في تخطي سياج الثقافة العصية إلا على نماذج نادرة، هل سيسمح المجتمع الذي يرى أن جسد المرأة ووجهها وصوتها وفكرها واسمها عورة لا يسمح لها بالظهور في المجال الثقافي، سواء في الكتابة أو في البرامج الحوارية، ففكرها وصوتها وشكلها أشياء تحرج أفراد الجماعة التي تنتمي لها، ويشكل عامل ضغط كبير عليها. فغالبًا تكون علاقة المرأة الكاتبة مع المجتمعات الأكثر تعصبًا متوترة وقلقة وغير مستقرة، وبالتالي يحق لنا أن نتساءل كيف يتحقق فعل الكتابة، وهو فعل يتطلب حرية اجتماعية على الأقل، بشكل جدي ومستمر وغير متقطع؟!

المرأة الكاتبة في الخليج تكتب وتضع في ذهنها مجموعة من المحظورات التي لا تستطيع التطرق لها. كما هو معروف، الثالوث العربي المحرم: الدين والجنس والسياسة، فإن المرأة تضيف له عددًا من الشخصيات التي تمارس عنفًا رمزيًّا عليها، ولا تستطيع أن تفكر إلا من خلال حضورها. طبعًا نحن هنا نتحدث عن امرأة منتمية للجماعة وليست ضد الجماعة.

ناقدة وأكاديمية كويتية

سالمة الموشي: تتقدم في المشهد الفكري على استحياء

الإبداع في شكل ما في الخليج والعالم العربي يمر بالكثير من التحديات والأزمات، ويكاد يكون كإبداع متميز فرديًّا في أوقات كثيرة من مراحله، فكيف يكون الأمر حين يتعلق بالمبدعة الخليجية وهي التي تلازمها وصمة الأنوثة أينما مضت، دائمًا هناك ما يحدث تحت السطح فبينما يكون هناك الكثير من الاحتفاء بما تُحدثه المرأة المبدعة من نتاج أدبي أو فكري، فإن معاناة ما تكتنف حضورها وتحركها ضمن السياق العام في الحياة الأدبية. وقبل أن نبحث عن حلول لكل التحديات أو بعضها الذي يواجه المبدعة فإنه لا بد من الغوص عميقًا في الحراك الأدبي الذي تتحرك منه وخلاله كل مبدعة خليجية.

ما زال هناك، على سبيل المثال، الخلاف القائم والخلط الكبير بين سياقات ومعاني الأدب النِّسائيّ أو الأدب النسوي ونتاجه بحيث لم يعترف به كأدب فكري حقيقي، وأصبح مرادفًا للحقوقية والمساواة، وهذا الأمر أحد أبرز الإشكاليات، بينما هو في الحقيقة ليس مجرد صراع ضد النّظام الذكوريّ بقدر ما هو تعبير عن كينونة المرأة من خلال الإبداع، وبهذا غُيب النموذج الذي يمكن الاقتداء به للخروج من مرحلة الأدب النسائيّ إلى المرحلة الأكثر نضجًا فكريًّا وهي مرحلة النسوية.

أن تخوض المرأة المبدعة التجربة النقدية مثلًا والأدبية، هذا يعني أنها ستكون قبالة الكثير من التحديات غير المعلنة، التحديات التي تحدث في عمق السياق الذهني لكافة الأطراف: المتلقي، والمبدع، والإبداع، بحيث يعمل هذا الثالوث على خدمة الفكرة والقوة التي يفرضها الحراك الكلي في المجتمع خليجيًّا كان أو عربيًّا.

هناك أيضًا التحدي الذي يظهر بوضوح كبير وهو أن المرأة المبدعة تكاد تكون بشكل ملحوظ مغيبة عن قضيتها الفكرية، وتتقدم في المشهد الفكري على استحياء أو كطرف مشارك وليس كطرف أساسي في الحراك الفكري بشكله العام، متجاهلة أن الأدب هو نتاج إنساني وليس قابلًا للتجنيس أو التراتبية النوعية تبعًا للنوع، بمعنى أن يكون الرجل أولًا والمرأة ثانيًا، وهذا غير صحيح والإيمان به كواقع هو مساهمة في إقصاء المثقفة والمبدعة، وعليها أن تؤمن أولًا بأن الأدب والفكر لا يجنسان ولا يقيمان بالنوع بقدر ما يقيمان بالمعنى والمضمون والقدرة على الحضور والفاعلية.

