أدباء في الظل.. هل لعبت الميديا دورًا في تكريس كتّاب وتهميش آخرين؟

أدباء في الظل.. هل لعبت الميديا دورًا في تكريس كتّاب وتهميش آخرين؟

يقال إن أبا نواس التقى ذات يوم شاعرًا نظم بيتًا جيدًا في الخمر، فلما سمعه منه أبو نواس استحسنه، وبعد أيام التقاه في مجلس الأمير، وكان أبو نواس مقدَّمًا على جميع الشعراء، فأنشأ قصيدة تضمنت بيت صاحبه، فلما استنكر الرجل ذلك، نظر إليه الأخير قائلًا: أيعقل أن يقال بيت جيد في الخمر ولا يكون لي؟ يقال أيضًا: إن المنافسة بين عميد الأدب العربي طه حسين وخصمه الدائم الدكاترة زكي مبارك دفعت العميد إلى استخدام سلطاته لمنع غريمه من التدريس في الجامعة، مما دفع الأخير لأن يطبع كروت تعارف كتب عليها: «الدكاترة زكي مبارك، حاصل على عالِميَّة الأزهر، ولم يحصل عليها طه حسين».

ربما تجيء هذه الطُّرَف في إطار الفكاهة التي تنسب إلى الخصوم، لكنها توضح أن تاريخ الأدب العربي عُرِف من مظلومي الأدب أكثر من مشاهيره، فلكل عصر عبقريّ حسبما قال رجاء النقاش في إحدى مقالاته في الستينيات عن نجيب محفوظ، لكن هذا العبقري كي تتحقق عبقريته وحده فإنه بوعي أولًا وعي منه يحجب الضوء عن الكثيرين، ويفقد الأدب كثيرًا من كُتَّابه المهمين، لا لشيء سوى أنهم ولدوا في عصر كاتب أو شاعر شهير، أو لأنهم لم يفطنوا إلى دولاب الألعاب السحرية للميديا في زمانهم، فلم يستطيعوا الترويج لكتاباتهم، ولم يتمكنوا من التواصل مع الجماهير الغفيرة، وربما مات بعضهم مغبونًا بمظلوميته دون أن ينال اعتراف النقاد بكتاباته، مما يجعلنا نقول: «ياما في الأدب مظاليم»، تلك المقولة التي عبَّر عنها العرب قديمًا بقولهم: «وأدركته حرفة الأدب»، بما تعنيه من تعب وكدّ لأجل مجدٍ لا يجيء.

«الفيصل» تساءلت: مَن هؤلاء الأدباء الذين عاشوا في الظل، ولماذا؟ وهل ما زال الظلم مستمرًّا رغم ما أتاحته ثورة الميديا الجديدة من تقنيات وقدرات للجميع، أم أنه لا مظلومين في الأدب، وكلٌّ يأخذ نصيبه من المجد والشهرة حسب قدر موهبته؟

رؤوف مسعد: التاريخ غبن لويس عوض وسلامة موسى

_الروائي-المصري-رؤوف-مسعدأعتقد أن الإحساس بالمظلومية عند المبدعين المصريين هو إحساس صادق وصائب لعدة أسباب تتعلق بحالة الفساد المتفشية «كطريقة حياة» في المجتمع المصري بكل طبقاته، وهو فساد موروث من عصر الفراعنة (ارجع إلى شكاوى الفلاح الفصيح) والسؤال هو: لماذا لم ينتبه الناس إلى عدد لا بأس به من الكُتَّاب المهمين الذين ظهروا في عصر الأقمار الساطعة والشموس المضيئة مثل محفوظ وإدريس..إلخ؟ السبب الأول هو أن المسيطرين على الميديا والموجهين لها ثقافتهم في الأصل بسيطة ومحدودة.. لنرجع إلى ذلك الزمن.. زمن محفوظ وإدريس، من المسؤولون الأساسيون عن الميديا في ذلك الوقت؟ هم ضباط جيش حصلوا على شهادة إتمام الثانوية العامة، ووجدوا أنفسهم في قمة الهرم الإداري، ويسيطرون على مُقَدَّرات عشرات ومئات من المثقفين المصريين، أما عن عصر طه حسين وما يحيط به، فكان من العصور المضطربة في تاريخ مصر الحديث.. فهو عصر كان يسمح لقرويٍّ أعمى أن يذهب إلى السوربون بعد أن كان كل مراد أهله أن يحفظ القرآن، ويتّخذ منه صنعة تغنيه عن سؤال اللئيم، بوصفه كان معوقًا جسديًّا. ذلك هو العصر الذهبي للنهضة الثقافية برعاية دولة الباشوات الإقطاعيين… وها هو طه حسين والعقاد وسلامة موسى والرافعي والطهطاوي ومن سبقهم ومن التحق بهم من أجيال يحرسون الأرض تمهيدًا لظهور لويس عوض «كمفكر» مع زملائه الآخرين، ثم ظهور نجيب محفوظ ويوسف إدريس.

بالطبع يستحق العميد ومحفوظ وإدريس ما نالوه من شهرة، فطه حسين كان أول من فكر في اختراق التابوهات الدينية المسلَّم بها في دراساته التي أشهرها «في الشعر الجاهلي»، ثم محفوظ الذي استطاع بدأبه، رغم موهبته المحدودة، أن يتسلّق السلم الأكبر، سلم الصحافة، فموهبة محفوظ محدودة في الخيال الأدبي والإبداعي لكنها غير محدودة في التأمل واقتناص الأفكار والقدرة على صياغتها بأسلوب بسيط وروائي؛ لذا تجد أكثر أعماله تأثيرًا في القُرَّاء (النخبة) هي التي تناقش فكرة القدر والسماوات والوجود وموضع الإنسان في النظام الكوني وبالتالي الظلم المجتمعي.

أما يوسف إدريس فكان أكثر جموحًا وقوة وانطلاقًا؛ لذا أبدع لنا قصصه القصار النادّة في روعتها، ومسرحياته الغريبة المتأملة لحال البشر، ورواياته القادرة على الأخذ بتلابيبنا وأنفاسنا، وشخصياته الجامحة نفسيًّا وقدريًّا وبشريًّا، على عكس محفوظ (الموظف) المدجن المطيع الدؤوب الباحث عن رزق شريف وعلاوة يستحقها. غبن التاريخ لويس عوض كما غبن سلامة موسى مع أن تأثيرهما في الإبداع والفكر المصري يوازي بقوة تأثير طه حسين الأريب الذي ارتبط بالوفد -حزب الأغلبية- فأصبح وزيرًا، بينما ارتبط إدريس باليسار المغضوب عليه من كل أنظمة الحكم في مصر، وكذا ارتبط به لويس عوض وسلامة موسى ومعظم كتاب الستينيات الأصلاء الذين غيَّبهم نظام ناصر في السجون بتُهَم متنوعة، ولم ينجُ منهم سوى عدد محدود مثل بهاء طاهر، وجميل عطية إبراهيم، وإدوار الخراط.

روائي مصري.

