أسئلة القصيدة المغربية

أسئلة القصيدة المغربية

لا ينفصل راهن الشعر عن راهن الكتابة في المغرب كما في أقطار عربية أخرى. فلم يعد الشعر معزولا عن أسئلة الكتابة من حيث جدواها وانفتاحها عبر الأنواعيّ ومجالات تداولها. وهنا تطرح أسئلة كثيرة حول هجرة الشعر نحو القصة والرواية، وانفتاح القصيدة على ممكنات تعبيرية ذات هيمنة أقوى في الأنواع النثرية كالسرد، أو آتية من فنون بصرية كالتشكيل والبناء المشهدي للكتابة السينمائية، مما أصبح لافتا في قصيدة الراهن الشعري بالمغرب.

وإذا كانت الكتابة تنبني على مبدأ تراكم التجارب، فإننا نلاحظ ذات الأمر في التجارب الشعرية المغربية، فهي تتجاوب وتتصادى. فراهن الشعر المغربي بشكل عام، أشبه بمصب لأنهار منحدرة من عقود خلت. إنه راهن بفعل شعراء من عقدي الستينيات والسبعينيات ومما أعقبهما من عقود. هؤلاء الشعراء تأسس فعلهم اللغوي الجمالي على وعي براهنية القول الشعري في عقود مؤزمة للفعل الكتابي بسبب تحولات القيم الثقافية والنظم الفكرية والمستجدات الحضارية وشيوع وسائط جديدة للتواصل تميل للاستهلاك اللحظي السريع.

تعايش الحساسيات الشعرية

وما يميز التجربة الشعرية المغربية في راهنها هو انفتاحها على مختلف التجارب الشعرية التي قد تصل حد التباين؛ إذ تسمح لكل الحساسيات الشعرية بالتعايش؛ من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر وصولًا إلى صيغ شعرية عصية على التصنيف يتحاور فيها الهايكو بالأقصوصة القصيرة جدًّا بالشذرات السيرية الفايسبوكية، وكل ذلك إلى جانب تعبيرات شعرية بلغات محلية كالعامية والأمازيغية والحسانية لهجة أهل الصحراء.

هذا التعايش الشعري ليس تعايشًا لتجارب الشعر في حد ذاته، بل إنه تعايش في ذات الوقت لأجيال شعرية واصل بعض شعرائها مسارهم واستطاعوا «التأقلم» مع أسئلة القصيدة المغربية في راهنها الممتد من زمن التأسيس الستيني إلى الألفية الجديدة، بل كانوا فاعلين في ذلك.

وتلك الأسئلة لا يمكن أن ننسبها لجيل دون آخر، بقدر ما ننسبها لوعي اللحظة التاريخية بانكتابها شعريًّا. وكل الشعراء الذين كان لهم مثل هذا الوعي، أسهموا في تلك الأسئلة وفي تمثلها شعريًّا بصياغتها ضمن رؤى جمالية قائمة على التعدد لا على التوحد، وعلى الاختلاف لا على التماثل.

ومع أن الجوائز الأدبية لا تمثل معيارًا حاسمًا في الحكم على ظاهرة من الظواهر، لكن يمكن الاستئناس بها لاستكشاف ميول الذائقة القرائية الشعرية في بعض اللحظات. ومن باب ذلك أن جوائز المغرب الكبرى في الشعر التي تمنح من طرف لجان متخصصة، قد حازها في السنة الجارية الشاعر عبدالكريم الطبال وهو شاعر من جيل التأسيس الستيني، فيما كان قد فاز بها في سنوات سابقة شعراء لقصيدة النثر.

altabba

عبدالكريم الطبال

ضمن هذا الأفق، لا يكاد يكون بين الشعراء المغاربة اختلاف حول الحضور الفاعل لشعراء من الستينيات في راهن الشعر المغربي، مثل محمد السرغيني وعبدالكريم الطبال، ولا حول شعراء من السبعينيات كان لهم بدورهم أثر في مسار القصيدة المغربية في راهنها مثل محمد بنطلحة ورشيد المومني. ومن الجلي أن عددًا كبيرًا من شعراء العقدين الستيني والسبعيني افتقدتهم القصيدة المغربية بسبب رحيلهم إلى دار البقاء، أو بسبب انقطاعهم، أو لكونهم عجزوا عن تجاوز تجاربهم القديمة.