اتّساع الدائرة التي تتحرك من خلالها المبدعة أو ضيقها ترجع أسبابه إلى معطيات كثيرة، أحدها المرأة ذاتها بوجودها في كل مرة في الصف الأخير، أو المقعد الثاني في المشهد الكبير للإبداع بينما تشكيل وعي نسوي وقيامه من التعثرات والتحديات التي تطاله لن يكون من الخارج بل من الداخل؛ من داخل الفكر الذي تنتجه المرأة وتؤمن به، من خلال الإيمان الكامل بأنها مبدعة وتنتج إبداعًا، وتعمل على إبداعها بعمق، والخروج بنصوصها من النزعة الخاصة إلى البعد الإنساني؛ لتتجاوز تحديات التهميش والإقصاء أو النوع، عليها أن تكون امرأة متفردة تخلق المكانة ولا تبحث عنها، أن تظهر ككيان حر لا أن تتماهى في الصورة المميعة لوجودها، وأن ترى بوضوح أين يكمن الخلل.

ناقدة وروائية سعودية

منى حبراس السليمية: الكاتبة والنظرة الكلاسيكية

منى-حبراس-السليمية

منى حبراس السليمية

يجمل بي أولًا أن أفترض أن النظرة إلى ظروف المرأة الكاتبة وتحدياتها باتت نظرة كلاسيكية، تقترح على الدوام أن تكون التحديات هي نفسها في كل زمان ومكان، بيد أني لا أرى الأمر كذلك على الإطلاق، فمن وجهة نظري على الأقل –وفي عمان تحديدًا– تتساوى التحديات وتتشابه عند المرأة والرجل على حد سواء، فلا مجال للحديث عن حرية الكتابة (على سبيل المثال) لدى الرجل من دون المرأة، فما من قيد يحول بين المرأة والإبداع أو يشكل تحديًا سافرًا لها بنحو خاص، وإن كانت ثمة تحديات خاصة، فبحكم طبيعتها التي تفرض عليها أدوارًا لا تفرضها على الرجل بدرجة متساوية، وهي واجبات الأمومة إلى جانب وظيفتها -إن كانت موظفة- فالمرأة تخوض واجبات لا يخوضها الرجل بالدرجة نفسها، وعليها أن تحقق توازنها في مهمات عدة يسقط جلّها عن الرجل، ورغم ذلك فهي (الكاتبة) تُطالب بما يطالب به المبدع عمومًا، وهو ما تحرص على ألا تتنازل عنه بطبيعة الحال.

في اعتقادي ما من تحدٍّ أشقّ على الكاتب، أيًّا كان جنسه، من عدم قدرته على إيجاد وقته الخاص، فالكتابة فعل انقطاع وانعزال، وإن لم يكن انعزالًا بالمعنى الفيزيائي للكلمة، كما أنها أنانية بطبعها، ولا ترضى بفضلة الوقت المتبقي بعد انصراف جلّه في كسب العيش، وتلبية المسؤوليات الأسرية، وأداء الواجبات الاجتماعية؛ لأن الكتابة في وطننا العربي لم تبلغ بعدُ شأنًا مقدَّرًا يمنح أصحابه ما يعفيهم من كسب قوت الحياة؛ ليتفرغوا لمشروع أبقى وأخلد.

هل من قبيل الصدفة أن أكتب عن تحديات الكاتبة بعد أن عشت ثلاث محطات لها صلة بالموضوع؟ أولاها ندوة «المشهد الروائي في عمان» التي اتفق الحاضرون فيها من روائيين عمانيين ونقاد على أن وقت الكاتب تفرّق دمه بين وظيفته ومسؤولياته الأسرية وواجباته الاجتماعية، ثم قراءتي لكتاب إليف شافاق «حليب أسود» وهي تسرد تجربتها مع الأمومة، وانقسامها النفسي بين أمومتها وكتابتها، وأخيرًا كوني حصلتُ على تفرغ مدة عام لإنجاز بحث أكاديمي، وأعرف ما يعنيه امتلاك الوقت لمشروع الكتابة والانقطاع له. إيزابيل الليندي (مثلًا) ما كانت لتكون ما هي عليه لولا الساعات الطوال التي كانت تقضيها يوميًّا في الكتابة من دون أن يقطع عليها أحد عزلتها، وغيرها آخرون وآخرون، ولكن على المرأة تقع التضحيات، فهي أُم غالبًا، ولما كانت الكتابة أنانية بطبعها، فكذلك الأطفال أنانيون بفطرتهم، وكلاهما لا يقبل بك مجزأً، فإما أن تمنحهما كُلَّك وإلا أخفقت إخفاقك الذريع.

ولكن تبقى الكتابة فعل تحدٍّ بذاتها: تحدٍّ للظروف، وتحدٍّ للزمن، وتحدٍّ للمشكلات، ومن كانت هذه طبيعته فلا بد أن يتحقق واقعًا. مهما استحكمت الظروف وتناسلت التحديات، فليست الكتابة وحدها شكلًا للصمود، ولكن الإيمان بها أيضًا كذات ليست في الختام إلا ذات الكاتب نفسه.

