الأقليات في مصر.. التجانس التاريخي تحول إلى فتنة

الأقليات في مصر.. التجانس التاريخي تحول إلى فتنة

تبدو مصر للوهلة الأولى بلدًا خاليًا من الأقليات، فالتجانس التاريخي الذي عاشه الجميع في ظل دول مركزية متعاقبة جعلهم ينتمون إلى المكان أكثر من انتمائهم إلى الدين أو العرق، لكن مع توالي سنوات الضعف، وظهور الاستعمار أخذت الفتنة تطل برأسها، سواء بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، أو أغلبية سنية وأقلية شيعية، وتسارع الجميع في الإعلان عن كونه أقلية تحتاج إلى مزيد من الاهتمام في ظل سعي القوى الغربية لتفتيت المنطقة على أسس دينية وعرقية، وتشجيع الخلافات الطائفية والإثنية، حتى إنه بات من الممكن القول: إن مصر بها نوعان من الأقلية؛ الأول ديني، والثاني عرقي.

أولًا- أقليات دينية

1- الأقباط

حسين علي النوري

حسين علي النوري

يعرف المسيحيون المصريون باسم الأقباط، وهم أصحاب المذهب الأرثوذكسي، وهو أقدم المذاهب المسيحية، تعود نشأته إلى الخلاف اللاهوتي القديم حول طبيعة المسيح؛ إذ قالت كنيسة الإسكندرية بالطبيعة الواحدة، وقالت الكنيسة النسطورية وكنيسة روما بالطبيعتين، وقد تحمل الأقباط المصريون ضريبة هذا الخلاف لسنوات طويلة، إذ عانوا اضطهاد الأباطرة الرومان لهم بسبب خلافهم المذهبي معهم، ولم تنته معاناتهم إلا بمجيء الفتح العربي، لكن حسب رؤى الأقباط فإنهم قد عانوا في ظل هذا الفتح، حتى قامت أشهر ثورة للأقباط في عهد المأمون وهي ثورة البشموريين في مصر، التي انتهت بالسحق التامّ، ومنذ هذا التاريخ والوجود المسيحي في حالة تناقص نظرًا لدخول أغلب أبنائه في الإسلام.

ويعتقد الأقباط أنهم أصحاب مصر، وأهلها، وأن الوجود الإسلامي وافد عليهم، ويذهب بعضهم إلى الاعتقاد أنه نوع من الاحتلال وليس الفتح، ورغم أن الإحساس بفكرة الأقلية لم يكن موجودًا لدى الأقباط فإن الاحتلال البريطاني لعب على شطر الأمة إلى نصفين، فرفعت ثورة 1919م لأول مرة شعار يحيا الهلال مع الصليب، وهو ما لم يكن موجودًا لا في ثورتي القاهرة أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي، ولا في ثورة عرابي، وقد تزايدت الهوة مع زواج الأميرة فريال شقيقة الملك فاروق من رجل قبطي يدعى رياض غالي، ومع صعود التيارات الدينية في السبعينيات شهدت مصر عددًا من حوادث الفتنة، كان أشهرها حادث الدرب الأحمر الذي تحدث عنه الرئيس أنور السادات في خطاب شهير، ومع ضعف الدولة تحولت الكنيسة إلى الحضن الواسع للأقباط، وحدث الصدام الشهير بين السادات والأنبا شنودة، ورغم هدوء الأمور عقب رحيل السادات فإن التيارات السلفية أخذت في التزايد، فطالب بعضها بأن يدفع الأقباط الجزية، وقد ظهر ما يعرف بأقباط المهجر كلوبي في المجتمع الخارجي يمارس ضغوطه لصالح الأقباط في الداخل، لكن دستور 2014م أقرّ للمسيحيين بحقوقهم الكاملة، كما صدر مؤخرًا قانون دور العبادة الجديد الذي منحهم الحق في بناء كنائس جديدة بمقدار زيادتهم السكانية، ويقدر المسيحيون سواء أقباط أو من مذاهب أخرى بنحو ثمانية ملايين مواطن، أي أن المسيحيين في مصر يشكلون ما يقرب من 10% من المجتمع.

2- الشيعة

يعود الوجود الشيعي في مصر إلى الدولة الفاطمية التي استمرت لأكثر من قرنين من الزمان، وهي الدولة التي وضعت حجر الأساس لما يعرف الآن بالقاهرة، حيث اختطّها وبناها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله، وقد تركت العديد من الآثار المهمة، بداية من الجامع الأزهر، ومسجد الحسين، ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد السيدة زينب، وسور مجرى العيون وغيرها، وفي ظلها انتشر مذهب الشيعة الإثني عشرية، وتكاد تكون مصر كلها في ذلك الوقت شيعية، حتى جاءها صلاح الدين الأيوبي فأغلق الأزهر وطارد الشيعة ومذهبهم، ورد الدعاء للخليفة العباسي السني في بغداد، لكن بانقضاء الدولة الأيوبية جاء المماليك وأعادوا فتح الأزهر على أن يكون قبلة للجميع، وبدأ عصر التسامح مع الشيعة وغيرهم، لكن القاهرة لم تعد إلى المذهب الشيعي، وظلت على مذاهبها السنية.

لا توجد إحصائيات واضحة للوجود الشيعي في مصر، لكن أفضل التقديرات لا تذهب به إلى أبعد من 15 ألف مواطن، ينتشرون في العديد من المحافظات ولا يتمركزون في مكان واحد، ولم يكن لوجودهم حضور يذكر حتى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، التي اتخذ السادات موقفًا عدائيًّا منها، وفي عام 1987م رُصد تنظيم يضم العشرات من المتشيعين الذين حاولوا نشر مذهبهم في عدد من قرى الدلتا، وفي عام 1988م قُبض على أربعة عراقيين وكويتيين وبحريني ولبناني وفلسطيني وباكستاني بتهمة الدعوة للشيعة، وأُغلقت دار نشر البداية التي كانت تنشر كتبًا شيعية، ووُجهت إليها تهمة تمويل من إيران، وكذلك أُغلق فرع لدار نشر لبنانية تسمى البلاغة عام 1996م، وكُشف عن تنظيم يضم 55 عضوًا في 5 محافظات، وفي عام 2002م قُبض على تنظيم بزعامة مدرّس في محافظة الشرقية بتهمة الدعوة للمذهب الشيعي، وبعد ثورة 25 يناير هوجم بيت لرجل شيعي كان يمارس فيه هو وأصدقاء له طقوس التطبير، وذلك من جانب جيرانه السنة. ويطالب الشيعة في السنوات الأخيرة باحترام طقوسهم، والسماح لهم بممارستها علنًا.

3- البهائيون

هم أتباع حسين علي النوري المعروف في إيران باسم بهاء الله، وقد دخل مذهبه أو طريقته البهائية إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر مع تجار السجاد الإيرانيين، ولا توجد تقديرات رسمية حول عدد البهائيين في مصر، حيث إنها تعدّ ديانة غير معترف بها من الشارع والمشرِّع المصري، فقد صدرت عام 1925م فتوى من المحكمة الشرعية بأن البهائية إلحاد، وأمر القاضي بتفريق ثلاثة بهائيين عن أزواجهم، ورغم ذلك استطاع البهائيون أن يؤسسوا عددًا من المحافل والمراكز الخاصة بهم، وهو ما استدعى صدور قرار جمهوري عام 1960م بإغلاق محافلهم، وذلك بعد دعوى اتهمت عددًا من البهائيين بنشر دعوتهم في مصر، منذ ذلك التاريخ والبهائية تكاد تكون جماعة سرية لا يسمع بها الكثيرون، لكن مع ثورة 25 يناير ظهر العديد من المدافعين عن حرية العقيدة، مطالبين بإثبات البهائية في خانة الديانة، أو رفع خانة الديانة من بطاقة الهوية للجميع، وهو ما رفضته المحكمة، لكنها أقرت بأنه يحق للشخص البهائي أن يضع شرطة (-) أمام خانة الديانة، لكن الأزهر ما زال رافضًا للبهائية، ويرى أنها خروج على الملة، رغم أن لجنة صياغة الدستور عام 2013م قدمت دعوة رسمية لوفد من البهائيين مستمعة إلى مطالبهم الدستورية.

ثانيًا- أقليات عرقية

1- النوبة

النوبيون هم مجموعة من القبائل التي تسكن في شمال السودان وجنوب مصر، وقد كانت لهم حضارة عريقة عرفت بالحضارة النوبية الكوشية، وكانت في ثلاث ممالك هي: نبتة، وكرمة، ومروى. ويتحدث النوبيون اللغة النوبية، وهي تنقسم إلى قسمين أساسيين؛ الكنزية والفاديجية، وتتفرع إلى خمس لهجات أو أكثر في مناطق مختلفة ما بين مصر والسودان. ويتحدث السكان الحاليون بجانب اللغة النوبية اللغة العربية بطلاقة مع لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية بحكم اختلاطهم بالسائحين والزوار الأجانب.

يتوازى وجود النوبي مع الوجود المصري القديم، حيث عصر الفراعنة، هذا الذي تذهب بعض الدراسات إلى أن عددًا من ملوكه كانوا نوبيين، نظرًا لتطابق البشرة السمراء والملامح الزنجية والشعر والأنف مع الملامح النوبية، ويتحدث أبناء الشمال منهم الكنزية، على حين يتحدث أبناء الجنوب الفاديجا.

وحتى بداية القرن العشرين لم تكن هناك إشكالية خاصة بالنوبيين، فقد كانوا جزءًا من نسيج المجتمع الذي ضم الدولتين السودانية والمصرية تحت تاج واحد، لكن حين فكرت مصر في بناء خزان أسوان عام 1933م ظهرت المشكلة؛ إذ إن المياه التي حجزها الخزان خلفه جاءت على حساب القرى النوبية، لكن الأمر لم يكن بقوة ما حدث بعد بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، ورغم أن الدولة المصرية طالبت النوبيين بالخروج من أرضهم، وقامت بتجهيز أماكن لإقامتهم في أسوان، فإن بعضهم رفض الخروج، وفضل أن يصعد إلى أعالي الجبال على أمل انحسار الفيضان، لكن ذلك لم يحدث، ومن ثم انتقلوا جميعًا إلى قرى في الشمال، وبعضهم تفرق في مدن وبلدان كثيرة. ومن النوبة رموز مهمة في الفنون والآداب، من بينها المطرب الشهير محمد منير الملقب بالملك، والكاتب الكبير محمد خليل قاسم صاحب رواية «الشمندورة»، وغيرهما.

وفي نهايات عصر مبارك غازلت الضغوط الخارجية بعض أبناء النوبة كي يطالبوا بالعودة إلى أرضهم القديمة، بدعوى أنهم حضارة منفصلة، لها أرض ولغة وتاريخ منفصل، وذهب بعضهم إلى المطالبة بتكوين وطن منفصل، وهو ما تعاملت معه الحكومة المصرية بحزم، فمثلما سمحت بوجود تمثيل نوبي جيد في الثقافة والفن، فإنها لم تسمح بهذا التمثيل السياسي، وما زالت حتى الآن بعض الأصوات تطالب بحق العودة إلى الديار التي خرجوا منها؛ بسبب تعلية خزان أسوان أو بناء السد العالي.

2- الأمازيغ

لم يكن المصريون يعرفون أن في بلادهم أمازيغ، وكانوا ينظرون طيلة الوقت إليهم بوصفهم عربًا أو بدوًا، لكن مع الصحوة التي قام بها الأمازيغ في بلدان المغرب العربي، وظهور الحركات المطالبة بالانفصال عن البلدان القديمة سواء في المغرب أو الجزائر أو ليبيا، فقد أثر ذلك في المجموعات القليلة المقيمة في مصر، وبخاصة في منطقة واحة سيوة، حيث تعد الامتداد الطبيعي للأمازيغ المقيمين في الصحراء الليبية، والأمازيغ لا ينفصلون عن الكيان المصري، مثلهم مثل النوبة، فعمق التاريخ جامع بين العناصر المقيمة على الأرض في هذا المكان، ويرجع بعض الأمازيع تقويمهم إلى اليوم الذي دخل فيه ملكهم شيشنق أرض مصر واعتلى عرشها، ويقدر تعداد الأمازيغ المقيمين في سيوة وما حولها بنحو 25 ألفًا، لكن ذلك لا ينفي وجود أمازيغ انتشروا في جنوب البلاد وشمالها بحكم الهجرات الداخلية بحثًا عن الرزق، وفي مصر كيانان يهتمان بالشأن الأمازيغي، هما: «الشبكة المصرية من أجل الأمازيغ»، ومركز «ميزران للثقافات المحلية»، أسستهما الناشطة أماني الوشاحي، وهي مستشار رئيس منظمة الكونغرس العالمي الأمازيغي. وقد استمعت إليها لجنة إعداد الدستور عام 2013م؛ إذ طالبت بتعيين عضو في مجلس النواب عن الأمازيغ وثقافتهم.

