40 عـــامًا

40 عـــامًا

بحلول هذا العام الميلادي تبلغ «الفيصل» عامها الأربعين؛ إذ تستكمل أربعة عقود منذ إصدارها الأول عام 1977م.. سنوات طويلة مرت اعترى خلالها السياسة والثقافة والصحافة ما اعتراها مما يعرفه كل متابع وقارئ. وظلت المجلة وفيّة لموعدها الشهري، تتفاعل مع المتغير وثابتها الوحيد خدمة القارئ العربي حيث كان.

ففي الوقت الذي يتوقف فيه عدد من الصحف والمجلات التزمت مؤسسة الملك فيصل الخيرية ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برسالة الفيصل. وظل القرّاء وعشاق المجلات الثقافية هم عمادها الأول، وكان وفاؤهم للمجلة مصدر اعتزاز القائمين عليها، ومبعث حرصهم على الاستمرار وتجاوز العقبات التي تعتري صحافة اليوم؛ من تعثر التوزيع، وقلة التمويل الإعلاني، وتكاليف الورق والطباعة، وأخيرًا هجرة جماعية للقراء من المطبوع إلى الإلكتروني.

قبل عام من الآن أعلنت الفيصل عن رؤية جديدة للمجلة صدر منها حتى الآن خمسة أعداد مزدوجة هذا سادسها، غيرت المجلة حجمها الورقي، وزادت عدد صفحاتها وموادها، وأنشأت موقعًا إلكترونيًّا وحسابات إعلام اجتماعي، وأضافت (كتاب الفيصل) ليكون هديتها لقرائها مع كل عدد، وشملت الرؤية الجديدة انفتاحًا على كل ما هو ثقافي، كما واكبت المجلة أحداثًا لا غنى لقارئ اليوم عن مطالعتها والتفاعل معها.

f-1وقد نشرت المجلة خلال العام المنصرم عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات والتحقيقات والنصوص والترجمات التي انفردت بها، وكانت الملفات الثقافية الكبرى في كل عدد هي عنوان المجلة الأول؛ إذ تختار هيئة التحرير موضوعًا ثقافيًّا آنيًّا وتستكتب له أبرز المعنيين، بما يقدم للقارئ جرعة معرفية غنية في موضوع واحد من زوايا متعددة وآراء مختلفة.

وكما تعتز المجلة بما تلقته من قرائها وكتابها من ثناء على ما تنشره؛ فإننا نثمن عاليًّا ما طالعناه من نقد نثق أن مردّه حرص القارئ على إيصال صوته إلى مجلته، وفي الحالين فإن المجلة تعتذر عن عدم نشر هذه الرسائل على صفحاتها التزامًا من هيئة التحرير بالخط المهني الذي اعتمدته للمجلة، غير أننا جميعًا نسعد بما عبر عنه مثقفون في منابرهم الخاصة تجاه الفيصل.

وبهذه المناسبة الأربعينية فإن الفيصل ستعمل على ملف خاص بمسيرة المجلة، تستعيد فيه بعض تاريخها وتتناول حاضرها، وترحب المجلة بمشاركات القراء ممن قرأها وعرفها قبل عقود، أو ممن انضم إلى قرائها اليوم، من كتّاب المجلة وممن عمل فيها أو تعاون معها. كل ذكرى، كل موقف مع الفيصل سننشره في هذا الملف المقبل، وبين العدد الورقي والإلكتروني سيطالع القارئ شيئًا من تاريخ المجلة وأثرها الذي صنعته في الحياة الثقافية لمتابعيها.

كل شيء تغير في الظروف المحيطة بالصحافة الثقافية، غير أن الثوابت الأساسية بقيت كما هي، فالثابت هو المادة الثقافية الرصينة، والمتغير هو موضوعها وآلية نشرها وإخراجها.

لقد بلغتنا مشاعر عدد من متابعي المجلة ممن يذكر أن أول مادة صحافية نشرها في شبابه كانت في الفيصل، فقد اتسعت صفحاتها في ذلك الحين لمشاركات الشباب وعشاق الأدب والشعر والفنون من الجيل الغض، وكان ذاك منهج معظم الصحف والمجلات، أما المتغير اليوم فلم تعد الصحف والمجلات هي المنبر الوحيد الذي يستطيع فيه الجيل الناشئ أن يعبر عن نفسه وأن يطور مواهبه الكتابية، فقد أتاحت وسائل الاتصال الجديدة لكل مبدع مهما بلغت سنه وخبرته أن يكتب وينشر ويتفاعل مع قرائه من دون الحاجة إلى وسيط صحافي يراقبه ويقيمه.

