داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث الإنساني في البلدان العربية – صبحي موسى

داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث الإنساني في البلدان العربية – صبحي موسى

في الوقت الذي كانت أوربا لا تزال في عصور الظلام كأنها لم تولد بعد، كانت حضارات الفراعنة والبابليين والآشوريين والسومريين والكلدانيين ترفع مشاعل الفكر في العالم، هذه المشاعل التي حملها من بعدهم اليونان والرومان والفرس، ثم سرعان ما دارت الدورة وعادت الريادة إلى المنطقة العربية عبر الفكرة الإسلامية التي مزجت قانونها السماوي بتراث كل هذه الأمم منتجة حضارة أنارت العالم لعدة قرون، قبل أن يفقد قطار الشرق قدرته على مواصلة السير إلى الأمام، تاركًا ريح التقدم في يد الأوربيين بتنويعاتهم من إسبان وبرتغال وإنجليز وفرنسيين وأميركان.

باندلاع ثورات الربيع العربي، أصبح التراث الإنساني الموجود بهذه البلدان في خطر، فقد اقتحم اللصوص عام 2012م متحف حماة في سوريا، ونهبوا الأسلحة القديمة التي به، كما نهبوا مدينة أبيلا الأثرية في إدلب، وهو ما جعل اليونسكو تصدر بيانًا تدعو فيه الهيئات الدولة لحماية الآثار السورية، وضمان عدم تعرضها للنهب، كما جعل كاتبًا بحجم روبرت فيسك يكتب في الخامس من أغسطس عام 2012م عن أن التراث الإنساني في سوريا، بما فيه من قلاع الصليبيين والمساجد العتيقة والفسيفساء الرومانية، بات لقمة سائغة للصوص، بعدها نشرت نيويورك تايمز تقريرًا قالت فيه رئيسة صندوق الحفاظ على المواقع التراثية العالمية يوني بيرنهام: إن حلب بها العديد من الكنوز الأثرية النادرة التي تتعرض للأضرار الفادحة، كهيكل آلهة العاصفة الذي يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وأكدت اليونسكو في فبراير عام 2014م على أن عمليات التنقيب عن الآثار التي تجري في مواقع متفرقة من سوريا غير قانونية، ودعت جميع الأطراف لوقف العنف في المدن الأثرية لحماية الآثار، مؤكدة أن «داعش» دمر مواقع إسلامية ومسيحية ويهودية، ونسف أضرحة ودُور عبادة يعود تاريخ بنائها لأكثر من عشرة قرون.

ومُقدِّرة قيمة الآثار المنهوبة في كل من سوريا والعراق بنحو 15 مليار دولار، وفي يونيو عام 2015م صفع «داعش» العالم أجمع بصور تدمير أعضائه معبد بعل شمين، ثم المدرج المسرحي الروماني في تدمر، ومعبد بل وأقواس النصر وغيرها، وهو ما ذكَّر الجميع بالصفعة التي وجهها طالبان عام 2001م إلى العالم كله بتفجيره تمثال بوذا…

كل ذلك يجعل «الفيصل» تعيد التساؤل عن القيمة الحضارية التي تمثلها الآثار الموجودة في بلداننا العربية؟ هل يتعارض وجود هذه الآثار مع سؤال الهوية العربية أو الإسلامية للمنطقة، حتى تتعرض لما تتعرض له اليوم من تدمير تارة، وتهريب تارة أخرى؟ وما المشترك والمختلف في هذه الآثار؟

زاهي حواس: أمر فوق المعقول

زاهي-حواسبالنسبة لمصر في عامي 2011 و2012م خرجت كميات كبيرة من الآثار الحقيقية خلسة، وحدثت تعديات رهيبة على أراضي الآثار وجباناتها، وقام بعض الأهالي بنهب العديد من المقابر، أما في سوريا وليبيا والعراق فقد دُمِّرت عشرات المواقع والمتاحف، وما يحدث في ليبيا وسوريا فهو أمر فوق المعقول، فلا أحد يستطيع أن يحصي الخسائر التي وقعت في آثار هذه البلدان، سواء بالتدمير أو النهب والتهريب، والجامعة العربية لا بد أن يكون لها دور في حماية آثار هذه البلدان، ففي مصر توقفت التعديات بحدوث الاستقرار، وقدرة الدولة على حماية المواقع والمتاحف الأثرية، لكن في كل من ليبيا وسوريا والعراق فالأمر خارج نطاق السيطرة، ويكفي أن نعلم أن عالم آثار سوريًّا جليلًا، تخطى الثمانين من عمره، اغتيل على يد المتطرفين.

ومن ثم يجب الانتباه إلى ضرورة حماية الآثار بعيدًا من أيدي المتطرفين وعبثهم، إضافة إلى الفوضى التي يتيحها مناخ عدم الاستقرار، مما يجعل بعض الأهالي والعصابات الصغيرة وغيرهما يفكران في الاستيلاء على آثار وبيعها؛ لذا لا بد من تخبئة الآثار الموجودة في المتاحف في بدرومات المتاحف، ولا بد أن تقوم الجامعة العربية والمجتمع الدولي بدور واضح وقوي في حماية آثار البلدان العربية، ولا بد من إرسال رسالة إلى كل المتطرفين والحمقى المعادين للثقافة الأثرية بأن خَلْقهم الفوضى وتعدياتهم على المواقع الأثرية ونهبهم متاحفنا لن يثنينا عن تكريم علماء الآثار، وفي مقدمتهم العالم السوري الذي اغتيل على أيدي الجماعات المتطرفة.

ولا أعتقد أن الإسلام في حد ذاته لديه مشكلة مع الآثار، لكن المشكلة مع المتطرفين، هؤلاء الذين يسعون لإحضار سلاح وعتاد، ومن ثم يبحثون عن كل ما يمكن بيعه، وهذه الآثار تحقق مبيعات كبرى لدى مهربي الآثار، ومن ثم فكلما ضعفت يد الأمن انتشر مهربو الآثار، وكلما ظهرت جماعة ترغب في التمويل قامت بعمليات تهريب كبري إلى الخارج. الكتب الإسلامية ليس فيها ما يحضّ على تدمير الآثار، والقرآن نفسه حدثنا عن فرعون واحد بوصفه حاكم ظالم وليس كل الفراعنة ولا كل عصورهم، المتطرفون هم الذين يسعون إلى تدمير الآثار تحت ستار الإسلام من أجل مصالحهم الخاصة.

وزير آثار مصري سابقًا.

عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتالته داعش

عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتالته داعش

إياد السليم: النظام العالمي الخاطئ

أياد-السليمأثر الحضارات والتراث فينا قد يكون أكبر مما تتصوره أنت، فقيمنا ومبادئنا، وكثير من عاداتنا، جاءت من هناك، صقلتها التجارب والحضارات، وهنا يحضر ظرفنا القاهر القاسي هذه الأيام، في منطقتنا، الذي للأسف لا يصقل وحسب بل ينهش نهشًا. ظرفنا هذا، يفوق الخيال، وقد يصعب تصديق أحداثه ولو شاهدناها أمام أعيننا، ونقول: يا أسفاه، ماذا حصل للبشرية؟ نحن وصلنا القرن الحادي والعشرين وقلنا لقد تخطينا بشاعة الأمور الإنسانية، لكن وللأسف كانت مفاجأة كبيرة لنا. غدا سياسيو النظام العالمي الجديد يتعسفون بأنانية كبيرة، بل بلؤم وحقد، وغريزة حيوانية، نعم هذا من أسباب الفتك بصروح حضاراتنا هذه الأيام، فمسيِّرو سياساتٍ خارجية ومخابراتية تجاه منطقتنا هذه الأيام، هم مِن أعتى الحاقدين للأسف، ولا يشبعون من تدمير ومحو حضاراتنا، غير مبالين بكونها إرثًا عالميًّا وملكًا للأجيال القادمة.

هؤلاء يستغلون كلّ فراغ أمني وحاجة عسكرية، ليقايضوها بأمر تخريبٍ أثريّ، صفقات مباشرة لحصص سياسية، ولحصص على الأرض، مقابل تهديم الصرح الأثري هذا أو ذاك، فرضوا ظرفًا، تسمع فيه مقاتلًا يقول: «بوط عسكريّ واحد، هو أهمّ من كامل آثار البلد».

مدير مؤسسة الاستكشاف السورية.

خالد عزب: شكوك حول الأساطير والمرويات القديمة

خالد-عزبهناك تطور كبير في علم الآثار خلال الثلاثين عامًا الماضية أدى إلى إعادة النظر في المنطقة العربية ككل، فنحن نتحدث الآن عن وجود لغة أم، ليست بالضرورة هي اللغة العربية التي نعرفها اليوم، لكنها كانت لغة فيها مشتركات كثيرة بين النحو والصرف في اللغة المصرية القديمة والنحو والصرف في اللغة العربية، وهناك مشتركات بين اللغة المصرية القديمة واللغة الأمازيغية. هذه المنطلقات إما أن تستخدم استخدامًا سياسيًّا لتعزيز المشترك العربي، أو تستخدم للتفرقة العربية، فلُبّ القضية هو التوظيف السياسي للآثار.

وإذا كان لدينا كعلماء آثار شكوك كبيرة حول صحة روايات التوراة، التي كتبت بعد السَّبْيِ البابليّ، ومدى مطابقة مروياتها مع ما يمكن تسميته بالمكتشفات الأثرية، فهل يصبح لدينا الآن شكوك حول بعض الأساطير والمرويات العربية؟ فمن المؤكد أن شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ كانت بها حضارات وأنهار وغابات، ومنطقة الربع الخالي كانت منطقة زراعية، وعليه فإننا نتساءل: هل نستطيع إعادة كتابة تاريخ شبه الجزيرة العربية مرة أخرى؟ وذلك بناء على ما تُوُصِّل إليه من اكتشافات حديثة.

وهذا كله يعني أننا خلال السنوات المقبلة سنعيد كتابة تاريخ المنطقة مرة أخرى، وربما بطريقة مختلفة، ويصبح التساؤل الملحّ هو: هل سنبحث عن المشتركات التي تقرِّبنا كأمة عربية أم سنبحث عن الاختلافات التي تباعد بيننا؟ أعتقد أن الأمر مرهون بالفعل السياسي الثقافي أكثر منه بالفعل الثقافي الأثري نفسه.

متخصص في الآثار الإسلامية.

داعش-والآثار

حسين عبدالبصير: العالم العربي المحظوظ

حسين-عبدالبصيريعد سؤال البحث عن الهوية وماهية الوجود الحضاري في العالم العربي من الأسئلة المؤرقة دومًا وأبدًا في عالمنا العربي العريق قديمًا، الذي يعاني حاليًّا تــــراجـعًا حضــــاريًّــــا كــبــيــــرًا على كل المستويات الحضـــــارية. ويزيد من حيرة ذلك العالم وحيرة أهله الوقوع بين هويات عدة تمتدّ إلى الماضي البعيد، ويحيط بها الحاضر غير البهيج، ولا أحد يعلم مصيرها في عالم المستقبل الغامض. وتدخل الآثار في البلاد العربية في هذا الخضم الهائل لتزيد من عمق السؤال، وهوّة التناحر، وحدّة التعارض بين تلك الهويات المتعارضة.