3- الغجر

ليس معروفًا على وجه التحديد تاريخ ارتباط الغجر بمصر، رغم أن بعض المراجع ترجع وجود الغجر في مصر إلى ما بين عامي 1546 و1549م، على حين ربطتهم مصادر أخرى بقصة جساس والزير سالم؛ إذ ذهبت إلى أنهم عرب جساس الذين لقوا الهزيمة على يد الزير سالم، فتفرقوا في البلاد وأقاموا على هوامش المدن والقرى… وقد اعتاد الناس على اتهامهم بالسرقة وتسميتهم بالنَّوَر، وهم يقيمون في أماكن متواضعة، مع أغنامهم وماشيتهم، ويحتكمون إلى مجلس يسمى بمجلس المغارمة، وهو مكون من كبير يعاونه ثلاثة من رجاله، ولا يتزوجون من الغرباء، وأغلب أغنياتهم تدور عن الذين عشقوا من الغجر ولم يتزوجوهن، وتعد المرأة هي العائل الأول للأسرة؛ لذا فمهرها غالٍ، وتقام الأفراح حين تولد أنثى في بيت غجري، ويعد لون الشعر الأصفر من علامات الجمال لديهم؛ لذا فأغلبهن تقمن بصبغه، ويتركز وجود الغجر في بعض المناطق مثل: حي غبريال بالإسكندرية، وقرى طهواي بالدقهلية، وكفر الغجر بالشرقية، وحوش الغجر بسور مجرى العيون، وقرى سنباط والمقطم وأبو النمرس ومنشية ناصر، ويقيم في الدقهلية وحدها نحو أربعة آلاف غجري، وفي قرية العصيا بطلخا نحو 1500 غجري، وفي المنصورة نحو 500 غجري، إلا أنه لا يوجد تعداد واضح وشامل للغجر المقيمين في مصر حتى الآن، ربما لترحالهم الدائم، وربما لأنهم ينكرون هويتهم ولا يرغبون في إثباتها، وهم في العموم ليست لهم أية مطالب سياسية، ولا يشكلون مأزقًا للدولة ولا للمجتمع المصري.

لم يبتعد كثيرًا مسلسل «حارة اليهود» عن الواقع في إظهاره اليهود جزءًا من المجتمع المصري، وأن ثمة علاقات طيبة كانت تجمع أبناء الديانات الثلاث في مصر؛ فاليهود كانوا جزءًا من نسيج الواقع الاجتماعي، حتى أنهم لم يكونوا متمركزين في مكان بعينه كي نتحدث عن ثقافة الجيتو، ولم يحدث ارتباك في هذا النسيج إلا مع ظهور الصهيونية، ووقوع نكبة 1948م. وهو ما سعى المسلسل الذي عرض مؤخرًا للتعبير عنه، وقد لاقى قبولًا واسعًا لدى الأوساط الشعبية، ربما لشهرة اسم «حارة اليهود»، وربما لنعومة الأحداث وجماليات التصوير، لكن النخب لم تستطع قبوله، فقد وصفه ألبير أريه (يهودي مصري) في حوار معه بأنه مسلسل للاستهلاك الإعلامي، ووصفه المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم بأنه مجرد تأليف من الخيال. وبعيدًا عما أثاره المسلسل من جدل فإن اليهود في مصر يكادون ينقرضون، فحسبما قالت رئيسة الجالية ماجدة هارون: إنهم لا يستطيعون إقامة الصلوات في المعبد، لأن الصلاة تحتاج إلى عشرة رجال على الأقل، وكل اليهود المصريين الآن عشرون سيدة، فما الذي حدث؟

يرى قاسم عبده قاسم أن الهجرات التي حدثت في القرن الثالث عشر سواء من المشرق العربي بسبب الغزو المغولي، أو المغرب العربي بسبب سقوط الأندلس، زاد من هجرات اليهود إلى مصر، وبعدما كان تعدادهم لا يصل إلى عشرة آلاف أصبح عشرين ألفًا مع بداية الدولة المملوكية، وقال: إن المصادر التاريخية حددت تعداد اليهود قبل الإسلام في مصر بنحو 70 ألفًا، لكن هذا الرقم تناقص بعد الإسلام في ظل عصر الولاة ودولتي طولون والإخشيد حتى وصل إلى 1% من تعداد السكان، وذلك إما للدخول في الإسلام، أو للهجرة إلى عواصم الخلافة سواء في دمشق أو بغداد أو حتى الأندلس، ولا توجد إحصائيات واضحة لهذه الحقبة حتى مجيء الدولة الفاطمية، حيث نشطت فيها التجارة بشكل ملحوظ، فضلًا عن كونها صارت عاصمة خلافة جديدة، وهذا رفع التعداد إلى نحو مئة ألف يهودي، وقد ذكر المقريزي أن القاهرة في أيامه كان بها خمسة معابد، اثنان لطائفة الربانيين، واثنان للقرائين، وواحد لطائفة السامرة، وذهب قاسم إلى أن الأسرة اليهودية لم تكن تزيد على أربعة أبناء، وأن عامل الهجرات كان المؤثر الأول في زيادة تعداد اليهود أو قلته، فضلًا عما كان يقع على المصريين جميعًا من أوبئة ومجاعات.

في العصر الحديث

كانت الثلاثينيات والأربعينيات هي مرحلة الازدهار للوجود اليهودي حسبما يقول الدكتور محمد عفيفي، فقد أدى اليهود بجالياتهم المختلفة وانتماءاتهم الأوربية دورًا في ربط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي، وكانت لهم محلات شهيرة من بينها شيكوريل، و شملا، وعدس، وإريكو، و بنزايون، وقد كان لبعضهم دور مهم في السياسة المصرية، مثل قطاوي باشا، وأدى آخرون دورًا بارزًا في الثقافة المصرية، كيعقوب صنوع الملقب برائد المسرح المصري، الذي أسس جريدة «أبو نضارة»، وحين نفاه الخديوي إسماعيل إلى باريس ظل يدافع عن حرية مصر من هناك. وكان المخرج توجو مزراحي من أهم المخرجين في مصر، وهو أحد المؤسسين للسينما المصرية، وعرفت السينما المصرية شخصيات يهودية شهيرة من النساء، من بينها ليليان ليفي التي اشتهرت باسم كاميليا، وراشيل إبراهام ليفي التي عرفت باسم راقية إبراهيم، والممثلة نجمة إبراهيم التي مثلت مسرحيات تبرعت هي والممثلة نجمة إبراهيم بدخلها للجيش المصري، ونظيرة موسى شحاته التي عرفت باسم نجوى سالم، التي حصلت على درع الجهاد المقدس لدورها الوطني في حرب الاستنزاف، والمغنية الشهيرة ليلى مراد، وكان في بداية السينما المصرية شخصية يهودية تدعى «شالوم»، كان أول من قدم سلسلة أفلام بهذا الاسم، لكنه اختفى.

حارة اليهود

bnmتقع حارة اليهود الشهيرة على مقربة من شارع الموسكي في القاهرة، وهي تتبع إداريًّا حي الجمالية، وهي بمثابة حي كامل يضم 360 حارة، وكانت مقسمة إلى شياختين إحداهما لليهود الربانيين، والثانية لليهود القرائين، وكانت تشتمل على 13 معبدًا لليهود، لم يبق منهم إلا معبد موسى بن ميمون، ومعبد أبو حاييم كابوسي، ومعبد بار يوحاي. ويقول الدكتور محمد أبو الغار صاحب كتاب «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات»: إن الحارة لم تكن تقتصر على اليهود فقط، فسكانها كانوا من اليهود والمسلمين والأقباط، ولم يكن هناك حي مقتصر على اليهود فقط، وإن كان قد وجد في هذا المكان عدد أكثر كثافة عن غيره من اليهود، لقرب الحارة من شارع الحرفيين، حيث كان اليهود يعملون في الحرف، ما جعلها على مقربة من مصدر رزقهم، وعندما كانت حالتهم الاقتصادية تصبح أفضل كانوا يتركون الحارة ليقيموا في باب الشعرية، أو باب اللوق، أو العباسية، أو مصر الجديدة.

الخروج من مصر.

تعددت أسباب خروج اليهود من مصر، لكن ليس من بينها الإجبار بحال من الأحوال؛ إذ يرى الدكتور قاسم عبده قاسم أنهم خرجوا على مراحل، المرحلة الأولى مع النكبة وقيام دولة إسرائيل، والثانية مع العدوان الثلاثي الذي جاء بعد عملية سوزانا التي اشتهرت باسم فضيحة لافون، والتي قبض فيها على عدد من اليهود بتهمة التجسس والقيام بأعمال تخريبية، والمرحلة الثالثة وكانت الضربة القاضية والتي كانت بعد التأميم عامي 1961، 1962م. وأكد الدكتور محمد عفيفي على أنه من الصعب القول بعودة اليهود مرة أخرى إلى مصر في ظل الأوضاع الحالية؛ فالحياة الاجتماعية والاقتصادية المصرية لا تمثل لهم الآن أي عامل من عوامل الجذب على الإطلاق.

طوائف  وخلافات

norbert-egypt-jews1يوضح أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة الدكتور محمد عفيفي أن يهود مصر  كانوا من أكبر الطوائف، وأن التركيبة السكانية الأساسية لهم تتكون من الناطقين بالعربية وهم الربانيون والقراؤون، ومن انضم إليهم من السفارديم القادمين من الأندلس، ثم الأشكناز الذين جاؤوا من أوربا في أعقاب المذابح التي دبرت لليهود في نهايات القرن التاسع عشر. وذهب عفيفي إلى أن اليهود عملوا في مختلف الحرف وشتى أنواع التجارة، لكنهم لم يكونوا مزارعين، ولم يعملوا بالزراعة حتى وإن امتلك أثرياؤهم ضياعًا وعزبًا. وأضاف أنهم تمتعوا بمختلف الامتيازات، بخاصة أن كثيرين منهم كانوا يحملون جنسيات أخرى، فقدر عدد اليهود من أصول مصرية بنحو 11 ألفًا، واليهود المصريين الذين يحملون جنسيات أخرى بنحو 75 ألفًا، واليهود الأجانب المقيمين في مصر بنحو 40 ألفًا. وذلك في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات.

وتكونت الجماعة اليهودية في مصر والعالم العربي من ثلاثة أطياف، هم الربانيون والقراؤون والسامرة، وكان الربانيون هم الأكثر عددًا، ومن ثم كان غالبًا ما يكون رئيس الجالية اليهودية من بينهم، وتعود التسمية إلى كلمة رباني أو أوريانيم التي تعني الإمام أو الحبر أو الفقيه، وهم يؤمنون بالتوراة والتلمود، أما القراؤون فهم أقل عددًا من الربانيين، لكنهم كانوا أكثر غنى، ومن ثم كانوا في المناصب والوظائف العليا، وتأتي تسميتهم من كلمة قرأ، أي نادى ودعا، وهم لا يعترفون بالتلمود، ولا يؤمنون إلا بما جاء في النص التوراتي فقط، ويعرفون باسم أهل الدعوة لأنهم يدعون إلى طريقتهم. ويرجع بعض الباحثين ظهورهم إلى زمن أبي جعفر المنصور، إذ  تأثر زعيمهم عنان بن داود بأفكار المعتزلة الذين رفضوا جعل الحديث النبوي من مصادر التشريع، وتشككوا في التراث الشفوي الإسلامي، ومن ثم رفض عنان وطائفته الإيمان بالتلمود وما جاء فيه، وزاد الخلاف بين الفريقين إلى درجة تحريم الزواج والاختلاف في كثير من الطقوس والأعياد. أما الطائفة الثالثة فهي السامرة، وهم أقلية، ولا يعدهم الربانيون ولا القراؤون طائفة، لكن المصريين حكامًا ومحكومين تعاملوا معهم على أنهم طائفة، و تعود نشأتهم إلى زمن السبي البابلي، حيث تم نقل يهود القدس وفلسطين إلى شمال إيران، وإحلال يهود آخرين محلهم، وكانت مدينة السامرة هي عاصمة مملكة داود وسليمان، وهي المدينة القديمة التي تسمى الآن «نابلس»، وقد بنى فيها اليهود الجدد هيكلهم على جبل جزريم، وحين أمر قورش بعودة اليهود الذين كانوا في السبي سعى هؤلاء المقيمون في السامرة إلى تعطيل عودتهم، كما سعوا إلى تعطيل ترميمهم لهيكلهم القديم في القدس، فنشب الخلاف بين الطائفتين، وهم لا يؤمنون إلا بالأسفار الخمسة إلى جانب سفر يوشع والقضاة، ولا يؤمنون إلا بنبوة موسى وهارون ويوشع، ويخالفون الربانيين والقرائين في القبلة؛ إذ يتوجهون إلى جبل جزريم، أما الآخرون فيتوجهون إلى القدس.

وعرفت مصر الطوائف الثلاث، وكانت مركزًا مهمًّا لجذب الكثيرين، لكن القيادة الروحية لهم كانت في العراق وفلسطين، حيث مدارس التلمود هناك، وكان مبارك بن سعديا أول رئيس للطائفة اليهودية في مصر عام 1056م، وخلفه ابنه موسى، وكان اختيار رئيس اليهود يسمى الناجد، ويتم اختياره من السلطان أو الخليفة، ويعهد إليه بتدبير شؤون الطوائف الثلاث في فصل المنازعات والقضاء، وكان لكل طائفة رئيس يخصها، لكننا لا نعرف على أي أساس يتم الاختيار سوى أن صاحبه يكون متقاطعًا مع بلاط الحاكم.