ولا بد من تحية يقدمها الفريق العامل على إعداد مجلة الفيصل لكل قارئ ظل وفيًّا لمجلته حريصًا على اقتنائها في مكتبته، وشكر خاص لكل من عمل في هذه المجلة من الزملاء الذين غادروا إلى مواقع أخرى، وللمئات من الكتاب والصحافيين الذين راسلوا المجلة ونشروا فيها أعمالهم، وستبقى الفيصل بدورها على العهد في خدمة القارئ العربي لتواصل رسالتها الثقافية.

40 عـــامًا

عن بناء المدن وهدمها

اطلعت على كتاب (باريس) الذي جمعه الصحافي المصري الراحل أحمد الصاوي محمد، وصدرت طبعته الأولى عام 1933م، ثم أعادت نشره هذا العام دار إصدارات في الرياض مع دار آفاق في القاهرة، وفي الكتاب اللطيف يحشد الصاوي عشرات المقالات والمقولات التي كتبت في باريس، وبعضها أعده المشاركون لأجل مشروع الكتاب أوائل القرن الماضي. والواقع أن الكتاب يمثل رحلة ثقافية ووجدانية خاصة في طُرقات باريس وميادينها ومقاهيها، ولفتني أكثر ما لفتني محاولات المثقفين على اختلاف مشاربهم الإجابة عن سؤال كبير حول ما سمّوه لغز باريس.. سر باريس.. سحر باريس.. من دون أن تخرج بإجابة واحدة تصمد أمام سرّها المزعوم. هل يكمن في تاريخها، طقسها، حدائقها، حاناتها، معمارها…؟ بل إن الصاوي نفسه وفي مقدمته الموجزة لم يعلِّل اختياره باريس ليجمع فيها هذه المقولات، واكتفى بوصف عمله هذا بأنه «طاقة من الزهر لباريس» التي هي «دنيا منيفة يصعب حصرها بين غلافي كتاب».

ولطالما شغلني سؤال حول المدن وأسرارها. ما الذي يجعل مدينة ما حميمة ومؤنسنة، ومدينة أخرى موحشة لا يقرّ لك فيها قرار. فباريس مثلًا التي يقول الصاوي إنه كُتب فيها أكثر من مئتي ألف وصف حتى مطلع القرن الماضي؛ انفردت بين المدن الأوربية الأخرى بهذا الهيام الذي يبديه المثقفون والروائيون والسيّاح والعشاق من ساحة الكونكورد إلى غابة بولونيا، والقارئ في تاريخ «باريس الجديدة» يعرف أن من هدمها وأعاد بناءها هو جورج أوجين هوسمان الموظف المدني البسيط الذي حوّلها من برك وبيوت للفقراء على هامش نهر السين إلى ما نعرفه اليوم بعاصمة النور، واستمرت باريس تحافظ على بنيان هوسمان ومشروعه المعماري مهما توسعت على مر العقود الماضية، فيما نعرف أن القاهرة الخديوية التي بناها هوسمان نفسه بطلب من الخديو إسماعيل لا يكاد يبقى منها اليوم شيء وكانت أجمل ما في القاهرة، ربما لا يعرف سر المدن إلا بُناتها العظام ومهندسوها الأوائل. إنه الفارق الذي لا تخطئه العين بين لطف ميونخ على بساطتها وقسوة فرانكفورت على فخامتها، بل إنه الفارق في جدار من بضعة سنتيمترات فصل بين برلين الغربية والشرقية، مدينة تعامل النهر بوصفه شريان حياتها وتزينه بالورد وتنمو على ضفافه كل بهجاتها، ومدينة ترى النهر وسيلة نقل ومستوعبًا لنفايات المصانع، بين مدينة تحشر الناس في صناديق صفراء هائلة تسميها مساكن شعبية، ومدينة تفتح نوافذها على الحدائق والساحات والمهرجانات الملونة، إنه الفارق بين ثقافة الحياة وثقافة الحزب.