ويمكن اعتبار عالمنا العربي محظوظًا من كثافة ووفرة المواد الحضارية الأثرية؛ نظرًا لاحتوائه على حضارات مهمة متعاقبة في أقطار عديدة، لعل من بين أهمها الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد النهرين وحضارات بلاد الشام وغيرها. ومن بين أروع ما يميز حضارات تلك البلدان العربية هو الاستمرارية والتواصل الحضاري، لا الانقطاع الزمني، على أرضها الحضارية العريقة؛ مما يشكل لها تميزًا بين حضارات العالم قديمه وحديثه، وفي الوقت ذاته تحديًا كبيرًا لتلك البلاد التي تعيش في ظروف حضارية مغايرة لنهضتها القديمة التي أبهرت العالم قديمًا ولا تزال تبهره. ومن دون شك، فإن وجود آثار تلك الحضارات في الأرض العربية، يجعل المواطن العربي مذهولًا من عمق الهوة الحضارية الفاصلة بين ماضيه المشرّف، حين كانت بعض الحضارات الموجودة حاليًّا على الأرض العربية سيدة للعالم القديم في وقت كانت البشرية جمعاء تبحث لنفسها عن بصيص أمل في الظلام الدامس الذي كانت تعيش فيه مسترشدة بأنوار حضارات العالم العربي الباهرة.

لكن السؤال الذي يثار باستمرار :«لماذا نحن متخلفون؟». ويفكر العرب المحدثون بصوت عالٍ: «كيف وصل أجدادنا إلى هذا التقدم المذهل الذي ما زال العالم يبحث في أسراره وكيفية حدوثه؟». وفي حقيقة الأمر، فإن الإنسان العربي الحالي غير معنيّ بالكلية بالبحث عن تراثه، بل أكثر من ذلك يساهم على نحو من الأنحاء في العبث بهذا التراث العريق وتدميره.

رئيس آثار منطقة الهرم والمتحف المصري الكبير.

علي الحضوري: هدموا المقابر وتركوا الأوثان

على-الخضوريالآثار الليبية تعرضت للنبش والتشويه، فبعد سقوط النظام سادت الفوضى، وانتشر اللصوص، والراغبون في البحث عن الآثار من أجل بيعها، ولم يسلم موقع أثري في ليبيا من النبش والحفر بحثًا عن آثار فيه، ولم يسلم العديد من الآثار من التشويه سواء بالكتابة عليها أو دهنها بمواد كيميائية، لكن الأمر ليس مرتبطًا بالإسلاميين إلا فيما يخص المقابر والأضرحة، وهي تعود إلى عقود وقرون بعيدة، أغلبها كان يمثل تحفًا فنية مزدهرة بالنقوش والآيات، وهذه تعاملت معها الجماعات الإسلامية بعنف؛ لأنهم يرونها حرامًا، في حين تركوا الأعمدة الرومانية وغيرها رغم أنهم يسمونها بالأوثان، ولا نعرف آثارًا دُمِّرت كما حدث بالشكل المروع في سوريا، لكننا نعرف ما حدث من تشويه ونبش في المواقع الأثرية الليبية، والقصة في مجملها تجيء بإغراءات من السياح أو مهربي الآثار، ومن ثم فالكل أصبح يبحث عن الآثار بطريقته ومجهوده الفردي؛ كي يبيعها ويصبح من الأثرياء.

الرئيس الأسبق لمصلحة الآثار في الجماهيرية الليبية.

داعشيون

حسين العيدروس.. نقاط مشتركة

حسين-العيدروسالتراث الحضاري على المعمورة، يُعدّ من الشواهد الحية على وجود الإنسان وتفاعله ونشاطه الدؤوب والمستمرّ على مدى العصور، سواء في البلدان العربية أم في العالم أجمع. وإذا ما اقتصرنا على البلدان العربية، فإننا لا بد أن نتعايش تحت أي ظرف من الظروف، وننسى هذه التقسيمات العقيمة، التي شتتت شمل الأمة وفرقتها، فمن خلال معظم التنقيبات الأثرية في العالم، وُجِدت شواهد تثبت الصلات والعلاقات بين الشعوب، وعُرف التلاقح الحضاري فيما بينها، ولولا هذه الصلات لما تحضَّرت الأمة بالأخذ والعطاء (التبادل)، هذه السمة الأخلاقية التي تدلنا على الفضيلة في عدم الاستئثار والأنانية، فالشعوب المحرومة، هي الشعوب المنعزلة، المنكفئة على ذاتها، لا تسمح بالتواصل مع الآخرين، وبالتالي ظلت متقوقِعة، حتى انتهت وأَفَلَ نجمها مهما كان سطوعه.

قد تكون الوحدة الجغرافية في كثير من الأحيان، لها أثر في التقارب بين المجموعات البشرية التي تعيش فيها، وهذا الأمر طبيعي وإيجابي، ليس بالاختيار، لكن في الوقت نفسه قد تنشأ خلافات فكرية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو خلاف ذلك، تؤدي إلى نشوب نزاعات، وهذه غالبًا طبيعة بشرية، لكن بالمقابل قد تُحل وتعود إلى وضعها الطبيعي، وقد تتعقد وتُنهِي طرفًا من الأطراف.

أستاذ الآثار بكلية الآداب جامعة صنعاء.

نينوى-داعش

الشرقي‭ ‬دهمالي‭: ‬محور‭ ‬أطماع‭ ‬ومصالح‭ ‬عالمية

الشرقي-دهماليالمتأمل في التاريخ العربي يجد أن منطقتنا العربية شكلت وستشكل دائمًا مجالًا لبروز أطماع ومصالح بين قوى خارجية، وميدانًا لتصفية مجموعة من الحسابات بين أجهزة استخباراتية عالمية يكون فيها المواطن العربي وهويته الحضارية حطَبًا لحروب مفروضة يصاحبها نشاط مكثف لتهريب الممتلكات الثقافية العربية تؤدي إلى فقداننا جزءًا غاليًا من تراثنا، هذا التراث الذي يباع بأثمان خيالية في المزادات العلنية، وأصبح قسم منه في ملكية متاحف عالمية تتباهى بعرضه للزوار، وتحقق من ورائه مكاسب مالية مهمة جدًّا.

وبالرجوع إلى الخمس عشرة سنة الأخيرة فقط، نجد أن عالمنا العربي عرف مجموعة من الأحداث المتسارعة والمؤلمة التي أضرت كثيرًا بمعالم تراثنا المشترك، من خلال استهداف «ممنهج» للمعالم البارزة للتراث العربي كما سيتبيّن من خلال هذه الأمثلة التي سنوردها على سبيل المثال لا الحصر:

– استمرار عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1967م إلى اليوم، وما نتج عن ذلك من تشققات في بنيته الأساسية وبخاصة في الجدار الجنوبي، إضافة إلى هدم أحياء عربية قديمة بالقدس الشريف من طرف الكيان الإسرائيلي.

– تعرض المتاحف والمواقع الأثرية لبلاد الرافدين، خلال الاجتياح الأميركي للعراق سنة 2003م، لعمليات واسعة من السرقة والتهريب قامت بها، في أغلب الأحيان، عصابات دولية منظمة ومحترفة تحت أنظار قوات الاحتلال. وهنا أسرد حديثًا دار بيني وبين الزميل المرحوم الدكتور توني جورج، مدير متحف بغداد آنذاك، خلال لقائنا في الجمعية العامة للمجلس الدولي للمتاحف بكوريا الجنوبية سنة 2004م، أكد لي فيه عن «وجود حقائق تثبت أن ما سُرق من التحف من المتحف العراقي في بغداد خلال الأيام الأولى للاحتلال تم بشكل منظم على أيدي عصابات مدرَّبة، كما يدل على ذلك طريقة اقتحام المتحف، ومن خلال درايتهم الدقيقة بمحتويات المتحف: ففي المتحف نسخة طبق الأصل من «المسلة السوداء» لشريعة حمورابي الموجودة في «متحف اللوفر» في باريس لم يسرقوها لمعرفتهم بعدم أصليتها.

تتوالى عمليات التخريب للشواهد المادية للتراث العربي لتصل ذروتها مع ما يسمى بـ«الربيع العربي»، وما نتج منه من فراغ وانفلات أمْنيينِ وتدخل أجنبي سافر، وتفريخ لمجموعة من الجماعات المسلحة التي جندت، للأسف فئة من أبناء جلدتنا، وجعلت من تدمير التراث وسيلة للتعبير عن وهمها، ومن الاتّجار في التحف مصدرًا لملء خزينتها من العملة الصعبة. وهنا أكتفي بسرد مجموعة من الأحداث المؤلمة:

– تعرض مجموعة من الآثار الليبية إلى التخريب والتنقيب غير المشروعين بعد التدخل الأجنبي سنة 2011م.

– سرقة مجموعة من القطع من المتحف المصري بالقاهرة في ليلة «جمعة الغضب» يوم 28 يناير 2011م.

– تفجير واجهة وبهو متحف الفن الإسلامي بالقاهرة في يناير 2014م، وتدمير مدخل متحف العريش في يناير 2015م.

– نهب وتخريب محتويات متحف الموصل في فبراير 2015م، وتدمير تماثيل الثور الآشوري المجنح في المتحف وفي «بوابة نركال» الأثرية، التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.

– قتل مجموعة من زوار متحف باردو الوطني بتونس في هجوم مسلح يوم 18 مارس 2015م.

– تدمير معابد وأقواس مدينة تدمر الأثرية بسوريا، وإعدام مدير متاحف وآثار المدينة د. خالد الأسعد بتهمة العمالة و«حراسة الأصنام» في أغسطس 2015م.

– تدمير مجموعة من المتاحف والبنايات التاريخية باليمن خلال العمليات العسكرية المتتالية.

السيد ياسين.. محطات النجاح والفشل

السيد ياسين.. محطات النجاح والفشل

yaseen_3لم يكن السيد ياسين (1933_ 2017م) مفكرًا عابرًا طوال الأربعين عامًا التي عرفه الشارع المصري خلالها، فهو عُرف كأحد صناع القرار فيما يخص الشأن الثقافي الاجتماعي في البلاد منذ مطلع الثمانينيات، فقد كانت الثقافة المصرية في عهد مبارك تقوم على أن كل فرع منها طريقة، وأن لكل طريقة شيخًا يقوم على تنظيم شؤونها، فكان الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي رئيسًا لشؤون الشعر، والدكتور أحمد مرسي سيدًا على الأدب الشعبي بعد رحيل فاروق خورشيد، وإدوار الخراط سيد أهل الرواية قبل أن يكتب جابر عصفور «زمن الرواية» ويصبح الحاكم الناهي فيها، بينما كان السيد ياسين بمنزلة شيخ المشايخ؛ إذ يصب كل ذلك في أوراقه الإستراتيجية لصناعة الثقافة وصياغة المجتمع، فقد صنع له موقعه كمدير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية منذ منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات الميلادية مكانة أكبر من الوزير وأصغر من رئيس الوزراء؛ إذ كان يعد الخطط والصياغات التي تقوم عليها الحكومات المتعاقبة، فيما يخص الخطاب الثقافي وبنيته في المجتمع المصري.