الجوائز الأدبية في العالم العربي.. شراء ولاءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟

الجوائز الأدبية في العالم العربي.. شراء ولاءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟

لم تكن الثقافة العربية تعرف غير عدد محدود من الجوائز التي يتنافس عليها المبدعون العرب، فلكل دولة جوائزها القومية التي تمنحها لمبدعيها، ولا يوجد غير جائزتي العويس والشيخ زايد اللتين كانتا في عداد مكافأة نهاية الخدمة، إذ تمنح للشيوخ على مشروعاتهم الثقافية التي استنفدت أعمارهم، سواء في الشعر أو الرواية أو الفكر بشكل عام، حتى إن «العويس» كانت تسمى نوبل العرب، أما جائزة الملك فيصل العالمية فكان الكثيرون يعدونها جائزة التيار المحافظ، أما «زايد» فقد كان الرهان عليها قليلًا، ونادرًا ما كانت التغطيات الإعلامية توفر مادة جيدة عن الفائز بها.

كانت جائزة نجيب محفوظ التي تمنح مرة لفائز مصري وأخرى لفائز عربي هي أولى الجوائز التي خرجت عن الإقليمية، فقد قررت ترجمة النص الفائز إلى اللغة الإنجليزية، ومنح الفائز مبلغًا رمزيًّا قيمته ألف دولار تخصم من عائد مبيعات أعمال نجيب محفوظ المترجمة، وفي يوم ميلاد صاحب نوبل تقيم الجامعة الأميركية حفلًا ومؤتمرًا صحفيًّا بحضور أمانة الجائزة وأعضاء تحكيمها وكبار المثقفين المصريين ليتم الإعلان عن اسم الفائز ومنحه ميدالية نجيب محفوظ. ظلت هذه الجائزة رغم صغر قيمتها المالية هي الجائزة الأبرز والأهم حتى ظهرت جائزة البوكر في نسختها العربية، لتخطف الأضواء والمبدعين أنفسهم، ففي حفل إعلامي كبير تتم تسمية الفائز ومنحه ستين ألف دولار، ويمنح إلى جانبه كل من وصلوا إلى القائمة القصيرة عشرة آلاف دولار. هكذا عرف العالم العربي القائمة الطويلة والقائمة القصيرة، وأخذ الجميع يترقب إعلان القوائم واسم الفائز.

من جانبها حاولت القاهرة البقاء في المنافسة كمركز ثقافي كبير وقديم عبر منحها ثلاث جوائز تخص ثلاثة ملتقيات دولية للشعر والرواية والقصة القصيرة، لكن جوائزها ظلت محكومة بأدائها الحكومي ورغبتها في مراعاة أبعاد سياسية وجغرافية، ما أفقدها البريق المطلوب للجوائز الكبرى. ثم ظهرت جائزة كتارا عبر سخاء غير مسبوق لتغطي على الجميع، فلأول مرة في تاريخ الجوائز الثقافية في العالم العربي نجد عملًا روائيًّا يفوز بنحو ربع مليون دولار، إضافة إلى ترجمته وتحويله إلى عمل سينمائي. الملحوظ أن كل هذه الجوائز للنثر وليست للشعر، بما فيها جائزة الملتقى التي خصصتها الجامعة الأميركية بالكويت للقصة القصيرة. والملحوظ أيضًا أن التنافس بين الجوائز أصبح على مستوى العواصم والمدن، فالعويس والشيخ زايد والبوكر من أبو ظبي، ونجيب محفوظ وجوائز ملتقيات الشعر والرواية من القاهرة، وكتارا من الدوحة، والملك فيصل من الرياض، والملتقى من الكويت، والطيب صالح من الخرطوم.

والمدهش أن دول الخليج أصبحت قبلة المبدعين العرب عبر ما أطلقته من جوائز كبرى ماليًّا وإعلاميًّا، وخرجت من المنافسة العديد من المراكز الثقافية القديمة، كدمشق وبغداد والرباط وتونس، على حين ما زالت القاهرة تصارع للبقاء في مكانها عبر آلياتها القديمة. ويتضح أنه منذ بداية الألفية لم تعد الجوائز تمنح بأسماء أمراء ولا شيوخ، فقد حرصت كل جائزة على أن يكون لها مجلس أمناء ولجان تحكيم مستقلة، كما حرصت على عقد مؤتمر صحفي تحضره قنوات الإعلام ومشاهير الثقافة والفن لتدشين اسم الفائز أمامهم جميعًا، وعلى الرغم من أن جوائز مثل البوكر وكتارا تقوم بترجمة الأعمال الفائزة فإن أحدًا لا يهتم ولا يشعر بمردود لهذه الترجمات.

في ظل هذا السياق كان لا بد لـ«الفيصل» أن تتوقف أمام ظاهرة الجوائز الثقافية العربية لنعرف ما لها وما عليها، وكيف تعامل النقاد والمبدعون معها، وكيف تركت آثارها بالسلب أو الإيجاب على إبداعنا العربي، وهل الأموال التي تغدق عليها من أجل شراء الولاءات السياسية للمثقف العربي، أم رغبة في خلق فعل ثقافي حقيقي؟ أسئلة طرحتها «الفيصل» على عدد من أدباء وكتاب من مختلف البلدان العربية، سواء ممن فازوا بالجوائز أو تنافسوا ولم يحصلوا على شيء، أو شاركوا في تحكيم بعضها، أو اكتفوا بالنقد والتعليق، سواء من الشباب أو الشيوخ، بقصد تعرف رؤية كل منهم وكيف يمكن الدفع بعجلة التطوير إلى الأمام.

أمير تاج السر: كثير من الأعمال المقدمة للجوائز نيئة

%d8%a7%d9%94%d9%85%d9%8a%d8%b1-%d8%aa%d8%a7%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b1كما هو متوقع، فإن من المفترض أن يبدع الناس في كل المجالات الفنية والإنسانية، من دون أن ينتظروا جوائز أو تكريمًا معينًا من أي جهة، وقد كان هذا التقليد، أي الإبداع بلا تطلعات مادية، سائدًا في الوطن العربي حتى عهد قريب، إذ فجأة ظهرت الجوائز الأدبية، ظهرت في البداية على استحياء ثم تكاثر عددها، وهكذا أصبح للكتاب أمل جديد في الاعتماد على كتابتهم، حين تصيب جائزة ما، كتعويض بالنسبة للكتاب الكبار، وكبداية تساعد على المضي في سكة الكتابة، بالنسبة للمبتدئين.

وفي المقابل، سلبت كثيرًا من القناعة، وأوجدت لهفة جديدة لدى كل من يكتب، ومن يحاول أن يكتب، في الركض للحصول على جائزة، ولذلك قد تجد كثيرًا من الأعمال المقدمة للجوائز الأدبية، حتى من كتاب كبار، نيئة، وبحاجة لتنضج، لكن نُشرت لتركض في سباق الجائزة. أيضًا نتجت كثير من الغيرة التي لم تكن موجودة حين كان الأدب مجرد تميز طفيف، لا عائد ماديًّا له. بالنسبة للقيمة المادية للجوائز الأدبية، فأنا لا أراها مبالغًا فيها، وهناك جوائز لأنشطة كثيرة في الرياضة، والغناء، والموسيقا أعلى كثيرًا من أعلى قيمة جائزة لدينا، وما دامت هناك مؤسسات تقوم بالتمويل فلماذا نقول بأن القيمة مبالغ فيها؟ نأتي لمسألة الأعمال التي قد تفوز في تلك الجوائز، وهي مسألة معقدة خاصة للذي يعمل محكمًا فيها. لذلك لن نقول بأن أي عمل حصل على جائزة، هو بالضرورة عمل جيد وينبغي اتخاذه مرجعًا، وأي عمل طرد من الجائزة هو بالضرورة عمل سيئ وينبغي الحطّ من قدره. ودائمًا عندي رأي أردده وهو أن الجوائز مكسب في النهاية، ينبغي الحفاظ عليه، مهما كانت السلبيات.

يحيى يخلف: الجائزة توفر للمبدع حياة كريمة

yahya-2الجوائز نظام معمول به في الدول والمؤسسات الأهلية. الجوائز تكريم للمبدعين في مجالات الآداب والفنون والعلوم. الدول ممثلة بوزارات الثقافة تمنح جوائز لأدباء وفنانين عن مجمل أعمالهم أو مسيرتهم اعترافًا بجهودهم وعطائهم. كما تمنح لأدباء وفنانين شباب جوائز تشجيعية لتحفيزهم وتشجيعهم. يحدث ذلك في دول عربية وفي دول العالم. الجوائز العربية الأكثر أهمية هي الجوائز التي تمنحها مؤسسات غير حكومية أو مستقلة ممولة من حكومات أو رجال أعمال مثل جوائز البوكر، وكتارا، والشيخ زايد، والعويس، والملك فيصل، ومؤسسه الفكر العربي… إلخ، وهي جوائز تستحق التقدير وتلعب دورًا في تكريم القامات العالية، وتحفيز إبداع الشباب. الجوائز بشكل عام تفيد ولا تضر. إنها تكريم وتحفيز وقيمتها المادية توفر للمبدع حياة كريمة. لنتذكر الشعر والشعراء في تراثنا الذين كانوا يضطرون للتكسب في بلاط الحكام على حساب كرامتهم. التكسب قبيح لكن الجوائز مختلفة. للجوائز لجان تحكيم ونظم داخلية ومعايير لا تمنح إلا إذا توافرت لها عناصر فنية. وبالتالي تحفظ للمبدع كرامته. صحيح أننا أحيانًا نختلف مع لجان التحكيم؛ إما لأن بعض أعضائها ليسوا على مستوى من ناحية القدرات أو الكفاءة، لكن معظم لجان التحكيم يتوافر بها حد معقول من النزاهة. باختصار يستحق المبدع التكريم ويستحق أن يمنح جوائز كما هو معمول به في كل دول العالم.

هيثم حسين: البيئة الثقافية الفاسدة لا تنتج إلا جوائز فاسدة

%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82حسن النيّة يفترض التعاطي مع الجوائز لكونها مخصّصة للاحتفاء بالفنون التي تقوم بتتويج المبدعين فيها، وتركيز الاهتمام على أعمالهم وعليهم، وتسليط الأضواء على مجالاتهم وتسويقهم وتقديمهم لشرائح عريضة من المتلقين، لكن كما يقال: إنّ سوء الظنّ من حسن الفطن، فإنّ التعاطي لا يخلو دومًا من تأويلات وبحث عن مقاصد خفيّة تكمن في مضمون اختيار الفائزين وآليات التتويج المتّبعة التي لا تنجو من انتقادات تصل حدّ الاتّهامات بالفساد والإفساد. لا يمكن الإغفال عن أنّ الجوائز المخصّصة للفنون الإبداعيّة (شعر، رواية، قصة، رسم..) في العالم العربيّ على قلّتها تدار في مناخ فاسد، ولا أقصد إدارة أيّة جائزة بعينها، بقدر ما أشير إلى البيئة الثقافيّة الفاسدة التي تنخر بنية المؤسّسات الثقافيّة العربيّة، البيئة التي هي جزء من بيئة أشمل تنتعش فسادًا وإفسادًا، ذلك أنّ هناك من كرّس نفسه للشلليّة والتنفيع، يكون إمّا هنا في لجنة تحكيم أو هناك في لائحة قصيرة أو طويلة، يمنح هنا تتويجًا أو تصديرًا ليتسلم من هناك المقابل المطلوب. وقد لا يخلو التتويج من إقحام اسم ما على سبيل التنويع وتبديد الشكوك والتأكيد على الاستقلالية والنزاهة والبراءة من التنفيعات والفساد. الفائزون بالجوائز يسبغون عليها نزاهة مطلقة، أمّا بعض المرشحين لها ممّن لم يحالفهم الحظّ فيبالغون في اتّهامهم لها بالإقصاء والتهميش وتصدير أسماء بعينها. بالطبع لا توجد وثائق تدين الفاسدين في الجوائز، لكن لدى المتابعين ما يمكن توصيفه بحدس بما بين السطور.