ولعله من الوهم أن يُظَن أن بناء المدن وتخطيطها هو شأن هندسي معماري لا علاقة له بالثقافة والسياسة، الأحزاب الشمولية التي جثمت على بعض المدن الأوربية حوّلتها لغرف للعمال وساحات للشعارات الحزبية وصور الزعماء وتماثيلهم، ومخطئ من يظن أن البناء الحديث والأبراج الزجاجية العالية والإسمنت المسلح يصنع مدينة، فبعض أجمل مدن العالم يخلو من برج أو عمارة بأكثر من خمسة طوابق، لكنها جميلة وعملية ونابضة، فيما تبدو المدن الكوزموبوليتية المصنوعة مكتظّة لكن فارغة، مهولة لكن موحشة، كأنما بنيت لتعيش فيها القاطرات والشاحنات. زائر الحي اللاتيني في باريس لن يفطن إلى العمارات المتهالكة والحديد الصدئ والألوان غير المتجانسة والممرات الضيقة، لكنه سيرتاح إلى المكتبات العتيقة والمقاهي التاريخية، وهذا المزيج البشري الحيّ الذي يعشق الحياة ويتنفس الفنون ويعبر عن نفسه بلا تزييف وتنميق.

بناة المدن العظام كانوا مشغولين بالبشر قبل الحجر، وأكثر ما يشد انتباهي وأنا أزور بعض العواصم العربية التي ما زالت مزدهرة هو مزارع الناطحات التي لا تنفك تتزايد ويعلو بعضها على بعض، وتحت عنوان التحديث والتنمية تنسى هذه الأبراج الشاهقة أن هناك إنسانًا تحت كعبها يريد أن يمر بينها ويدخل إليها ويخرج منها، معظم هذه الأبراج بنيت للسيارات تصل إلى بابها وليست مشغولة أبدًا بمن يدب على الأرض من المشاة، ووسط هذا التطاول يضيع كثير من المعنى الإنساني وراء العمران ليحل محله شيء من التحدي والتنافس المحموم.

لم يكن انتعاش الثقافة وتفاعل الأفكار وانصهارها مرتبطًا ببناء ضخم تحت عنوان مكتبة أو مركز أو متحف أو منتدى لا يفتح أبوابه إلا في المناسبات الرسمية، فعلى ضفاف التايمز في لندن تطل ثلاثة مراكز ثقافية كبرى تفتح أبوابها للمبدعين أيًّا كان لونهم وجنسهم وسنهم ليمارسوا فنونهم، وتظل المراكز مفتوحة حتى ساعة متأخرة من ليل العاصمة البريطانية، وقد تنشأ التيارات الثقافية الكبرى، وتؤلف الكتب وتعقد المناظرات والحوارات في أماكن لا يتوقعها أحد؛ مقهى صغير أو ميدان على جوانبه تباع الصحف والكتب والورد ويفترشه الرسامون والموسيقيون.

لقد غابت النشاطات الثقافية العفوية التي كانت تبعث الحياة في المدن العربية، وكثيرًا ما يبرز سؤال عن المدن المغلقة وتلك التي لا تتيح للأفراد والمجموعات فرصة التعبير عن الذات في الهواء الطلق، ومثل حقيقة فيزيائية سيجيء اليوم الذي تعبر فيه هذه الذوات عن رأيها بشكل عنيف، بدلًا من طرحها أفكارًا قد لا تصمد طويلًا وتنتهي.

هناك سر ما يميز المدن قديمها وحديثها، يطبعها بخصوصية أهلها، يؤنسنها ولا يحولها إلى مكان ضخم للعمل ووسائل النقل، يجيء هذا الحديث ونحن نتابع أخبار الحواضر العربية الكبرى تهدم وتدمر كل يوم، وبأقصى قدر من التفاؤل الممتنع عقلًا يتمنى الواحد منا أن يكون كل ما يراه مخاضًا لشيء جديد.

40 عـــامًا

عزلة الشاعر وواقع الشعر

حاورتُ الشاعر الراحل محمد الثبيتي منذ قرابة عقدين في لقاء إعلامي، وكان حينها قد مال إلى العزلة، وابتعد من النشر وأجواء الصحافة الثقافية في أعقاب ما تعرضت له موجة الحداثة من نكسات، وعلى خلفية ما واجهه ديوانه (التضاريس) من هجوم التيارات الإسلامية؛ إذ صودر من الأسواق، ثم سحبت من الشاعر جائزة النادي الأدبي في جدة، أتذكر قوله وقتها: «لستُ موظفًا عند النقاد» مؤكدًا أنه تجاوز (التضاريس) لكن النقاد لم يتجاوزوها، وظلوا يسجنون قصيدته في أجوائها، وأنه ملّ من إقناع الأكاديميين بذلك، وكدليل على تجاوزه هذا؛ أنشدني لأول مرة قصيدته النوعية (تعارف/ غرفة باردة)، وتضمنت تأمله الذاتي واشتغاله بالمحسوس واليومي، تمامًا كما يصف النقاد قصائد شعراء اليوم التي تحولت من الشأن العام إلى الخاص، ومن قضايا الأمة إلى هموم الفرد..

