الصحافة السعودية: الحاجة إلى عقلية استثمارية مختلفة  وتعزيز مواقعها الإلكترونية

الصحافة السعودية: الحاجة إلى عقلية استثمارية مختلفة وتعزيز مواقعها الإلكترونية

مازن السديري

الجميع ليس متفائلًا على الإطلاق: كُتاب، ورؤساء تحرير، ومحررون، وأعضاء مجلس إدارة. غالبيتهم تُكرر الجملة الآتية: المستقبل مظلم جدًّا، والآثار الأكثر إيلامًا لم تأتِ بعد. ليس غريبًا أن تكون الصحف الورقية محليًّا وعالميًّا على حافة الفناء، لكن الأكثر غرابةً هو أن تلك الأرباح الكبيرة التي كانت تجنيها بعض الصحف، وقد تصل أحيانًا إلى نصف مليار ريال سعودي في العام لصحيفة واحدة، أصبحت هذه الأرباح مثل اللبن المسكوب الذي لم يستفد منه؛ لقد كان من الأجدر لهذه الصحف الثرية أن تُخضع بعض تلك الأموال الضخمة للاستثمار؛ كي تبني مستقبلًا صحفيًّا أكثر اطمئنانًا وأمانًا، عوضًا عن مواجهة مصير مأساوي مثل الذي تواجهه اليوم، لكن ما الذي منع الصحف الثرية من الاستثمار؟

المحلل الاقتصادي وابن أحد أكبر رؤساء التحرير في المملكة مازن السديري، ليس متفائلًا أمام واقع الصحف ومستقبلها محليًّا، وأكد في حديث لـ«الــفيصل» على أنه لا أحد يمكنه إنكار أن الصحف الورقية حاليًّا في أزمة على المستوى الماليّ؛ «إلا أن ما يميز بعضها مثل «الرياض» مثلًا، هو توافر السيولة المادية لديها التي تستطيع أن تستخدمها في أي وقت، وهذا غير متاح لكثير من الصحف الورقية»، مشيرًا إلى أن الأزمة التي تعانيها الصحف في الوقت الراهن ليست فقط أزمة غياب المُعلِن، «إنما أزمة على مستوى تنويع مصادر الدخل لتلك المؤسسة الصحفية، وإن كان هذا التنويع على مستوى مصادر الدخل كان حاضرًا في بعض المؤسسات الصحفية إلا أنه أيضًا لم يجد نفعًا كما حدث مع صحيفة «اليوم»، لقد كان أعضاء مجلس إدارتها هم في الأساس من رجال الأعمال وأصحاب تفكير استثماري؛ ففي الماضي القريب كان هناك حقائب اقتصادية استثمارية لها خارج إطار الإعلان، إلا أنها حاليًّا تعاني ما تعانيه الصحف المتبقية لكن بألم أقل».

السديري الابن لفت أيضًا إلى أن بعض الصحف «فكّرت في الاستثمار على مستوى شراء مطابع جديدة مثلما فعلت مثلًا «صحيفة الجزيرة» إلا أن هذا الاستثمار يعد هدرًا ماليًّا، ويعبر عن غياب عقلية تقرأ مستقبل الإعلام الورقي بشكل حقيقي!». ويقول: إن هناك بعض الصحف حاليًّا تحتاج إلى الإنقاذ المبكر؛ نظرًا لقرب موتها كصحيفة «الوطن» تليها «الشرق»، مؤكدًا أن الصحف «تحتاج فعلًا إلى عقلية استثمارية مختلفة؛ وأن ما يعنيه ليس الاستثمار على مواقع التواصل الاجتماعي أو الحسابات التويترية، إنما استثمار مختلف بمعنى إبداعي وحقيقي يخلق أُفقًا جديدًا».

تفكير ذو أفق قصير

عبدالله الكعيد

من جهته، يقول الكاتب الصحافي عبدالله الكعيد الذي كان يكتب في صحيفة الرياض، وخرج منها غاضبًا بعد سلسلة من التغريدات كتبها على حسابه الخاص: إن الإشكالية الحقيقية تكمن في مجالس إدارات هذه الصحف، «إنها لم تكن تفكر أصلًا على المدى البعيد؛ بل إن الجميع كان تفكيره ذا أفق قصير ولم يتجاوز كيفية تسويق الصحيفة على مستوى الإعلانات لدى المعلن». ويضيف الكــــــعيد لـ«الفيصل» أن مجالس الإدارة «لم تكن تأبه بمصير الصحف التي تقوم بإدارتها، لقد كان من الأجدى استثمار الأموال من الاحتياطيات التي تمتلكها هذه الصحف والموضوعة للتطوير وللأزمات، عوضًا عن أن يكون بعض من هذه الصحف ليس لديه الآن أرباح ولا استثمار»، موضحًا أن غالبية أعضاء مجالس إدارات تلك الصحف، جلّ ما يستطيعون فعله هو انتظار الأرباح «لإيداعها في حساباتهم الخاصة، ومن ثم يذهبون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين. مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة المنتخب من الجمعية العمومية؛ من النادر أن يكون رجلًا اقتصاديًّا إنما هو مجرد إداري يدير مؤسسة فقط كغيره من المديرين في القطاعات الحكومية المختلفة! لا يوجد هناك أحد يفكر في الاستثمار في المعرفة الإعلامية رغم أهميتها، وهي بحاجةٍ إلى أُناسٍ متخصصين يفهمون كيف يستثمرون ويطوّرون تلك الصحف؛ كي لا تواجه أزمة مخيفة كما يحدث اليوم. كان رئيس التحرير في السابق هو من يدير المؤسسة وهو في الغالب يفتقر لعقلية صناعة المال!!».