ناصر عراق: لم تسلم جائزة من غمز

%d9%87%d9%8a%d8%ab%d9%85-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86حسب علمي لم تسلم جائزة من الغمز واللمز من الذين لم يحالفهم الحظ وينالوا فواكهها، حتى نجيب محفوظ نفسه تلقى هجومًا شرسًا من يوسف إدريس وآخرين واتهموه بأن مهادنته وتأييده للسلام مع إسرائيل هي التي فرشت له طريق الورد إلى قطف نوبل… ويبدو لي أن غضب الخاسرين يتصاعد كلما كانت قيمة الجائزة المالية مرتفعة. بسبب الوضع الاقتصادي المأزوم الذي يعيش في كنفه أغلب المبدعين العرب بكل أسف. فالجوائز السخية توفر قدرًا من الأمان المالي لمن يظفر بها. فإذا خاصمتهم الجائزة هذه الدورة صبوا عليها اللعنات واتهموها بعدم النزاهة. لكن سرعان ما يهرعون إلى تقديم رواياتهم للمشاركة في الدورة المقبلة وهكذا. وأنا أتفهم هذا الأمر جيدًا. وأتمنى لجميع زملائي من الروائيين والكتاب الفوز بجوائز مهمة. أما هل كانت هناك أعمال تستحق الفوز فلا أستطيع التأكيد. لأَنِّي لا أعرف الروايات التي تقدمت للمشاركة، ولكني موقن أن المبدع العربي يتمتع بإمكانيات مدهشة تجعله قادرًا على كتابة رواية مهمة وجديرة بثقة القارئ والناقد. أعتقد أن آليات جائزتَيْ كتارا والبوكر معقولة جدًّا وفقًا لما أعلنته إدارة كل جائزة عن طريقة التحكيم وآلياته. وحبّذا لو أُصدِرت ورقة تشرح حيثيات الفوز موقَّعة من لجنة التحكيم. هذا باختصار فيما أعتقد بشأن الجوائز.

مكاوي سعيد: مرحى بالجوائز وإن جانبها الصواب

makkawi2في اعتقادي أن الجوائز التي تمنح لأشكال الإبداع الثقافي كافة لها فوائد ومزايا جمة مهما اتفق أو اختلف بعض المهتمين عليها، وبخاصة في واقعنا العربي النامي، فالمبدعون يعانون تردِّي الرواتب وقلة ساعات الفراغ التي يستقطعون منها بصعوبة وقتًا يخصصونه للإبداع، إضافة إلى رحلة البحث المضنية عن ناشر يتحمس لإبداعهم ويوافق على نشره، كما أنهم لا يحصلون على مقابل لإبداعهم إلا نسبة قليلة يمنحهم الناشر مقابلها بعض النسخ. هذه الجوائز سواء ممنوحة من دول أو مؤسسات خاصة أو رجال أعمال، فهي أمر حسن جدًّا يدافع عن وجوه الإبداع ضد خطر التقزم والاندثار. الجوائز في غاية الأهمية لدفع عملية الإبداع ومساعدة الشباب الموهوب في تكملة طريقه الإبداعي، وأيضًا مساعدتهم في اقتحام مجالات باتت مهجورة؛ لأن أغلب الجوائز صارت تعطى للترجمات والأعمال الروائية (وهذا جانب سلبي من الجوائز؛ لأنه يدفع بالمتبارين لاقتحام مجالات غير موهوبين فيها. كبعض الشعراء الذين يتجهون للرواية من أجل القيمة المالية) وقد انتبه بعض المهتمين لذلك فظهرت بعض الجوائز التي تمنح للقصة القصيرة، وأتمنى أن تكثر هذه الجوائز بالنسبة للقصة والشعر والكتابة المسرحية حتى نضخ دماء جديدة في هذه الشرايين الإبداعية. وبعض الذين يهاجمون هذه الجوائز (وبخاصة الكبرى منها) يتقدم لها سنويًّا ويثير اللغط نفسه بغية الضغط على لجان التحكيم كي تمنحهم الجائزة في العام التالي. وبعضهم قد يكون محقًّا لأن عدد المحكمين المعلن عنهم لا يكفي لفحص كل الأعمال المقدمة. وهذا جانب سلبي أيضًا في الجوائز يجب معالجته. المهم في هذا الصراع في رأيي أن من ارتضى أن يدخل إلى هذه السباقات لا بد أن يرضخ لنتائجها.

هويدا صالح: معيارية التحكيم في الجوائز العربية


%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%af%d8%a7-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%adكلما قرأت نصًّا يحصل على جائزة عربية وأجده أقل فنيًّا وجماليًّا من أن يصل إلى مستوى جائزة كبرى كنت أتساءل عن معيارية التحكيم في الجوائز العربية، ثم جاءت جائزة نوبل التي منحت جائزتها لمغنٍّ، عاودني التساؤل أليس ثمة معيارية أدبية يتمثلها مانحو الجوائز وهم يمنحونها؟

ومن خلال تجربتي في تحكيم جوائز مصرية وعربية أتحدث عن طريقتي مع النص الذي يجب تحكيمه، أنا شخصيًّا عند قراءة نص ما من أجل تحكيمه، وتبيان مدى استحقاقه لجائزة أم لا، أضع لنفسي معيارين أساسيين لا يمكن أن أحيد عنهما: المعيار الأول هو الخطاب الجمالي ومدى تحقق الأدبية والجمالية في النص، والمعيار الثاني هو الخطاب الثقافي الذي يتضمنه النص، ومدى قبول هذا الخطاب من منطلق وعيي الفكري والأيديولوجي، فإن تحقق للنص مستوى أدبي يرضي قناعاتي الأدبية ومقولاتي النقدية لكنه يحمل خطابًا ثقافيًّا لا يليق بما نتمنى أن نجده في مجتمعنا من خطاب يكرس لقيم المدنية والمواطنة، ويتوافق مع منظومة القيم الإنسانية العالمية أرفض هذا النص فورًا.

شريف صالح: نوبل نفسها لم يحصل عليها مبدعون كبار

2%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d9%81-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%adمن المؤكد أن أي أديب يفوز بجائزة مشفوعة بحفنة من الدولارات لن يشعر أن ثمة ضررًا، بل سيكون سعيدًا للغاية، وسيتلقى التهاني بأريحية وسيظل يشيد بنزاهة المانحين. حتى الجوائز التي «على قد حالها» يتكالب عليها الكثيرون؛ لتأكيد جدارتهم واستكمال وجاهتهم الاجتماعية بتعليق شهادات التقدير على الفيسبوك. لا أقول ذلك زاعمًا أنني لا أشارك في الجوائز. إنني بالفعل أشارك وأدرك أن «الكاتب العربي» في وضع مادي بالغ البؤس. فالجائزة هي تعويض مادي ومعنوي من الصعب الاستغناء عنه. لكن إذا أعدنا صياغة السؤال «هل تفيد الجائزة الأدب نفسه؟» الإجابة: ليس بالضرورة. بل ربما تضرّ أكثر مما تفيد. إذا عممت نموذجًا متوسطًا على حساب النموذج الأكثر أصالة. ولكي تفيد جائزة الأدب لا بد أن تتحلى بمصداقية وشفافية عالية جدًّا. وهو ما لا يتوافر في معظم الجوائز العربية، والنتائج والكواليس معروفة للجميع.

إعتدال عثمان: الجوائز إما تتويج لمشروع أو تبشير بموهبة

%d8%a7%d9%95%d8%b9%d8%aa%d8%af%d8%a7%d9%84-%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86لا شك أن تعدد الجوائز الثقافية في الساحة العربية مؤشر دالّ على حراك ثقافي يسهم في توجيه الثقافة، وتزويد المجتمع بالزاد الفكري والإبداعي المطلوب. إننا نستطيع أن نحصي أكثر من عشر جوائز لمؤسسات وهيئات مانحة، اكتسب معظمها شهرة واسعة ومصداقية عالية؛ لكونها تجمع بين التكريم المادي والمعنوي لأسماء لهم إسهاماتهم البارزة في الإضافة إلى مجالات تخصصهم، لذلك فإن فوزهم يعدّ تتويجًا لرحلتهم، وحفزًا لهم على مزيد من الإبداع والتطوير والتأثير في الساحة الثقافية. كذلك تُسلِّط الجوائز الضوء على أصحاب مواهب مغمورة، يمنحها الفوز بالجائزة فرصة الحضور والاعتراف بمواهبهم وتقديرها حق قدرها، وهذا مكسب كبير يضاف إلى تشجيع المبدعين الجدد لتطوير أدواتهم، والانطلاق إلى آفاق واسعة، تتيح لهم الدخول بكفاءة في حلبة المنافسة.

ولكن الملحوظ أيضًا تواري بعض الأسماء الفائزة بعد انطفاء أنوار الاحتفال. ترجع بعض أسباب هذه الظاهرة السلبية إلى أن الجهة المانحة غالبًا ما تنصرف عن مواصلة رعاية المشروع الأدبي أو الفكري الفائز، وتهيئة المجال لنوع من الاستمرارية والمتابعة التي تفتح آفاقًا أرحب في الواقع الثقافي عن طريق عقد المؤتمرات، ونشر الدراسات حول الأعمال الفائزة، وتنظيم ندوات ومناقشات مفتوحة على نطاق واسع، تحقق تواصل الأجيال، وجذب شباب الأدباء والمبدعين، إلى جانب الجمهور العادي من مختلف الأعمار؛ لذلك يظل هذا الحراك الثقافي محدود الأثر في الواقع الفعلي، كما لا يحدث التراكم المطلوب لنقلة نوعية على مستوى زيادة أعداد القراء، وبالتالي التفاعل المجتمعي المأمول، فيما تبقى الجوائز مناسبات احتفائية مرموقة، لكنها معزولة في إطار موسمي.

من السلبيات التي لا بد من تداركها افتقاد تخطيط منظم على مستوى العالم العربي، ينظر إلى الأعمال الفائزة بوصفها منتجًا حضاريًّا عربيًّا يقتضي نوعًا من التنسيق بين الجهات المانحة لتدارس ما تكشف عنه الأعمال الفائزة من توجهات ومسارات واستشرافات فكرية وإبداعية، وارتباطها بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. ومن الضروري أن يمتد هذا التنسيق مع دور النشر لتسهيل زيادة مراكز التوزيع على نطاق أكثر اتساعًا وتنظيمًا. أيضًا ينبغي ألا ننسى دور الإعلام الثقافي في التعريف بالأعمال الفائزة، وتقريبها للجمهور العادي، وعدم اقتصار هذا الدور على إبراز الحدث في تغطيات صحفية سريعة، تهتم بالإخبار والاحتفاء أكثر من اهتمامها بالقيمة الأدبية الحقيقية للأعمال الفائزة.

أحمد‭ ‬المديني‭:‬ فقر‭ ‬المبدعين‭ ‬يدفعهم‭ ‬للتهافت‭ ‬على‭ ‬الجوائز

%d8%a7%d9%94%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d9%8aعلى رغم تكرار الحديث عن قضية الجوائز في حقل الثقافة والإبداع العربيين في السنوات الأخيرة، فإنه حديث يعبر عن حاجة فعلية يتبادلها المانحون والفائزون والناشرون، أعني السوق. فالمانحون، أغلبهم اليوم من بلدان الخليج، لما يتمتعون به من ريع مالي، اهتدوا إلى هذا السبيل، بين سُبُل أخرى، للفت نظر وترويج صيت ثقافي لبلدان ناشئة، لا بأس، وللإحسان، على غرار سلوك معهود في حواضر وأزمنة، لا بأس كذلك.

والفائزون، بين روائيين وشعراء وفنانين، أغلبهم من المعوزين، ممن وجدوا ضالتهم في هذا الأعطيات والإكراميات، فتهافتوا عليها إما لسدِّ العوَز أو لنيل شهرة يغفلون أن رأسمالها هو النصوص قبل صكوك المانحين، فيختلط الحابل بالنابل، وتختل المقاييس، وقد اختلَّت.

وأما الناشرون فهم أكبر الكاسبين، يجنون من البضاعة الكثير، ويروِّجون ويزايدون بالرخيص والنفيس، على حد سواء، سيكبر في أعينهم أردأ كاتب غدًا، شأن القراء تقريبًا؛ لأن البَرَكة حلّت به، وسيباع، ومنهم من يتطاوسون كأنهم في بورصة، سيرشحون هذا العمل لوليمة الجوائز أو هم لا يفعلون، والكتاب والمفكرون الجياع كُثر عليهم يتهافتون، وبأعتابهم يتمسّحون، وفوق هذا بعضهم لكُتبهم مموِّلون، حتى إنه لا ثقافة عربية الآن، ولا إبداع، إن لم تتوَّج بجائزة! حسن. ليُعلم، بعد هذا، أن ما العيب في الجائزة، ولا للغط أن يقوم عنها لذاتها مجردة. إنه حول إطارها وشروطها وسياقها… أهلًا بالجوائز، شريطة أن تكون لغرض نبيل، ولها مُحكِّمون أكْفاء، ويقتحمها النبغاء، لا سقط المتاع من كل قول، كأغلب روايات هذا الزمن الأعور، وعلى الله فليتوكل المتوكلون.