خليل النعيمي : ضجيج العاديين يعتم على حضور الكبار

خليل-النعيميالإعلام لا يمكنه أن يصنع كاتبًا كبيرًا، والعُملة الرديئة لا تطرد إلّا العملة الأردأ منها من السوق، فالضجيج الإعلامي لكُتاب «عاديين»، حتى لا نقول مبتذلين، أو غير مهمّين، يُعَتِّم على حضور كُتاب «كبار». فالكاتب واحد. وليس هناك كاتب كبير وآخر صغير، إلّا بالحجم. والموهبة لا تُقاس بالضجيج، ولا بالإشهار. الموهبة ليست سلعة. إنها موقف تاريخي من العالَم، وتصوّر معقَّد وعميق للحياة، فضاؤها هو العلاقة الجدلية مع الكائنات، ومجالها هو البحث المستمر عن جوهر الوجود. ولكن ما هذا الجوهر؟ وكيف تتجلّى صُوَره؟ وما علامة الاقتراب منه؟ في هذا المثلث تكمن طاقة الموهبة وخطورتها. الفكر العربي المعاصر ما زال بدائيًّا، ومتخلِّفًا. والإعلام الذي تتكلم عنه كأنه طاقة حقيقية، ما هو إلا «فقاعة معرفية» مثل فكر «السلطة العربية الواحدة» الذي يتحكَّم فيه. إنه إعلام مغرض. لا يستند على إستراتيجية معرفية لها بُعد تاريخيّ، ولا يتمتّع بمصداقية حازمة. لذا فهو لا يستطيع أن يخلق موهبة حتى لو تجيّش من أجلها، ولا يُلْغي أخرى، إذا كانت موجودة، حتى لو أراد ذلك.

مَنْ قال: إن الأدب الحقيقي يحب الأضواء؟ ما هذه المهزلة التاريخية؟ كيف يمكن لمبدع حقيقي (لأن المزيفين كُثُر) أن يمسك بخيوط «لعبة الكريات الزجاجية» وهو تحت الأضواء «العامِيَة»؟ المبدع ضمير، وسلاحه اللغة. الضمير لا يقبل المساوَمة، واللغة لا تقبل التنازل. فــ«مَنْ يقبَلْ أي تنازل في اللغة، يقبَلْ أي تنازل في الحياة».

روائي سوري مقيم في باريس.

 

ليلى الأطرش: عالم تسيطر عليه الشللية

ليلي-الأطرشلم تعد مسألة الترويج الإعلامي قصرًا على أحد، فالعالم يعيش عصر صناعة النجم؛ السياسي والاجتماعي والفنّي والأدبي، ومن لا يجيد هذه اللعبة أو يجد من يروّج له فيها، فهو بالتأكيد سيُظلَم كثيرًا، ولا ينال المكانة التي يستحق، ويترك الواجهة لمن هم أقل قيمة ممن يجيدون الظهور الدائم، أو يعتمدون العلاقات الخاصة والشللية والمحسوبية بل المناطقية التي تسود الوسط الثقافي العربي للأسف. كثير من النجوم صنعهم الإعلام وكسبوا من ذلك الشهرة والمال رغم ضعف القيمة الفنية والفكرية لمنجزهم الإبداعي، وهناك أسماء تكرّست منتصف القرن العشرين كقامات أدبية استفادت من مواقعها الصحفية أو قربها من السلطة أو الحركات الثورية أو بسطوة مادية أو وظيفية يفرضونها، تلمّعت عربيًّا ودوليًّا، وحين زال الوهج بانت قيمتها الفكرية والإبداعية الحقيقية.

وليس الإعلام وحده المسؤول عن هذا، بل انحسار دور النقد العربي، وآليات الجوائز العربية، فنحن نشهد نزعة شللية فيما يعرف بالصحافة الأدبية، وغياب المنابر الثقافية والمجلات المتخصصة التي تحتفل بالغث أكثر من السمين، ويؤخذ على بعض النقاد أنهم لا يتابعون الجديد، مع أن مسؤوليتهم كبيرة لغربلة الأدب والإبداع الحقيقي. وتلعب الجوائز العربية دورًا كبيرًا في تلميع أسماء من منطلق الجيوسياسية والأيديولوجية التي تحدد الفائزين. وبات مألوفًا أن نسمع القارئ العادي يظهر خيبته من روايات نالت هذه الجوائز، وكان يمكن للجوائز أن تصحح الوضع القائم، لولا أن بعض لجان التحكيم مصابة بأمراض الساحة الثقافية. ومعظمهم لا يقرؤون ما يرسل إليهم ويكرّسون أسماء بعينها.

روائية أردنية.

شعبان‭ ‬يوسف‭:‬‭ ‬لكل‭ ‬زمن‭ ‬مظاليمه

شعبان-يوسفيرى الشاعر والناشط الثقافي المصري شعبان يوسف صاحب كتاب (ضحايا يوسف إدريس) أن «إدريس» بسلطاته وامتداداته حرم الكثيرين من الظهور إلى جانبه، كانت له سلطة في العديد من المجالات، وكان من الصعوبة أن يقام مؤتمر أو ندوة في القصة أو المسرح أو الترجمة ولا تجده متصدّرًا المشهد، وبخاصة أنه ابن تيار اليسار الذي وقف بقوة داعمًا له، فضلًا عن علاقته بالسادات، فقد كتب له كتابيه: «الاتحاد القومي» و«قناة السويس». وذهب شعبان إلى أن هذا الأمر لم يتوقف على إدريس وحده، فقد شمل جميع المجالات والفنون، فعقب موقعة الشعر الحديث بين العقاد وكل من صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي تحوَّل الأخيران إلى سلطة واضحة في مصر، فهمَّشا كثيرًا من الشعراء كعبدالحليم القباني وفتحي سعيد وكامل أمين، ولعل أبرز من هُمِّش لصالح حجازي وعبدالصبور هو الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، الذي لم يأخذ المكانة التي يستحقها، فقد رفض عبدالصبور نشر ديوانه الأول، كما رفض حجازي أن يمنحه جائزة ملتقى الشعر العربي. وفي المسرح الشعري هُمِّش عبدالرحمن الشرقاوي ومعين بسيسو لصالح صلاح عبدالصبور، وفي الرواية هُمِّش كتاب كبار كسعد مكاوي وعبدالرحمن فهمي وعادل كامل لصالح نجيب محفوظ، لكن «محفوظ» لم يمارس سلطاته في تهميش الآخرين، وحدها الميديا هي التي فعلت ذلك، فرجاء النقاش في الستينيات كتب قائلًا: إن لكل عصر عبقريًّا، وعبقريّ هذا العصر هو نجيب محفوظ، وقد تكرست هذه النظرة إليه بعد فوزه بنوبل.

أما في النقد فقد هُمِّش عبدالقادر القط وغيره لصالح محمد مندور، وفي شعر العامية المصرية هُمِّش مجدي نجيب وفؤاد قاعود وغيرهما لصالح الأبنودي وسيد حجاب، وما زال التهميش مستمرًّا، المتغير الوحيد أن السلطة لم تعد رضا جماعات اليسار أو المؤسسة الرسمية، بقدر ما أصبحت علاقات وصداقات ورسائل ماجستير ودكتوراه، ودور نشر ومراكز ثقافية، ورحلات ومؤتمرات وندوات وترجمات وأسفار وحفلات توقيع، وجوائز محلية وعربية، وعدد طبعات وقوائم أكثر مبيعًا، وطنطنة دائمة في كل مكان بأسماء مبدعين بعينهم، مما يقتل مواهب كبيرة لصالح أناس في كثير من الأحيان لا علاقة لهم بالأدب.