حلول لا إنسانية

عبدالوهاب الفايز

رئيس التحرير السابق عبدالوهاب الفايز كان تعليقه مقتضبًا على ما يحدث من أزمة للصحافة الورقية؛ إذ قال لـ«الفيصل»: «من يديرون المؤسسات الصحفية الورقية لم يكونوا يستثمرون الأرباح السابقة، وهذا هو الذي دمّر الصحف. إنهم يأخذون الأموال ويضعونها في جيبوهم، وهو ما جعل مستقبل الصحف مخيفًا وخطرًا، وما سيترتب على ذلك يحتاج إلى حديث طويل، وتفنيد واستقراء يصعب اختصاره».

في حين أوضح نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ هاشم الجحدلي أن المشكلة التي تحدث الآن في الصحف «ليست من المُلَّاك وحدهم. يجب أن نعرف أن العقلية التجارية نفسها ما كانت عقلية استثمارية حقيقية، ومن ثم كان رئيس التحرير يريد مزيدًا من المكاتب لمحرريه، وتوزيع مكافآت للكُتاب مبالغ فيها، إلى جانب استكتاب كُتاب مجاملَةً، إضافة إلى تشييد مبانٍ هائلة كأن الصحف وزارات أو إمبراطوريات، كل ذلك أسهم في تفاقم المشكلة؛ من ناحية زيادة المصاريف؛ ففي عكاظ مثلًا كانت أرباح إحدى السنوات نحو 500 مليون ريال، وخُصم نحو 400 مليون ريال مصاريف على المنشآت التي قامت ببنائها والمكاتب التي أسستها».

وأشار إلى أن القائمين على الصحافة الورقية «كانوا يضعون في تفكيرهم أن خصمهم الوحيد والأوحد هو الصحف الإلكترونية؛ لذلك أخذوا بجهد وتكاليف قليلة استقطاب عقليات تقنية لإنشاء مواقع متطورة؛ كي يدخلوا في منافسة مع المواقع الإلكترونية، والذي حدث هو عكس ذلك تمامًا»، مؤكدًا أن الصحف الإلكترونية «هي نفسها أصبحت في المأزق نفسه؛ لأن الضربة أتت من مواقع التواصل الاجتماعي وليس من بدائل الصحف الورقية مثل المواقع الإلكترونية المتخصصة في الجانب الإعلامي». ويقول الجحدلي لـ«الفيصل»: إن خصم الصحافة الورقية الآن «هو خصم متجدِّد ومتغيرٌ، والصحف الورقية بكوادرها القيادية يجب أن تواجه المشكلة، وأن تعيد تكييف المصاريف، وأن تكون الحلول المقدمة حلولًا متّزنة وواقعية وليست حلولًا لا إنسانية، مثل فصل المحررين الذين أتت بهم الصحيفة وقدمت لهم عروضًا ماليةً مغرية وهم في السابق كانوا في وظائف أخرى».

وذكر أن إعادة تكييف المصاريف والروافد الأخرى يمثل أحد الحلول المهمة، علمًا بأن الإعلان لا يزال وسيزال قائمًا، وهو ركيزة أساسية من ركائز التجارة.

الحل الآن وفق رأي نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ، يجب أن يكون حلًّا بالشراكة، بمعنى أن يكون الإعلان الحكومي حاضرًا ومدعومًا، وأن تكون هناك مطابع تقام بالشراكة عوضًا عن أن تقوم كل صحيفة بإنشاء مطبعتها الخاصة التي تكلف الكثير من الأموال.

قينان‭ ‬الغامدي‭:  تواضع‭ ‬المضمون‭ ‬وراء‭ ‬انصراف‭ ‬القراء

قينان الغامدي

أفضل ما يمكن أن تفعله الصحافة الورقية في هذه الظروف أن تعزز مواقعها الإلكترونية، وتسلك في ذلك سبيل الصحافة العالمية النابهة التي تنمو بصورة سريعة إلكترونيًّا في مقابل استمرار هبوط توزيعها الورقي. هذا جانب والجانب الآخر هو ضرورة الاعتناء بالمضمون؛ إذ هو البطل بغض النظر عن وسيلة الإعلام سواء كانت ورقية أو إلكترونية.

تستطيع الورقية أن تواكب الحدث محليًّا وعالميًّا من خلال موقعها الإلكتروني، وتركز على الرأي والتحقيقات الاستقصائية وما وراء الأحداث في نسختها الورقية، حتى إذا حان موعد إيقاف الورق تنتقل الصحيفة بكاملها إلى وسيلة النشر الإلكتروني، وهي بكامل قوتها ولياقتها وحضورها.

الصحافة الورقية أضاعت حتى الآن زمنًا طويلًا من دون عناية بمواقعها الإلكترونية، ولا ننس تواضع المضمون الذي دفع القارئ إلى الإشاحة عنها والتحول إلى وسائل أقوى مضمونًا وأسرع توصيلًا. ولا أظن أن هناك اختلافات جوهرية كبيرة بين الصحف العربية والخليجية والسعودية، فهي في المستوى نفسه تقريبًا من حيث الرتابة وعدم الالتفات للقفزات التي تحدث من حولها في مجالات وسائل التواصل والصحف الإلكترونية.