ويعد عقد الثمانينيات عقدًا مفصليًّا في مسار الشعرية المغربية الراهنة. ففيه عُرض كثير من المفاهيم للمراجعة بطرائق أكثر وضوحًا وحدّة. فلم تُراجع المفاهيم الفنية والأدبية فحسب، بل روجع أيضًا ما كان ثابتًا ومسلمًا به في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأتى ذلك في سياق كوني راجت فيه أفكار مرتبطة بالعولمة وسقوط المعسكر الشرقي، بحيث وجد الأفراد أنفسهم أمام اختبار صعب لأفكارهم الشمولية.

هوية على المحك

أصبحت هوية الشعر على المحك، ومن بين ما كان داخلًا في هويته السبعينية مثلًا، مبدأ الالتزام. والسؤال الذي طرح هو بماذا يلتزم الشاعر؟ وهل من الضروري أن يكون ملتزما؟ وماذا عن التزامه بذاته وفردانيته؟ وسار الشعراء منذ ذلك العقد في طريق حساسيات جديدة رأوا أنها تقتضي لغة شعرية جديدة ليست أحادية الوظيفة، وأن لغة الشعر وإن انفتحت وظيفيًّا فإنها تحتاج أن تكون بدورها موضوعًا للشعر يشتغل عليه. ولم تعد القضايا الكبرى تستأثر بمخيال الشاعر، فقد وجد أنه يحس بذاته وبجسده شعريًّا، وبما تراه عيناه عن قرب، وأن الأشياء الصغرى التي طالما جرى تهميشها لا تخلو من قيم دالة.

أدرك الشاعر أنه مجرد فرد ضمن منظومة كبيرة من الفاعلين، وأن له ضمن ذلك دورًا محدودًا إذا قيس بالفاعلية المباشرة في المجتمع، وأن تعلقه بالأحلام الكبرى لن يصيبه سوى بالمزيد من الخيبات. إنه ذات ضمن ذوات كثيرة تصطدم أحلامها مع إمكانياتها، وتتكسر طموحاتها على صخرة واقع مادي نابذ وظالم. فلم يعد أمام الشاعر من حل لمجابهة ذلك الواقع سوى بتحرير طاقاته الداخلية وإنطاق المسكوت عنه في اللغة.

وكل ما نقرؤه في قصائد الشعر المغربي الراهن، إنما يعبر عن انكسارات الذوات وخيبات أحلامها ورصد لعزلتها، كما يعبر عن تبرمها مما يحيط بها، وعن تغييبها مقابل بروز سطوة الأماكن. وقد تعبر القصائد في إطار ذلك عن هشاشة الكائنات والذوات داخل الفراغ الذي يحس به الكائن الشعري حوله أو داخله. هذه الخطوط وغيرها تفصح عن انتباه الشعراء للصور التي توجد بها ذواتهم في العالم في ظل المتغيرات التي طرأت على القيم المادية والقيم الرمزية في المجتمع المغربي.

وهذا ما يفسر دعوات التجديد والتجريب المتواصلة في القصيدة المغربية التي تكاد تنفرد عن راهن الشعر مغاربيًّا بهيمنة قصيدة النثر على تجارب الشعراء في المغرب، دون إلغاء لقصيدة التفعيلة بعد تطويعها وتحريرها من لغة الشعر الحر التأسيسي. فالفارق ليس هو الحد الوزني إنما بناء القصيدة في مخيالها وبلاغتها وعلاقاتها اللغوية الداخلية إضافة إلى الصورة التي تخلقها عن العالم، صغيرًا كان أم كبيرًا.