ولد السيد ياسين في مدينة الإسكندرية في سبتمبر من عام 1933م، وكان من الحالمين بدخول عالم الأدب، كان الشعر هو البوابة التي طرقها سنوات عدة قبل أن يوقن أن ذلك لن يكون مجاله، فتركه واعتمد الخطابة طريقًا للإعلان عن الذات، وبخاصة أن جماعة الإخوان المسلمين رأت فيه قدرة على الارتجال والتأثير في الآخرين، فرشحته للالتحاق بمدرسة الدعاة في محرم بك، وأطلعه أستاذه بالمعهد مصطفى الشمارقة على كتب سيد قطب والغزالي وأبي الحسن الندوي وغيرهم، فظل في صحبة الشمارقة حتى بعد دخول كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، ليتخرج داعيًا من مدرسة الدعاة، ويصبح خطيبًا مفوّهًا للإخوان على منابر مساجد الإسكندرية العريقة.

وسرعان ما انفصل عن الإخوان، وانتبه إلى دراسة الحقوق، وما إن أنهى دراسته عام 1955م حتى وجد الدكتور أحمد خليفة يؤسس المركز القومي للبحوث الجنائية عام 1956م، فانضم إليه ليكون واحدًا من الرعيل الأول في هذا المركز حسبما قال الدكتور محمد نور فرحات.

مؤمن بوحدة العلوم الاجتماعية

yaseen_B1يقول الدكتور محمد نور فرحات: إن السيد ياسين منذ شبابه حتى شيخوخته كان مؤمنًا بالوحدة بين العلوم الاجتماعية، ففي الثلاثينيات من عمره أنجز واحدًا من المراجع المهمة في مناهج البحث الاجتماعي، وعندما افتتح مركز الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية في مؤسسة الأهرام بنهاية الستينيات انتقل ياسين للعمل به، وما إن حوَّل محمد حسنين هيكل هذا المركز إلى مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام تحت رئاسة الدكتور حاتم صادق عام 1975م حتى أصبح السيد ياسين مديره الفعلي، فأنجز من خلاله العديد من التقارير الإستراتيجية المهمة، وظل بالقدر نفسه من الطاقة والحماس في الانشغال بالهم الوطني والعالمي حتى أيامه الأخيرة، فكانت آخر أحلامه هو مشروع للخرائط المعرفية في العلوم الاجتماعية بالعالم العربي.

لم يتوقف السيد ياسين عند حدود تجريب موهبته في الشعر، مغرمًا بالشاعر العالمي ت. س. إليوت، لكنه حاول أيضًا مع النقد والقصة القصيرة، وأعجب بكتاب «مغامرات فكرية» للفيلسوف هوايتهيد، إلا أن هذه المرحلة الأدبية انتهت بالفشل، ولم تكن كلمة فشل ذات سمعة سيئة لديه، فقد استخدمها في وصف علاقته بالإخوان، ثم في وصف رحلته العلمية إلى باريس لنيل درجة الدكتوراه في القانون، تلك الرحلة التي انتهت بانصرافه عن دراسة القانون إلى دراسة علم الاجتماع، ومن ثم يقول: «هنا محطة فشل جديدة إذا أردنا إبقاء المفهوم، فقد تركت القانون إلى الاجتماع، واهتممت بعلم الاجتماع الأدبي الذي كان لا يزال ناشئًا وقتها عام 1964م، وكذلك علم الاجتماع السياسي، فقلت لنفسي لتذهب الدكتوراه إلى الجحيم، فليس من المعقول أن يُضيِّع باحث مثلي ثلاث سنوات من عمره يتعقب أحكام محكمة النقض، عدت بعد ذلك إلى القاهرة في عام 1967م، وهو عام الفشل في مصر: النكسة والهزيمة والمرارة، وهنا اتجهت إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي دراسة علمية، وانضممت إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام عام 1968م».

المثقف المهموم

yaseen_B2يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة القاهرة الدكتور أحمد زايد، أن مشروع السيد ياسين الثقافي كان مشروعًا تكامليًّا، فيه حس المثقف المهموم بقضايا الوطن ومتابعة ومناقشة ما يجري على الصعيد العالمي. ويلفت زايد إلى أن «ياسين» كانت لديه ميزة عظيمة في أنه كان يمزج حديثه عن التطورات العالمية بالأحداث والتغيرات المصرية والعربية. فتح السيد ياسين آفاقًا جديدة في بحوث العلوم الاجتماعية كانت مغلقة في مصر؛ منها علم اجتماع الأدب، كما أنه كان مثالًا لنموذج المثقف «المتنور» أو المحرِّك للمثقفين الآخرين نحو القراءة والإبداع، وظل على هذا النحو حتى رحيله في صباح الأحد الموافق 19 مارس 2017م.

على مدار سنوات من العمل في مركز الدراسات الإستراتيجية تابَعَ السيد ياسين المتغيرات السياسية والثقافية التي جرت في العالم، ورصدها في أعماله التي تجاوزت الأربعين كتابًا، حتى بعدما ترك إدارة مركز الأهرام قام عام 2012م بتأسيس وإدارة المركز العربي للبحوث والدراسات، ليكمل الدور الذي بدأه من قبل، متابعًا الحرب الأميركية في العراق أو أفغانستان، وصعود التيارات الإسلامية، وانهيار الدول القومية، ومجيء الربيع العربي، ليكتب كتابه «الشعب على منصة التاريخ» عقب قيام ثورة يناير، لكن سرعان ما سقط الشعب وصعد الإخوان الذين أبرزوا وجهًا لم يكن يعرفه السيد ياسين في شبابه، فكتب كتابه الأخير «نقد الفكر الديني». في هذا الإطار يرى صلاح سالم الباحث في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية أن مشروع السيد ياسين الفكري قائم على التحليل الثقافي الذي عمل عليه في آخر عشرين عامًا من حياته، وبخاصة بعدما ترك مركز الدراسات الإستراتيجية. ويتطرق سالم إلى كتاب «الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر» الذي قدمه الراحل في مقتبل حياته، عادًّا إيّاه بدايةَ المشاريع الفكرية العربية لنقد الذات، الذي شُغِل به كثيرون كمحمد عابد الجابري وزكي نجيب محمود وغيرهما. ويشير إلى انشغال ياسين بالتحليل الاجتماعي للأدب، وفهم المجتمع المصري من خلال كتابات جيل الستينيات وما بعدها.

الهوية المتخيلة

في الحوار الذي نشرته «الفيصل» (عدد 481- 482) وأجراه الشاعر محمد الحمامصي، تحدث السيد ياسين عن جملة من القضايا التي شغلته في السنوات الأخيرة، في مقدمتها صراع الأصوليات وتوحش الهويات، ونفى أن يكون ثمة تنسيق بين النظام القائم في مصر وبين الجماعات السلفية، لكنه أكَّد أن الإخوان لهم مشروع متكامل سمَّاه «الهوية المتخيلة»، وأن هذه الهوية تقوم على أسس عدة؛ أهمها رفض الديمقراطية الغربية، واعتماد الشورى نظامًا سياسيًّا.

ورغم أن ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تكن من بين رهانات السيد ياسين في بداية الألفية الثالثة، فإنه استطاع التعامل معها بمرونة، مؤمنًا أنها أفضل تعبير عن رغبة الشعب في التغيير، وأنها ثورة شعبية بامتياز، لكن ذلك كله لم يشفع له أنه كان أحد رموز نظام مبارك، وأنه أحد الصانعين الكبار لإستراتيجية هذا النظام الثقافية والاجتماعية طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة

أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة

حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلًا: «ترام مصر الجديدة …» يوقفك بانزعاج قائلًا: «مصر الجديدة ليس بها ترام، دا مترو». هكذا تجد نفسك في مأزق غريب، فمترو الأنفاق يربط في خطه الأول ما بين شبرا والجيزة، وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج، ويسير تحت الأرض وفوق الأرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره، ويسير بالكهرباء وليس بالوقود كالقطارات، ولا توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير، وليس به مقابل، وليس له مزلقان كما في القطار، فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه الأرض بين الناس والسيارات، وينعطف ليمرّ بين العمارات في الشوارع دون خصوصية ولا استقلال، ودون هيبة وأسوار تحولان دون مطاردة الأطفال له، كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟

سوف تتذكر أن مهندسًا في السكك الحديدية المصرية تَقدَّم إلى الملك فاروق باقتراح لإقامة أول مترو أنفاق في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط كله، لكن الملك أهمل الاقتراح فماتت الفكرة، ولم تستيقظ إلا مع مجيء جمال عبدالناصر، هذا الذي رغب في أن يكون المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي، فاقترح على الخبراء الفرنسيين أن يضعوا تصورًا لإنشاء أول مترو في مصر، واتُّفِق مع بيت الخبرة الفرنسي «سوفريتو» عام 1970م على إنشاء خطين أحدهما يربط ما بين بولاق أبو العلا وقلعة محمد علي بطول 5 كم، والثاني يربط ما بين باب اللوق وترعة الإسماعيلية بطول 12 كم، وفي عام 1973م صدَّق أنور السادات على إنشاء مترو القاهرة، لكنه لم يبدأ العمل فيه إلا في عصر مبارك، وكان أول تشغيل له عام 1987م.

كانت القاهرة قبل أن يربط المترو بين أطرافها أشبه بصندوق مكتظ بالبشر، وكانت أحياء مثل حلوان والمعادي والمرج وغيرها أشبه بدول أخرى، لا يذهب إليها أحد، ولا يسمع بها أحد، ويتندر الناس على من يفكر في الإقامة بها، لكنها مع المترو أصبحت أقرب من وسط المدينة؛ لأن زحام المرور فوق سطح الأرض لا يمنح أحدًا حق التحرك من مكانه، والإشارات لا تفتح أضواءها إلا لتغيرها، وقد عبَّرت السينما في السبعينيات والثمانينيات عن هذا الاختناق المروري المزمن في شوارع القاهرة وكباريها من خلال أفلام مثل «أربعة في مهمة رسمية».