صحافي وكاتب سعودي

محمد‭ ‬التونسي‭: ‬ليست‭ ‬الحال‭ ‬سيئة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد

محمد التونسي

ثمة فرص، وليست فرصة واحدة، لتحافظ الصحافة الورقية على علاقتها بالقارئ والمعلن معًا. المحتوى سيد الموقف، به تنهض الوسيلة أو تقع، ليست الحال سيئة إلى هذا الحد بالنسبة للصحف الورقية، فالمعلن لا يزال يثق بها، والقارئ يبحث عنها. الفارق الآن هو هامش المنافسة الذي خلقته وسائل التواصل والمنصات الإلكترونية التي تتفوق بالسبق الخبري، لكن الأشكال الصحفية الأخرى لا تزال حية وقادرة على إيجاد مكان لدى القارئ. وإن كان من فكرة غير المحتوى لتجويد المنتج، فهي بلا شك الحافزات البصرية في الإخراج، والصورة، والإنفوغرافيكس، إلى جانب ربط الورق بالمنتجات الإلكترونية الأخرى للوسيلة.

‎لم تنتهِ الصحافة الورقية بعد لنتحدث عنها بصيغة الراحلة، وإن كانت بعض الصحف تمادت في اعتقادها بعدم وجود منافس، وهو ما أثر في أرقام التوزيع، لكنها حتى اللحظة لا تزال لاعبًا أساسًا في الإعلام. ‎القارئ الواعي موجود في كل بقعة من العالم، وهو ما تراهن عليه الوسيلة الإعلامية، تتشابه الوسائل ويتقاطع بعضها مع بعض، لكنها تختلف وفقًا لشكل المحتوى جغرافيًّا. النسخة الورقية من الصحف صارت متاحة للقارئ في أقاصي الأرض، وهو ما يحفز على البحث عن فرص في أسواق مختلفة. تبقى الصحافة السعودية المساحة الأوسع نظرًا للتنوع المجتمعي والجغرافي قياسًا بنظيراتها في الخليج، التي بذاتها أكثر استقرارًا من الصحافة العربية التي تخضع للمزاج السياسي، في حين يشترك جميعها في إشكالية التمويل، وإيجاد منافذ جديدة للاستثمار والربح.

رئيس تحرير صحيفة الرؤية الإماراتية

خالد‭ ‬الفرم‭: ‬الصحافة‭ ‬السعودية‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬الإدارة

خالد الفرم

أولًا لا بد من الإشارة إلى أن المقياس الرئيس في تقييم أي وسيلة إعلامية هو معدل التوزيع، ولا شك أن متغيرات المشهد الإعلامي والتقني أثرت بشكل كبير  في  توزيع الصحف السعودية التي تراجع  توزيعها إلى أكثر من ٥٠٪  كما فقدت أكثر من ٦٠٪ من  مداخيلها الإعلانية، والأهم من ذلك هو حاجة المجتمع إلى نظام إعلامي فاعل، يحقق وظائفه الرئيسة، نحو توفير المعلومات وربط المجتمع بعضه ببعض وتعزيز الثقة، فنقص المعلومات في النظام الإعلامي يسهم في انتشار الشائعات والقلق الاجتماعي وحالة عدم اليقين، ومغادرة الجمهور نحو الإعلام البديل بعيدًا من الإعلام الوطني. الصحافة  الورقية تواجه تحديات عدة، ليست بسبب سطوة التقنية وهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي، بل بسبب هشاشة البنى الصحفية، وتغير اقتصاديات الإعلام، وضعف إدارة المؤسسات الإعلامية، وبخاصة مع غياب الصحافة الاستقصائية، وهيمنة الأداء التقليدي في السياسات التحريرية للصحف الورقية التي تنتظرها تحديات الإفلاس وشبح الإغلاق خلال سنوات معدودة. والتوجهات الحديثة في صناعة الصحافة المعاصرة هي التركيز على الصحافة الاستقصائية، والتحول نحو التخصص بالمعنى الجغرافي والموضوعي، وكذلك الاستثمار في الإعلام الجديد من خلال دمج المنصات وغرف الأخبار.

الصحافة السعودية أضاعت على نفسها فرصة تأسيس صناعة صحافية وإعلامية راسخة، فسقطت في فخ الجمود والفردية في إدارة المؤسسات الصحفية، وهو ما أحدث  تشوهات حادة في أداء المؤسسات الصحفية التي انعكست سلبًا على الصحفيين الذين هم العنصر الرئيس في العملية الإعلامية، وكذلك انعكست على الأداء والمنتج الصحفي.

هناك تشابه بين الصحف السعودية والخليجية والعربية في التحديات، واختلاف في المعالجات، فالكثير من المؤسسات الصحفية الخليجية أو العربية مؤسسات إعلامية شاملة، تمتلك قنوات وصحفًا وإذاعات ومواقع إلكترونية ومطبوعات متعددة، ومن ثم فهي سلَّة من الاستثمارات الإعلامية، وهو ما يتيح لها هامشًا كبيرًا من الحركة بالمعنى الإعلامي والاقتصادي، بعكس الصحف السعودية أحادية الاستثمار والمنتج.

أكاديمي وإعلامي سعودي

أحمد الجنايني: مهمتنا ألا يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي

أحمد الجنايني: مهمتنا ألا يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي

لا تكاد تشعر به، لكن أثره موجود في كل مكان، تراه في مقدمة صفوف الفنانين التشكيليين، حيث يشغل منصب رئيس مجلس إدار أتيليه القاهرة للفنانين والأدباء، هذا المكان الذي أسسه المصور المصري الكبير محمد ناجي عام 1953م، ليصبح منارة ثقافية تدافع عن التشكيل والأدب معًا، إنه الفنان المصري أحمد الجنايني (1954م) الذي تتلمذ على يد الفنان المصري الكبير حامد عويس عام 1978 – 1979م، وبعدها درس الفن في ألمانيا في المدة 1980 : 1981م، وكتب الشعر والرواية، وصمَّم أغلفة العديد من سلاسل الكتب، وأنشأ دار نشر، ورأس تحرير مجلة «الخيال» المعنيَّة بالفنون البصرية، وهو القائل: إن تاريخ مصر التشكيلي في خطر. «الفيصل» حاورته حول تجربته إضافة إلى قضايا أخرى.