عِذاب الركابي: الرموز لا تحجب

عِذاب-الركابينحن –ككتّاب ومبدعين– لا ننكر أبدًا أنّ لنا آباء.. وأننا لم نُولَدْ من رحم الفراغ..! والكتابة هي كلّ ما بقيَ لنا من ذاكرة.. والإبداع والثقافة فعل حضاري، أبجديته أنين الروح وصلاتها التي لا تكون قضاءً هي المعاناة.. والثقافة والإبداع تواصل دائم.. ورموز إبداعنا وأدبنا وثقافتنا، هم أيقونة تراثنا الإنسانيّ الفاعل.. ونحن امتداد طبيعي لهم.. ومن خلال قراءتنا لواقعنا الثقافي الذي بات يُشبه كثيرًا (البورصة) في الارتفاع والهبوط، والازدهار والانتكاس نرى أنّ هؤلاء الرموز لا ذنب لهم في حجب الضوء عن غيرهم، فمَن قام بحجب الأضواء هم مَن يتولون زمام المنابر الإعلامية، سواء في الصحافة الثقافية التي تشبه مرآة مهشمة، أو في المؤسسات الراعية للإبداع والثقافة بمؤتمراتها الأدبية والفكرية (الديكورية) التي ما زالت تعاني عُقدة (الأسماء الكبيرة)، وترسّخ لنجومية بعض الأسماء التي لم تعُدْ تأتي بجديد، فما تمارسه بعض المنابر والمؤسسات الثقافية يجيء ضمن هندسة «التلميع» و«الترميم» والمصالح المتبادلة، وهذه المنابر أو (الدكاكين) التي تتاجر بدماء المبدعين، هي التي تهمّش إبداعاتهم وتحاول حجب الضوء عن الكلمة الهادفة، لكن تلك المحاولات كثيرًا ما تكلل بالفشل أمام الإبداع الجاد.

ورموزنا لم يكونوا أنانيين أو دكتاتوريين، ومن عرفناهم والتقيناهم كانوا شديدي التواضع والمسؤولية، أذكر عبقري الرواية نجيب محفوظ حين استقبلني في لقائه الأسبوعي بـ«فرح بوت» بكل ودّ وبهجة واهتمام.. وصديقي شاعر الحداثة الكبير عبدالوهاب البياتي الذي أحتفظ برسائله الحميمة لي بخط يده وأعماله الممهمورة بتوقيعه، وأذكر أنه خصّص ثمن إحدى جوائزه لطباعة أعمال الشباب الشعراء الواعدين، ومن المبدعين الكبار الأحياء الصديقان الروائيان: غادة السمان، وعبدالرحمن مجيد الربيعي اللذان ما زلتُ أسعد بصحبتهما واتصالاتهما المستمرة ورسائلهما الحميمة جدًّا، وغيرهم ممن يضيئون في فضائنا الثقافي كما الكواكب.

كاتب وشاعر عراقي.

 

 

إبراهيم فرغلي: المظاليم هم أنصاف الكتاب

إبراهيم-فرغليبشكل شخصي لا أُومِن بفكرة وجود مظاليم في عالم الأدب، بمعنى أن أيّ كاتب حقيقي صاحب موهبة لا يمكن عدّه من مظاليم الأدب حتى لو تأخرت شهرته، فالمظاليم هم أنصاف الكتاب وأعداء العمق الفكري والموهبة حتى لو مكنتهم الأسباب من الشهرة أو المقروئية الواسعة والانتشار. هناك نماذج من الكتاب الذين حققوا المعادلة الصعبة أي بامتلاكهم الموهبة والعمق والشهرة والانتشار مثل: العقاد، وطه حسين، ومحفوظ، أو الجواهري في العراق، وبدر شاكر السياب وسواهم لظروف تخص الآلة الإعلامية التي كانت تهتم بإبراز القوة الناعمة لمجتمعاتها، ولكن لاحظ أن أي اسم من هذه الأسماء كان مسلحًا بترسانة من المعرفة والموهبة والإقبال على الإعلام أيضًا.

لكن مع انخفاض مستوى التعليم الذي أدى إلى انحدار الكفاءات في المواقع القيادية في الإعلام والسياسة وغيرهما بدأت الآلة الإعلامية تسير في درب المصلحة والمجاملة، وكان حظ الكتاب المنتمين لليسار أفضل؛ بسبب انتباه الأحزاب اليسارية في مصر لقوتها الناعمة، وتنجيم كل الكتاب الذين ينتمون لأحزابهم أو مبادئهم، لكن مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والميديا الجديدة اختلف الأمر كثيرًا، وأصبحت فكرة المظاليم معدومة أساسًا إلا لمن لا يمتلك أبجديات استخدام الميديا الجديدة. وهي ربما الأخطر اليوم لقدرتها على تنجيم حتى صبيان ومراهقات الكتابة لمجرد أن لديهم جمهورًا افتراضيًّا، وهو ما يقلب المعادلة الآن تمامًا، مع ذلك فتاريخ الأدب والكتابة غالبًا ما ينصف النصوص الحقيقية ولو بعد حين، مهما تعرض كُتابها للتجاهل أو عدم الإنصاف.

قاص مصري.

خليل صويلح: تسليع الأدب

خليل-صويلحهناك موجة إعلامية شرسة لتسليع الأدب وتحويله إلى «ماركتينغ»، على غرار ما يحصل في الغناء، ومسابقات الشعر، وجوائز الرواية. قارئ اليوم يتبع الموضة في المقام الأول، بصرف النظر عن القيمة الإبداعية للعمل. هكذا تُلفظ خارج القائمة أسماء مهمة، وتُكرّس أسماء أخرى أقل قيمة بقوة الميديا والشلليّة، وصور السيلفي -للكاتبات على نحو خاص- وقبل كل ذلك الاختفاء المريب للنقّاد الكبار، هؤلاء الذين كانوا يضيئون بكتاباتهم التجارب الإبداعية النافرة، بعيدًا عن ولائم الجوائز التي فرضت سطوتها على الذائقة، فيما يتعلّق بالرواية خصوصًا. لهذه الأسباب تندحر أسماء وتبرز أخرى، فيكتفي القرّاء بنحو عشر روايات في كل موسم قراءة، تحمل دمغة هذه الجائزة أو تلك، كما لا يمكننا تجاهل «التشبيك» بين بعض الكتّاب ودور النشر وأعضاء لجان تحكيم الجوائز.