مدن داخلية على أبواب المحطات

لم يكن مترو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصلات جديدة، لكنه كان تغيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا، فقد امتدت القاهرة الكبرى على ضفاف هذا الثعبان الحديدي، فنشأت مدن داخلية على أبواب محطاته، وصارت علامة «M» الحمراء رمزًا لتجمعات البشرية متباينة، حيث تجار الملابس والفاكهة والزيوت والمساويك والكتب القديمة والموبايلات وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب الثلاث ورقات، فضلًا عن عيادات الأطباء ومكاتب المهندسين وشركات الصرافة وسماسرة العقارات والشقق المفروشة وغيرها، نشأت حيوات وتغيرت طبيعة أماكن، وتوالدت أساطير وحكايات، ليس عن نشأة القاهرة ومجيء المعز بسيفه وذهبه، ولكن عن المترو والترام والقطار الفرنساوي والقشاش، وتحول الناس من آدميين يمشون على أقدامهم رافعين أنوفهم نحو السماء إلى فئران أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب المحطة، تهرول في أنفاق طويلة وباردة، وسط ضجيج عالٍ وكثير، مسموع وغير مفهوم، ضجيج يبعث على التوتر والسرعة، ليتسابقوا في دخوله على شباك التذاكر، ومرورهم من بوابات ممغنطة، فرحين بوصولهم إلى الرصيف، في انتظار الثعبان الحديدي الكبير، هذا الذي لا تمر دقائق إلا بمجيئه، وحيث تكتظ المحطة بالنازلين والصاعدين، لكنها سرعان ما تصبح خالية في انتظار قادمين جدد.

لم يكن الأدب بعيدًا من حضور المترو بثقافته الجديدة على الجميع، فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور في أعماله، من بينها رواية «مترو» المصورة لمجدي الشافعي، التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس الإلكترونيات الحانق على النظام الاجتماعي والفساد المنتشر في مصر، الذي يقترب من الإفلاس بسبب المنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة سواهم، ورواية ياسمين مجدي «معبر أزرق برائحة الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام 2009م، التي تدور أحداثها في شباك بيع تذاكر في إحدى محطات المترو، وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز «عشرين سنة على سلم المترو». وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النيران عند منطقة «العياط»، ويحكي قصصًا إنسانية عن ركابه.

في هذا التحقيق نتعرف على مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار وتصورات عدد من المثقفين المصريين والعرب، ممن تعرفوا على مترو القاهرة أو اتخذوا في رحلاتهم مترو دبي أو غيرها من مدن العالم، وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم، وكيف تَشكَّل خيالهم معها.

جاكلين سلام: نصوص في مترو تورنتو

جاكلين-سلاميشكل المترو عصب التنقلات في مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكبر مدن العالم. شخصيًّا أستخدم المترو للذهاب إلى العمل. أحيانًا أقرأ الكتاب الذي في يدي، وأحيانًا أقرأ وجوه العابرين. أحيانًا أكتب الشخصيات والمواقف في دفتر الملاحظات. هنا بعض أحوال مترو المدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل الألوان والأجناس.

*

خرجتُ مرة في الصباح الباكر وكنت على موعد للذهاب للترجمة الفورية لوزراء كنديين سيتحدثون عن تجربة استقدام اللاجئين السوريين إلى كندا. لبست ثيابي الرسمية وفي منتصف الطريق إلى مكان انعقاد المؤتمر، توقف المترو لعطلٍ ما. اختنقتُ. لم أستطع الخروج من النفق. حين تدبرنا طريقًا للخروج، استقللت سيارة أجرة، كانت عشرات الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر المترجمة. حين وصلت إلى المكان، دقائق فقط أمامي كي أرتّب شعري وأشرب الماء، ثم قُدِّمتُ إلى الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم بترجمته مباشرة في حضور عدد كبير من القنوات التلفزيونية الكندية. أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا الإنساني حيال مساعدة اللاجئين وتقديم فرص العمل لهم، كنتُ أقول في نفسي: أنا سورية- كندية ومن الممكن أن أتضرر لو توقف المترو في ساعة حرجة. المترو واللغة وسيلتان للوصول إلى مكان والعبور إلى الطرف الآخر.

*

الكلاب أيضًا تستقلّ مترو تورنتو: حين تكون برفقة كلب وتستقلّ عربة في المترو، ستحظى بكل الاهتمام من الركاب. إنهم يداعبون الكلاب ويتحدثون مع مالكها بود شديد. ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل في حضنها كلبًا صغيرًا وسيمًا. الشاب في الكرسي المقابل، صار يداعب الكلب ويقول للسيدة: «لكلبك شخصية مميزة، أعجبني كلبك» نظرتُ إلى الكلب بعين فاحصة وفي داخلي مشاعر متناقضة. مرات كثيرة أرى امرأة تجلس في مقعد في المترو، تبكي ولا أحد يلتفت إليها.

*

في ساعات الازدحام الشديد، أركض بين الجموع كي أصل إلى المترو وكلّي أملٌ أن أجد مقعدًا. حين أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إلى قلب المدينة. وأسترق النظر إلى وجوه الأشخاص. بعضهم ينام وبعضهم يأكل. أقرأ الوجوه ككتاب وأدوِّن الملحوظات أحيانًا. العالم محصور في عربة أمامي، أتمنى لو أكتب المفارقات والصور.

*

ينام الشحاذون في المترو أحيانًا. يصحبون معهم أكياسًا كبيرة تفوح منها رائحة عفنة. رائحتهم أيضًا تنتشر في المقطورة. أحيانًا أغيِّر مكاني كي أبتعد من مصدر الرائحة.

*

في المناطق المكشوفة في المترو يتناهى إلى سمعي المحادثات التليفونية الخاصة. أسرار تصلك بالعربية والإنجليزية. أبتسم وأنا أستمع إلى امرأة عربية تشتكي من زوجها، أو العكس.

*

يحدث أن أنغمس في قراءة رواية وأجتاز المحطة التي سأنزل فيها، حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن سبب تأخري عن العمل.

كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا.

عمر العادلي: ضجيج لا يُسمع وسرعة تُرى

القاهرة عام 1986م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام 2017م، ليس فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي والانتشار في المدن الجديدة المنتسبة لهذه المدينة العريقة، فهناك بعض المدن التي لا علاقة لها بالقاهرة جغرافيًّا، لكن يبدو أن أصحابها سعداء بالانتساب غير الدقيق للعاصمة المصرية.

في عام 1986م لم يكن هناك سِوى بعض أعمال حفر لما سمعنا في تلك الأيام أن اسمه مترو الأنفاق، ومترو الأنفاق الذي يجري في إنجلترا منذ عام 1899م لم يدخل إلى القاهرة إلا في عام 1987م، وكان المترو حدثًا يعدّ الأبرز وقتئذ، فمن حيث الأهمية فهو وسيلة المواصلات الأسرع على الإطلاق، ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة الفرنسية المشرفة على المشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة، لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة العدّ التنازلي، وفي صيف عام 1987م أصبح يجري تحت أرض القاهرة مترو أنفاق كالذي يجري في لندن وروما وباريس.

هذه المدينة، القاهرة، جدَّد فيها المترو شبابها في السنوات الأولى من عمله، فقد كانت قد وصلت حد الترهُّل والبدانة، وأصبحت المواصلات العامة في حالة يرثى لها، فيمكن أن يستغرق قطع عشرين كيلو مترًا أكثر من ساعتين، وقد كان المترو يقطع المسافة نفسها في ثلث ساعة فقط لا غير. تغير شكل الانتقال في القاهرة، وتغير معها نظرة الناس بشكل عام، فأصبح متاح لإنسان أن يعطي بسهولة موعدًا ويستطيع الالتزام به، وذلك ببساطة لأن فرق توقيت مترو عن آخر لم يكن يزيد على خمس دقائق، ويمكن القول: إن المترو كان أداة تجميل ضرورية ولازمة بسبب التكدس الذي ضرب المدينة العريقة، وجعلها تستوعب أكثر مما يكفيها من البشر بثلاثة أضعاف على أقل تقدير.

بعض المثقفين فضلوا التنقل عن طريق المترو بدلًا من التاكسي أو وسائل المواصلات العامة، فقد ربط المترو بين مراكز ثقافية في أول المدينة بأخرى على أطرافها، فلو أن هناك منتدى في المعادي مثلًا يُقدِّم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما أن يذهب إليه وهو يقطن في منطقة المرج أو منطقة الزيتون، هل كان يستطيع الوصول إلى هذه الضاحية البعيدة؟ الإجابة لا؛ لأنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعين كيلو مترًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكثر مما تسمح بالمرور، وكان من الصعب أيضًا أن تزيد هذه الكثافة السكانية العالية في هذا الزمن الوجيز دون حلول، فلولا مترو الأنفاق لانفجرت القاهرة.

الآن، وفي عام 2017م تمددت خطوط المترو، وأصبحت تربط أطراف القاهرة من جميع الاتجاهات، وهذا يَسَّر على الكثيرين سرعة التنقل ودقة المواعيد، إضافة إلى شيء آخر ألا وهو التخفف من الزحام قدر المستطاع، فالقاهرة يعمل بها عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ملايين نسمة، يزورونها كل صباح ويتركونها في مساء اليوم نفسه.

روائي مصري.

صبحي فحماوي: كلام في المترو

هل كان حيوان «الخلد» هو أو من استخدم الأنفاق تحت الأرض ليمر بسلام آمن؟ وهل سيبقى الخلد حيًّا في أنفاقه تحت الأرض إذا ما قامت حرب نووية أزالت الحياة من على الأرض؟ في المدرسة كنا نقرأ في كتاب الإنجليزي أن المدينة التي يزيد عدد سكانها على مليون مواطن، لا يحل مشكلتها المرورية سوى المترو.. لكن مدينتنا عمّان التي يزيد عدد سكانها مع الضواحي هذه الأيام على خمسة ملايين نسمة لم يصلها المترو حتى الآن. وللمعلومة فإن أول مترو أنفاق أسس في لندن عام 1863م، مقتبسًا من القاطرات البخارية، وأسس مترو الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1871م، تلاه مترو بودابست عام 1896م، أما مترو باريس فأسس عام 1900م، ويعد مترو لندن وشنغهاي هما الأطول من حيث خطوطهما، ويعد مترو طوكيو وموسكو هما الأكثر ازدحامًا.

قبل عشر سنوات في لندن نزلت بمصعد مسافة عشر طوابق تحت الأرض ليفتح هناك باب المترو، فكان في وجهي امرأة محجبة مستغرقة في قراءة القرآن.. أدهشني المشهد. أدهشني نفق سيارات «أوراسيا» الذي دشنته تركيا مؤخرًا ليربط الشطرين الأوربي والآسيوي لإسطنبول كأول نفق بحري تركي لعبور السيارات، بعد افتتاح نفق مرمراي للمترو، الذي يمتد مسافة حوالي 15 كم، منها 3.5 كم تحت مضيق البوسفور، ويبلغ ارتفاعه 14 مترًا، وهو مؤلَّف من طابقين للذهاب والإياب، ليربط الطريق بين الضفتين الأوربية والآسيوية هناك، كما سيمكِّن 90 ألف سيارة من العبور خلاله يوميًّا ذهابًا وإيابًا بين طرفي المدينة. ويعمل هذا النفق على توفير 25 مليون ساعة على المسافرين كل سنة، كما سيخفف 85 طنًا من التلوث الناتج عن السيارات. وأما النفق الأوربي، تحت البحر للقطارات والسيارات فيربط بين بريطانيا وفرنسا بطول 50.5 كم، وهو ثاني أطول نفق بحري في العالم؛ إذ إن نفق (سيكان) الياباني للسكك الحديدية، هو أطول نفق بحري في العالم حتى عام 2010م. ويتفوق النفق الياباني للسكك الحديدية، بطوله البالغ 53.9 كم، وكان يعد الأطول في العالم. وفي سويسرا افتتح نفق «غوتهارد» للسكك الحديدية بصفته الأطول والأكثر عمقًا، ويمر تحت جبال الألب في سويسرا، بطول 57 كم، ويربط بين شمال وجنوب أوربا. لتُنقل البضائع عن طريق القطار، بدلًا من نقلها برًّا عن طريق ملايين الشاحنات في العام.