مارسْتَ الفن التشكيلي والشعر والكتابة الروائية؛ فما رؤيتك الأساسية للفن؟

كنتُ واضحًا منذ البداية مع نفسي في أنه لا يوجد غرف مغلقة للصنوف الإبداعية، لكن كل الإبداعات تشكيلية أو موسيقية أو شعرية أو مسرحية،… جميعها يشتبك معًا، كان هذا عمود أستند إليه في رؤيتي لمشروعي الإبداعي، كما أن مثلث الإبداع لا بد أن يكون موهبة – خبرة – ثقافة، وأنه لا يمكن حذف أو إلغاء أي من العناصر الثلاثة، ولا يمكن أن يقدَّم عمل إبداعي بضلعين من دون الثالث.

لا تنتمي اللوحة لديك إلى سياق مدرسة فنية بعينها، وربما تكون مزيجًا من مدارس مختلفة، فما المؤثرات التي تدفعك لذلك؟

ممارسة العمل الإبداعي تشكيليًّا تعتمد على ماهية اللغة البطل، وماهية لغة التشكيل هي اللون – الخط – الكتلة – الفراغ – المساحة. أي جميع العناصر المرئية بصريًّا، لذا سيكون البطل دائمًا بصرِيًّا، رغم إمكانية اشتباكه مع الموسيقا أو الشعر. وبالنسبة لي فإنني أعتمد الجسد الإنساني، أو بمعنى أدق، الإنسانَ بطلًا للغتي التشكيلية، أحمله بكل المضامين التشكيلية سواء أكانت لونًا أو خطًّا أو مسافةً أو كتلةً أو فراغًا، لكن الهم الإنساني يكون حافزًا لطاقتي التشكيلية، وأنا ممن يؤمنون بموسيقا اللون، وبالتالي فإن لغة اللون عندي تعتمد كلية على فهمي الواعي للعلاقات اللونية سواء أكانت التضاد أو الهارموني أو غيرهما، المهم عندي أن أرى الموسيقا من خلال اللون، وهذا يمنح العمل جاذبية للتلقي، ويأخذ المشاهد إلى أبعاد أخرى ترتبط جميعها رغم مضامينها المختلفة بجماليات المشهد، ولكي أحقق هذا كان لا بد لي أن أمارس التشكيل بعيدًا من صناديق المدارس التشكيلية الجاهزة، فأنا أومن بحرية التعبير وحرية استخدام الفنان للغته الخاصة؛ إذ ليس من الضروري أن يكون واقفًا داخل صندوق مدرسة معينة، ويغلق على نفسه هذا الصندوق، من هنا كانت تجاربي مزجًا بين مدارس تشكيلية مختلفة، فالتجريد امتزج بسوريالية اللون، والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد، وهكذا.

كيف تشكلت الذاكرة البصرية لدى أحمد الجنايني؟

أنا ابن قرية تنام في حضن النيل، حيث فرع دمياط؛ لذا فمنذ طفولتي كنت أشكل الطمي وأتعامل مع مفردات النهر ومفردات الطبيعة بوصفها المخزون الوجداني والثقافي والبصري، ورغمًا عني مارست ذلك من دون أن أفهم ذلك بوعي، ابن القرية الذي رسم بالطبشور على جدران المنزل وأبواب الغرف، وتعامل في «حصة» التربية الفنية في المرحلة الإعدادية مع الطبيعة، حيث كان يطلب منا مدرس الرسم على السبورة أمام الزملاء، وهذا ما شجعني على ممارسة التشكيل.

هناك جانب آخر مهم وهو مكتبة أخي الأكبر التي كانت تضم كتبًا مهمة منها كتاب التشريح للفنانين -مؤلفه يوجن وولف- الذي استفدت منه كثيرًا في المراحل الأولى من تكويني، فإذا أضفنا ذلك إلى حكايات القرية وألعاب الأولاد والبنات الشعبية التي كنا نمارسها بحب وفرح رغم ظلمة الشوارع التي لم تكن تعتمد إلا على المصابيح النفطية في ذلك الوقت، كل هذا شكَّل جزءًا كبيرًا من ذاكرتي البصرية.

مارستَ فن تصميم الأغلفة لعدد من سلاسل الكتب، فإلى أي مدى أسهم الكمبيوتر وما أتاحه من خيال جديد وبرامج عديدة في تشكيلك اللوحة وعالمها؟

لا تربطني أي علاقة بما نسميه فن الكمبيوتر أو العمل الفني من خلال الكمبيوتر، أنا أمارس الفن التشكيلي بأطراف أصابعي معتمدًا اللون بمختلف خاماته، سواء أكانت زيتية أو أكريلِك أو ألوانًا مائية، وأنا من الفنانين الذين لا يؤمنون بتحضير اللوحة من خلال رسم إسكتشات ثم بعد ذلك نقل الإسكتش ليكون لوحة، أنا أومن منذ بداياتي بأن الشخصية الأولى هي اللوحة؛ لذلك تكون علاقتي مباشرة مع سطح اللوحة، من دون الاتكاء على عمل إسكتشات، ضربة الفرشة الأولى في اللوحة هي بمنزلة الطلقة الأولى التي تفتح لي سردابًا لا أعرف ما الذي يسكنه، لكنني أعرف تمامًا أنني لا بد أن أعبُر من هذا السرداب، هذه هي علاقتي الحقيقية بالعمل التشكيلي.