ربما سنعيد اكتشاف أسماء ظُلمت في زمننا الراهن؛ بسبب عشوائية الخرائط الإعلامية من جهة، وعدم إدراك أصحابها لأهمية التسويق من جهةٍ ثانية. التسويق هنا ليس إعلاميًّا صرفًا، فقد يتعلّق بأيديولوجيا صاحبه، أو معجم صاحبته. وكأن المعادلة الآن هي «ناقد عجوز»، و«كاتبة شابة»، وإذا بالنص العادي أو الركيك يقفز إلى الواجهة، وتاليًا، فإن الأمر يتعلّق بالنزاهة النقدية، وهي سلعة منبوذة تقريبًا، عدا إشراقات نادرة وسط غيبوبة عمومية. اليوم عليك أن تكون جزءًا من السيرك كي تجيد اللعب على الحبال من دون أن تقع في النسيان، أو العزل، أو الظلم. لا أعلم ماذا سيفعل اليوم مبدع ما، خارج الماكينة الإعلامية، أو أنه لا يمتلك صفحة شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي؟

كاتب سوري.

 

لنا‭ ‬عبدالرحمن‭:‬‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬تدفع‭ ‬بكُتاب‭ ‬وتظلم‭ ‬آخرين

لنا-عبدالرحمنقطار الضحايا والمظاليم في الأدب يتعلق بعدة عوامل، بعضها يخص الجانب الإبداعي للكاتب، وبعضها إعلامي وترويجي بحت، ليس له علاقة بالكتابة، لكن المدهش وجود حالات إبداعية في الثقافة العربية لديها نصوص إبداعية جيدة جدًّا وليس لها حضور إعلامي؛ مما يؤدي إلى تغييب هذه النصوص أو اكتشافها بالصدفة من قبل قارئ أو ناقد حذق يسلط الضوء عليها. هذا يستدعي التساؤل: هل بإمكان الكاتب أن يقوم بالكتابة والترويج لأعماله، وبالوجود الصحافي الذي يحقق له الانتشار، إلى جانب إدارة شؤون حياته الخاصة؟ في تقديري يحتاج ذلك لقدرات خاصة، وهذه القدرات لا تتوافر للجميع.

من المؤكد أن الإعلام في المرحلة الحالية عبر سائر وسائل التواصل الإلكترونية ساهم في صعود أعمال إبداعية إلى الواجهة، وغياب أعمال أخرى، يكفي أن تتطلع إلى كتائب الجيوش عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل على تصدير خمسة أو ستة أعمال يُتَحدَّث عنها على أنها الأفضل أدبيًّا، وفي حقيقة الأمر أن القيمة الأدبية للأعمال المذكورة متوسطة أو ضعيفة، لكن هذا ما يحدث فعلًا.. أضف إلى ذلك كله موضوع الجوائز الذي نقل العمل الإبداعي سواء في الرواية أو القصة القصيرة، من خانة الامتداد الزمني إلى خانة «الآنية» أو بعبارة أكثر تبسيطًا أصبحت حال الروايات تشبه حال المسلسل الرمضاني، فكما أن هناك في كل عام مجموعة من الأعمال الدرامية التي تطلقها الفضائيات مع قدوم شهر رمضان، فإن هذا يحدث إبداعيًّا مع إعلان الجوائز، والقوائم الطويلة والقصيرة، لنفترض أن هناك عملًا إبداعيًّا جيدًا أو أكثر من جيد، ولم يحصل على جائزة، ولم يصل لأي قائمة، لن يكون له أي حضور خارج دائرة المثقفين، إلى جانب هذا، حتى الأعمال التي تنال جائزة أيضًا، أو تصل للقائمة القصيرة، سيكون حضورها مرهونًا بالوقت الراهن، وينتهي بعد إعلان الجائزة التالية، وهكذا، كما لو أن العمل الإبداعي صار مرهونًا لفكرة الموضة.

كاتبة وناقدة لبنانية.
اليمن غير السعيد في منعطفه الثوري

اليمن غير السعيد في منعطفه الثوري

يرصد كتاب «اليمن: المنعطف الثوري» (دار الفرات – بيروت) التحولات التي عصفت باليمن الذي عانى قدرًا كبيرًا من النزاعات، إضافة إلى التقسيمات التي شملت الجميع سواء ما بين شمال وجنوب، أو قبائل ومدن، أو سُنة وشيعة، أو تنظيمات قومية وليبرالية ويسارية ودينية، وخروج من نفق الإمامة للدخول في مستنقع حرب أهلية، وخروج من دكتاتورية عسكرية للوقوع في فوضى التدخلات الإقليمية.

الكتاب أنجزه نحو عشرين باحثًا، في مقدمتهم: مارين بواريه، ولوران بونفوا، وفرانك مرمييه، الذين خططوا للمشروع وأشرفوا عليه، وكان لهم الجهد الأكبر في إنجاز دراساته المهمة. في حين عكف على ترجمته كل من: خالد الخالد، وعصام المحيا، ومصطفى الجيزي، وبشير زندال.

كانت الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت عام 2012م باللغة الفرنسية، ثم جاءت طبعته العربية بعد سنوات أربع تغير خلالها المشهد اليمني، فقد جاءت فكرة الكتاب في ظل متابعة الغرب للربيع العربي، وانبهاره بالحالة السلمية للثورة اليمنية 2011م، ومن ثم جاء التفكير في تقديم جملة من المعارف المهمة للقارئ الأوربي عن اليمن الذي يحتل موقعًا مميزًا في الجنوب الشرقي للجزيرة العربية.

يمكن تقسيم التاريخ اليمني الحديث إلى ثلاث مراحل، إذ كان في المرحلة الأولى القطر العربي الأول في الاستقلال، فقد استطاع الإمام يحيى أن يخرج الأتراك من اليمن، لكنه لم يكن يمتلك مشروعًا سياسيًّا ولا ثقافيًّا أو حتى اقتصاديًّا، فقط كان كل ما لديه هو الرغبة في الحفاظ على ملكه الذي استمر طويلًا عبر التوافق بين القبائل على بقائه، ليرثه ابنه أحمد الذي تغيرت الأمور عليه، واندلعت الثورة. وسرعان ما استقلت عدن وخرج الإنجليز منها، فقامت دولة اشتراكية بها، ليبدأ الفصل الثاني من التاريخ الحديث، حيث يتوالى الحكام إلى أن يجيء علي عبدالله صالح، ويبدأ السعي للدخول في دولة يمنية موحدة. ووضع صالح يده مع الإخوان والسلفيين والجهاديين للتخلص من شيوعيي الجنوب، لتدخل البلاد في حرب أهلية عام 1994م، وبسقوط دولة الجنوب ومطاردة كل رموزها والداعين لعودتها يدوم حكم صالح حتى قيام الثورة في 2011م، ويبدأ الفصل الثالث بالحرب الأهلية المستمرة إلى الآن.

السياسة والهويات

جاء تقسيم الكتاب على ثلاثة أبواب: حمل الباب الأول عنوان: «الحركات السياسية.. المرونة والنزاعات والهويات»، وفيه قدمت مارين بواريه إعادة تركيب للمشهد السياسي اليمني بتشابكاته وتعقيداته، بينما رصد خالد الخالد كيفية تعامل الإعلام الغربي مع اليمن، موضحًا أن ثمة تضليلًا تمارسه وسائل الإعلام المرتبطة بالمصالح الخاصة والضيقة للقوى الكبرى في المنطقة، ومن ثم فما يقدم عن اليمن غير ما يجري على أرض الواقع. أما لوران بونفوا فقد تناولت علاقة الجوار مع السعودية.