شوقي‭ ‬عبدالأمير‭:‬ الجوائز‭ ‬أساءت‭ ‬للرواية‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬ابتذالها

%d8%b4%d9%88%d9%82%d9%8a-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%94%d9%85%d9%8a%d8%b1لقد أساءت الجوائز إساءة بالغة للرواية، وأسهمت في ابتذال قيمها؛ بسبب تحويلها إلى سوق رخيصة، ويكفي قراءة النصوص ومقارنتها مع الجوائز العالمية التي أعطيت لروائيين عرب كما حدث مؤخرًا في باريس بجائزة الغونكور للرواية، وهي أرقى الجوائز؛ إذ منحت ثلاثة من العرب هم: الطاهر بن جلون، وأمين معلوف، وأخيرًا هذا العام للمغربية ليلى سليماني، والمؤكد أنه لا يمكن رعاية الرواية الحديثة، إنما فقط محاولة شراء الروائيين، كمن يتسوق بضائعه في المولات…

ولا يمكن اعتبار أن القيمة المالية المرصودة للجائزة هي مال سياسي أكثر منه ثقافي، فالأمر يعتمد على طريقة التوظيف، لا على القيمة المالية مهما كانت مرتفعة، ومن ثم فأمر الجوائز يحتاج إلى ترفُّع وإيمان بدور الأدب والفكر، لا باستغلاله مباشرة. وعلى البلدان المانحة للجوائز الكبرى والمهمة أن تختار الأسماء في شكل حيادي، وتشكل لجنة تحكيم متوازنة، وتمنح الجائزة لمن يستحقها، حتى إن كان معارضًا لسياستها، عند ذلك يبدأ العمل الجدي والتأسيس الصحيح. الظاهرة في الجوائز العربية هو أن الفائز لا يذكر إلا ساعة الجائزة، ثم يختفي… لأنه حصل عليها بترتيب ما لا علاقة له بالدور والحضور، ظروف مالية لشراء الولاءات.

ثم إن هناك عملًا في الخطاب الإعلامي للجائزة، الجائزة ليست مكافأة مالية فقط، إنها خطاب إعلامي للعالم، هذا الجانب لا تفكِّر فيه الجوائز العربية كلها؛ لأنها تجهل مفردات وفلسفة الخطاب، كيف نوصل صوت الفائز واسمه إلى العالم؟ هل فكروا بهذا؟

كل الجوائز العربية تتهشم أمام صخرة الخطاب العالمي، هذا الجانب مهم جدًّا، ولم يشتغلوا عليه. يعملون حفل عشاء وخطبًا إنشائية ومجاملات ويطبعون كتبًا بورق «أملة»، يصرفون عليها آلاف الدولارات، وتبقى مكدسة في السراديب، ويعيدون الكرة كل عام من دون نقد ذاتي أو دراسة جدوى…، هدر أموال وجهل مع سبق الإصرار. وبالطبع يختلف فوز بوب ديلان عما يحدث في جوائزنا الثقافية في العالم العربي، ففوز بوب ديلان تطوير لنوبل؛ ذلك لأنها المرة الأولى التي تكِّرم فيها مغنيًا وهي جائزة أدبية… يمكنك المقارنة عندما تضع اسم بيكت إلى جانب ديلان لفهم القفزة التي حققتها نوبل، والرسالة من وراء ذلك موضوع يطول الحديث عنه بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا له.

عزت القمحاوي: لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عبئًا

ezzatالأصل في الجائزة الأدبية أنها تقدير من المجتمع لكاتب مجتهد. قد تنوب الحكومة عن المجتمع في تقديم هذه الجائزة، وقد تفعلها شركة أو يقدمها شخص يقدر الثقافة. المهم أنها نوع من التقدير، نوع من المديح الذي يرتدّ في جزء منه على الجهة المتبنية للجائزة. لكن لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عبئًا على الأدب والكتابة، عندما تتخلى عن الاشتراطات الأدبية لصالح اشتراطات أخرى، سياسية كانت أو شخصية. هذا الانحراف يصيب العدالة في مقتل ويؤثر على الكتابة سلبًا؛ لأنه يغالط في ترتيب أقدار الأدباء. عندما نتأمل الساحة العربية حاليًّا نجد أنواعًا من الجوائز، قليلها ينتصر للأدب، والكثير منها ينتصر لقيم أخرى، مثل قيمة الاحتفالية مثلًا، وكأن أهم ما في الجائزة هي الإشارة إلى الجهة المانحة لا التنويه بالعمل الفائز وصاحبه. بعض الجوائز دأبت في الترويج للكتابة الخفيفة «الأكثر مبيعًا» وأصبح هذا مستقرًّا فيها. ولذلك، قد أخالفك، في أن بعض الجوائز تبدأ قوية ثم تضعف؛ فكل جائزة تقف من البداية في المكان الذي يريده لها مطلقها.

وإذا كانت لجان التحكيم تتغير في كل عام، فإن هذا التغيير بلا جدوى؛ لأن مجالس الأمناء أو مجالس إدارات الجوائز ثابتة. وهذه المجالس لا تصوّت على الأعمال، لكنها قد تختار لجنة التحكيم التي ستخرج بنتائج تُرضي المجلس ولا تحرجه مع مطلق الجائزة. يختارون من يرونهم أقرب فكريًّا منهم، أو المتمرسين في معرفة سقف الجائزة ومحظوراتها. وهناك الكثير من المحظورات في الدول العربية، ولا يمكن الاحتفاء بكتاب يخترق حدود الحرية المعروفة سلفًا، سواء المتعلقة بقيود السياسة أو بما يـسـمـى أعراف وتقاليد المجتمع والذوق العام.

بلا إستراتيجية ثقافية  العرب يتلمسون طريقهم في الظلام

بلا إستراتيجية ثقافية العرب يتلمسون طريقهم في الظلام

على الرغم من تأكيد وزراء الثقافة العرب أهمية التفكير الإستراتيجي، وتشديدهم في مؤتمرهم الذي يعقد سنويًّا في إحدى العواصم العربية، على وجود خطط إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى رفع مستوى الوعي لدى المجتمع، إلا أن المتأمل لواقع الثقافة العربية لا يكاد يلمس أي أثر لتفكير إستراتيجي، فهل فعلًا لدينا إستراتيجية ثقافية تنظم العمل الثقافي وتعطيه بعدًا مؤسسيًّا؟ أم أن العرب يفتقدون فعلًا التفكير الإستراتيجي؟… إذا كان الأمر كذلك فما الأسباب التي جعلتنا بلا خطط مدروسة بأهداف تعمل المؤسسات على تحقيقها في مراحل منتظمة، ثم كيف يمكن للثقافة العربية أن تقوم بدورها تجاه المجتمع، في ظل هذا الغياب؟

«الفيصل» لجأت إلى عدد من المثقفين العرب؛ لمعرفة إن كان لدينا إستراتيجية ثقافية حقيقية في بلدان العالم العربي أم لا، وإذا كانت موجودة فلماذا لا يتم تفعيلها؟

%d8%b4%d8%a7%d9%83%d8%b1-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%85%d9%8a%d8%af-2

شاكر عبدالحميد

في البدء أكد وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور شاكر عبدالحميد عدم وجود إستراتيجية ثقافية في بلدان العالم العربي، موضحًا أن غالبية الأنظمة العربية «تعدّ الثقافة شيئًا ثانويًّا مرتبطًا بالتسلية والترفيه، وليس تكوين الإنسان، أو أن للثقافة دورًا فعالًا في المكون الاقتصادي للدولة والبشر، ومن ثم فهذه الأنظمة تعدّ الثقافة كما يقولون: «فض مجالس»، والثقافة في نظر كثير من المسؤولين مجرد رقص وغناء، وفي بعض الأحيان شعر وقصة وفن تشكيلي».

ويلفت عبدالحميد إلى أن الثقافة «هي كل ما يخص حياة الإنسان، بدءًا من المأكل والمشرب وأدوات العمل وطريقة التفكير وصولًا إلى الآداب والفنون والقيم والمفاهيم، وبالتالي فأي إستراتيجية عليها أن تضع كل هذه الحسابات في مخيلتها، لكن الواقع يخبرنا بنقيض ذلك، ومن ثم فكل مسؤول يتحرك وفق أهواء شخصية ورؤية يومية يحكمها «الشو الإعلامي»، أما فكرة وجود مفهوم كلي متكامل فهذا غير وارد، وفكرة الإستراتيجية نفسها غير موجودة».

وأضاف عبدالحميد: «وبالرغم من ذلك فما زلت أحلم بوجود تكامل بين بلدان العالم العربي يمكنه أن يخلق لنا رؤية ثقافية واحدة، وإن كان ذلك أمرًا يحتاج إلى سنوات من التعاون كي يتحقق؛ لذا فإننا يمكننا أن نبدأ بعمل خريطة واحدة للعالم العربي، خريطة تخبرنا بالمواقع الثقافية الموجودة في كل بلدان العالم العربي، تخبرنا بكل مواقع وقاعات الفن التشكيلي وأنشطته، تخبرنا بتباين المناطق العربية من الفقر إلى الغنى، من العشوائيات إلى الصحراويات، خريطة نرى أنفسنا من خلالها، وحينها سوف ينتبه الجميع إلى ما يجب عليهم عمله حيال ما يرونه على هذه الخريطة، وهذه بداية وضع إستراتيجية ثقافية عربية شبه موحدة، أو على الأقل متلائمة مع كل هذا التنوع والتباين والتفاعل العربي».

%d8%b2%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%a7%d8%af%d9%8a

زين عبدالهادي

أما رئيس قسم المكتبات بجامعة حلوان والرئيس الأسبق لدار الكتب المصرية الدكتور زين عبدالهادي، فأوضح أن الثقافة تحتاج إلى دعم سياسي كبير يأتي من الدولة ومؤسساتها الكبيرة المتحكمة، «ومن دون ذلك تظل الثقافة هامشًا، كما أنها تحتاج إلى عقل واعٍ بقيمتها وأهميتها، ومدى تأثيرها في الشارع، وأشك كثيرًا في وجود مثل هذا العقل في العالم العربي، وتحتاج إلى بيئة حاضنة لمفهوم الثقافة بكل أشكاله، وأشك أيضًا بأن هناك في العالم العربي هذه البيئة، وإن كانت بعض دول الخليج الآن لديها هذه المساحة وبشكل محدود».

وتساءل عبدالهادي: إذًا كيف يمكننا بناء إستراتيجية للثقافة في هذه البيئة الطاردة؟ ربما كان لدينا في مصر في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات مثل هذه البيئة بشكل أو بآخر، فانتشرت صناعة الكتاب والسينما والمسرح والأدب والفن التشكيلي وغير ذلك، لكن العقل الذي بنى ذلك ليس كالعقل الموجود الآن، فهناك تحالفات سياسية دينية، وهناك تحالفات مذهبية وعرقية أو فئوية، وكلها تحالفات ترى في الثقافة مجالًا للزندقة، وليست صناعة يمكن أن تسهم في العالم العربي بنسبة مئوية كبيرة في اقتصاد الخدمات».

نديم الوزة

نديم الوزة

وذهب إلى أن الفكر السياسي والديني المتطرف «يلتهم في طريقه كل شيء. ولم نصل بعد – كدول وجماعات وأفراد- إلى درجة من النضج التي تمكننا من التوجه نحو اقتصاد معرفة مبني على مفاهيم إنسانية عظيمة؛ إذ يعاني الإنسان العربي من نقص شديد في المعرفة، بدليل القرارات الخاطئة التي يتم اتخاذها كل يوم، لذلك لم يحن بعد الوقت لإستراتيجيات الثقافة؛ لأن الأرض نفسها تمتلئ الآن بالمطبات والغبار والمعارك الطاحنة، دعنا نأمل في المستقبل القريب أن يتفهم العالم العربي مدى حاجته لإستراتيجيات ثقافية توازي ما هو موجود بالعالم المتقدم وتفوقه».

الشاعر والناقد السوري نديم الوزة يرى أننا عندما نتحدّث عن إستراتيجيات ثقافية في بلدان فائتة حضاريًّا مثل البلدان العربية، «فإننا أمام سؤال التأسيس الذي فشلت هذه البلدان مجتمعةً أو منفردة في الإجابة عنه إن كان إحيائيًّا مع عصر النهضة أو حداثيًّا مع المدّ القومي؛ وهذا بسبب فقدان العوامل الذاتية والموضوعية لإنجاح مثل هذه الإستراتيجيات. ويبدو السؤال حاليًا أكثر تعقيدًا في ظلّ العولمة من جهة، وفي ظلّ الأنظمة التي هي امتداد للفشل العربي وعامل من عوامله الأساسية من جهة أخرى. بهذا المعنى يستطيع من يحلم بمستقبل ما لأيّ من البلدان العربية المتشظية أو في طريقها إلى ذلك؛ أن يتساءل: ما العوامل أو الحوامل الممكنة للتأسيس من جديد لإستراتيجيات ثقافية عربية؟ أو ربما مصرية أو سورية أو مغربية أو خليجية… كلّ على حدة؟ وهل يمكن لهذه الإستراتيجيات أن تلقى قبولًا إقليميًّا وعالميًّا؟ على ما أرى في ظلّ الأنظمة الحالية، ومنظومات معارضاتها الهشّة، يصعب عليّ الإجابة، وإن كنت ما زلت أفكّر بها!».