كيف ترى واقع الحركة التشكيلية في مصر الآن؟

الحركة التشكيلية يشوبها الكثير من العلاقات التي غيَّبت المفهوم الحقيقي للإبداع، وأقصد بها علاقة وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام بمفهوم التشكيل والثقافة البصرية وأهميتهما، لقد اختلطت هذه المفاهيم عند القنوات الثلاث، فغابت المفاهيم الحقيقية في المراحل التعليمية، وهمشت في الثقافة، وتكاد تكون ألغيت في الإعلام، وبالتالي فهذه الجزر المنعزلة والمنوط بها رفع مستوى الثقافة البصرية لا تقدم شيئًا حقيقيًّا لتنمية الثقافة البصرية، ولم يعد بالإمكان القبض على مفاهيم جمالية تقدم على أرضية حقيقية للمواطن العادي، ومن ثم انفصل المجتمع بكليته عما يسمى الفن التشكيلي، وبالتالي فالفنان التشكيلي الحقيقي لا يستطيع في المجتمع المصري بل العربي ككل أن يمارس حياته بصفته فنانًا، ممارسة الفن لن تكون داعمة له لممارسة حياته بشكل طبيعي، من ناحية أخرى، وهي الأهم، إنه لكي تُقدِّم عملًا إبداعيًّا من خلال كونك فنانًا لا بد أن تمتلك رؤية لهذا العمل، وهذا ما نفتقده في كثير من الأحوال، نحن في حاجة ماسّة إلى الثقافة الإبداعية سواء أكانت إبداعًا أو ممارسة.

قلتَ في مقال: إن تاريخ التشكيل المصري في خطر؛ فكيف ذلك؟

التاريخ المصري يضع مصر رغمًا عن أي شيء في مقدمة الدول التي تمتلك تاريخًا إبداعيًّا حقيقيًّا، لكن ما يحدث الآن ربما يؤثر بشكل كبير في هذا التاريخ، حيث إن هناك «لوبي» -وأعني بها معناها الحقيقي- يعمل ضد الفن بتبنِّيه أعمالًا لا قيمة لها؛ كي تكون في سوق المزادات رهانًا على تشويه وتشويش الإبداع. ويتواصل مع ذلك الترويج للأعمال الفنية المزيفة التي شاع التسويق لها، مما أفقد المتاحف الفنية الكثير من هيبتها، فأعمال مزيفة لرموز فنية كبيرة من رواد الفن في مصر منهم: محمود سعيد، وسيف وانلي، والجزار، وحامد ندا وغيرهم، يفقد الفن التشكيلي في مصر مصداقيته وجلاله، وهذه مشكلة كبيرة طرحت وفاحت رائحتها في معرض السورياليين الذي أقيم في قصر الفنون بدار الأوبرا بالتعاون بين وزارة الثقافة وجهات خاصة أتت بكم هائل من اللوحات المزيفة، وحشرتها داخل المعرض فقط لتأخذ مشروعيتها في المزادات التي يقوم بها هذا اللوبي.

بوصفك رئيس أتيليه القاهرة، ما حقيقة الصراع الدائر على المقرّ منذ سنوات؟

بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ مجلس إدارة الأتيليه الأسبق عام 2008م مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة، وهم ورثة ليندا كوهينكا اليهودية، وذلك بعدم دفعهم إيجار المقرّ مدة أربع أو خمس سنوات، على أن يقاضي الورثة مجلس الإدارة ويُستَصدَر قرار من المحكمة بطرد جمعية الأتيليه، وتسليم العقار للورثة، كان هذا أساس المشكلة، وأُوقِفت هذه الإجراءات وعُزل هذا المجلس بقرار من وزارة التضامن الاجتماعي، ثم فصلهم من الأتيليه بقرار من الجمعية العمومية، لكن بعد خمس سنوات تغيرت الخريطة، وفوجئ مجلس الإدارة الحالي بخطابات تَرِدُ إليه من مدير التضامن الاجتماعي تُطالِب المجلس بإعادة الأعضاء المفصولين بوصفهم لم يفصلوا، وبدا المشهد مأساويًّا حين تَكشَّفت خيوط التعاون بين إدارة التضامن وعناصر من المجلس المفصول، لنكتشف أن كل ما تسعى له وزارة التضامن هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه، بحيث يتمكَّن المجلس المعزول من تسليم المقرّ إلى الورثة، وهذا ما وقفنا ضده، وقاضينا وزيرة التضامن ومحافظ القاهرة السابق، ونحن في انتظار حكم القضاء، ولا يهمّنا إلا أن نحافظ على كيان أتيليه القاهرة من أيدي العابثين الذين يسعون لتحويله إلى مركز ثقافي إسرائيلي، أو على أقل تقدير إطفاء شعلته الثقافية التي أسسها المصوِّر المصري الكبير محمد ناجي في مارس 1953م، ولا يؤسفني في نضالنا هذا إلا تخاذل الكثير من المثقفين عن الدفاع عن هذا الصرح وتاريخه، وعلى رأسهم وزير الثقافة الذي لم يحرِّك ساكنًا رغم أنني وضعت الملف كاملًا على مكتبه، لكنه آثر الصمت البليغ.

المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث

المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث

لا تكاد الديانات السماوية الثلاث يختلف بعضها عن بعض في الأطر الأساسية لجميع المؤمنين بها، فجميعها تعامل مع أتباعه بالمنهج نفسه؛ أنهم خير الأمم، وأنها خير الرسالات، وهو ما منحهم نوعًا من التميز عن التابعين لأي من هذه الرسالات الأخرى، لكنه أيضًا وضعهم على طريق التصادم الحتمي مع الآخرين، كما جعلهم يبدون للمتابع من الخارج كما لو أن بعضهم تأثَّر ببعض في حركات الإحياء والعودة إلى الأصول، وفي مقدمتها الحركات السياسية التي قامت على مبادئ دينية.