كاتب أردني.

أمجد ريان: ضجيج حبيب إلى نفسي

2أمجد-ريانعلاقتي بـ«المترو»، علامة توحد بيني وبين أبناء جيلي جميعًا؛ لأن هذه العلامة تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع. تبدأ علاقتي بالمترو منذ الطفولة المبكرة في سن الخامسة وما بعدها، فقد كنت أعيش مع والدي في إحدى العمارات في شارع المقريزي، ويخترقه بامتداده خط مترو «مصر الجديدة» الآتي من ميدان «روكسي» متجهًا إلى ميدان «رمسيس»، وكانت الشقة فخمة وفي حي راقٍ، لا تتناسب مع المستوى الاجتماعي الحقيقي لوالدي ووالدتي، لكنها رمز لتطلعات الطبقة المتوسطة الصغيرة المرتبكة اقتصاديًّا دائمًا. وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسين» في كلية الآداب لشدة فرحه بعروسه أجّر لها هذه الشقة، وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر. كان والدي مدرسًا للغة العربية في مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات، وكان راتبه الشهري أقل من ثلاثين جنيهًا، فأجَّر هذه الشقة بسبعة جنيهات، وهو مبلغ كبير جدًّا بالقياس إلى ظروفه. وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش في حي «السبتية» الشعبي الفقير. وكانت علاقتي بمترو مصر الجديدة وطيدة، فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثًا هذا الضجيج الحبيب إلى النفس، ونوافذه فيها وجوه الركاب، وعيناي تتأملان هذه الرحلات التي لا تتوقف، وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله في رهجه وحركته الذاتية المطردة. وكنا نحن دائمي ركوب المترو، وبخاصة عندما نذهب لزيارة جدتي في «السبتية»، فكان المترو هو الذي ينقلني بين مشهدين أو حالتين هما الحي الأرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى، بكل ما فيهما من معانٍ ورموز ودلالات موحية. ولا أنسى أيضًا يوم «الخناقة» الكبرى التي اشتعلت في بيتنا بين والديّ، فوضعت أمي على جسدها أول فستان وجدته في الدولاب، ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» في حذائين وحملت أختي «آيات» الرضيعة وجرت بنا غاضبة، وفي المترو اقترب منا الكومساري طالبًا التذاكر، ولكن أمي أخبرته أنها لا تملك النقود، وأفهمته أنها في ظرف خاص، نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا على الفور دون أن ينبس ببنت شفة، ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا فيه، كما أن أخلاق البشر وقتئذ كانت تفيض بالمسامحة وبالتعاون.

وظلت علاقتي بالمترو قوية، حتى بعد أن سكنت في «وادي حوف» بحلوان، وكانت تذكرة المترو القديم بقرش ونصف، ولكن الدرجة الأولى كانت بثلاثة قروش، وكان مجرد الدخول إلى المترو ينبئ بالمستوى الاجتماعي للركاب، وإن كانت المسألة قد تغيرت الآن في المترو الجديد (under ground) الذي استوردناه من فرنسا، وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت المترو الفرنسي في باريس، عندما دُعيت أنا والشاعرة «رنا التونسي» لنمثل مصر في مهرجان «لوديف» الشعري الدولي. أما الفرق بين المترو المصري والمترو الفرنسي فحدِّث ولا حرج، أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك المترو هناك، تجد أن معظم الناس يمسكون الكتب المفتوحة بين أياديهم، ولا تتوقف عيونهم عن القراءة، مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه في أثناء ركوب المترو.

شاعر مصري.

صلاح حسن: وسيلة عملية ونظيفة

مترو الأنفاق هو واحد من المشاريع المهمة التي تثبت أن قدرة الإنسان غير محدودة في استخدام الطبيعة لتسهيل حياة الإنسان، وجعله قادرًا على الاتصال بالآخرين مهما كانوا بعيدين عن بعض. نشهد اليوم في أوربا بالتحديد مشاريع عملاقة لمد الأنفاق تحت البحر، وقد نجح كثير من البلدان في ذلك، وأكبر الأمثلة هو النفق الذي يربط فرنسا ببريطانيا، والمشروع العملاق بين أكثر من سبع دول أوربية لإنجاز نفق طوله مئات الكيلومترات. إنها تجربة فريدة بالفعل أن تسافر في قطار يسير تحت الماء. بالنسبة لي وأنا أستخدم هذه القطارات بين وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة للوصول إلى المكان الذي تريده دون تضييع كثير من الوقت، لكن نحن العرب معتادون على المساحات المفتوحة، نخاف من هذه القطارات لأسباب سيكولوجية، وهي الخوف من الأماكن المغلقة مع أنها غير مبررة طالما أثبتت نجاحها المستمر.

شاعر عراقي. 

هاني الصلوي: صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع

هاني-الصلوييعد المترو -بلا شك- من أهم وسائل المواصلات الحديثة عند العرب وغيرهم بلا فرق أو مزية، سوى أنه ليس منتشرًا لدينا كعرب بل يكاد ينحصر في دول عربية ليست غنية البتة، عدا دولة الإمارات وأعني «دبي» تحديدًا، وحداثة المترو بين الدول نسبية (دخل بعض المدن في السنوات الأخيرة)، ولعل مسألة الكلفة المادية لإنشاء شبكة مترو العائق الأساسي لإنشاء مثل هذه الشبكة في الدول العربية الفقيرة، أما الدول الغنية حيث دخلُ الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات.. وهو أمر معروف وغير محتاج لتفصيل. الأدباء العرب انبهروا كالغربيين بهذه الوسيلة الحديثة والمختلفة، بوسيط نقل متداخل كهذا، بانبهار قديم للكائن البشري بالقطـار، أي أن الاندهاش بالمترو وليد الاندهاش التاريخي بالقطـار، فليس المترو سوى قطار حديث، وكذلك التراموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بين القطار الكلاسيكي وقطار الأنفاق، بل إن بعض الدول بنت شبكة المترو على سكك الترام (التراموي).

على المستوى الأدبي شكَّل القطار (الجد) صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع قراءة وكتابة، تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال والاسترخاء والتأمل، كتب كثير من الأدباء أعمالًا أدبية على القطارات في أسفارهم الطويلة أو المتوسطة من دون اشتراط تعلق موضوعات أعمال هؤلاء بالحياة على القطار، بل عهدت شركات القطارات في الغرب لمنظمي فعاليات ثقافية بتسيير الحياة اليومية على القطارات. قد توظف شركة قطار شاعرًا، يسافر في وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين، ويشبه ارتباط الأديب العربي والكاتب غيره في ممارسة الحياة على القطارات عدا في سِمة ارتباط القطارات في أوربا -في حالات ما لا يشترط تواترها- بفعليات ثقافية وفنية… كان القطار وما زال وسيلة سفر، وهو ما منحه ما مر من سمات في علاقته بالأدب أو الكتابة، أما مترو الأنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخلي داخل المدن مما يجعل ممارسة الانتقال عبره سواء تمت بشكل يومي دوري أو غير دوري، متسمة بالسرعة ومحاولة الإنجاز واللحاق بالمهمات أو أماكن الراحة.

       إنه سياق نقل متوتر وآني، وإذا افترضنا أن هناك من يستغلّ لحظات امتطائه من الأدباء للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثيرًا) سيكون المقروء خفيفًا وقليلًا يتناسب مع الوقت وطريقة استخدام هذا الوسيلة ووقتها، سيكتب كاتب ما على سبيل المثال قصة قصيرة جدًّا بدلًا من رواية أو قصة. ومضات صغيرة وليست قصائد.. من جانب آخر يوفر مترو الأنفاق أوقـاتًا منزلية ثرية لممارسة الإبداع بعيدًا من الازدحام وضياع الوقت في الطرقات، مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة المترو الإشكالية. في حالة كان المترو (قطار أنفاق) لا بد أنه يمنح الذهن فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سير القطار في الأنفاق المظلمة، وهي مجالات ذهنية وخيالية استغلها التفكير الفني الإنساني منذ الوهلة البكر، نجد ذلك في أفلام السينما تحديدًا، والبرامج التصويرية، والروايات والشعر… يشبه الاعتماد اليومي أو المنقطع على وسيلة المترو طقسًا روحيًّا قديمًا… هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا.

شاعر يمني.

يسري حسان: دليلك لمعرفة الشخصية

المترو دليلك الصادق لمعرفة الشخصية المصرية.. على المحطات يتراص المواطنون، وبمجرد أن يفتح القطار أبوابه، ودون إتاحة الفرصة لهبوط الآخرين، يندفع الجميع للركوب وتحدث المشادات في المحطات التي يحدث فيها تبديل للقطارات، مثل محطتي السادات والشهداء، تلاحظ أن من يغادرون قطار الخط الثاني مثلًا ليستقلوا قطار الخط الأول أو العكس، جميعهم يهرول للحاق بالقطار، ويأخذون في وجوههم المتجهين إلى القطار الآخر، كثيرًا ما طرحني أحدهم أرضًا وهو يهرول للحاق بقطاره، وأحيانًا كنت أقوم سريعًا فيأتي غيره ليطرحني مرة أخرى، وهكذا..!

القطار في الغالب يأتي كل دقيقتين أو ثلاث، والمواطنون، في أغلبهم، ليس لديهم مواعيد أو اجتماعات لتغيير العالم، فلماذا إذًا يهرولون بهذه الطريقة؟ ظني أنها مسألة في لا وعيهم، فالفرص دائمًا ما تضيع منهم والوعود التي يتلقونها من حكامهم لا تتحقق في الغالب، لذلك فهم يهرولون لاقتناص فرصة وجود القطار؛ لأنهم لا يضمنون أن يأتي قطار آخر.

في المترو إذا كنت في محطة المرج مثلًا، التي تفصلها عن محطة حلوان ساعة على الأقل، لا تستغرب إذا سمعت هذا الحوار عبر الهاتف:

السلام عليكم

…………………

خمس دقايق وأكون قدامك

……………………

داخل على حلوان أهو ودقايق إن شاء الله وأوصل

…………………………..