يقدم الكتاب تشريحًا مهمًّا لعناصر القوى في المشهد السياسي اليمني، وتتبع الباحثون بدقة نشأة كل فصيل أو تيار وتطوره ووصوله إلى ما هو عليه الآن بعد الثورة، وكان أنصار عبدالملك الحوثي من أبرز عناصر المشهد، فذهب سامي دورليان في دراسته عنهم إلى أن جماعة الحوثي تأسست في بداية السبعينيات تحت مسمى «الشباب المؤمن»، وهدفهم كان إحياء التراث الديني الشيعي الزيدي المهمش منذ اندلاع ثورة 1962م التي أطاحت بحكم الإمامة الزيدية، وفي عام 1990م أُسِّس حزب «الحق» الذي هدف إلى التوفيق بين الفكر الزيدي والفكر الجمهوري، فانضم إليه الشباب الحق، لكنهم بعد سبع سنوات انفصلوا عنه، وحدثت عدة انشقاقات كان آخرها انشقاق حسين الحوثي الذي كان نائبًا لرئيس حزب الحق، لكنه انفصل عنه بعد أحداث 11 سبتمبر، وسعى لإصلاح التعليم الفقهي الزيدي بحيث يصبح أكثر فاعلية في النضال ضد السياسة الأميركية الخارجية، وردد مع الشباب المؤمن شعار «الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام»، وهو ما أزعج الأميركان ومن ثم عبدالله صالح، فحدثت الاشتباكات بينهم عام 2004م في صعدة. وسرعان ما حول صالح الحرب إلى شأن طائفي ليجعل السلفيين ورجال القاعدة والشوافع السنة في معيته لمحاربة الحوثيين، رغم أنه من أصول زيدية مثلهم. وما إن قامت الثورة حتى شارك الحوثيون فيها بقوة، ودعموا سيطرتهم على صعدة والمحافظات المجاورة، ووقعت معارك بينهم وبين سلفيي مركز دماج في 2012م، ثم استؤنفت الاشتباكات عام 2013م، وأطلق الحوثيون على أنفسهم «أنصار الله» فيما يشبه تسمية «حزب الله» الشيعي في لبنان، واضطرت السعودية إلى زحزحة الحرب بينهم بعيدًا منها، فوافقت على أن ينتقل سلفيُّو دماج إلى سعوان.

جرى هذا قبل أن ينضم عبدالله صالح بقواته ومناصريه إلى الحوثيين ليسيطروا على المشهد اليمني، ففرّ الرئيس عبدربه منصور هادي إلى السعودية، وبدأ التحالف العربي في مواجهته للحوثيين. في ختام هذا الباب قدمت لوران بونفوا عددًا من الدراسات التحليلية التاريخية المهمة للوضع السياسي اليمني، من بينها: «التاريخ الموجز للعنف الجهادي في اليمن»، و«الأسر السبع في الساحة الإسلامية اليمنية»، و«النخب القبلية والدولة»، و«التيار الديني والثورة»، بينما كتب منصور بلانال عن «صحوة البراغيل: تعز والثورة اليمنية».

فضاءات عامة

وجاء الباب الثاني تحت عنوان: «الرهانات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية: صعوبات وتسويات»، وفيه رُصِد مأزق الاقتصاد اليمني الذي تزايدت به البطالة الريفية، وتقلصت الأرض الزراعية، ونضبت فرص الهجرة، كما رُصِدت أزمة الماء التي يعانيها اليمن، والرهانات المعاصرة للهجرة اليمنية. أما الباب الثالث فقد جاء تحت عنوان: «الفضاءات العامة والثقافة التراثية: القيود والإبداع». واشتمل على عشر دراسات من بينها ما كتبه الشاعر والروائي علي المقري عن العلاقة بين السلطة والموت، وما رصده الكاتب والشاعر نبيل سبيع عن الثورة في بلد يعاني الفرقة والانقسامات، وما أكد عليه بنيامين فياكيك؛ إذ جرى استخدام وسائل إعلامية جديدة مع اندلاع الثورة كالمدونات والفيس بوك وغيرهما. ليكون هذا الكتاب هو الأبرز في تغطية الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي اليمني؛ إذ قام باحثوه بتحليل كل عنصر من العناصر الأساسية في المشهد اليمني، وتتبعها حتى لحظة الإعداد للطبعة العربية.

جورج طرابيشي.. أخرج «العربي» إلى رحاب الحداثة

جورج طرابيشي.. أخرج «العربي» إلى رحاب الحداثة

لم يمت جورج طرابيشي في 16 آذار (مارس) الماضي، إنما قبل ذلك بأعوام حينما وجد نفسه لا يقوى على الكتابة، غير قادر على الإمساك بالقلم ليخط الفكرة تلو الأخرى. عدم القدرة على الكتابة، كأنما بدا له سقوطًا في سحيق معتم لا هوية له. في غياب إلحاح الكتابة، أضحى صاحب «شرق وغرب.. أنوثة ورجولة»، يعيش ما يشبه العدم، أصبح أقرب ما يكون إلى العجز، إلى الجسد الذي ينتظر خلاصه في أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهكذا كان في 16 من الشهر الماضي.

الكتابة نقدًا وتفكيرًا وتفلسفًا وترجمة وتدبيجًا لمقالة، هي كل حياة الراحل، حتى ألف ما يربو على المئة كتاب. تحولت حياته طوال العقود الماضية، إلى صحبة مع الكتابة، لا أحد يستطيع أن يفك اشتباكهما، ولا هناك من يقدر على التفريق بين أحدهما والآخر، كأننا أمام الصوت والصدى، الشيء وظله. من دون الكتابة لا يعثر صاحب «من النهضة إلى الردة» على نفسه قادرًا على التحديق في ملامحه قدام المرآة، كما لا يستطيع تأمل الواقع العربي وتحولاته التي حملت له في تباشيرها الأولى وعدًا بالتغيير، ببارقة أمل، إلا أنها سرعان ما ارتدت إليه لاحقًا أشبه بحراب مسمومة تطعن فيه حتى أنهكته جسديًّا ومعنويًّا.

أدرك صاحب «هرطقات» أن نأي الكتابة عنه هو الموت بعينه، «لكنه يبقى على كل حال موتًا صغيرًا على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن»، كما يقول. شلّت قواه خيبات الواقع العربي، وأنهكته مآلاته التراجيدية، هو الذي بقي يقارع الفكرة بالفكرة والنقد بالنقد، تارة يغوص في طبقات التراث العربي تأملًا وتأويلًا ونقدًا، وأخرى يهرع إلى التحليل النفسي، ترجمة واستئناسًا، مقدمًا كشوفًا سيكولوجية واجتماعية وتاريخية للعقد الكثيرة التي تكتنف «العربي» وواقعه المريض.

بكتبه وأبحاثه وترجماته، رغم الطعون التي وجهت إليها، بدا جورج طرابيشي مفكرًا متفردًا، مثقفًا من طراز فريد، لديه مفاهيمه ومعارفه ومصطلحاته ورؤاه التي تمكنه من إنجاز مهمة المفكر على أكمل وجه، ولا يعني ذلك بالطبع أن صنيعه الفكري في منأى عن الشك والخطأ، وبالتالي ليس عرضة للنقد، إنما على العكس كان يستدرج الاختلاف حول منجزه، يدفع في هذا الشكل أو ذاك، إلى أن يكون نتاجه الفكري والترجمي موضوعًا للنقد وإعادة النظر، ذلك أنه كرس هذا المنحى النقدي الجذري في المشروع الذي أنجزه، حتى تحول إلى إحدى السمات الأساسية فيه.