هذا ما انتهى إليه الباحثان هدى الفيتوري وعبدالرحمن فرحات في كتابهما المهم «التأثير اليهودي على الحركات الإسلامية – الإخوان المسلمون والسلفية الجهادية نموذجان» الصادر حديثًا عن دار أروقة للنشر بالقاهرة.

في هذا الكتاب استعرض الباحثان تاريخ الحركات الإسلامية السياسية، مؤكدين أن التاريخ الإسلامي مليء بالعديد من الحركات السياسية التي قامت على أسس دينية، في مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج في العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة ظهرت الوهابية في الجزيرة العربية، والسنوسية في شمال إفريقيا، والمهدية في السودان، والدهلوية في الهند، لكن هذه الحركات لم تكن الأساس الذي قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات، فقد كان التعانق بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية أساس ظهور جماعات الخروج المتوالية في العصر الحديث، بداية من الجهاد والتكفير والهجرة وصولًا إلى القاعدة وداعش وجيش النصرة، فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت منها هذه الجماعات التكفيرية في سبعينيات القرن الماضي، وما زالت تؤتي أكلها حتى الآن في الجسد العربي الذي تحلل من كثرة الخروق فيه.

الجماعات الأكثر تشددًا

قسم الباحثان كتابيهما ثلاثة فصول: درسا في الفصل الأول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات «الدين» و«الأصولية» و«السلفية» و«الإصلاح»، مقارنين بينها من المنظورين العربي والغربي، ففي الوقت الذي تعارف فيه الغرب أن كلمة أصولية تعود إلى المتمسكين بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، سواء لدى البروتستانت أو الكاثوليك، وهو المفهوم الذي تحول إلى مذهب باسم الأصولية المسيحية في بداية القرن العشرين، وأخذ على عاتقه معاداة المجتمعات العلمانية، فإن المنظور العربي لا يكاد يوجد في معاجمه اللغوية مقابل واضح لكلمة أصولية، وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»، وقد اختلف العلماء في تفسير المصطلح؛ إذ ربط بعضهم دلالته بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي، لكنهم في العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه على الجماعات الأكثر تشددًا.

أما مصطلح السلف فقد قصروه على القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، ومنه جاء مصطلح السلفية التي عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى منابعها الأولى)، ومن ثم فكل ما يعود إلى هذه القرون هو من قبيل السلف، لكن هذا المصطلح لم تظهر بوادره إلا في القرن الرابع الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص على التأويل والقياس والرأي، وكان أولهم الإمام أحمد بن حنبل الذي يُعَد حجر الأساس فيما عرف بالسلفية النصوصية، تلك التي تطورت مع ابن تيمية إلى السلفية العقلانية، ثم جاءت السلفية النجدية على يد محمد بن عبدالوهاب، التي رفضت البدع والخرافات التي طرأت على الإسلام، لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت نوعًا من الحذر الشديد من المدنية ومفرداتها.

في الفصل الثاني رصد الباحثان تطور فكر الإسلام السياسي وجماعاته، بداية من جمال الدين الأفغاني الذي سعى إلى إنجاز عمل سياسي عبر الإصلاح الديني، وقد تأثر به مفكرون كثر في مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بين عباءة الأزهر من جانب وعباءة الفكر الأوربي الذي عايشه مع أستاذه الأفغاني، فقدّم رؤية خرج منها من أراد التقدم على أساس الشك والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسين وعلي عبدالرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم، كما خرج أيضًا المتشددون الذين رأوا في منهج السلف طريقهم القويم، في مقدمتهم الشيخ رشيد رضا الذي فتن به حسن البنا، فظهرت على يديه جماعة الإخوان المسلمين في ظل سقوط الخلافة في تركيا، فغازل البنا الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق الأول بأن يكون خليفة المسلمين، لكن ثورة يوليو التي قامت على أكتاف الشيوعيين والإسلاميين معًا سرعان ما انقلبت على الجميع، فدخل الإخوان السجون وكتب سيد قطب كتابة «معالم في الطريق» الذي استقاه من أفكار أبي الأعلى المودودي في باكستان، هذا الكتاب الذي آمن بأفكاره الكثيرون، فظهرت في مصر جماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والفنية العسكرية وغيرها من الجماعات التي رأت في السبعينيات ضرورة الخروج المسلّح على المجتمع، وانتهى الأمر بظهور جماعة القاعدة في الثمانينيات، ثم وصول الإخوان إلى الحكم في مصر عقب ثورة 25 يناير، لكنهم سرعان ما فقدوه لأخطاء عديدة في التجربة وعدم التماسّ مع أرض الواقع.

في الفصل الثالث سعى المؤلفان إلى إيجاد تماسات بين الديانات الثلاث وأتباعها فيما يخص العمل السياسي القائم على أساس ديني، وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه الحركات، فقد نشأت في البدء كحركة علمانية تسعى إلى إقامة وطن لليهود، وهو الأمر الذي يناقض المعتقد اليهودي بأن الشتات سيستمر إلى أن يظهر المسيح اليهودي ويطهر الأرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأتي القيامة، لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم من الحاخامات والمفكرين اليهود المرتبطين بما جاء في التوراة والتلمود، وساعدت الهولوكوست الصهاينة في التفوق على خصومهم الذين أضعفتهم المحرقة، فتحول المعارضون إلى موالين متشددين، ثم إلى حركات متشددة داخل الإطار الصهيوني، هكذا قامت الدولة الصهيونية، وهكذا تحول الجدل بين العلمانيين والدينيين إلى إقامة دولة تمزج ما بين العلمانية والدين المتشدد في إطار واحد.