«العنقاء والخل الوفي» و«الظهور الثاني لابن لعبون» نموذجًا تنازع الروائي والتاريخي في روايتين لإسماعيل فهد

«العنقاء والخل الوفي» و«الظهور الثاني لابن لعبون» نموذجًا تنازع الروائي والتاريخي في روايتين لإسماعيل فهد

«يكتب علم التاريخ تاريخ المجتمعات لا تاريخ
الإنسان». ميلان كونديرا
bennouma

الحسن بنمونة

في مخيلة القارئ العربي تصور مجانب للصواب عن السرد في الخليج العربي، والراجح أنه لا يريد الاعتراف بوجود سرد في هذه البيئة. هذا التصور راجع إما إلى فكرة مسبقة عن البيئة الأدبية، ولهذا لا نستطيع أن نقنعه بتوافر إمكانات سردية عند كثير من الكتاب من أمثال: ليلى العثمان، وسعود السنعوسي الذي نال جائزة البوكر للرواية العربية، وفهد الدويري، وفرحان راشد فرحان، وفاطمة يوسف العلي، وطالب الرفاعي…، ومنهم طبعًا الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، وإما راجع إلى أن المجتمع يتوجس خيفة من المجال الروائي، بحكم أن الجزيرة العربية لم ينبغ فيها إلا الشعر، فقد كان منذ زمن بعيد هو ديوان العرب.

انطلاقًا من مبدأ تحكم التطور والتغير في الواقع، فلا شك أن هذا يجعلنا نفتخر بتجربة رائعة شهدتها الثقافة الكويتية المعاصرة؛ هي المرتبطة بتجربة الروائي إسماعيل فهد إسماعيل. صحيح أن الراهن الأدبي العربي لم يعد يعير بالًا لكتابنا الشيوخ الذين خبروا أسرار الكتابة، وأجهدوا أنفسهم في سبيل تأسيس كتابة جادة أصيلة متجذرة في واقعنا، ولكن هذا لا يعني أنهم منسيون. إن التجارب الخالدة في الكتابة لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن إقصاؤها.

الكاتب من مواليد 1940م، مثّل الأب الروحي للرواية الكويتية الحديثة (فهو من كتاب ستينيات القرن الماضي). صحيح أن كتابًا كويتيين سبقوه من أمثال فهد الدويري وفرحان راشد فرحان، ولكن التأسيس يربطه الدارسون بهذا الاسم. له من الأعمال الروائية والقصصية ما يربو على العشرين، نذكر منها: «البقعة الداكنة» (1965م)، و«كانت السماء زرقاء» (1970م)، و«الشمس في برج الحوت» (1996م)، و«طيور التاجي» (2014م). ولم يسجن الكاتب نفسه في فن واحد، بل كان كائنًا لمتعدد؛ للرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسة والمقالة. وقد توج في الآونة الأخيرة بجائزة سلطان العويس الإماراتية تقديرًا لما خلفه من إنتاجات، عملت على تطوير هذا الفن في الكويت، وفي العالم العربي.

تنوع في الموضوعات والأفكار

إن المتتبع لجولاته التجريبية في الكتابة الروائية واجد تنوعًا في الموضوعات والأفكار والأحداث؛ يتناول التوافق النفسي للمواطن الكويتي مع مستجدات العصر انطلاقًا من التحول الذي أحدثه النفط في البنيات الاجتماعية والاقتصادية، كما أنه ينفتح على التشكلات الاجتماعية المحلية، وهو يعالج موضوع فئة البدون التي خلقت إشكالية في هرمية المجتمع الكويتي خاصة، والمجتمع الخليجي عامة. في روايته «في حضرة العنقاء والخل الوفي»، يتحدث عن إسهام هؤلاء في المقاومة ضد غزو جيش صدام البلد واستشهاد عدد منهم، ومشاركتهم في البناء والتشييد من خلال بطل لا اسم له، ولعل الكاتب وهو يسميه بالمنسي ابن أبيه كان يريد إثارتنا بفكرة أن يكون الإنسان منسيًّا بلا هوية ولا وطن، إشكالية ينبغي لنا مساءلتها. الكاتب كان يسائل المجتمع، ويثير فيه رغبة السؤال والتنقيب، فلا يهم إن كان هذا السؤال فلسفيًّا يحيلنا إلى المفهوم المتفق عليه للهوية التي تجعلنا منتمين لهذه الأرض أو لتلك، أو كان أنثروبولوجيا يريد تفكيك العلاقة التي تجمع لا منتميًا بوطن ليس له، ولكنه يسعى إلى بعثه وتجديده بالانتماء إليه. الفكرة عينها لا تزال حاضرة في رواية أخرى هي «الشمس في برج الحوت»، وفيها نعاين الغزو العراقي للكويت سنة 1990م، وهذه الرواية جزء من سباعية جعلت الكاتب يحظى بمكانة خاصة في السرد العربي إلى جانب خماسية الروائي عبدالرحمن منيف، وثلاثية نجيب محفوظ.