من جانبه أرجع الروائي المصري محمد المنسي قنديل غياب إستراتيجية ثقافية في العالم العربي ككل، «إلى أننا نعيش في عالم عربي مأزوم، وكل عوارض الأزمة العربية تتجسد في الثقافة، ومن ثم لا توجد لدينا سياسات ثقافية، وربما كانت لدينا مشروعات طموحة في زمن ما، كانت لدينا مجلات ثقافية كبرى، لكن كل الأشياء تَفَتَّتَتْ، وكل بلد يحاول على حدة، ومن ثم حجم العمل الثقافي أصبح خافتًا، الاهتمام بالثقافة وتفعيلها بشكل عام أصبح خافتًا، نظرًا لأننا نعيش في جزر منعزلة، بلدان العالم العربي جميعها تعيش في جزر منعزلة، وتعيش في أزمة التخلف، إننا نكتشف كل فترة أننا صرنا أكثر تخلفًا، وندخل كل معركة جديدة ونحن أكثر تخلفًا مما سبق، حتى في إنتاجنا الثقافي، فقد صار من النادر وجود أعمال مهمة، أو مجلات مهمة، أو مشروعات مهمة، والإعلام لا يروج إلا للأشياء التافهة، التلفزيون لا يعرض إلا المسلسلات والإعلانات، كل الأمور طابعها صار تجاريًّا، والثقافة بمعناها المجرد لم تعد موجودة».

المنسي قنديل

المنسي قنديل

وأضاف قنديل فيما يخص تمنياته للبدء في وضع هذه الإستراتيجية العربية الكبري قائلًا: «كنت أتمنى أن توجد دار نشر عربية موحدة، أو مؤسسة كبرى للترجمة العكسية إلى الآخر، بحيث تدفعنا قليلًا إلى دائرة النور، أو أن توجد مؤسسات تختار الأعمال السينمائية الحقيقية، وتقوم بدعمها وتوزيعها في العالم كله، كنت أتمنى أن توجد فرقة مسرحية جوالة في العالم العربي ككل. أشياء كثيرة أتصور أو أتمنى أن تحدث لكن لا توجد إستراتيجية حقيقية لفعل ذلك».

علوان الجيلاني

علوان الجيلاني

ورفض الشاعر والناقد اليمني علوان الجيلاني الحديث عن فكرة إستراتيجية عربية أو إستراتيجيات للبلدان العربية كل على حدة، مؤكدًا أن هذا الحديث بات لا يقوم على أساس؛ «إذ إن ثلث دول العالم العربي يفتقر إلى وجود الدولة بمعناها المتعارف عليه، كما هي الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا.. وثلث آخر تفترسه مشكلات بنيوية عميقة تعوق التنمية بشكل عام، وعلى رأسها التنمية الثقافية المستدامة كما هي الحال في مصر والسودان وتونس والأردن والبحرين، والثلث الأخير يتمتع بقدر كبير من الرخاء والاستقرار لكن البنى المجتمعية تحول دون استثمار هذا الرخاء والاستقرار وتحويله إلى خادم جيد للتنمية الثقافية». ويشير الجيلاني إلى أن المقصود بالإستراتيجية الثقافية «هو وجود خطة إستراتيجية دقيقة يدرس فيها الواقع الثقافي بشكل دقيق وتحدد الأهداف، وتعد البرامج التنفيذية لتلك الأهداف، ويتم وضع آليات لعمل المؤسسات على نحو ما يتم في دول العالم المتقدمة التي تعتمد على مناهج صارمة وتطوير وتحديث مستمرين لأساليب العمل والتنفيذ، وعلى رأس ذلك مراكمة مجموعة من القيم المؤسسية التي تضمن البقاء والنمو والاستمرارية لتلك المؤسسات التي يجب بديهيًّا أن تكون ذات شخصية اعتبارية، ويتوزع نشاطها على كل أشكال الثقافة والتعبير والإبداع بحرية كاملة وتمويل سخي رسمي وأهلي. وتلك شروط يستحيل أن تكون موجودة إلا على شكل مبادرات نشهدها بين الحين والآخر هنا وهناك أشبه ما تكون بالجزر المعزولة. وغالبًا ما تفتر وتتقهقر بعد حين».

وقال: إن وجود إستراتيجية ثقافية «يعني وجود مجموعة مؤسسات في شتى مجالات العمل الثقافي تعمل على طريقة الأواني المستطرقة، أي تتكامل جهودها وتترادف اشتغالاتها لتؤدي وظيفتها على نحو مكتمل… ناهيك عن كونها ذات رسالة من شقين؛ شق يتوجه إلى الداخل، وشق يتوجه إلى العالم بما يعنيه ذلك من قدرات على الترجمة والتسويق والترويج للفنون المختلفة… فهل هذا موجود عندنا؟!».

بينما ذهب الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم إلى أن السياسة الثقافية هي الدليل الوحيد على ترقّي المجتمع، «فالنظام حين يتفشّى في كل شيء تنطلق الثقافة إلى نمط أمين، لا تظهر فيه تلك المظاهر التي تبين سوءاته. ولا أستطيع قطعًا الكلام عن العالم العربيّ، حتى أظلّ أمينًا في وجهة نظري، ويكفيني وزيادة مشاكل الثقافة في مصر».

وطبق عيد رؤيته من خلال ما جرى في الثقافة المصرية عقب قيام ثورة يناير قائلًا: «بالنظر إلى ما حدث لدينا من ثورة نُقضت بل سارت بالأمور إلى ما هو أسوأ مما قبلها، فأرى أن وزراء الثقافة المتعاقبين منذ بداية الثورة، ومع احترامي للجميع، لم يكن لديهم الطاقة لتنفيذ ما يرون؛ لعدة أسباب: أن النظام يرى الثقافة وكأنها الحلقة الأضعف فباستطاعته الضغط على مسؤوليها أو تخفيض الميزانية أو تعيين مسؤولين غير أكفاء، وبعضهم لا ناقة له أو جمل أصلًا في التنظير الثقافي، أو حتى التنفيذ الإداريّ، كما كان الجوّ السياسيّ -بل لا يزال- مشدودًا، كلّ يوم هو في شأن، فكيف تستقرّ الأوضاع، ومتى، وأين، ولماذا؛ إلى آخر الكلمات الاستفهامية؟ ولذلك تتفشّى أمراض وعلل، منها تحكّم كلّ فريق في منصب أو مطبوعة، يخدم بها المقربين، ويلوي عنق المبعَدين، فانهار مستوى الكتب والمطبوعة الثقافية أكثر من ذي قبل. عمومًا، هذه أعراض لغياب السياسة الثقافية، حيث لا رقيب ولا حسيب لما يقوم به كل منا في موقعه، ناهيك عن غياب مفهوم الجمهور أو المتلقي، فبارت سلعة الثقافة أو تكاد، ويكفينا أسى أن الكتب الإبداعية مثلًا لم تعد توزّع أكثر من مئتي نسخة وسط شعب تعداده 90 مليونًا!».

فاطمة بوهراكة

فاطمة بوهراكة

على حين تقول الباحثة المغربية فاطمة بوهراكة صاحبة موسوعة الشعراء العرب: «من وجهة نظري الشخصية ومن خلال تجربتي المتواضعة في فعاليات الحقل الثقافي العربي أستطيع أن أقول: إننا لا نتوافر على إستراتيجيات ثقافية حقيقية في أوطاننا العربية، رغم تفاوتها من بلد إلى آخر، والسبب في ذلك يعزى إلى عدم الاعتراف بقيمة الدور الثقافي داخل الشعوب التي عرفت تقهقرًا فكريًّا خطيرًا أوصل بعضها إلى تدمير بلدانها تحت ما يسمى بالربيع العربي، فلو كانت هناك إستراتيجية حقيقية للنهوض بالمشاريع الثقافية الجادة التي تخدم العقلية البشرية بالأوطان العربية لما كانت نتيجتها بهذا الحال» .

وتذكر فاطمة بوهراكة أنه آن الأوان «لوضع خطط إستراتيجية للعمل الثقافي الجاد، ودعمه ماديًّا في جميع الدول العربية حتى لا نضطر إلى الوصول لمرحلة الدمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بسبب تفريط دولنا في دعم المجال الفكري والثقافي، فما أحوجنا إلى أن يكون الإنسان المناسب في المكان المناسب بغية الوصول إلى شاطئ الأمان من خلال هذه الإستراتيجية» .

فتحي عبدالسميع

فتحي عبدالسميع

ويذهب الشاعر فتحي عبدالسميع إلى أن المجتمع العربي «يعانى أزمتين كبيرتين، تتمثل الأولى في ضعف اهتمام الحكومات العربية بالثقافة، ويبلغ الأمر حد الشعور بأنها لا تؤمن بالثقافة، أو تناصبها العداء وتتجاهلها عن عمد، وفي تقديري إيمان الحكومات بدور الثقافة بائس جدًّا، ومشوّه، فالثقافة تعني الترفيه، أو الدعاية الوطنية، وغير ذلك مما يبعد عن معنى الثقافة باعتبارها جوهر بناء الدولة، والسبيل لبناء الأفراد، والمعبّر الحقيقي عن الرقيّ والتقدم الإنساني، وهكذا ينتقل بؤس إيمان الحكومات بالثقافة إلى الإعلام، ومن ثم إلى المجتمع، أما الأزمة الأخرى فتأتي نتيجة طبيعية للأولى وتتمثل في عشوائية الفعل الثقافي، فهو لا ينطلق من قاعدة ثابتة، بل يعتمد على مزاج صانعي القرار، أو وعيهم الفردي فقط، أو اهتمامهم المرحلي، وتلك العشوائية تقتل الثقافة؛ لأن الثقافة في جوهرها تنظيم للعالم الإنساني، ولا يمكن أن تؤدي رسالتها بعشوائية».

ويشير فتحي عبدالسميع إلى جهود ثقافية لأفراد يؤمنون بالثقافة ويستوعبون قيمتها، «لكن تلك الجهود تتحطم في الغالب؛ لأنها تتأثر بالمناخ العام المعادي جهلًا أو عمدًا للثقافة، كما أن الواجب الثقافي أكبر من الطاقات الفردية رغم أهميتها، وهكذا يبقى وضع إستراتيجيات ثقافية فعالة مرهونًا بإرادة الحكومات، أو المؤسسات الأهلية، ويبقى الجهد الفردي مجرد حفاظ على راية مهزومة، واستغاثة طويلة المدى تعلن عن بؤس المصير الذي ينتظرنا، ما دام الوضع الثقافي بائسًا».

تخبط وعشوائية

عيد الناصر

عيد الناصر

يرى الكاتب السعودي عيد الناصر أن الأمة في هذه المرحلة التاريخية بأقطارها كافة، «تعيش حالة تخبط وعشوائية وارتجالية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإنه لأمر طبيعي جدًّا، وكتحصيل حاصل، أن نعيش على نفس مسار التخبط والعشوائية فيما يخص الفن والفكر والثقافة. ولكن بالإمكان رؤية الأمر من زاوية أخرى، وهو أن ما يحدث الآن هو نفسه إستراتيجية، ولكنها إستراتيجية بالمعنى السلبي وليس المعنى الإيجابي، إستراتيجية تهدف إلى تفكيك وتمزيق العلاقات الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تكونت ونسجت خيوطها على مدى مئات السنين بين أبناء الوطن العربي لأهداف وأغراض لا تمت بصلة لمصلحة الوطن الأكبر أو الأصغر (طبقتها أميركا بشكل كامل في العراق).

ويشير إلى أنه «لو تتبعنا مسار الأحداث منذ بداية القرن العشرين حتى هذا اليوم لوجدنا أنها حدثت بفعل وجود خطط وإستراتيجيات كبرى تحاول السيطرة على مقدرات البشرية في كل مكان، بما في ذلك وطننا العربي الكبير، عبر استخدامها لكل السبل وأدوات القهر البشعة والناعمة على السواء. وكانت النقطة الرئيسية في محاولة السيطرة هي التغلغل في العقول عبر الثقافة (فكر وفن وأدب وسياحة … إلخ)؛ لأن من يمتلك السيطرة على مكونات التفكير يمتلك القدرة على توجيه المستهلك لتلك الثقافة أينما شاء».

ويعتقد الناصر أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه «يعني المزيد من الفرقة الثقافية والتمزق الاجتماعي والسياسي والدماء النازفة بلا مبرر أو قيمة إنسانية أو أخلاقية».

عائشة‭ ‬البصري‭:‬ الدولة‭ ‬تعدّ‭ ‬القطاع‭ ‬الثقافي‭ ‬غير‭ ‬منتج

عائشة البصري

عائشة البصري

من جانبها أكدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية المغربية عائشة البصري أن ما تعرفه عن السياسات الثقافية في البلدان العربية لا يسمح لها بإصدار أحكام. وإن كانت قد لاحظت في العموم أن هناك بعض الديناميات التي تشهدها بلدان عربية، مثل مصر وتونس ولبنان والجزائر وبعض البلدان في منطقة الخليج، وقالت البصري: «سأتحدث عن المغرب فقط، فأول مرة فكرت الدولة المغربية في هيكلة قطاع الثقافة كان ذلك سنة 1968م، بإسناده إلى وزارة التعليم. ثم أُلحقت بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعد ذلك. قبل أن يستقل قطاع الثقافة بوزارة خاصة به سنة 1974م. الواقع أن الشأن الثقافي في المغرب اهتم به المجتمع المدني قبل أن تهتم به الدولة. فقد تأسس اتحاد كتاب المغرب سنة 1961م. وظهرت مجلات ثقافية مستقلة منذ بداية الستينيات. فاهتمام الدولة بالشأن الثقافي كان رد فعل. حين أدركت أن الثقافة بدأت تصبح من اهتمامات اليسار المغربي. والحديث يطول بهذا المعنى التاريخي. إذًا، فالمغرب ظل يمتلك سياسة ثقافية تشمل مجالات: التراث والفنون والنشر وترويج الكتاب وسوق القراءة العمومية، والدبلوماسية الثقافية… إلخ».