محمد رسول الله

مترو-القاهرة-3مجرد نموذج للشيزوفرينيا التي يعانيها المصريون، ويمكن أن تسمع أحدهم، على الهاتف أيضًا، يعتذر عن عدم قدرته على لقاء محدثه لأنه خارج القاهرة، لا تستغرب فهذا أمر طبيعي يدل على قوة خيال المصريين!! وداخل المترو أنت في مبنى الإذاعة والتليفزيون، اخترعوا سماعات للهاتف المحمول لكن أغلب المصريين يحبون المشاركة، فمنهم من يُسمعك القرآن الكريم، ومنهم من يسمعك أغاني المهرجانات، ومنهم من يسمعك موسيقا رومانسية حالمة، وعليك أن تستوعب كل ذلك معًا، وإياك أن تعترض على أحدهم، وبخاصة لو كان يدير هاتفه على محطة القرآن الكريم.

من قال لا أعرف فقد أفتى، لكن كل المصريين يعرفون، فإذا سألت أحدهم عن مكان تقصده حتى لو كان يسمع به لأول مرة فلا بد أن يصف لك مكانه، ولسان حاله وهو يودعك يقول: «مع السلامة يابو عمة مايلة» كما فعل أراجوز صلاح جاهين في أوبريت الليلة الكبيرة في الريفي الذي سأله عن مكان يقصده فأرشده إلى سكة اللي يروح ما يرجعش!!

والمترو أيضًا أفضل مكان للتسول، جميع المتسولات منتقبات، وكلهن يروين هذه القصة: «زوجي توفي وترك لي خمسة أبناء، واحدة منهم مصابة بالفشل الكلوي، وتغسل ثلاثة أيام في الأسبوع، واليوم موعد الغسيل الذي يتكلف أربع مئة جنيه وليس معي سوى مئة وعشرين جنيهًا.. ومن لا يصدقني يتصل بقسم الغسيل الكلوي بمستشفى الدمرداش» هو قسم مجاني بالمناسبة!! راقبتُ إحداهن في عربة واحدة من القطار الذي يضم عشر عربات، فاكتشفت أنها حصلت على أكثر من مئة جنيه، اضربْها في عشرة ولا تتعجب إنه عبط المصريين. في المترو حركة بيع وشراء رهيبة من كروت المحمول إلى مشابك الغسيل إلى الملابس الداخلية، ويا ويلك لو قلت لأحدهم: إن المترو ليس مكانًا للبيع والشراء، سيقول لك أحد الملتحين: «ربنا لا يجعلك من قاطعي الأرزاق، دعه يسترزق».

أحب المترو وركوبه، والدقائق التي أقضيها بداخله تمنحني طاقة وحيوية وتجعلني قريبًا من أمزجة الناس وتصرفاتهم واهتماماتهم.. وهم في الأول والآخر أهلي وناسي، ثم من أدراك أنني لا أكون في حلوان وأخبر محدثي على الهاتف أنني على أبواب المرج وأغلق معه قائلًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عظيمة يا مصر!!

شاعر مصري.

إيناس العباس: كاميرا تراقب التفاصيل

المفارقة أنني لم أستعمل المترو في تونس، إنما في سيؤول وفي دبي، وإن كانت متروهات سيؤول في معظمها تمر عبر الأنفاق، فهي عالم كامل من المفاجآت المبنجة للعين والأفكار التي استعملتها لاحقًا في كتابي حكايات شهرزاد الكورية. عالم تحتي كامل من المحلات والمطاعم كشف نفسه مع لمسات حميمية، ستجد محلًّا يبيع أحدث الأفلام أو أدوات الصيد وبجانبه محل ملابس وبجانبهما محل للعناية بأظافر ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن المسائية، من يقرأ في الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب جالسًا أو واقفًا… الصبايا الضاحكات صباحًا في مهرجان من الألوان والفساتين القصيرة والأحذية العالية بطريقة لافتة هن اللائي يشاهدن الدراما الكورية مساءً متعبات… وأنا هناك مثل كاميرا تراقب التفاصيل وتحتويها. في دبي، المترو يعبر من فوق الطرقات، يعبر المدينة في جولة شبه كاملة سياحيًّا، لو استعملتها من أول إلى آخر محطة، ومن النادر أن تلتقي طلبة به مثلًا، أو ربما كان الخط الذي استعملته لأشهر لا يمر ناحية الجامعات، لست متأكدة… ذاكرتي البصرية تحتشد بتفاصيل الممرضات والعاملات في المطار ومشرفات الطيران. أما مترو القاهرة فقد رأيته عام 2006م أو 2007م، أذكر أنني انبهرت بالبنية التحتية للمترو والعربات نفسها، أذكر أنني للحظة شعرت كأنني في فلم أميركي، حيث بدت المحطة ضخمة ومليئة بالاحتمالات والحكايات.

شاعرة وكاتبة تونسية.

عزة حسين: شبكة صيدٍ طائشة

شرق قريتنا، التي لم تعرف من الآلات سوى ماكينة الطحين، كان هدير القطار، على الشريط الحدودي الموازي للطريق لكل شيء، آسرًا. أيام كنا لا نلتفت لدرجة العربة العملاقة، ولا لفخامة المقاعد، كان هذا الكبير لا يعني سوى الرحلة. الأحلام المدونة على أغلفة الكراسات، وجدران البيت الأسمنتي، كانت تعرف أن نقطة البداية، لا بد أن تتم بمباركته.

كل الوداعات لا تكتمل سوى بمحاذاة قطار، واللقاءات أتخيلها دائمًا مصادفةً سعيدةً على مقعدين متجاورين في قطار. أما الأسى فتكفيه جملة: «كل القطارات تحملني إليك ولا وصول». كمغتربة؛ احتفظت بهذا الوصف، منذ التحقت بالمدرسة التي تبعد من قريتنا نحو 10 دقائق بالسيارة، قبل أن تمتد يد، طالما انتظرتها، لتغرسني في قلب العاصمة، كان الطريق بيتي. ففي السابعة عشرة، وأنا أودع عائلتي، حاملةً أكبر حقيبة ملابس عرفتها في تلك السن، أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا، لكن روحي لم تصمد كثيرًا في المرفأ الجديد، وظل قلبي على الدوام عالقًا في الطريق- القطار. في القطار كان كل شيء جديدًا، بلا خبرةٍ سوى بعض حكايات مغتربي العائلة، ومشاهد أفلام السينما: الفقر، والبرد، والمزاح بدرجاته، والبضائع، والبشر، والمعممون، والأفندية، والطلبة، وبائعات الجبن، والخبز، وبائعو «كل شيءٍ بجنيه»، كانوا رفاق طريق؛ لم أعد أتفاداهم أو أخشاهم. وعندما صرت مدينيةً، واحدةً من أرقام وأصفار العاصمة، كان المترو بديل القطار، شبيهه الأقرب، والرفاق تغيروا إلى حد ما، وبخاصة عندما لُذْتُ ككل البنات بعربة السيدات؛ لتفادي كل المخاطر! في البداية لم أرتح للمترو؛ لكونه يسرق مني الطريق، بمساراته المظلمة، وجدرانه التي لا تشبه بأي حال الماء والنخيل والمدن التي تتآكل، بمحاذاة القطارات التي جاءت بي إلى هنا، لكنها العادة تطغى على كل شيء في العاصمة.

خبرت في المترو إلى أي مدى تتشابه النساء، كيف يمكن أن تتحاور غريبتان بالنظر، وكيف تتوحد الحياة والأمنيات العابرة في برهة من الزمن، في مقعد صغير ونافذة، يمكن أن ترسم الأنفاس عبرها قلبًا واهنًا وحروفًا مرتبكة. طالما اعتقدت أن ركاب المترو مختلفون عن غيرهم في أي وسيلة انتقال أخرى، تلك الرحلة الخطية في الزمن والمسافة، المكرورة بنفس تفاصيلها، وبأقل احتمالات المفاجأة، تُكسِب روادَها ملامحَ خاصةً، تحكم قراراتهم، وانحيازاتهم وأفكارهم عن المغامرة، وعن مفارقة المسار، وعن هيئة الطمأنينة. المترو في مدن الزحام، ليس طريقًا ولا عربة، إنه مدينةً أخرى، وزمن موازٍ، طالما استفقت لنفسي في المحطة المنشودة، دون أن أتذكر شيئًا عن تفاصيل الرحلة، كثيرًا ما تشابهت عليّ محطات الوصول، وكثيرًا ما أضعتها عمدًا.

المترو حيث أنا هناك الآن وفي بيتي أيضًا، وحيث عشرات الاحتمالات والمصادفات والوجوه المفقودة، وسيلة مناسبة جدًّا للعواصم والمدن الكبرى، كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد، تمتلئ وتفرغ يوميًّا، دون أن تعرف الأسماك أو الشبكة أيهما يسحب الآخر. وبالنسبة إلي نادرًا ما كان المترو مكانًا للكتابة، لكنه احتشاد يومي لها، هو ربما كهف التأمل، برهة الصمت وسط الضجيج اليومي، ولوحة الحياة، بتجلياتها الساكنة والمهرولة. في بعض الأحيان، وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر، كتبت بعض القصائد في المترو، لكنها كانت قصيرة نسبيًّا، وغائمة.

شاعرة مصرية.

محمد أحمد بنيس: مهاجرون يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق

لم يعد مترو الأنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور المجتمعات المعاصرة وتزايد إقبال الناس على وسائل النقل العمومية، في ظل اتساع المدن والحواضر وتمددها المرعب في عدد من بلدان العالم. أصبح المترو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة الأفراد داخل هذه المجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية والاقتصادية أفقًا لتطلعاتها، غربة متعددة الأوجه أمام سلطة هذه الحداثة. تقدم المحطات والأنفاق والسلالم وشبابيك التذاكر الإلكترونية صورة لسلطة المترو في مدن كبرى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غير محتمل، يغذيه سيل السيارات والحافلات الذي لا يتوقف. مئات الرجال والنساء يتدفقون على الأنفاق، تسبقهم أنفاسهم المتقطعة، وسحنات وجوههم، وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بين وصول القطارات، يشتركون في ذات الملامح التي لا روح فيها تقريبًا. محطات متناثرة على طول المدن الكبرى لتربط بين أطرافها، تنتظر الصباح الباكر لتبدأ في ابتلاع هذه الأمواج البشرية التي تتلاحق حتى منتصف الليل.

في مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة ودبي وبوينوس آيرس وليما، ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل أنفاق مظلمة تحت الأرض، وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها تتشابه في كل شيء إلا في أسمائها. تترك تفاصيلُ المكان بصمتها على المترو، فتصبح له هوية محلية، أتذكر مثلًا صورة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار في إحدى محطات بوينوس آيرس، كان فيها نوع من التقدير لهذا الكاتب الكبير، ربما في موقع لا يتوقعه عابر مثلي. في دُبي، يبدو المترو جزءًا من تلك «التسوية» بين التقليد والحداثة التي تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة في بلدان الخليج العربي. في القاهرة، تكاد لا تحس بأن المترو يخفف قليلًا عن المدينة العملاقة من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافلات وملايين الناس. في باريس ومدريد وبرشلونة، يجعلك المترو تتعثر بوجوه وسحنات المهاجرين من مختلف الأعراق والثقافات، عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون وغيرهم يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق، ينتظرون متى يفرغهم في هذه المحطة أو تلك.