al-3ankaaالبناء الفني لرواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» يقوم على تقنية سرد الأحداث المتداخلة والمتشابكة، فهي تنطلق من سنة 2010م، سنة الكتابة، ولكنها تعود بنا إلى ستينيات القرن الماضي وثمانينياته، وتسعينياته. وهذه المراحل التاريخية ترتبط بأحداث غيرت مجرى التاريخ العالمي، آخرها هو مفهوم النظام العالمي الجديد الذي انبثق مع الغزو العراقي للكويت. وهذه الأحداث نتعرفها من خلال الرسائل التي يوجهها الراوي والشخصية لابنته زينب. نقرأ في ص9: «يا زينب، منذ عام 1996، كنت وقتها في خامستك، وأنا أجاهدني للكتابة إليك»، وفي عدد من الصفحات نعثر على الاسم اللغز الذي ساهم في تلغيم الحدث، كما هو الشأن في ص13: «صباح الخير يا ابن أبيه»، أو نعاين الشعور بالمهانة والتهميش في ص94: «البعض محكومون بالبقاء على الهامش». ينفتح البوح على واقع الدم والغدر والحرب والغزو كما هو الشأن في ص190: «قبل الساعة التاسعة ليلًا أقفرت الشوارع من المارة عدا دوريات العسكر العراقي بما يكرس الإحساس بواقعية حدث الغزو». هذه بعض الاقتباسات التي تسعى إلى وضع الحدث في المسار التاريخي للكويت، وللأمة العربية جراء ما تكالب عليها من أحداث جسام. والواضح أن الكاتب كان يدين طرفين في الوقت عينه؛ يدين نظرة المجتمع المجحفة تجاه البدون، ويدين الغزو الذي استباح حرمة وطن آخر. وكأنه كان يثير الأسئلة والإشكالات؛ ليخز لحمنا حتى نشعر بما يحدث، على أساس أنه سيؤثر في التماسك الاجتماعي عامة.

الرواية كلها بوح وانطباعات وخواطر وتفتيت للمشاعر تجاه الذات والهوية، والبحث عن وطن يمثل الانتماء العرقي والثقافي. هذا البوح لم يصدر عن شخصية عادية، بل صدر عن شخصية استطاعت أن تبذل جهودًا لتنخرط في النشاط المسرحي والحصول على شهادة الماجستير، والمساهمة في المقاومة. هذا المنحى الذي اتخذه الكاتب في نقل الأحداث من خلال الرسائل لم يأت اعتباطًا، فالراجح أنه تأثر بسرود ضاربة في المتخيل العربي القديم والحديث، وضاربة في المتخيل الغربي، ولعل تأثره بالكاتب الإنجليزي صمويل ريتشاردسون (1689 – 1761م) واضح للغاية. يتوضح التأثر كذلك بتولستوي الذي انشغل بموضوعات الحرب والحب، وحب الوطن، والفضيلة والبعث.