باحثة عمانية

سوسن دهنيم: مجرد «حرمة»

سوسن-دهينم

سوسن دهنيم

أن تكوني كاتبة من الخليج العربي فذلك يعني أنكِ أمام أعرافٍ وتقاليد وتابوهات، لا بد أن تصطدم بك حتى حين تديرين لها ظهرك ما دمت واثقة أنك تسيرين باتجاه النور. المجتمعات تختلف باختلاف شخوصها وعاداتها وتقاليدها، تختلف ثقافاتها ونظرتها للمرأة وكل ما يتعلق بها وما ينتج منها وعنها ولها، وما مجتمعنا الخليجي إلا واحد من هذه المجتمعات التي ربما تتفق في بعض الأمور بالرغم من اتساع مساحتها نسبيًّا وتعدد أسماء دولها، وهي أيضًا تختلف في أمور أخرى باختلاف المنطقة والبلاد. المرأة في بعض قبائل وعوائل دول الخليج مجرد «حرمة» يجب ألا تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وهذا انعكاس لرؤية المجتمع لها في تلك الدول، فبثته في عقول أبنائها وبناتها من خلال التربية العقيمة التي تنتج نساء ضعيفات ورجالًا يحاولون إقصاءها وتهميشها بكل الطرائق، ونتاج لوسائل الإعلام التي ما زالت ترى المرأة «ناقصة عقل ودين»، وتراها «مخلوقة من ضلع أعوج» لا يمكن أن يستقيم عوجها يومًا، ونتاج ما يزرعه بعض رجال الدين في عقول مريديهم حين يعتلون المنابر والحلقات الدينية.

الكاتبة أو المبدعة أيًّا كان مجالها الذي اختارته تصطدم في مجتمعنا بكثير من الأمور، من بينها عدم ثقة المجتمع بها وبما تقدمه، ومحاولة إقصائها وإحباطها، فضلًا عن نظرة المجتمع الدونية لكل من تعبر عن مشاعرها، وتحاول التحليق بعيدًا من الشرنقات التي تطوقها والجدران التي تأسرها كي تُسمِع صوتها للفضاء المفتوح وتُري العالم فنها؛ تصطدم بناقد لا يلتفت لما تكتبه أو تقدمه إلا بوصفه صادرًا عن «أنثى»، وبمجتمع يُحرّم صوتها ووجهها وضحكتها ووجودها مع أقرانها في بعض الأحيان.

ربما يكون المجتمع البحريني الذي أنتمي إليه مختلفًا بعض الشيء، وأكثر انفتاحًا واهتمامًا بالمرأة، ولكنه لا يزال يمارس بعض هذه الممارسات، بوصفه مجتمعًا شرقيًّا عربيًّا خليجيًّا لا يمكنه أن يتقبل كل ما يصدر من المرأة وعنها في بعض المناطق وعند بعض العوائل. على سبيل المثال لم أستطع في طفولتي ومراهقتي إخراج ما أكتبه للنور، وبقي مدة طويلة حبيس أدراجي ودفاتري، إلى أن استطعت في المرحلة الثانوية نشر بعض النصوص باسمي الكامل، ليس تحديًا وإنما فخرًا بما أكتب، وبالطبع وُوجِه ذلك برفض أسرتي بحجة أن هذه الكتابة تشغلني عن دراستي، وحين أردتُ الانخراط في المجتمع الثقافي كان عليّ أن أعاني كثيرًا؛ كي أستطيع الذهاب لأُسَر الأدباء والكتاب ذات البيئة المختلطة رجالًا ونساء، من دينيين وليبراليين.

شاعرة بحرينية

براءة

براءة

والغيم ينظر للنوافذ

كانت الجدران نائمة

ولطفلة سـتزيح سلطان الفراش

راح البياض يهيئ الإفطارَ

والأحلامَ

والطرقات

وازداد اتساعًا

وجه البياض

وتاجه السلطان

يهوي

حَـلَبَ الغمامَ

وصبّ أكواب الحليب

دائرة

دائرة

وردة قاسمتـُها خوفي

ألوانها اختلطتْ عليَّ

وكنت قبل قد اختلطت

لم أستقم

آنٌ عليّ وعيتـُه

آنٌ وأستلف الكلام

أقيم منه قصيدةً لتماسكي

لـم أصلْ بعد…

حَوَت حيرتي الورد

سرَقَت ضوءَه وتماسكَه،

أُغامرُ

خوف يزيد يغامرني

ثم لا أهل

حين لا أهلَ تكبُر فيك القصيدة

وفي الشارع الحُرّ تختارُهم

تـَعودتـَهم

لستَ تختارُ حُـبـًّا

لكن تعودتَ حدّ التوحش إن لم يكونوا

تغيبُ عن الوعي حين (يكونوا)

غشاءً عليك

لا نَفَسَ ناهضٌ بهم

لا نَفَسَ ناهضٌ دونهم

عودوك على موتهم

غربةٌ مُرَّةٌ

أو فأهل أمرّ

أين تتجه الآن؟

كبرتَ

يحيرك الورد أكثر أكثر

ما زلتَ تشكو لغربتك الأهل

تعودتَ

فاحتجت

أنت لن تنتهي