لم يؤشر متحوله الفكري وتنقله من محطة إلى أخرى، على غياب اليقين، أو تشوش في الرؤية، أو تخبط فكري، مقدار ما كان يعيش كنه المفكر، متماهيًا مع متطلباته، ومنها عدم الركون إلى فكرة أو مدرسة أو تيار، هو العابر للأفكار والمذاهب والأحزاب والأديان، إنما كان متعاليًا فوق كل ذلك، في تمثل خالص لأخلاق المفكر ودينامية الفكر وتحولاته.

يقول عنه صديقه وأحد مؤسسي رابطة العقلانيين العرب الكاتب عبد المطلب الهوني :« جورج طرابيشي مفكر مختلف عن الآخرين، بمعنى أنه خاض في مجالات كثيرة وكبيرة في مجال المعرفة. ترجم لفرويد، أي خاض في مجال التحليل النفسي، وهو ما عرفه به القارئ العربي، والتحليل النفسي مجال في غاية الأهمية، ثم إن الراحل ترجم تاريخ الفلسفة لإيميل برهييه، في أجزاء عدة».

ويضيف الهوني أن هذه المجالات المعرفية المختلفة التي خاض غمارها طرابيشي تأليفًا وترجمة، « تدل على موسوعية الرجل، وأنه أفنى عمره في محاولة إثراء المكتبة العربية وتعريف القارئ العربي بعيون الفكر العالمي. وهذا مبثوث في كل مؤلفاته، والراحل كان إلى جانب هذا كله، كوّن مع مجموعة من المهتمين: نصيف نصار، ومحمد أركون، ونصر أبو زيد، والعفيف الأخضر، وعبدالمجيد الشرفي، وصادق جلال العظم، وعزيز العظمة وأنا؛ المؤسسة العربية للتحديث الفكري، التي قامت بنشر وترجمة أعمال لا تستطيع الوزارات الثقافية أن تنشرها لجرأتها، ثم بعد ذلك قمت معه، وكان معنا أيضًا الدكتورة رجاء بن سلامة، وكوكبة أخرى، بإنشاء رابطة العقلانيين العرب، وبلغ عدد المؤلفات والمترجم فيها أكثر من مئة عنوان. وحدث أن جل هذا العمل فيما يتعلق بالترجمة ومراجعة الكتب ومتابعة النشر، ألقي على عاتق الراحل. فهذا ما يتعلق بالمجالات التي قام بها في حياته».

ويذكر الهوني أن الراحل حمل رسالة واضحة إلى القارئ العربي «في محاولة منه لإخراجه من قدامة المجتمعات والأستار المغلقة إلى رحاب الحداثة. كان لجورج طرابيشي مشروعه الخاص، الذي قام بالترجمة والتأليف فيه، واطلع على عيون المعرفة. كان همّ الراحل الأكبر، تبسيط المعرفة، فكان لنا برامج كبرى في هذا الإطار، وكنا نريد أن نبسط الفلسفة للأطفال، ولكن لم تكن لنا الإمكانات المادية، وهذا من الأشياء التي بقيت غصة في حلق الراحل».

ويسرد تفاصيل ما قبل الوفاة فيقول: «عندما رأى الراحل أن كل هذا السعي والنضال والكفاح من أجل أمته، يسقط أمام التعصب، أخذ يعاني آلامًا نفسية كبيرة. وأتذكر أن آخر مكالمة بينه وبين الإعلامي الفاضل تركي الدخيل، شجعه الأخير على الكتابة وعلى الخروج من الإحباط. الإشكالية التي كنا نعانيها، هي أننا رأينا ما بات يطلق عليه الربيع العربي أو الكارثة العربية، فالنخب المثقفة كانت تتوهم مجتمعات ليست هي المجتمعات التي كانت في الواقع. ونحن الذين حاربنا الأيديولوجيات وأنكرناها، رأينا أننا كنا نصنع لأعيننا نظارة نرى بها الواقع والتاريخ، وكنا نرى الواقع كما كنا نتمناه، وليس كما هو في الواقع. وعندما تهتك حجاب الحداثة الهشة رأينا مجتمعاتنا، فوجدناها مجتمعات قدامة بامتياز، لا تزال والغة في همجيتها، حتى إن المفاهيم التي كنا نعتقد أنها راسخة مثل التعايش، أصبحت لا أساس لها في الواقع.

سيتبقى الكثير من جورج طرابيشي بعد مماته، خصوصًا محاولته تحديث الدرس الإسلامي، بمعنى أن النسخة الرائجة من الإسلام هي نسخة القرن الثاني عشر الميلادي، وهذه النسخة فيها من التشدد الشيء الكثير، وإن إسلام الإمبراطورية لا يمكن أن يكون إسلام الدولة الحديثة، فقهاء الإسلام كانوا عظماء؛ لأن هؤلاء لا يفعلون شيئًا إلا محاولة تفسير الإسلام لخدمة المسلمين.

لم تكن توجد دول وطنية، إنما إمبراطوريات، وحتى تستطيع أن تحصن الإمبراطوريات لا بد من تحصينها من الداخل، بمقولات تخدم البشر الذين يعيشون في الإمبراطورية. وفي وجود الدولة الوطنية، لا يمكن للفقه الإمبراطوري أن يوفي باحتياجات الإنسان المسلم. لذلك ما يبقى من جورج طرابيشي هو هذا السبيل الذي بدأه ويريد له الاكتمال، هذا الطريق الذي ولجه ولا يزال طويلًا، ويريد أجيالًا من الفقهاء الجدد، ومن المفكرين من المسلمين العرب».

ويلفت الهوني إلى أنه حتى نبقي على طرابيشي متوهجًا في ذاكرتنا « يجب قراءة موسوعة التحليل النفسي لفرويد التي ترجمها، فكثير من أمراضنا لا بد أن يلقى عليها الضوء من التحليل النفسي. كما أن كتبًا، مثل: «هرطقات»، أو «المرض بالغرب»، أو «نقد نقد العقل العربي»، كلها تحتاج إلى قراءة وإعادة قراءة، حتى نستطيع تبين أنفسنا وتموضعنا في التاريخ. كتبه الأخرى، يجب أن تناقش وأن تنتقد في المجال العام. لماذا أدعو إلى ذلك؛ لأن مشكلتنا الكبرى أن في الوطن العربي خصوصًا في مجال الثقافة، يوجد جنرالات ولا يوجد ضباط أو ضابط صف، بمعنى هناك مهمة المفكر، ومهمة المثقف، ومهمة الصحافي، فعندما يكتب المفكر لا بد من وجود آخر يوصل أفكاره للناس».