غزل في بيئة متزمتة

taleb-errefai

طالب الرفاعي

تتنوع الموضوعات عند الكاتب، فنراه ملتفتًا إلى التاريخ في روايته الجديدة «في الظهور الثاني لابن لعبون» التي نشرت سنة 2015م، والاسم في الواقع هو لشاعر شهير في دول الخليج ولد بالسعودية، ثم رحل إلى الكويت، فاستقر فيها إلى أن مات بالطاعون. الرواية استحضار لتاريخ شعري حقق حضورًا لافتًا في فترة زمنية غابرة في الكويت، وخلف أثرًا لن يمحى في الذاكرة الجماعية، فكان تعامل الروائي مع الشاعر باعتباره شاعرًا ملعونًا من لدن المتزمتين أواخر القرن التاسع عشر. الرواية تحاول مقابلة الدنيا بالآخرة في بعديهما الفلسفيين خاصة؛ كيف تعامل شاعر غزل مع بيئة متزمتة تريد النيل منه؟ هل يستطيع الشعر أن يكسر شوكة الجمود والتخلف الفكري؟ الشعر هنا ليس عيبًا ولا حرامًا، فالحرام في تصور الآخر أن يتكئ على خرق العادات، وهو لم يأت بجديد إذا كنا نعلم أن شعر الغزل غرض قديم، فلم يراد له أن يصمت؟ لعل الكاتب يطمح إلى البحث في أسباب هذا التغير لا في الحلول، فهذه رهن بالقرارات السياسية العليا.

يقول الكاتب: إنه أراد كتابة سيناريو عن مكان عريق في الكويت هو المشفى الأميركاني الذي بني بداية القرن العشرين، ولما انكب على قراءة تاريخ شاعر نظم الشعر النبطي هو حمد بن محمد بن لعبون وجد نفسه بين كماشتين؛ كماشة المكان وهو جزء من تاريخ الكويت، وكماشة شاعر مثّل ظاهرة أدبية أواخر القرن التاسع عشر أثارت حفيظة المتشددين. فرواية «الظهور الثاني لابن لعبون» أراد بها الكاتب الإشارة إلى أن التطرف الديني، والتعصب للرأي، والإرهاب ليس وليد هذا العصر، بل هو وليد عصور خلت. يلتقي الشعر والمكان والتاريخ في الرواية لنعاين الآلام الإنسانية، والمشاعر الدفينة الموهوبة، وقيمة الكلمة التي تستطيع أن توحد بين الفرقاء. رواية عن شاعر منبوذ لأنه ينظم قصائد الغزل، وهو الغرض الشعري الذي عرفه العرب منذ العصر الجاهلي، يتحدث فيها عن النساء والحب. فهل كان الكاتب يسرد لنا تاريخ محاكمة للحب؟ هذا الحب الذي يبني المجتمعات، ويحقق السلم والأمان والأمل.

al-dhouhourالرواية لا تخلو من التشويق على الطريقة البوليسية؛ إذ نقف على الجثث المنتمية لبنات الهوى، وهذا يذكرنا بما حدث في رواية الكاتب الألماني زوسكيند «العطر. سيرة قاتل». صحيح أن الكاتب يصرح قائلًا ما معناه: إنه بلا آباء في الرواية، ولكن على اعتبار أن لا كتابة من دون مرجعيات ثقافية قد تكون مرتبطة بالثقافة المحلية أو العالمية، وهو ما يسمى بالتناص، فإنه يحق لنا البحث في التعالقات النصية. ولهذا نرى أن الكاتب إسماعيل فهد إسماعيل يكتب تاريخ الإنسان الكويتي لا تاريخ مجتمعه بتعبير ميلان كونديرا. نستطيع أن نلمح هذا في توظيف شخصيات تعود بنا إلى بداية القرن العشرين؛ منها: جان دارك البريطاني وجوان الأميركية التي تنتمي إلى الثقافة الغربية، أو توظيف شخصيات محلية تحيط بعالم الشاعر المنبوذ. فهل كان الكاتب ساذجًا وهو يعود إلى هذه الحقبة التاريخية؟ الجواب هو أن الكاتب أرّخ روائيًّا لمرحلة كولونيالية، تمثلت في الانتداب البريطاني والتدخل الأميركي من خلال بناء المستشفى، يكون في ظاهره دعمًا ومساندة، ولكن في خفائه يكون احتلالًا، وأرّخ كذلك لمرحلة مظلمة سادت أواخر القرن التاسع عشر، بتكفير الشاعر وتهديد حياته، وهو ما جعل كثيرًا من الدارسين يقرون بوجود علاقة بين ما حدث في تلك الفترة، وما يحدث اليوم في عالمنا العربي من تناسل فتاوى التكفير والإرهاب والقتل باسم الدين. ولا ننسى أن هذه الظاهرة ليست غريبة عن مجتمعنا العربي، فكثير من الشعراء القدامى قتلوا، أو اتهموا بالزندقة، أو أجبروا على الرحيل.