والحقيقة أن نصوص الثبيتي في الثمانينيات كانت مختبر جيل كامل من النقاد السعوديين المفتونين بالشعر الحديث آنذاك، وهو ما أثقل روحه المرهفة وشخصيته الميّالة للعزلة والخجل، غير أن عزلته وغيابه الطويل بعد (التضاريس) أنتجا في وقت لاحق مجموعة (موقف الرمال) التي رآها هو نقلة فنية وبنيوية في شعره إلى مرحلة جديدة.. ومنذ أن رأيته في لقاء المثقفين السعوديين بالرياض منفردًا وحائرًا، مرورًا بانتظاره على مسرح كلية اليمامة حيث أدرج اسمه في الأمسية ولم يحضر، حتى زرته في المستشفى في أيامه الأخيرة بجدة مستوحدًا ومنتظرًا الرحيل؛ ظلت شخصية الثبيتي عندي برهانًا على الثمن الذي يدفعه الشاعر لإنتاج قصائده، إنه كم هائل من المزاجية والعزلة والفردية..

عادت إليّ بعض هذه الذكريات وأنا أقرأ مقالة الشاعر سعدي يوسف المنشورة في هذا العدد من مجلة الفيصل، حين تساءل: «ثمّة صمتٌ أطالَ الـمَـكْثَ. مَن بعد الثبيتي؟» مستفهمًا عن حال الشعر السعودي بعد غياب الثبيتي، والواقع أن سعدي يوسف كرر السؤال نفسه عن المشهد الشعري في دول عربية أخرى بعد رحيل كبار الشعراء العرب، وقد تبدو الإجابات الجاهزة عن هذه الأسئلة يسيرة، بإحالتها إلى ما يتردد عن زمن الرواية، أو ظهور أوعية إلكترونية جديدة للتعبير، وخلاف ذلك من أسباب؛ غير أنها جميعًا غير كافية لتكون إجابة شافية عن مساحة الشعر الآخذة في التقلص والانكماش.

وقد خصصت « الفيصل » ملف هذا العدد لمحاولة الإجابة عن أسئلة غياب الشعر العربي ومآلاته في السنوات الأخيرة، وكثير ممن شاركوا في هذا الملف رفضوا فكرة تقسيم أحوال الشعر جغرافيًّا مؤكدين أن ما يمر به الشعر العربي هو شأن عام ولا يخص منطقة أو بلدًا بعينه، وسيجد القارئ مقالات لكبار الشعراء والنقاد العرب يحاولون فيها التعاطي مع المسألة الشعرية اليوم، رافضين وصفها بالأزمة، مؤكدين أن «الشعر ضرورة» كما يعبِّر أحمد عبدالمعطي حجازي في مقالته.

ولعل أكثر الظواهر بروزًا فيما يخص الشعر العربي اليوم هي مرور الربيع العربي ثقيلًا على الشعب خفيفًا على الشعر. خرجت الناس إلى الشوارع والميادين، وصدحت الحناجر ولم نرصد قصيدة واحدة ترددها الجماهير، لقد حمل العرب حقائبهم، وتشتتوا في المنافي، أو هاجروا في البحر، وتركوا الشعر وراءهم.. إن غياب الشعر عن أكبر هزة زلزلت الثقافة والسياسة العربية لهُو سؤال كبير، وحيثما قرأت اعتذارات نقدية تقول: إنها لحظة انفعالية آنية يحتاج الشاعر وقتًا ليستوعبها؛ تذكرت الجواهري ونزار قباني وغازي القصيبي.

القصيدة هي ثمرة احتدام طويل، إنها المرحلة الأخيرة من تجارب حياتية ولغوية يجب أن يعيشها الشاعر، وإذا قطع هذا الاحتدام طارئ ما؛ أفسد التجربة كلها، ونغّص على الشاعر عزلته التي يغتنمها ليجمع المعاني وتنصهر الصور في الكلمات، فهل تتوافر هذه العزلة في أيامنا هذه؟ لقد صار الشعراء اليوم مصلوبين على حساباتهم في فيسبوك وتويتر، وما إن تعنّ للشاعر فكرة حتى يسربها في مئة حرف لتغيب وسط ملايين الحروف الأخرى في الدقيقة الواحدة.