الغرب ليس بعيدًا من الأصولية

لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية والأصولية، فقد نشأت البروتستانتية على أساس العودة إلى النص الإنجيلي فقط، ولا حاجة إلى تفسيرات وتأويلات البابوات والكهنة، وانتصر البروتستانت نظرًا لرغبة الأمراء والملوك في تقليص سلطات الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت الثوريين تحولت رؤاهم فيما بعد إلى تكلس حرفي في شرح النصوص والتعامل معها، وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إلى التمسك الحرفي بالنص، وكان الطرح المشترك لدى المتشددين في الديانات الثلاث هو الإيمان بأنهم خير أمة، وأن فكرتهم هي الفكرة الجامعة المانعة، وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات، وأن ما سيأتي هو المهدي أو المسيح الذي سينتصر على الظلم ويقيم العدل، وأن النص ليس بحاجة إلى تأويل أو قياس.

هكذا تشابهت اليهودية مع المسيحية مع الإسلام في البنيات الأساسية المنتجة للمتشددين الراغبين في إحياء أصول الدين، والعودة إلى السلف الصالح، لإقامة دولة العدل القوية، وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد، والرغبة في بعث السلف الصالح من مرقدهم عبر تمثل أقوالهم وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة، لكن ذلك كله لا يقول بأن ثمة تأثيرًا واضحًا من اليهودية والمسيحية في حركات الإسلام السياسي، وإن كان ثمة تشابه في المقدمات والنتائج التي ظهرت مع أتباع كل ديانة.

الاستشراق الجديد..  جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟

الاستشراق الجديد.. جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟

كشف الغزو الأميركي للعراق عام 2001م عن الدور البارز الذي لعبه الاستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة العربية، فعبر عدد من مراكز الأبحاث وأقسام الجامعات ووسائل الإعلام صدَّق العالم أن العراق مقبل على إبادة البشرية. يومها وقف وزير الخارجية الأميركي كولن باول يستعرض أمام مجلس الأمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلًا على مدى تطور البرنامج النووي العراقي، مطالبًا بتشكيل تحالف دولي لانتزاع قوى الشر من مكمنها. هكذا صنعت أفكار برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وجيوش من صحفيين وباحثين عاملين في مضمار ما يعرف بالاستشراق الجديد رأيًا عامًّا بارَكَ احتلال العراق، فضلًا عن إلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات على رؤوس أطفاله وشيوخه.

سهَّلت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الحديثة للمستشرقين الجدد عملهم في إنتاج مزيد من التصورات الخاطئة عن الإسلام ومنطقة العالم العربي، بدءًا من أن انعدام الديمقراطية في الشرق هو الذي أدى إلى خروج الإسلاميين من بلدانهم لتهديد المجتمعات الغربية، مرورًا بأن الحل يكمن في إحلال الديمقراطية الأميركية ووصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم؛ كي لا تتكرر مأساة تفجير بُرجَيِ التجارة العالمي من جديد.. هذه الأفكار روَّجت لإعادة تقسيم المنطقة العربية على أسس طائفية وعرقية، وعجَّلت بخلق جماعات تؤكد وجهة نظر الغرب في الإسلام.

لكن السؤال: ما ملامح الاستشراق الجديد؟ ما الذي يختلف به عن الاستشراق الذي فنده المفكِّر الراحل إدوارد سعيد؟ ما غايات هذا الاستشراق وأهدافه التي أطلتْ برأسها مع احتلال العراق في مطلع الألفية الثالثة؟ أسئلة تطرحها «الفيصل» على عدد من الباحثين والكتاب.

يقول الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه «ما بعد الاستشراق»: إن غزو العراق كشف عن الدور المتنامي لمراكز البحوث والجامعات ووسائل الإعلام الغربية والأميركية في صياغة وعي الجمهور العام وآرائه ومواقفه، كما كشف عن الدور المذهل الذي لعبه الاستشراق الجديد في تكريس صورة نمطية لا سابق لها، وهي جميعها، كما يذكر الربيعي، عناصر أساسية ساهمت في شيطنة مجتمعات بأكملها، من بينها العراق الذي كان قبل غزوه طوال سنوات الحصار الجائر موضوعًا أثيرًا لدى جيل جديد من المستشرقين. ويرى الربيعي أن على العرب الذين أصبحوا موضوعًا دراسيًّا للاستشراق الجديد أن يقدموا تعريفًا دقيقًا لذلك الكم الهائل من الكتب والمقالات والدراسات التي اهتمت بالعالم العربي السياسي والثقافي، ورؤية طبيعة صلتها بما أنتجه الاستشراق القديم الكلاسيكي من مواد شبيهة مماثلة.

محمد عمري: لماذا يكرهوننا؟

لا أعتقد أن الاستشراق الجديد موحّد أو أنه استطاع إنتاج معرفة جديدة حول المنطقة بعد 2011م. وإذا أخذنا الاستشراق الجديد بمعنى الخبرة الأكاديمية في خدمة القرار السياسي الغربي، فأغلب المجهود اتجه نحو كيفية المحافظة على المصالح في منطقة متقلبة. كما تواصل التركيز على ما يسمى بالحرب على الإرهاب ومحاولة إيجاد مواقع للتأثير في واقع متقلب، كسوريا مثلًا. وتدعمت فكرة البحث في سؤال: «لماذا يكرهوننا؟»، وبخاصة في الولايات المتحدة، بالإجابة عنها بعودة الشعبوية وتقديم المصلحة القومية أولًا، كما ظهر في الخطاب الذي أوصل دونالد ترمب للرئاسة. وإلى حد مهم دعم مصير الثورات العربية فكرة الاستثناء العربي وعدم قدرة المنطقة على استيعاب الديمقراطية لدى من كان يحملها قبل 2011م. ولذلك تواصلت الدعوات إلى الحلول الأمنية والتدخل العسكري ومساندة «الحكام الأقوياء» بدلًا من تدعيم الديمقراطية والمراهنة على القوى المعارضة. أما في الغرب فلعل صعود اليمين المتطرف والخطاب المعادي للهجرة، وبخاصة في البلدان الإسلامية، دليل على قوة الفكر الاستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار.