لنتذكر ما حدث في عصر الأنوار، فكتاب لفولتير، لم يكن وزع خمس مئة نسخة، لكن الصحافيين كانوا يقرؤون كتبه، ويبسطونها للناس، فدخلت في البنية الفكرية للشعب الفرنسي. هذه المهمة إلى اليوم لا تجد من يقوم بها في عالمنا العربي، وللأسف أنه اليوم شحّت القراءة؛ إذ يبدو لي أن الناس لا تقرأ، وكثيرًا ممن يقرأ لا يفهم، وهذه كارثة.

زمان جاسم.. تشكيليّ سعودي مهموم بـ«الآخر»

زمان جاسم.. تشكيليّ سعودي مهموم بـ«الآخر»

«كأنا‭ ‬ضفتان‭ ‬تصنعانِ‭ ‬بالمعية‭ ‬نهرًا،‭ ‬كجُغرافيا‭ ‬واحدة،‭ ‬نحياها‭ ‬متلاصقين،‭ ‬مسالمين، ‬فلا‭ ‬البحرُ‭ ‬في‭ ‬كلينا‭ ‬يعادي‭ ‬بَرًّا،‭ ‬ولا‭ ‬البرُّ‭ ‬في‭ ‬كلينا‭ ‬يعادي‭ ‬بحرًا»،‭ ‬بهذه‭ ‬العبارة‭ ‬المكثّفة‭ ‬يلخص‭ ‬التشكيليّ‭ ‬السعوديّ‭ ‬رؤيته‭ ‬لـ«الآخر»‭.‬ و«الآخر»‭ ‬مشروع‭ ‬يستلهم‭ ‬زمان‭ ‬عناصره‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬المَعِيش‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬الحديثة،‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬ازدحامًا‭ ‬بالمعرفة‭ ‬والمعلومة‭ ‬حتى‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التشويش‭ ‬والارتباك،‭ ‬والشتات‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والتزوير،‭ ‬وبين‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬محمود‭ ‬ومذموم،‭ ‬حتى‭ ‬بتنا‭ ‬نعيش‭ ‬عزلةً‭ ‬مخيفةً‭ ‬داخلنا‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن،‭ ‬وما‭ ‬سوف‭ ‬يحدث‭ ‬غدًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭.‬

قاد‭ ‬الولع‭ ‬بالتشكيل‭ ‬زمان‭ ‬جاسم‭ ‬إلى‭ ‬الذهاب‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬المغامرة‭ ‬تلو‭ ‬المغامرة‭.‬ زمان‭ ‬الذي‭ ‬فضل‭ ‬التقاعد‭ ‬باكرًا (‬من‭ ‬مواليد ‭‬1971م) ‬ليتفرّغ‭ ‬للفن،‭ ‬ويوجد‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬بحسب‭ ‬تعبيره‭.‬ تبلور‭ ‬ولعه‭ ‬بالفنون‭ ‬البصرية،‭ ‬عندما‭ ‬الْتَحَق‭ ‬بمعهد‭ ‬التربية‭ ‬الفنية‭ ‬بالرياض،‭ ‬حيث‭ ‬تخصص‭ ‬وصقل‭ ‬موهبته،‭ ‬ثم‭ ‬ولج‭ ‬إلى‭ ‬مضمار‭ ‬الفنّ‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬احترافيّ‭.‬

jassem-11

يقول‭ ‬زمان‭ ‬جاسم‭:‬ «علاقتي‭ ‬بالفنّ‭ ‬في‭ ‬توتُّر‭ ‬دائم‭ ‬ومشاحنة»،‭ ‬ويضيف‭:‬ «بين‭ ‬ما‭ ‬أعيشه‭ ‬داخلي‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬منتجًا‭ ‬فنيًّا‭.‬ هذه‭ ‬المشاحنة‭ ‬المتوترة‭ ‬ضرورية‭ ‬جدًّا‭ ‬لي؛‭ ‬لخلق‭ ‬علاقة‭ ‬حميميَّة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬العمل‭ ‬الفنيّ»‭. ‬تشكَّلت‭ ‬لدى‭ ‬زمان‭ ‬قناعة‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬متمردًا‭ ‬دومًا،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬المتذوّق،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الفنانين‭ ‬الآخرين،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الفنّ‭ ‬التشكيليّ‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬سأنجزه،‭ ‬ودائمًا‭ ‬تراودني‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مألوف‭ ‬يُعَدّ‭ ‬منتهي‭ ‬الصلاحية؛‭ ‬لذلك‭ ‬أستمتع‭ ‬بحالة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬مجهول،‭ ‬وهو‭ ‬أشبه‭ ‬برحلة‭ ‬صيد‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬ما‭ ‬يخفيه‭ ‬القَدَرُ‭ ‬لي،‭ ‬لكن‭ ‬أعتمد‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الخبرات،‭ ‬والمخزون‭ ‬الفنيّ‭ ‬الذي‭ ‬أمتلكه»‭.‬

يُعَدّ‭ ‬زمان‭ ‬جاسم‭ ‬أحد‭ ‬الفنانين‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬يملكون‭ ‬مشاركات‭ ‬واسعة‭ ‬داخل‭ ‬السعودية‭ ‬وخارجها،‭ ‬فهو‭ ‬بدأ‭ ‬تحرُّكه‭ ‬الخارجيّ‭ ‬بشكل‭ ‬فرديّ،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التسجيل‭ ‬في‭ ‬جمعيات‭ ‬التشكيل‭ ‬الخليجيّ،‭ ‬«ومشاركتي‭ ‬في‭ ‬معارضها،‭ ‬وبالتوازي‭ ‬كان‭ ‬لرعاية‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الفعاليات‭ ‬الثقافية‭ ‬الخارجية،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتسلّم‭ ‬الآن‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام‭ ‬الأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬كاملة،‭ ‬فمن‭ ‬هذه‭ ‬القنوات‭ ‬التي‭ ‬أعدُّها‭ ‬طبيعية‭ ‬عززت‭ ‬تجربتي‭ ‬خارج‭ ‬البلاد‭ ‬أيضًا؛‭ ‬مما‭ ‬أتاح‭ ‬لي‭ ‬فرصًا‭ ‬متعددة‭ ‬أخرى‭ ‬خارجية؛‭ ‬لتلقّي‭ ‬الدعوات‭ ‬الفردية‭ ‬المباشرة،‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بمؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬المعنية‭ ‬بالثقافة،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬مستقلة‭ ‬وتتعامل‭ ‬مع‭ ‬الفنان‭ ‬كمشروع‭ ‬فنيّ‭ ‬محض،‭ ‬وتسعى‭ ‬لإتاحة‭ ‬الفرص‭ ‬لعرض‭ ‬تجارب‭ ‬فنون‭ ‬وثقافات‭ ‬مختلفة»‭.‬