ويعنيني هنا إيراد حكاية شاعر ظل يقاوم فكرة الهاتف الذكي وحسابات المواقع الاجتماعية وتطبيقاتها المتناسلة، ونجح في الصمود سنوات حتى هُزم أمام إلحاح الناس، وصار اليوم يكره قراره بشراء هذا «الجاسوس الصغير» كما يسميه. لقد أنهكت الأخبار العاجلة وبرامج المحادثات خصوصية المبدع، وانطواءه الخلاق، ولعلها خدمت الكاتب والإعلامي، غير أن الأجهزة الذكية أجهزت على خيال الشاعر، واقتحمت عليه الباب، وهاجمته بالنصوص والمعلومات والصور.

ولد الشعر عند العرب ليكون وسيلة التواصل الاجتماعي، به يتناقلون الأخبار ويعبرون عن أشجانهم وأفراحهم، عن واقعهم وأحلامهم، وجاء استحداث وسائط تقنية لهذا الاتصال الاجتماعي ليؤثر في الشعر تأثيرًا بالغًا، لقد هزم الفيديو الصورة الشعرية، وخضع المجاز والاستعارة أمام النصوص الإخبارية والتعليقات اليومية. عالمنا اليوم شديد الواقعية، لا يترك مساحة للخيال الذي هو مادة الشعر.. إنه واقع جديد يتطلب استجابات جديدة تناسبه. هكذا نرى الشعر محض نص هامشي لأغنية سريعة، لقد عبث موسيقيو اليوم بالقصيدة؛ كي تستجيب للنوتات الزاعقة، وهكذا أيضًا نجد الشعر يلهث في مسابقات لا علاقة لها به، وإذا أردتَ دليلًا أخيرًا على واقع الشعر الآن فما عليك إلا قراءة قصائد الفائزين بالجوائز الشعرية العربية.

40 عـــامًا

إيران واللادولة العربية

هذا الزمن العربي الذي وصلنا إليه رغم كل مآسيه وإحباطاته يتميز بالوضوح والتجلّي، فخلال السنوات الخمس الأخيرة سقطت مع الأنظمة شعاراتها، ومع النخب ريادتها، وصار المشهد الذي أمامنا أكثر انكشافًا؛ ذلك لأننا نرقبه اليوم صافيًا من دون رتوش.. ما عاد يشوّش المشهد شعار للبعث والقومية، ولا شعار للمقاومة، ولا شعار للأحزاب السياسية الإسلامية، ولا شعار لمكافحة الإرهاب، ولا شعار لحقوق الإنسان.

مشهد واحد مهم ومعبر، نلناه عربًا باستحقاق ضمن هذه الامتيازات المؤلمة التي حصلنا عليها؛ هو أننا صرنا نعرف ما الدولة العربية المناسبة، بل المثالية لجارتنا إيران، لقد ظلت الجارة غير الودودة تعمل في دولنا منذ ثورتها عام 1979م، وتفرغت لنا منذ توقفت حربها مع العراق عام 1988م، وكنا وقت عملها نكتفي بنداءات حسن الجوار والأمنيات الدبلوماسية الطيبة؛ حتى تكشّف لنا المشهد اليوم عن «اللادولة العربية» المرغوبة إيرانيًّا.

أولى مواصفات اللادولة العربية الإيرانية هي أن تكون بلا جيش وطني. فالعدو الأول لهذه اللادولة هو الجيش الوطني الموحد؛ لذا فاللادولة تستعيض عنه بميليشيات طائفية، يديرها «مستشارون» من الحرس الثوري الإيراني. لبنان تحول جيشه إلى متفرج على ميليشيات طائفية تحتل بيروت عام 2008 وهو يراقبها الآن تعبر الحدود في مهام لا نهائية؛ من أرياف دمشق إلى سواحل المندب. الجيش العراقي الذي حلّه بريمر وأعاد تركيبه المالكي بصفقات مليارية؛ صار أضعف من الميليشيات التي لا تحصى أسماؤها، وهو أيضًا يفسح لها الطريق؛ لتحقق مع الأهالي وتعتقل وتصفّي. الجيش اليمني حلّت محلّه «لجان ثورية» تقيم نقاط التفتيش، وتشرف على توزيع صفائح البنزين. أما في سوريا فما تبقى من الجيش النظامي، ورغم كل ما أثبته ضباطه من ولاء للنظام؛ جرى تعويضه «بالمتطوعين» من أصقاع الأرض «لحماية المراقد»، ومحاربة «التكفيريين»، فالجيش العربي مهما كان حليفًا؛ فسيظل خطرًا على اللادولة العربية الإيرانية، فقد ينبت له رأي مستقل، وقد يطرح على نفسه سؤالًا.