من ناحية أخرى، تعكس شبكات المترو نوعًا من الوعي العمراني والحضري في بلد معين. مثل هذه المشاريع تمثل استجابة في أوانها لمشكلة النقل المتفاقمة في المدن الكبرى، بمعنى أنه في كثير من الأحيان، ومع اتساع وتمدد هذه المدن، في البلدان النامية على وجه الخصوص، يصبح إحداث شبكة للمترو شبه مستحيل بعدما تتزايد مدن الصفيح والسكن العشوائي وأحزمة الفقر، هذا فضلًا عن الكلفة المالية الكبيرة لمثل هذه المشروعات.

شاعر مغربي.
الرقابة وضعف القوة الشرائية والتأشيرات وعجز الاتحاد أبرز مشكلات الناشرين في معارض الكتب

الرقابة وضعف القوة الشرائية والتأشيرات وعجز الاتحاد أبرز مشكلات الناشرين في معارض الكتب

معارض الكتب في بلدان العالم العربي ليست مجرد سوق لتجارة الكتاب، لكنها عرس ثقافي كبير ينتظره الجميع من العام إلى العام، يتنقل الناشرون بإصداراتهم وأعمالهم خلفها من بلد إلى آخر، باحثين عن ملتقى مختلف، وقارئ جديد، وأرض تروج فيها فكرتهم كصانعي ثقافة راقية، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؛ إذ يوجد كثير من التحديات التي تواجه هؤلاء الذين أصبح شرط حياتهم الانتقال من دولة إلى أخرى للمشاركة في عرسها الثقافي السنوي. «الفيصل» سعت إلى التعرف على أبرز الصعوبات التي تواجه الناشرين وأحلامهم للوصول إلى واقع أفضل مما يعايشونه الآن في المعارض العربية.

يقول صاحب المؤسسة العربية للعلوم «ناشرون» ومديرها جهاد شبارو: إن ضعف القوة الشرائية «هي أكبر الصعوبات التي تواجه الناشرين الآن»، مضيفًا أن تزوير الكتب «شكَّل في الأعوام الأخيرة ضربات قوية للناشرين، وبخاصة أن المزورين يقومون بتصدير الكتاب إلى مختلف البلدان العربية». وذهب شبارو إلى أن الأوضاع السياسية في كثير من البلدان «لم تعد تسمح بإقامة معارض، وإن سمحت فإن الإقبال لا يكون جادًّا، ومن ثَم فالشراء شبه منعدم، ولنا أن نفكر فيما يجري في كل من اليمن وسوريا وليبيا والسودان والعراق ومصر، ونسأل أنفسنا كيف يمكن أن تروج المعارض، ويُقبِل الناس على الشراء في ظل كل هذه الفوضى؟».

في حين ذهب مدير دار وائل الأردنية أشرف أبو غريبة إلى أن معارض الكتب تقدم أفضل الأماكن للناشرين، «ومن ثم يمكن القول: إن غالبية المعارض في العالم العربي مقبولة، ولا تختلف عن بعضها إلا في القدرات الخاصة لكل بلد عن الآخر، والناشر لا يهمه غير البيع للجمهور، وهؤلاء سلسلة طويلة متنوعة»، مؤكدًا أن لكل معرض خصوصياته، «ففي مصر توجد مشكلة واضحة، وهي أن سعر الكتاب الأردني مرتفع، والقوة الشرائية ضعيفة، وفي معرض الرياض يتمتع بقوة شرائية عالية، لكن ثمة مراجعة لكل العناوين، وثمة رفض لبعضها، وهو ما يجعل الناشر يخسر جهده في الشحن للمشاركة في المعرض».

معرض-القاهرة-الدولي-للكتاب

معرض القاهرة الدولي للكتاب

وأضاف أن ثمة مشكلات أخرى تواجهها مهنة النشر بشكل عام، «لا علاقة لها بمعارض الكتب، لكنها تؤثر في الصناعة، من بينها تزوير الكتب، و«الإي بوك» الذي أصبح ينافس الكتاب الورقي، أما المشكلة الثالثة فهي أن كل اتحادات الناشرين عاجزة، وتقف مثل الطير المقصوص جناحه، فهناك بعض المعارض المتضاربة في المواعيد، كمعرضي الجزائر والشارقة، ورغم طلب اتحاد الناشرين من كل من الجزائر والشارقة التنسيق لتفادي هذا المأزق إلا أن أحدًا لم يلتفت ولم يهتم، وهو ما يؤكد عجز اتحاد الناشرين العرب، وعدم تفهم الحكومات لطلباته؛ العجز الذي يصل أحيانًا إلى عدم قدرة الاتحاد على معاقبة أي من أعضائه حال خطئه، كما لا يستطيع إجباره على المشاركة».

من جانبه قال مدير مبيعات مكتبة ابن الجوزي السعودية ياسر حسني: «إننا كعرب لسنا متفقين على شيء، فكل دولة تشترط أمورًا تختلف عن الأخرى، والحس الأمني أصبح مسيطرًا على الجميع، فمن الممكن أن يُرفَض ناشر لسبب أمني غير مفهوم، أو يُصادَر كتاب لسبب أمني آخر غير مفهوم أيضًا»، موضحًا أن الناشر هو الخاسر؛ «لأنه يقوم بشحن الكتاب ولم يتمكن من عرضه، و«كراتين» الكتب نفسها تُفتَّش بطريقة سيئة، كما لو أننا نبيع ممنوعات وليس الكتب». وأشار حسني إلى أن اتحاد الناشرين العرب لا يستطيع فعل شيء، «فلا يستطيع أن يلزم دولة بخفض الإيجار، ولا يستطيع أن يطالب دولًا بتعويض الناشرين، هو مؤسسة أهلية غير فاعلة؛ لأنه بلا سلطة على الحكومات».

وأوضح مسؤول في دار الساقي أن لكل دولة خصوصيتها، ما يجعل كل معرض مختلف عن غيره، «فمعرض الرياض يعاني الناشرون فيه ارتفاع إيجارات أماكن البيع والعرض، إضافة إلى رفض مسؤولي المعرض عرض وبيع نوعيات من الكتب، وهذا يتكرر كثيرًا مع دار الساقي خاصة، أما في مصر فسوء الإدارة والتنظيم هما أبرز المعوقات، إضافة إلى ارتفاع سعر إيجار أجنحة البيع والعرض، لكن في المغرب تعد المشكلة الأكبر والأبرز هي تحويل الأموال؛ إذ إنه ليس مسموحًا به إلا دخول مبالغ ضئيلة، ولا توجد أماكن لتحويل العملة، وهو ما يمثل صعوبة بالنسبة للناشر».

أما خالد الناصر مدير دار منشورات المتوسط، فقال: إن كلفة المشاركة في المعارض أصبحت مرتفعة، «ومن ثم يجب أن تلقى معارض الكتب نوعًا من الدعم، وإلا فإنها ستواجه أزمة كبيرة، في مقدمتها غياب الناشرين، وبخاصة أن القدرة الشرائية لدى الناس ليست كبيرة»، مضيفًا أن المؤسسات الحكومية في البلدان التي تقام فيها المعارض «يجب أن تُقبِل على شراء الكتب، فمن المدهش أن المؤسسات العامة ووزارات الثقافة لا تشتري الكتب لتزويد مكتباتها، إضافة إلى أن مؤسسات الدولة المنظمة للمعرض لا تعمل مع الناشرين القادمين إليها على إنجاز مشروعات ثقافية كبرى، لا أحد يطلب مشاركة الناشرين في شيء»، مشيرًا إلى وجود كثير من القرى والمناطق محرومة ثقافيًّا، وتساءل: «لماذا لا تتعاون الدول مع الناشرين لتقديم كتاب مدعوم أو في طبعة شعبية لأبناء هذه المناطق البعيدة عن المراكز؟». وامتدح الناصر المعارض التي تقام في الإمارات، موضحًا أنها الوحيدة المستثناة من هذه الملحوظات.

وأجمل صاحب دار الأمل السورية عمار كردية الصعوبات التي يواجهها الناشرون في التكاليف المرتفعة لأجنحة البيع، «ما يجبر الناشر على تحميل هذه التكاليف على سعر الكتاب»، لافتًا إلى أن بعض المعارض «تجبر الناشر على الدفع بالدولار والتحصيل من الجمهور بالعملة المحلية، ومن ثم يضطر الناشر في نهاية المعرض إلى تحويل ما تحصل عليه إلى دولار، فيبدو لمن لا يعرفه كأنه يتاجر في العملة». وذكر كردية أن من المشكلات المهمة منع الكتب من العرض، «وبخاصة أن هذه الكتب تكون قد وصلت بالفعل إلى دولة المعرض، وهو ما يشكل أزمة للناشر ومزيد من التكاليف التي توضع على الكتاب». وأوضح أن الناشرين السوريين «لديهم أزمة في استخراج تأشيرات الدخول، التي قد تُلغَى لأسباب أمنية في أي وقت ولأي سبب، حتى بعد شحن الكتب نفسها». وذهب إلى أن التزوير وعدم مساعدة الحكومات للناشرين، عبر إلغاء رسوم إيجارات أماكن العرض، من كبرى المشكلات التي تواجه الناشرين الآن.

رئيس‭ ‬الاتحاد‭:‬‭ ‬ ملاحظات‭ ‬الناشرين‭ ‬ليست‭ ‬حقيقية

محمد رشاد

محمد رشاد

رفض رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد ملاحظات الناشرين على الاتحاد، وقال: إنها غير حقيقية، وعدد جملة مما عدَّه إنجازات مهمة قام بها الاتحاد، «من بينها أن اللجنة العربية لحماية حقوق الملكية الفكرية تمنع أي ناشر من المشاركة حال ثبوت قيامه بالسطو على حقوق الملكية الفكرية لغيره»، مضيفًا أنه منذ شهرين «اجتمع كل الناشرين العرب في مؤتمر نظمه الاتحاد بالشراكة مع مكتبة الإسكندرية واتخذ العديد من القرارات المهمة، ومنها ألا يزيد إيجار المتر في أي معرض عن مئة وعشرة دولارات، وأن يُخفَّض إيجار المتر 50% لكل من ناشري سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين لظروفهم السياسية، وأن يكون الاتحاد شريكًا في تنظيم المعارض. وهذا بدأ مع معرض القاهرة في يناير الماضي، إضافة إلى تخفيف الإجراءات الرقابية على الكتب، ومنح تأشيرات الدخول كلَّ من يطلب الاتحاد دخولهم». وأكد رشاد أنه لكي يكون للاتحاد صوت مسموع «فلا بد أن يلتزم الأعضاء أنفسهم بقراراته».