laila-al-othman

ليلى العثمان

fatima-youssef

فاطمة يوسف العلي

نلمح أيضًا تشابهًا بين بطل الروائي الروسي غوغول في روايته «المعطف» أكاكي أكاكيفيتش وشخصية المنسي. يتشابهان في العيش في الهامش، والإقصاء والنسيان وفي الحلم؛ أحدهما يحلم بمعطف يليق بوظيفته، والآخر يحلم ببطاقة هوية. على الأقل من جهة كون أن ما حدث للمنسي يخدم هذا التصور. هناك روايات غربية تناولت فكرة إسهام مهمشي المجتمع في الدفاع عن الوطن؛ من بلدان مستعمرة كما هو الشأن في الحرب العالمية الثانية، في فرنسا التي استنجدت بمستعمراتها. وقد استطاع الكتاب الفرنسيون لويس أراغون وأندري مارلو وسارتر أن يسردوا لنا أحداثًا عن التضحية والبطولة والكرامة والوطنية. بل إن هناك من ارتأى أن ثمة تأثيرًا أحدثه كامو في أدب كاتبنا، وهذا يعني أنه قارئ نهم لأنماط سردية متنوعة من جهة، وأنه يحاور نصوصًا وكُتابًا من ثقافات مختلفة من جهة أخرى، فالكتابة في جوهرها سلسلة من الكلام يتلفظ به الإنسان في أزمنة وأمكنة مختلفة.

المنسي يستمد رمزيته من النسيان والعدم

الناظر إلى الحمولة الرمزية والأسطورية للشخصيتين في الروايتين؛ «حضرة العنقاء والخل الوفي»، و«الظهور الثاني لابن لعبون»، يقف على أن لدلالة المنسي ابن أبيه بُعدًا أنثروبولوجيا يستمد رمزيته من النسيان والعدم، والهامش والنبذ، وهذه الدلالات لا تبرح كذلك شخصية الشاعر الذي جابه التقليد بالحب فكان مصيره النبذ، ولعل الكاتب وهو يؤشر على فكرة الظهور الثاني (وقد يعقبه ظهور ثالث ورابع… إلخ) كان بارعًا في الإثارة والوخز واستنهاض الهمم. أفلا تكون الكتابة وخزًا وكأنها إبر؟
البحث عن الهوية هو ما يطبع التشابه بين الشخصيتين؛ البحث الذي يذكرنا ببحث جوزيف ك في رواية كافكا «المحاكمة» عن الحقيقة. ولأنها تظل دائمًا متوارية خلف الغموض والألغاز، فقد عاينا في نهاية رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» ما يشي بأن شخصية المنسي لم تفلح في أن تغير وجهة نظر الآخر (قد يكون مجتمعًا أو سلطة ما). نرى البطل يتطلع إلى السماء «حدست وجود غيوم بيضاء في السماء، رفعت عيني، لا أثر للغيوم بالمرة» ص386. الغيوم هنا بالمعنى الأسطوري لا تنفصل عن مفهوم الخصب والحياة والأمل والبعث. أما بحث الشاعر عن مشروعية الكلمة في مجتمع قاسٍ لا يرحم، فهو بحث الإنسان عن حقيقة أن يكون إنسانًا حرًّا.