وثانية مواصفات اللادولة العربية الإيرانية هي زعامة محلية موالية، تأخذ شكلًا دينيًّا وسياسيًّا معًا.. وفي الطريق إلى صناعة هذه الزعامة يجري طحن كل مرجعية عربية مستقلة؛ حسن نصرالله هو المثال الأبرز لها في لبنان، وجرى استنساخه بشكل متواضع في اليمن.. أما في العراق، ولأنه هدف إيران الأول، فالزعامات الدينية والسياسية لا يجري ترشيدها في شخص واحد، بل توزع المهام؛ فبدلًا من الميليشيا الواحدة هناك مئة، وبدلًا من الزعيم هناك عشرات يتقاسمون الأدوار بما يبقي البلاد محتاجة أبدًا لرأفة المرشد الأعلى.

ثالثة مواصفات اللادولة العربية الإيرانية إيجاد شعار تعمل تحته هذه الميليشيات، ويبتز به الخصوم، على ألا يكون مذهبيًّا ضيّقًا، بل لائقًا بثقافة البلد، فقد جرى حلب ضرع المقاومة والصهيونية في لبنان حتى جفّ تمامًا، وفي اليمن نزلت المدفعية من جبال صعدة؛ لتحارب الفساد وتسقط «الجرعة» إلى أن وصلت القصر الرئاسي في صنعاء، فظهر شيء يسمى «الدواعش» الذين هم أعداء اليمن، واندرج تحت هذا التدعيش يساريون وليبراليون وناصريون، أما في العراق فكان اجتثاث البعث حتى صار نصف أبناء وبنات الأنبار مهجرين ومسجونين وملاحقين.. ثم جاءت داعش فابتلعت حربها كل شعار آخر.

رابعة هذه المواصفات للادولة العربية الإيرانية تتمثل في عقد الصفقات الداخلية والخارجية لإبقاء اللادولة لادولة؛ ففي لبنان كانت الصفقة مع التيار الوطني الحر ممثلًا في ميشيل عون؛ أحلام الزعامة مقابل صوتك وصمتك، وفي اليمن صفقة مع علي عبدالله صالح؛ الرئاسة مقابل البلاد، وفي العراق مع زعامات قبلية ومدنية مقابل مواقع برلمانية وبلدية، أما الصفقات الكبرى فهي مع الدول الغربية؛ محاربة القاعدة في اليمن، وحماية السفارات والدبلوماسيين في لبنان من التفجيرات الغامضة، ثم الامتناع عن مهاجمة الجنود الأميركيين في العراق..

والواقع أن الصفقة في العراق بين إيران والولايات المتحدة يجب أن تدوّن، وألّا ينساها التاريخ. لن يغيب عن الذاكرة أبدًا كيف أسكتت الإدارة الأميركية الجنرال بترايوس بعد أن اتهم السفير الإيراني السابق في العراق حسن كاظمي قمي بالتخريب وتمويل الميليشيات وتسليحها، وكيف صمتت الولايات المتحدة وتفرّجت على إبادة اللاجئين الإيرانيين في معسكر أشرف في ديالى حتى أغلقته الميليشيات تحت سمع وبصر الأمم المتحدة؛ كل هذا تم لأجل أن تغادر الإدارة الأميركية تركة بوش الثقيلة.

إذا غاب الجيش وازدهرت الميليشيا وزعاماتها وساد الهوس الديني والشعاراتي؛ جاءت اللادولة العربية الإيرانية بمقترحات الحوار وحكومات الشراكة والوحدة الوطنية التي ليس لها من اسم الوحدة والوطن نصيب؛ حكومة تعمل طبقتها السياسية تحت تهديد بالاغتيال، أو ترغيب بالمناصب والأموال.

هذا مشهد مختصر للادولة التي يمكن أن تقبل بها إيران، جارتنا التي يدعونا الرئيس الأميركي بارك أوباما في حواره مع مجلة (أتلانتك) للتعايش معها، وبناء «سلام بارد» في المنطقة، والواقع المرّ اليوم يؤكد أن التعايش المطلوب يشبه تعايش المريض مع ورمه السرطاني، وأن السلام البارد بالمواصفات الإيرانية هو سلام الخرائب والمقابر.