وتلفت البصري إلى أن الإخفاق الذي ظل يطبع السياسات الثقافية العمومية في المغرب، «يرجع إلى انعدام مشروع ثقافي وطني من جهة، كما أن الدولة ظلت دائمًا تعدّ القطاع الثقافي قطاعًا غير منتج، بالرغم من أنه استثمار في رأس المال البشري. ما يفسر أن وزارة الثقافة ظلت تخصص لها أصغر الاعتمادات المالية. وهي أرقام يصعب أن تستجيب لتطلعات ومطامح الفاعلين في المجال الثقافي المغربي».

سعد‭ ‬البازعي‭:‬ ما‭ ‬أكثر‭ ‬الإستراتيجيات‭ ‬وما‭ ‬أقل‭ ‬العمل‭ ‬بها

سعد‭ ‬البازعي

سعد‭ ‬البازعي

قال عضو مجلس الشورى السعودي الناقد الدكتور سعد البازعي: إن «الإستراتيجية» من المفردات «التي تكاد تهيمن على الخطاب الإعلامي والتنموي في بلادنا وبلاد كثيرة تشبهها. نشكو من غياب الإستراتيجيات ونقصد بها التخطيط، فتبدو الجهود تبذل على غير هدى أو بشكل عفوي، إن لم نقل: عشوائي. غير أننا في الوقت نفسه نعيش تخمة في الإستراتيجيات، وهل خطط التنمية إلا إستراتيجيات؟ فما الذي أدى إليه العمل عليها وتبويبها والسعي للسير بمقتضاها؟ لا شك أن هناك نجاحًا ما قد تحقق، وأن أشياء كثيرة أنجزت، لكني لا أدري ما مقدار ذلك الذي أنجز، وما مقدار الذي لم ينجز، ولماذا. إحدى المشكلات هي أننا قلما نتحاور على نحو شفاف حول تلك الخطط أو الإستراتيجيات».

ويتساءل البازعي: «هل العمل وفق إستراتيجية بحد ذاته كافٍ لإنجاز ذلك العمل؟ هل وجود الإستراتيجية ضمان بالنجاح؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بلا؛ لأن الخطط سهلة من حيث هي تصورات تبنى على وقائع ومعلومات، لكنها أيضًا تنطوي على الكثير من الأماني غير المختبرة والتي كثيرًا ما تتراجع أمام قسوة الواقع».

ويرى أن ذلك «لا شك ليس مبررًا لعدم التخطيط، والمؤسسات الثقافية بشكل خاص بحاجة إلى التخطيط، بل هي الأولى أن تكون واعية بذلك من حيث هي قائدة للمجتمع برؤيتها المستقبلية وطموحاتها الكبيرة. لكن التخطيط دون مقدرة على التنفيذ سيتحول إلى نوع من الرضا الذاتي والمؤقت. لقد كنت ضمن لجنة وضعت إستراتيجية لوزارة الثقافة عند إنشائها، وحتى اليوم لا أرى من تلك الخطة شيئًا على أرض الواقع، بل إن الوزارة حاليًا تفكر في إستراتيجية أخرى. فما أكثر الإستراتيجيات وما أقل العمل بها».

شيخ المؤرخين والنقاد الموسيقيين زين نصار: الاستخدام العشوائي للتقنية دمر الموسيقا  وأفسد الذوق العام

شيخ المؤرخين والنقاد الموسيقيين زين نصار: الاستخدام العشوائي للتقنية دمر الموسيقا وأفسد الذوق العام

يعد‭ ‬الدكتور‭ ‬زين‭ ‬نصار‭ ‬شيخ‭ ‬المؤرخين‭ ‬الموسيقيين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فقد‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬لقسم‭ ‬النقد‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬العالي‭ ‬للنقد‭ ‬الفني‭ ‬مدة‭ ‬سبع‭ ‬سنوات،‭ ‬وأشرف‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ (‬147‭) ‬رسالة‭ ‬ماجستير‭ ‬ودكتوراه‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬والنقد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ (‬أكاديمية‭ ‬الفنون،‭ ‬وجامعة‭ ‬حلوان،‭ ‬وجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وجامعة‭ ‬عين‭ ‬شمس،‭ ‬وجامعة‭ ‬الإسكندرية‭)‬،‭ ‬وكتب‭ ‬المادة‭ ‬العلمية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬37‭ ‬عامًا‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬الموسيقية‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭: ‬عالم‭ ‬الموسيقا‭ (‬استمر‭ ‬مدة‭ ‬26‭ ‬عامًا‭)‬،‭ ‬وفن‭ ‬الباليه،‭ ‬وسؤال‭ ‬موسيقي،‭ ‬والموسيقا‭ ‬المصرية‭ ‬المتطورة،‭ ‬وإيقاعات‭ ‬ونغمات،‭ ‬وسهرة‭ ‬مع‭ ‬الموسيقا،‭ ‬ومع‭ ‬الموسيقا‭ ‬العالمية،‭ ‬وأوتار‭ ‬موسيقية،‭ ‬والموسيقا‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭. ‬

اهتم‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬بالتأريخ‭ ‬للموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وأجرى‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأحاديث‭ ‬المسجلة‭ ‬مع‭ ‬كبار‭ ‬الموسيقيين‭ ‬المصريين؛‭ ‬لتوثيق‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬حياتهم‭ ‬ومؤلفاتهم،‭ ‬وصدر‭ ‬له‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬‮«‬موسوعة‭ ‬الموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‮»‬‭. ‬الفيصل‭ ‬حاورته‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬الموسوعة‭ ‬وموضوعات‭ ‬أخرى‭. ‬

  ‭ ‬‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬دفعك‭ ‬إلى‭ ‬إعداد‭ ‬موسوعة‭ ‬عن‭ ‬الموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬المصري،‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬قدمته‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬أجزائها‭ ‬الثلاثة؟

‭ ‬زكريا-أحمدفي‭ ‬عام‭ ‬1977م‭ ‬كنت‭ ‬أعد‭ ‬دراستي‭ ‬للماجستير،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬تاريخ‭ ‬مكتوب‭ ‬للموسيقا‭ ‬بشكل‭ ‬يفي‭ ‬بالغرض‭ ‬لدي‭ ‬كباحث،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬بدأت‭ ‬الفكرة‭ ‬وأنا‭ ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬المؤلفين‭ ‬المصريين‭ ‬ومؤلفات‭ ‬الأوركسترا‭ ‬السيمفوني،‭ ‬وقد‭ ‬نشرت‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬عام‭ ‬1990م‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬الموسيقا‭ ‬المصرية‭ ‬المتطورة‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬حوارات‭ ‬حية‭ ‬مع‭ ‬كبار‭ ‬الملحنين،‭ ‬وصدرت‭ ‬الموسوعة‭ ‬عام‭ ‬2003م،‭ ‬كان‭ ‬جزؤها‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬الملحنين،‭ ‬وقد‭ ‬رتبتهم‭ ‬فيها‭ ‬حسب‭ ‬أسبقية‭ ‬تواريخ‭ ‬الميلاد‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬عبده‭ ‬الحامولي‭ ‬إلى‭ ‬عمار‭ ‬الشريعي‭ ‬المولود‭ ‬عام‭ ‬1948م‭. ‬وفي‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الموسوعة‭ ‬أضفت‭ ‬ملحنين‭ ‬آخرين،‭ ‬فقد‭ ‬اشتمل‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬48‭ ‬ملحنًا،‭ ‬أما‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬ضم‭ ‬أسماء‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أدرجت،‭ ‬من‭ ‬بينها‭: ‬محمد‭ ‬رشدي،‭ ‬وكمال‭ ‬الطويل،‭ ‬وسيد‭ ‬إسماعيل،‭ ‬وسيد‭ ‬مكاوي‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وأجريت‭ ‬حوارات‭ ‬مع‭ ‬الجميع‭ ‬بالكاسيت،‭ ‬وقمت‭ ‬بتفريغ‭ ‬الحوارات‭ ‬وإعادة‭ ‬تحريرها‭ ‬وحدي‭ ‬وبنفسي،‭ ‬وبلغ‭ ‬تعداد‭ ‬الملحنين‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثالث‭ ‬نحو‭ ‬150‭ ‬ملحنًا،‭ ‬وأسعى‭ ‬الآن‭ ‬لإنجاز‭ ‬جزء‭ ‬جديد‭ ‬عن‭ ‬المؤلفين‭ ‬وقادة‭ ‬الفرق‭ ‬والنقاد‭.‬

  ‭ ‬‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬لتقديم‭ ‬العون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن؟

‭ ‬لأنه‭ ‬لن‭ ‬يساعدني‭ ‬أحد،‭ ‬ولدي‭ ‬خبرة‭ ‬كبيرة‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الجمع‭ ‬والتسجيل‭ ‬والتفريغ،‭ ‬وكنت‭ ‬كلما‭ ‬أنجزت‭ ‬رصدي‭ ‬لحياة‭ ‬وتاريخ‭ ‬وأعمال‭ ‬ملحن‭ ‬أو‭ ‬مؤلف‭ ‬أقوم‭ ‬بنشر‭ ‬ما‭ ‬أنجزت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الفنون‭ ‬التابعة‭ ‬للنقابات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عام‭ ‬1977م،‭ ‬وبدأت‭ ‬مشاركتي‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬العدد‭ ‬الخامس‭.‬

  ‭ ‬‭ ‬هل‭ ‬تسعى‭ ‬لإعداد‭ ‬موسوعة‭ ‬موازية‭ ‬عن‭ ‬الموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي؟

سيد-درويش ‬هذه‭ ‬خطة‭ ‬طموحة‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يوفقني‭ ‬الله‭ ‬لها،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أنته‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬وتسجيل‭ ‬كامل‭ ‬الموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬المصري،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأشقاء‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬يؤرخ‭ ‬لموسيقاهم،‭ ‬وقد‭ ‬التقيت‭ ‬كثيرين‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬سفرياتي‭ ‬أو‭ ‬عملي‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وأشرفت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأوقات‭ ‬على‭ ‬رسائل‭ ‬ماجستير‭ ‬ودكتوراه‭ ‬لبعضهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬وفي‭ ‬حال‭ ‬توافر‭ ‬الطاقة‭ ‬والجهد‭ ‬الملائم‭ ‬فإنني‭ ‬سأشرع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

  ‭ ‬‭ ‬في‭ ‬رأيك‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬تراثنا‭ ‬الموسيقي‭ ‬المتنوع؟

‭ ‬عبر‭ ‬كتابة‭ ‬تاريخه‭ ‬بشكل‭ ‬صحيح‭ ‬ودقيق،‭ ‬وتسجيله‭ ‬على‭ ‬تسجيلات‭ ‬صوتية‭ ‬ومرئية‭ ‬للأجيال‭ ‬المقبلة،‭ ‬ونشره‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬ومختلف‭ ‬تقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬الحديثة،‭ ‬مع‭ ‬تعريف‭ ‬بأهم‭ ‬الفنانين‭ ‬والملحنين‭ ‬والتعليق‭ ‬على‭ ‬أعمالهم‭ ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬إنجازهم‭ ‬لها‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يعن‭ ‬من‭ ‬تفصيلات‭ ‬مفيدة‭ ‬في‭ ‬الرصد‭ ‬والتأريخ‭.‬

  كيف‭ ‬أثرت‭ ‬فكرة‭ ‬السعي‭ ‬المتزايد‭ ‬خلف‭ ‬الربح‭ ‬في‭ ‬المنتج‭ ‬الموسيقي‭ ‬الآن؟

‭ ‬طيلة‭ ‬الوقت‭ ‬والفنان‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬الربح‭ ‬بشكل‭ ‬ما،‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استمرار‭ ‬الحياة،‭ ‬لكن‭ ‬الآن‭ ‬أصبح‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬متزايدًا،‭ ‬ومع‭ ‬تدهور‭ ‬الذوق‭ ‬العام‭ ‬ضُمِّنت‭ ‬الأغاني‭ ‬المصرية‭ ‬ألفاظًا‭ ‬خارجة‭ ‬وبذيئة‭ ‬وسوقية،‭ ‬وصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬تركيبها‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬تلفزيونية‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬البلطجة‭ ‬وتجعل‭ ‬الشباب‭ ‬يتصورون‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وقد‭ ‬لعب‭ ‬عامل‭ ‬الربح‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬الفنانين‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬وملحنين‭ ‬وموزعين‭ ‬إلى‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬ركاب‭ ‬الموج‭ ‬العالي‭ ‬للمادة،‭ ‬وهذا‭ ‬أسهم‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬تزييف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الموسيقا‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬يتغنون‭ ‬بها‭.‬

  ‭ ‬‭ ‬حدثنا‭ ‬عن‭ ‬المحطات‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الموسيقا‭ ‬والغناء‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث؟