معرض يستعيد تراث الرواد 1938-1965م السورياليون المصريون: حين يكون الفن حرية

معرض يستعيد تراث الرواد 1938-1965م السورياليون المصريون: حين يكون الفن حرية

%d9%81%d9%88%d9%94%d8%a7%d8%af-%d9%83%d8%a7%d9%85%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%84%d9%85

«الحلم» لفؤاد كامل

لم تكن السوريالية مجرد مدرسة فنية ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، لكنها كانت حركة احتجاج فكري وفلسفي وفني وأدبي على ما انتاب العالم من ركود وتصورات ثابتة أدت به إلى الحرب العالمية الأولى، وأخذته إلى الحرب العالمية الثانية، ومن ثم كان بيان مؤسس السوريالية أندريه بريتون مبنيًّا على تصورات عالم النفس سيغموند فرويد الذي اهتم برمزية الأحلام، والبحث في مكنونات العقل الباطن، وتصوراته عن الجسد، وكيفية انطلاق رغباته المكبوتة في منطقة بين الوعي واللاوعي، فضلًا عن الانحياز الواضح للطموح الشيوعي، ورغبته في بناء عالم بديل للهيمنة الرأسمالية وسدها لأفق الأحلام، ومن ثم كان لفرويد وتروتسكي حضورهما القوي في مخيلة بريتون وهو يضع في باريس بيانه الأول عام 1927م، ليصبح البيان التأسيسي لحركة الرفض العظمى المسماة بالسوريالية.

على الجانب الآخر من البحر المتوسط كان جورج صادق حنين، ابن الدبلوماسي المصري صادق حنين، المولود عام 1914م يفكر مع والدته الإيطالية في الذهاب إلى فرنسا لإكمال تعليمه هناك، فحصل على الشهادة المؤهلة للجامعة من باريس، والتحق بالسوربون حاصلًا على ثلاث شهادات في القانون والآداب والتاريخ، ومتابعًا لمختلف الأفكار التي تجتاح أوربا في ذلك الوقت، بدءًا من الشيوعية، وصولًا إلى الدادية التي لم تستمر طويلًا، لكن من رحمها جاءت السوريالية، ففي عام 1933م انضم إلى جماعة «محاولين» ناشرًا مقاله الأول تحت عنوان «العالم بلا روح» في مجلتهم «آن إيفور»، وفي عام 1935م أصدر بيانه «من اللاواقعية»، وفي هذا العام تعرف إلى رواد الحركة السوريالية، وأرسل خطابه الأول لأندريه بريتون، وفي عام 1936م نشر في مصر بمجلة «لو رينت» مقالته «السوريالية في الميزان»، وهي أول تأسيس معرفي للسوريالية لدى المثقفين المصريين والأجانب المقيمين بها. وفي عام 1937م كون جماعة «الفن والحرية» التي كان من أعضائها كامل التلمساني، ورمسيس يونان، وأنغلو دي ريز، وإدمون جابس، وإيميل سيمون وغيرهم، وفي عام 1938م أصدر ديوان «لا معقولية الوجود»، وفي العام نفسه وصف أدولف هتلر الفن الحديث بأنه فن منحط، فأصدر حنين بيانه «في مديح الفن المنحط»، والذي وقع عليه شعراء وكتاب وفنانون وصحفيون من بينهم: إبراهيم واسيلي، وأحمد فهمي، وإدوارد بولاك، وإدوارد ليفي، وإرمان أنتيس، وألبير إسرائيل، وألبير قصيري، والتلمساني، وألكسندرا ميتشكويفسكا، وإيميل سيمون، وأنغلو بولو، وأنغلو دريز، وأنور كامل، وأنيت فديدا، وبوليتس، وكانتي، وجرمين إسرائيل، وجورج حنين، وحسن صبحي، ورافو، وزكريا العزوني عضو نقابة المحامين، وسامي رياض، وسامي هانوكا، وإسكاليت عبدالخالق العزوني، وفاطمة نعمت راشد، وسيف الدين،  ومحمد نور، ونداف سيلير، وهاسيا، وهنري دوماني.

التجلي الأعلى للتواصل مع العالم

%d8%b1%d9%85%d8%b3%d9%8a%d8%b3-%d9%8a%d9%88%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%80-%d9%85%d8%b4%d9%87%d8%af-%d8%b7%d9%88%d8%b7%d9%85%d9%8a

«مشهد طوطمي» لرمسيس يونان

تأسست السوريالية في مصر، بوصفها التجلي الأعلى للتواصل مع العالم فنيًّا وفكريًّا، فضلًا عن الرغبة في الثورة، ليس فقط على الاحتلال، والقوى العظمى، والرأسمالية المتوحشة، والإقطاع المستوطن ربوع الريف، ولكن الثورة على كل ما هو ثابت ومعتاد ومستقر. وعلى رغم أن جماعة الفن والحرية لم تعمر طويلًا، فإنها تركت أثرها في خيال كثير من المبدعين المصريين وفكرهم، فعلى غرارها جاءت العديد من الجماعات، كان من أبرزها في الخمسينيات والستينيات جماعة الفن المعاصر. وبالرغم من أن السوريالية كمدرسة فنية لم تعمر مدة طويلة، فقد انتهت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أنها بمغازلتها الأجواء النفسية الباطنية، وما يمثله الحلم من قيمة نفسية، فقد ظلت ممتدة من ثلاثينيات القرن حتى الستينيات، كما ظلت آثارها في العديد من الفنانين المصريين كأحمد مصطفى، وذلك في مقتنياته القليلة في السبعينيات، قبل أن يغادر مصر ويتحول إلى أبرع فناني الخط في العالم.

في محاولة لاستعادة تراث السورياليين المصريين، وعرضه لرواد الفن ومحبيه في كثير من البلدان العربية، جاءت فكرة معرض «حين يصبح الفن حرية: السورياليون المصريون 1938ـ 1965م» الذي افتتحت الحلقة الأولى منه في قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية بحي الزمالك، في المدة من 28 سبتمبر حتى 28 أكتوبر 2016م، والمقرر له أن ينتقل إلى عدد من العواصم والمدن قبل أن يختتم جولته في المباني الفنية لمؤسسة الشارقة للفنون عام 2018م.

ضم المعرض أكثر من مئة وخمسين عملًا لكل من: رمسيس يونان، وراتب صديق، وسمير رافع، وحسين فوزي، وكامل التلمساني، وفؤاد كامل، وإنجي أفلاطون، ومحمود سعيد، وكمال يوسف، وإيمي نمر، وحامد ندا، ومنير كنعان، وأحمد مرسي، وعبدالهادي الوشاحي، وعبدالهادي الجزار، وإبراهيم مسعودة، وأحمد مصطفى، وصلاح طاهر، وإسماعيل محمد، وعطية حسين، ومحمد رياض سعيد، ومحمد القباني، وسالم عبدالله الحبشي، وباروخ، وكارلو ديس ديرو، وأريستد بابا جورج.

%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%b1-%d9%80-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ac%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b7

«الرجل والقط» للجزار

وجاء هذا المعرض كثمرة تعاون بين وزارة الثقافة المصرية ومؤسسة الشارقة للفنون والجامعة الأميركية في مصر، وذلك بعدما عقدت الجامعة الأميركية عام 2015م مؤتمرًا دوليًّا عن السورياليين المصريين بعنوان «السورياليون المصريون من منظور عالمي»، ومن ثم طرحت مؤسسة الشارقة فكرة إقامة معرض متجول للسورياليين المصريين ووافقت عليه وزارة الثقافة، ومن ثم اختيرت اللوحات المعروضة من بين مقتنيات متحف الفن المصري الحديث، ومتحف إنجي أفلاطون، ومتحف الإسكندرية للفنون الجميلة، ومتحف الإسكندرية للفن الحديث، ومتحف محمود سعيد، ومؤسسة بارجيل للفنون بإمارة الشارقة، فضلًا عن مقتنيات خمس أسر مصرية. وقد افتتح المعرض كل من وزير الثقافة المصري حلمي النمنم، والشيخة حور القاسمي رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون، وكان من المفترض أن تصدر مع المعرض عدة أعمال توثيقية كصور وملصقات وكتالوجات لمعارض ومقتطفات من صحف ومجلات وبيانات موثقة، فضلًا عن طبعة جديدة ومترجمة إلى الإنجليزية من كتاب سمير غريب «السوريالية في مصر»، لكن ذلك لم يحدث.

انتقادات

لم يكن عدم صدور المطبوعات المصاحبة للمعرض هو الانتقاد الوحيد الذي وجه للقائمين على التنظيم، فقد تساءلت الناقدة التشكيلية فاطمة علي عن دور النقاد والفنانين المصريين في التنظيم الذي استأثرت به مؤسسة الشارقة، رافضة فكرة أن تتيح مصر كنوزها الفنية كي تتجول في الخارج، كما رفضت تبرير رئيس قطاع الفنون التشكيلية الدكتور خالد سرور بعرض كل هذا العدد من اللوحات والأعمال الفنية عالية القيمة خارج مصر في معرض متجول بأن ذلك أفضل من تركها في المتاحف المغلقة، متسائلة عن وظيفته رئيسًا للقطاع «في ترك متاحفنا مغلقة، وهل يجوز أن يكون البديل هو الدخول في شراكة غير عادلة مع مؤسسة الشارقة التي قامت بالاختيار والتنظيم والإعداد للعرض، حتى إننا لا نعرف الأماكن أو القاعات التي سيعرض بها، ولا ما إذا كانت مجهزة ومؤمنة لعرض مثل هذه الكنوز أم لا؟». وتساءلت عن الأسباب التي جعلت منظمي المعرض يضربون بعنوانه «السورياليون المصريون من 1938م حتى 1965م» عرض الحائط، عارضين أعمالًا لفنانين في أزمنة لاحقة، فضلًا عن عرضهم أعمالًا لفنانين تلاقت أفكارهم مع السوريالية، لكنهم ليسوا سورياليين، كمنير كنعان، وعبدالهادي الوشاحي، وغيرهما.

في الجانب الآخر ذهب أستاذ الفن في جامعة غولدوين سميث الدكتور صلاح حسن الذي حضر وشارك في التنظيم والافتتاح إلى أن هذا المعرض يجيء بالتزامن مع تصاعد الاهتمام بالسوريالية المصرية وتراثها، وأن المعرض «يمكننا من التأكيد على مفهوم الحداثة والطرق المختلفة للتعبير عنها، وعلى صيغ التعدد والتجاور بدلًا من نفي الحداثة التي أنتجت خارج المركزية الأوربية». ويذهب حسن إلى أن السوريالية المصرية بدأت بجماعة الفن والحرية، ومن بين أعضائها كامل التلمساني، وفؤاد كامل، وإبراهيم واسيلي، وسامي رياض وغيرهم، هذه التجربة قصيرة الأمد التي تركت أثرها الواضح في كثير من الفنانين المصريين حتى ظهرت جماعات أخرى، مثل جماعة الفن المعاصر في الخمسينيات والستينيات، ومن بين أعضائها عبدالهادي الجزار، وكمال يوسف، وحامد ندا، وماهر رائف، ومنير كنعان، وسالم الحبشي، وسمير رافع، وإبراهيم مسعودة، وحسين يوسف أمين.