رسالة سعود الفيصل الأخيرة

رسالة سعود الفيصل الأخيرة

70 يومًا فصلت بين طلب الأمير سعود الفيصل إعفاءه من وزارة الخارجية ووفاته رحمه الله، مدة وجيزة كانت إعلانًا رامزًا عن هذا الارتباط الوثيق بين العمر والعمل، بين حياته الشخصية ومكتبه في وزارة الخارجية، بين معاناته وطائرته التي كانت أبدًا في وضع الاستعداد، كأنما وهب نفسه لهذه المهمة ما عاش، فلما انتهت المهمة أسلم الروح لبارئها. أربعون عامًا قضاها في الطائرات والاجتماعات والمفاوضات، كان يؤجل الراحة ويؤخر العلاج حتى تعالج القضايا وتنتهي الملفات، غير أن هذه الملفات والقضايا ما لبثت تتناسل بما تنوء به أكتاف رجل واحد كان في همّة أمّة. تعامل مع المرض والألم في السنوات الأخيرة بتحدٍّ، فكأنما كان يسخر من أوجاع لن تستطيع تثبيط عزيمته. أتذكره في السنين الأخيرة يمرّ أمام الصحافيين ويلوح بعصاه: من يسابقني؟ وأعرف ممن دوّنوا ذكرياته عناده لنصائح الأطباء ووصايا المحبين بالراحة، أتذكر كلماته البليغة وعباراته المصقولة عن قضايا العرب، وهو يعالج عشرات الأزمات ويتناسى عامدًا أن للجسد طاقة، وأن الحمل الكبير سيكون له أثره على قامة سامقة وعقل متوقد وبلاغة لم تؤت لأحد في جيله من السياسيين.. وهنا أشارك من كتب عن الراحل الكبير بعض مواقف عشتها صحافيًّا ألاحق الأخبار.

في مايو 2011م كان وفد دبلوماسي خليجي في صنعاء ينتظر في السفارة الإماراتية أن يقبل علي عبدالله صالح توقيع المبادرة الخليجية بعد أن وقّعتها المعارضة، تجمّع حول السفارة مسلحون ليحاصروها، وكان الموقف يتصاعد ويزداد خطورة بمرور الوقت.. في هذه الأثناء كان المجلس الوزاري الخليجي منعقدًا في قاعدة الرياض الجوية ينتظر عودة الوفد الخليجي بقيادة الأمين العام لمجلس التعاون ومعه المبادرة موقعة من الطرفين.. وكنا مجموعة من الصحافيين خارج قاعة الاجتماع نتابع الأخبار ونجري الاتصالات. حين بلغ الصحافيين والدبلوماسيين خارج القاعة نبأ احتجاز الوفد الدبلوماسي الخليجي ومعه عدد من السفراء الغربيين، ووجود مسلحين بالمئات يهددون سلامة الوسطاء؛ اشتعلت التكهنات حول كيفية الرد الخليجي على هذا التصرف من الرئيس اليمني السابق الذي كان قد زعم موافقته على المبادرة واستعداده للتوقيع، ثم أخلف وعده. حينها سألت دبلوماسيًّا خليجيًّا مطلعًا: ماذا تتوقع أن تكون ردة الفعل؟ هل سترد دول الخليج بقوة؟ تسحب المبادرة؟ تذهب لمجلس الأمن؟ تتحرك عسكريًّا؟ وكنت أعلم أن هناك دولًا خليجية راغبة في ردع الرئيس اليمني والرد على هذا التصعيد.. قال لي: «ما دام سعود الفيصل في هذا المجلس فلا تتوقع رد فعل غير دبلوماسي.. سيكون الرد مدروسًا؛ ثقْ بذلك». وفعلًا عاد الوفد الخليجي بعد انتظار ست ساعات تقريبًا دون توقيع المبادرة الخليجية، وأعلن المجلس حينها «تعليق المبادرة» لحين التزام الأطراف كافة بها.. كان هذا الإعلان من وجهة نظر إعلاميين حينها هادئًا، ولا يمثل ردًّا موجعًا على الرئيس اليمني السابق.. بعد أقل من خمسة أشهر على هذه الحادثة كان علي عبدالله صالح في الرياض يوقّع المبادرة الخليجية ويتنازل عن السلطة، وأيًّا كان ما جرى بعد هذا التاريخ؛ فإن المبادرة الخليجية ظلت حتى اليوم هي مرجعية الأطراف اليمنية كافة، وتحظى باعتراف الشرق والغرب.

اليوم أستعيد هذا الموقف، وأعرف كيف رسم سعود الفيصل المبادرة، وأشرف على تفاصيلها، وكيف تجاوزت نظرته البعيدة ردود الفعل الآنية إلى النتائج، كان يمكن للمجلس الوزاري حينها أن يعلن مواقف قاسية، ويخرج بعناوين عريضة تشفي صدور المتحمسين، لكنه فضّل تجاوز الموقف ليصل للغاية، وهي تجنيب اليمن حربًا أهلية كانت على وشك الاندلاع حينها، وأعرف أن الفضل الأكبر في ذلك يعود إلى حكمة سعود الفيصل، وبعد نظره، وحصافته، وسيسجل التاريخ يومًا أن الفيصل كان المهندس الحقيقي للانتقال السياسي في اليمن، وأن الذين غدروا بالعملية السياسية –يا للمفارقة!- ما زالوا يرون المبادرة مرجعيتهم الأولى لإنهاء الأزمة.