‭ ‬عمار-الشريعيأول‭ ‬محطة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬هي‭ ‬صناعة‭ ‬الأسطوانات‭ ‬عام‭ ‬1904م،‭ ‬حيث‭ ‬سُجِّل‭ ‬للشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭ ‬وغيره‭. ‬المحطة‭ ‬الثانية‭ ‬هي‭ ‬ظهور‭ ‬المسرح‭ ‬الغناني‭ ‬لسلامة‭ ‬حجازي‭ ‬وسيد‭ ‬درويش‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد‭ ‬وكامل‭ ‬الخلعي‭ ‬وغيرهم‭. ‬والمحطة‭ ‬الثالثة‭ ‬كانت‭ ‬ظهور‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬عام‭ ‬1934م،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬إذاعات‭ ‬أهلية‭ ‬يقوم‭ ‬كل‭ ‬صاحب‭ ‬محطة‭ ‬بإذاعة‭ ‬وقول‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬حتى‭ ‬قررت‭ ‬الحكومة‭ ‬إلغاء‭ ‬هذه‭ ‬الإذاعات‭ ‬وإنشاء‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬فقط،‭ ‬وكانت‭ ‬تقدم‭ ‬المؤلفات‭ ‬المصرية‭ ‬والعالمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أوركسترا‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية،‭ ‬وظل‭ ‬هذا‭ ‬الأوركسترا‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1959م‭ ‬إذ‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭. ‬لكن‭ ‬المحطة‭ ‬الرابعة‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬هي‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬التي‭ ‬تعاملت‭ ‬بسخاء‭ ‬مع‭ ‬الفن،‭ ‬كما‭ ‬أنشأت‭ ‬أكاديمية‭ ‬الفنون‭ ‬عام‭ ‬1959م‭ ‬وما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬معاهد‭ ‬فنية‭. ‬والمحطة‭ ‬الخامسة‭ ‬كانت‭ ‬ظهور‭ ‬شرائط‭ ‬الكاسيت،‭ ‬وهي‭ ‬تضافرت‭ ‬مع‭ ‬مجيء‭ ‬عصر‭ ‬الانفتاح‭ ‬الذي‭ ‬أضر‭ ‬بكل‭ ‬شيء؛‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬المهنيين‭ ‬كانوا‭ ‬يعودون‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬الخليج‭ ‬بما‭ ‬معهم‭ ‬من‭ ‬أموال،‭ ‬فيقومون‭ ‬بالاستثمار‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الفني،‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬ذوقه‭ ‬ودرايته‭ ‬بالفن،‭ ‬فظهرت‭ ‬شرائط‭ ‬الكاسيت‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬لجان‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية،‭ ‬وهذا‭ ‬عاد‭ ‬بنتائج‭ ‬سيئة‭ ‬جدًّا‭ ‬على‭ ‬الذوق‭ ‬العام،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتخيل‭ ‬أن‭ ‬فريد‭ ‬الأطرش‭ ‬توفي‭ ‬عام‭ ‬1974م،‭ ‬وتوفيت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬عام‭ ‬1975م،‭ ‬وتوفي‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬عام‭ ‬1977م،‭ ‬هكذا‭ ‬خسر‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أهم‭ ‬وأشهر‭ ‬ثلاث‭ ‬قامات‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ثلاث‭ ‬أو‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬لنفتح‭ ‬المجال‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يغني،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يملأ‭ ‬شريطًا‭ ‬ويطرحه‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭.‬

  ما‭ ‬أثر‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعالم‭ ‬العربي؟

‭ ‬عبدالحليم-حافظام-كلثوملقد‭ ‬زيفت‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬جهازًا‭ ‬لتحسين‭ ‬الصوت‭ ‬وضبطه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إعادة‭ ‬الغناء‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬أسيء‭ ‬استخدامه‭ ‬بشكل‭ ‬أنتج‭ ‬أصواتًا‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالواقع،‭ ‬كما‭ ‬أسيء‭ ‬استخدام‭ ‬الأورغ‭ ‬الكهربائي‭ ‬وقدرات‭ ‬الحاسب‭ ‬الآلي‭ ‬وضبطها‭ ‬لأصوات‭ ‬الآلات‭ ‬الصناعية‭. ‬لقد‭ ‬صرنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬زائف‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له،‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الخداع‭ ‬والبرامج‭ ‬الجاهزة‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فهم،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحس‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬موجودًا‭. ‬وللأسف‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الموسيقا‭ ‬العربية‭ ‬أساسها‭ ‬العود،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الآلات‭ ‬غربية‭. ‬الموسيقا‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬العود‭ ‬وليس‭ ‬الغيتار،‭ ‬وأهم‭ ‬أساس‭ ‬لإنتاج‭ ‬موسيقي‭ ‬جيد‭ ‬هو‭ ‬فهم‭ ‬الآلات‭ ‬وطبيعتها‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الموهبة‭ ‬والدراسة،‭ ‬أما‭ ‬الاستخدام‭ ‬العشوائي‭ ‬للآلات‭ ‬توفيرًا‭ ‬لتكاليف‭ ‬الفِرَق‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬معرفة‭ ‬بالفن‭ ‬والموسيقا‭ ‬فقد‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬قتل‭ ‬المواهب‭ ‬وإفساد‭ ‬الذوق‭ ‬العام‭ ‬وجعل‭ ‬الفن‭ ‬كتمثال‭ ‬من‭ ‬نحاس،‭ ‬ضجيج‭ ‬بلا‭ ‬روح‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أضر‭ ‬بالبناء‭ ‬الموسيقي‭ ‬كله،‭ ‬كما‭ ‬فتح‭ ‬المجال‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬للسرقة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬العالمية‭ ‬أو‭ ‬التراث‭ ‬الشرقي،‭ ‬وكذلك‭ ‬فتح‭ ‬المجال‭ ‬للاستسهال‭ ‬واستخدام‭ ‬الألحان‭ ‬القديمة‭ ‬بتوزيعات‭ ‬جديدة،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬الإعلانات‭ ‬الآن‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬سرقة‭ ‬ألحان‭ ‬مهمة‭ ‬مثل‭ ‬الليلة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وغيره،‭ ‬وللأسف‭ ‬قانون‭ ‬جمعية‭ ‬المؤلفين‭ ‬والملحنين‭ ‬حسبما‭ ‬علمت‭ ‬مؤخرًا‭ ‬يسمح‭ ‬بأن‭ ‬يدفع‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬رسوم‭ ‬استغلال‭ ‬أي‭ ‬لحن‭ ‬ويقوم‭ ‬بإعادة‭ ‬إنتاجه،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬كارثة‭ ‬لأنه‭ ‬يفقد‭ ‬المرجع‭ ‬أهميته،‭ ‬وقد‭ ‬يزيحه‭ ‬ولا‭ ‬يتذكر‭ ‬الناس‭ ‬سوى‭ ‬شكل‭ ‬الإعلان،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يدفع‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬الابتكار‭ ‬والمغامرة‭ ‬وتقديم‭ ‬طرح‭ ‬موسيقي‭ ‬جديد‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬ندور‭ ‬في‭ ‬حسبة‭ ‬عدد‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬الألحان‭ ‬نعيد‭ ‬إنتاجها‭ ‬بشكل‭ ‬مبتذل‭ ‬ومتكرر‭.‬

محمد خان.. المثقف الذي تعاطف مع الفاشلين في تحقيق أحلامهم

محمد خان.. المثقف الذي تعاطف مع الفاشلين في تحقيق أحلامهم

مثل فلم «ضربة شمس» لمحمد خان، الذي رحل في يوليو الماضي عن 73 عامًا، البداية القوية التي ينشدها أي مخرج لمسيرته الفنية، فمن خلاله أظهر خان قدراته على رسم مسارات الكاميرا وتحريك الشخوص ومفاجأة المتلقي. أظهر أيضًا مدى عشقه القاهرة وشوارعها وليلها الطويل وصمتها المريب، ومزج ما بين الواقع الجديد لها في ثمانينيات القرن الماضي وما شاهده في السينما الأوربية، وما درسه في لندن، ومارسه كمساعد مخرج ببيروت في منتصف السبعينيات.

هكذا قدم خان الواقعية التي أحبها لدى أستاذيه صلاح أبو سيف وكمال الشيخ، وسعى إلى المزج بين عشق كل منهما لتفصيلات الأماكن والشوارع وملامح الشخوص من خلال أربعة وعشرين فلمًا هي مجمل إنتاجه السينمائي، من بينها: «طائر على الطريق. موعد على العشاء. نصف أرنب. الحريف. مشوار عمر. خرج ولم يعد. عودة مواطن. زوجة رجل مهم. أحلام هند وكاميليا. سوبر ماركت. فارس المدينة. مستر كاراتيه. أيام السادات. يوم حار جدًّا. بنات وسط البلد. في شقة مصر الجديدة. عشم. فتاة المصنع. قبل زحمة الصيف». وهي في مجملها أعمال ناقشت أزمة المواطن المصري في ظل التحول إلى عصر الانفتاح، وكيف استطاع المصري النزول بسقف أحلامه إلى الحدود الدنيا، لكنه أيضًا عجز عن تحقيقها.

يرى الناقد السينمائي طارق الشناوي أن خان كان من أكثر المخرجين الذين عملوا ضد منطق السوق؛ إذ إنه في ذروة انتشار ما سمي أفلام المقاولات قدم أفلامًا تتوافق مع مزاجه هو وليس مزاج السوق، وأنه بنجاح أفلامه في الثمانينيات والتسعينيات قدم معادلًا جيدًا قال من خلاله: إنه بإمكان السينما الجيدة أن تنجح وتحقق أرباحًا. أما الناقدة سارة نعمة الله فقد ذهبت إلى أن خان لم يكن مخرجًا نمطيًّا، «فقد كان انشغاله الدائم بالطبقتين الوسطى والدنيا من المجتمع المصري، ما جعله يخرج علينا بأعمال شديدة الجاذبية، كان الحلم فيها هو محرك الأحداث لدى البطل الذي تارة نراه مواطنًا عاديًّا تمثل كرة القدم حلم حياته الذي يتخلى من أجله عن كل شيء، كما في «الحريف»، وتارة يكون الريفي الفقير الذي يأتي فيعيش هوسًا بأفلام الأكشن والكاراتيه كما في «مستر كاراتيه»، وهكذا تجيء أعمال خان ظل الحلم عنوانًا لأبطالها».

سعاد-حسنيأما الناقد كمال القاضي فيرى أن فلم «أحلام هند وكاميليا» قدم شريحة اجتماعية مهمشة تمثلت في الخادمة وابنتها وصديقتها والزوج، وجميعهم ضحايا قطار الحياة، «فظلت أمنياتهم مختزلة في الحصول على المال والخلاص من الفقر الذي صار هويتهم، أما فلم «موعد على العشاء» فهو من النوعية الإنسانية التي ميزت أعماله، ففيه يتناول العلاقة القسرية المركبة بين زوجين مختلفين في كل شيء، إلى الحد الذي تصعب معه قدرة الزوجة على التكيف؛ ومن ثم اختيارها الانتحار كحل بديل للحياة، وفيه يؤكد خان على أهمية الحرية كقيمة إنسانية لا يعوضها شيء آخر».

ويرى المخرج الكبير داود عبدالسيد أن خان مر بمراحل عدة، «أكثرها غنى هي التى تعاون فيها مع السيناريست عاصم توفيق، فقدما عددًا من أجمل الأفلام؛ من بينها «خرج ولم يعد». وذهب عبد السيد إلى أن أفلام خان التي قامت على فكرة البطل الوحيد كـ(ضربة شمس، والحريف، وفارس المدينة، وطائر على الطريق) «تحكي بشكل غير مباشر تجربته كابن وحيد سافر وحيدًا وتعلم وأثبت نفسه». وقال عبدالسيد: إن خان كان شديد الاهتمام بقضايا المرأة منذ «أحلام هند وكاميليا»: «وتأجج هذا الاهتمام بعد أن تعاون مع السيناريست وسام سليمان فقدما (بنات وسط البلد. في شقة مصر الجديدة. فتاة المصنع) وغيرها».

عاش محمد خان حالمًا بالجنسية المصرية أكثر من سبعين عامًا، فقد ولد لأب باكستاني وأم مصرية عام 1942م بحي السكاكيني بالقاهرة، ولم يحصل على الجنسية المصرية إلا بقرار رئاسي من عدلي منصور عام 2014م، وقد توفي في 26 يوليو 2016م بعد مشوار طويل في الفن والحياة، بدأه عام 1956م حينما سافر إلى إنجلترا لدراسة الهندسة المعمارية، غير أنه ترك الهندسة والتحق بمعهد السينما، ولم يكتف بمعرفة الآلات والتقنيات فقد تعرف السينما العالمية في الستينيات، من خلال متابعته أفلام الموجة الفرنسية الجديدة، وأفلام الموجات الجديدة في السينما التشيكية والهولندية والأميركية، وما قدمه أنطونيوني وفلليني وكيروساوا وغيرهم من عمالقة الإخراج في العالم، إضافة إلى متابعته مدارس النقد السينمائي؛ مثل: «كراسات السينما الفرنسية» وغيرها من المجلات السينمائية الأخرى التي شكلت مدرسة محمد خان الحقيقية.