Jassem-4

من‭ ‬أهم‭ ‬مشاركاته‭ ‬الخارجية‭ ‬إقامته‭ ‬معرضين‭ ‬فرديين‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬عامي (2004 – 2007م)‬،‭ ‬ومعارض‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج؛‭ ‬مثل‭: ‬معرض‭ ‬«الآخر»‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬دبي‭ ‬عام ‭ ‬2012م‭.‬ ومن‭ ‬المشاريع‭ ‬الخاصة‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬«الدببة»‭ ‬في‭ ‬برلين،‭ ‬وكان‭ ‬التشكيليّ‭ ‬السعوديّ‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشروع،‭ ‬وتجربة‭ ‬«خامس‭ ‬المواسم»‭ ‬التي‭ ‬عُرضت‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬الفن‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬شنغهاي‭ ‬بالصين‭ ‬عام ‭‬2010م‭.‬ وأخيرًا‭ ‬كان‭ ‬لتجربة‭ ‬معرضه‭ ‬«الآخر»‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬دبي‭ ‬كما‭ ‬يقول‭:‬ «أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬لي؛‭ ‬لما‭ ‬لهذه‭ ‬التجربة‭ ‬من‭ ‬خصوصية‭ ‬أولًا،‭ ‬وتناولها‭ ‬قضايا‭ ‬الاختلافات‭ ‬المتنوعة‭ ‬بين‭ ‬شعوب‭ ‬العالم،‭ ‬وهو‭ ‬مشروع‭ ‬محبة‭ ‬وسلام،‭ ‬تناولت‭ ‬فيه‭ ‬فكرة‭ )‬طبق‭ ‬الستلايت) ‬كعمل‭ ‬فنيّ‭.‬ وهناك‭ ‬كثير أيضًا‭ ‬من‭ ‬المشاريع‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬وأوربية‭ ‬وآسيوية»‭.‬

Jassem-5يرى‭ ‬زمان‭ ‬أن‭ ‬الفنَّ‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬العلوم؛‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتطوّر‭ ‬ويتحرك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اطّلاع‭ ‬ومعرفة؛‭ ‬«لذلك‭ ‬كان‭ ‬السعي‭ ‬الدائم،‭ ‬والبحث‭ ‬عمّا‭ ‬يغذّي‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬البصرية‭ ‬والفكرية‭ ‬والوجدانية‭ ‬وكل‭ ‬الحواسّ‭ ‬مهمة‭ ‬جدًّا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجال‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬اعتباره‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬الجمال‭ ‬وحدها‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للهوية‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬نتاجنا‭ ‬الفنيّ؛‭ ‬لذلك‭ ‬أحاول‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجاربي‭ ‬أن‭ ‬أوصل‭ ‬هذا‭ ‬الجانب؛‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تغترب‭ ‬الهوية،‭ ‬وتصير‭ ‬محض‭ ‬تجربة‭ ‬عابرة»‭.‬

يقر‭ ‬زمان‭ ‬جاسم‭ ‬بأن‭ ‬مشاكل‭ ‬الفنّ‭ ‬متعددة‭ ‬ومتنوعة؛‭ ‬منها‭:‬ «مشاكل‭ ‬بين‭ ‬الفنان‭ ‬ونفسه،‭ ‬وبين‭ ‬الفنان‭ ‬والمحيط‭ ‬الخارجيّ‭.‬ فمثلًا‭ ‬يواجه‭ ‬الفنانون‭ ‬والفنانات‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الخاطئة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الفنّ‭ ‬بشكل‭ ‬احترافيّ،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإنجاز‭ ‬الفنيّ‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬إدارة‭ ‬العمل‭ ‬الفنيّ‭…‬ الفنّ‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬المكان‭ ‬الآمن‭ ‬كبيئة‭ ‬أساسية‭ ‬ضمن‭ ‬منظومة‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المعروفة‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬مجال‭ ‬آخر‭ ‬مرتبط‭ ‬بحياة‭ ‬الإنسان‭ ‬واحتياجاته»‭.‬

أحمد القاسم.. فوتوغرافي تعلم مهارة الصياد

أحمد القاسم.. فوتوغرافي تعلم مهارة الصياد

القاسم

                                                   k3

ليس‭ ‬التصوير،‭ ‬للفوتوغرافي‭ ‬السعوديّ‭ ‬أحمد‭ ‬القاسم،‭ ‬محض‭ ‬هواية‭ ‬تتطلب‭ ‬ضغط‭ ‬زر‭ ‬لالتقاط‭ ‬الصورة،‭ ‬إنها‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك؛‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬وهو‭ ‬يمارس‭ ‬فن‭ ‬تصوير‭ ‬الطيور،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬فرع‭ ‬من‭ ‬تصوير‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أن‭ ‬يتعلم ‭-‬أيضًا‭-‬ مهارة‭ ‬الصياد‭ ‬الذي‭ ‬يتربّص‭ ‬بطريدته،‭ ‬ويبتكر‭ ‬الزوايا‭ ‬والمداخل‭ ‬لصيدها‭.‬

يقول‭ ‬القاسم‭ ‬لـ«الفيصل»: ‬«إن‭ ‬الطيور‭ ‬تتميز‭ ‬بحذرها‭ ‬الشديد‭ ‬عند‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها،‭ ‬والهروب‭ ‬المتواصل،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬صغر‭ ‬حجمها؛‭ ‬مما‭ ‬يتطلب‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الحظّ‭ ‬والصبر‭ ‬والمحاولة»‭.‬ الطيور ‭-‬أيضًا- ‬تتميز‭ ‬معدات‭ ‬تصويرها‭ ‬بالحجم‭ ‬والوزن‭ ‬الكبيرين‭ ‬والسعر‭ ‬المرتفع‭.‬

k4k5

ومن‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬يتطلبها‭ ‬تصوير‭ ‬الطيور‭ ‬«الاستيقاظ‭ ‬المبكر،‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬وجود‭ ‬الطيور،‭ ‬والبحث‭ ‬والانتظار‭ ‬والاختباء‭ ‬والتمويه،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬العدسات‭ ‬الكبيرة‭ ‬تثير‭ ‬فضول‭ ‬الناس‭ ‬وأحيانًا‭ ‬شكوكهم». ‬أمَّا‭ ‬أبرز‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬القاسم‭ ‬والفوتوغرافيين،‭ ‬فهي‭ ‬عدم‭ ‬إلمام‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬بقوانين‭ ‬التصوير،‭ ‬«فيجري‭ ‬المنع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مسوّغ‭ ‬أحيانًا». ‬على‭ ‬أن‭ ‬هواية‭ ‬التصوير،‭ ‬للقاسم،‭ ‬هي‭ ‬هواية‭ ‬دفعته‭ ‬إلى‭ ‬هوايات‭ ‬أخرى؛‭ ‬مثل: ‬الرحلات،‭ ‬والغوص،‭ ‬ومراقبة‭ ‬الطيور‭. ‬

k2h10

يواجه‭ ‬المصوّر‭ ‬الفوتوغرافيّ،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬القاسم،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬عدم‭ ‬اقتناء‭ ‬الآخرين‭ ‬أعمالَه،‭ ‬«مشكلة‭ ‬سهولة‭ ‬سرقة‭ ‬الصور،‭ ‬وادعائها‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬صعب‭ ‬الحدوث‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬الأخرى»‭.‬

ولعل‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬المتابعين‭ ‬لأعمال‭ ‬القاسم‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬التقطت‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الرياض،‭ ‬بينما‭ ‬توحي‭ ‬جودة‭ ‬الصور‭ ‬وتنوع‭ ‬الطيور‭ ‬وألوانها‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬غابات‭ ‬أمازونية‭ ‬وحدائق‭ ‬أوربية‭.‬

h9