بعد ذلك بقرابة العام، وتحديدًا في مارس 2012م، جاءت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية إلى الرياض؛ لحضور الحوار الإستراتيجي بين دول الخليج والولايات المتحدة، وكان معها طاقم عسكري قدّم عرضًا مرئيًّا لوزراء الخارجية حول نظام دفاع صاروخي باليستي تقترحه الولايات المتحدة على دول الخليج، وفي المؤتمر الصحافي سأل صحافي الأمير سعود الفيصل وهيلاري كلينتون عن هذا النظام الصاروخي وفاعليته، وموقف دول الخليج منه، ما زلت أذكر كيف راحت كلينتون تحاول جاهدة شرح النظام الصاروخي، وتأثير انحناء الأرض، وأنماط الرياح على أنظمة الرادار والتحكم! سردت كلينتون ما سمعتْه من العسكريين بشكل مرتبك.. وكان الفيصل يرقب ما تقوله الوزيرة، حتى إذا انتهت من الإجابة ابتسم وقال بإنجليزية رفيعة: «زملاؤنا الأميركيون يحبون الحديث في الشؤون العسكرية، ويمكنكم أن تروا كيف أن دبلوماسيتنا لم تتطور بنفس سرعة الدبلوماسية الأميركية، فهم يستطيعون الآن الحديث بلغة عسكرية بينما لا نستطيع ذلك. سنستعين بخبراء!».

كان الجواب لاذعًا ومحمّلًا بالدلالات، والرسالة السياسية وراءه أن الحوار الإستراتيجي الذي يريده الخليج مع الولايات المتحدة يتعلق بمواقف سياسية كمفاوضاتها السرية مع إيران، وأهمية المساعدة في حل المعضلة السورية، ولم يكن الخليج آنذاك مشغولًا بصفقات تسلّح، فضلًا عن أن المجلس الوزاري لم يكن مفوّضًا ولا متخصصًا في شراء أنظمة صاروخية، بل كان ذلك تخصص وزارات الدفاع. لقد كان حضور سعود الفيصل الذهني في المؤتمرات الصحافية مثيرًا للإعجاب، ولم تكن الأسئلة والمواقف السياسية المختلفة تبعده من أهدافه المباشرة.

ولم يشأ الفيصل أن يرحل من دون أن يدوّن كلمات أخيرة في سجله الحافل، فقبل ثلاثة أشهر من وفاته وفي الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ نهاية مارس 2015م؛ ألقى كلمة حاسمة ردًّا على رسالة الرئيس الروسي للقمّة العربية، طلب الفيصل الكلمة ليرد مفصلًا رأيه في الموقف الروسي من الأحداث في سوريا، ووجوب أن تكون العلاقة بين الدول العربية وروسيا ندّية، وقائمة على مراعاة مصالح الطرفين، وهنا أتذكر شهادة الدكتور يوسف السعدون أنه والوفد المرافق دهشوا لهذه الكلمة رغم أن الألم كان قد تمكّن من الراحل بحيث لا يسمعون ما يقول قبيل الكلمة بدقائق، فيما جاءت الكلمة مثالية في قوتها ودبلوماسيتها، وتناسب مدرسة سعود الفيصل في الدقة والبلاغة.

وكأنما كانت هذه الكلمة رسالته البليغة الأخيرة لأمته العربية، كان واجبه يناديه، وكان استقبال كلمة الرئيس الروسي بلا تعليق أمرًا غير مناسب للقمة وللعرب.. تحامل على ألمه وارتجل خمس دقائق يمكن وصفها بالنادرة في القمم العربية، كانت، على قوتها، تحتفظ بحقّ روسيا في حماية مصالحها، وعلى عنايته بالكلمات؛ فقد أوصل رسالة ناقدة، أثارت وسائل الإعلام، واحتلت عناوين الصحف والوكالات، بما يليق بمكانة سعود الفيصل وتاريخه وثقة السياسيين برجاحه رأيه.

رحم الله سعود الفيصل، كان أمّة في رجل، وسيظل مكانه شاغرًا في القلوب والعقول التي عرفته وأحبته.