أكاديمي تونسي أستاذ الأدب المقارن بجامعة أكسفورد.

عبد الله الوهيبي: من الاستشراق إلى التسطيح

«الاستشراق الجديد» -وهو مصطلح لا يخلو من غموض؛ لقلة تداوله ولضبابية حدوده- تحوَّل تدريجيًّا لحالة سيولةٍ وتذرٍّ وتفتُّتٍ. ففي الحقبة الاستشراقية التي امتدت قرابة القرنين حتى أواخر القرن المنصرم كان الإنتاج المعرفي الغربي تجاه المشرق يتمحور في الإنتاج في اللغويات والرحلات، ثم تطور لدراسات أنثروبولوجية وسسيولوجية واقتصاد سياسي وغيرها من المنهجيات، وكان ذلك في العموم يصدر عن الأكاديميات الغربية بالدرجة الأولى، ومن المراكز العلمية والبحثية السياسية والمستقلة في مرحلة تالية، ثم مع الانتشار الهائل لشبكات الاتصال الحديثة ابتداء من ذيوع القنوات، ثم الإنترنت، ثم الشبكات الاجتماعية، تحولت المعرفة الاستشراقية لأنواع جديدة تسطيحية وكليشيهات ساذجة يصرح بها «خبير» في الجماعات الإسلامية أو «معلّق» يعمل في مركز راند أو ما شابه، كما صار من السهل مشاركة العربي والمسلم في إنتاج هذه المعرفة، لظروف كثرة الباحثين من أصول عربية في الغرب عمومًا، ولظروف تزايد الهجرة و… إلخ. فالتحول الأحدث في المعرفة المنتجة عن الشرق العربي هي هذه السمة التسطيحية والتفتيتية، فلم تعد الأبحاث الجادة أو الأطروحات العميقة هي المؤثرة أو لها الأولوية في تكوين الصور والمواقف العمومية عن حوادث المشرق وتداعيات الأحداث في المنطقة العربية، بل الخبير/ المعلق/ الصحفي الذي يقدم معرفة للاستهلاك العاجل.

باحث سعودي أصدر كتاب

«حول الاستشراق الجديد – مقدمات أولية»

عمار علي حسن: الاستغراب في مواجهة الاستشراق

الاستشراق هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه، وهو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه… وهو إنشاء استطاعتْ به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق – بل حتى تنتجه، سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وعقائديًّا وعلميًّا وتخيليًّا، حتى أصبح صعبًا على أي إنسان أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلًا متعلقًا به، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل، ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة، يكون فيها الشرق موضعًا للنقاش.

أما «الاستغراب» فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة الغرب، وتفكيك ثقافته وتوجهاته، وفهمها وهضمها، لامتلاك آليات فاعلة للتعامل معها. لكن هذه الدعوة لم تنتج تيارًا عريضًا متدفقًا مثل الذي أنتجه الاستشراق، وهي ليست سوى جهود فردية متناثرة، تضرب يمينًا ويسارًا، بلا هدف محدد، ولا خطة ناظمة. لكنها في كل الأحوال لا تقوم على تشويه الغرب، اللهم إلا في بعض كتابات أتباع التيار الإسلامي، مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب، بل تنطوي في أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثله، والاقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفي العمران البشري، لا سيما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية المغلوطة، وإلا ظل مجرد ترف نخبوي، ورتوش مزيفة، وخطابات علاقات عامة، تظهر وقت الأزمات، وتُستَخدم مطية لأحوال السياسة وتقلباتها.

باحث مصري في علم الاجتماع السياسي.

عبدالكريم المقداد: في مقعد الجواسيس

لا أرى في الاستشراق الجديد إلا نسخة أحط وأبشع من الاستشراق القديم، الذي كرّس للشرق صورة نمطية لا تعكس سوى الجهل والهمجية وعبادة الشهوات. لطالما نظر إلينا المستشرقون بنظرة المتعالي، ووضعونا في خانة الأدنى. ولست أجافي الحقيقة إذ أقول: إن أغلبهم لم يبرح موقع الجاسوس في رصده للشرق، وتركيزه على مسارب الضعف التي تمكن الغرب من التسلل منها للاستحواذ على مواردنا وإرادتنا وقرارنا بصور خادعة زخرفها بمنمنمات فنية تحرف النظر عن خبث تلك الصور. لم تفلح كل المحاولات العربية والإسلامية من خلال التواصل والتعايش مع الغرب بعد ذلك في تغيير تلك الصورة، التي التصقت في وعي ولا وعي الغرب، وصارت مُسَلَّمة لا تُدحَض. كان الغرب يوارب ويلفّ ويدور لعدم الجهر علنًا بمفاهيمه عن الشرق، لكن ما أن تلقى صدمة الملك فيصل بن عبدالعزيز في وقفه تصدير النفط له في عام ١٩٧٣م حتى جهر بما كان يداري، فاكتظ إعلامه بصور وأوصاف للمسلمين والعرب أهون عناوينها الهمجية والتوحش والبداوة والجِمال والرّقّ! حاول المستشرقون بعد ذلك تغليف هذه النظرة بغِلالة جديدة، فكان الاستشراق الجديد، وظهر صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس وأضرابهما.

تمت «مكيجة» الوسيلة فقط، أما الهدف فلم يتغير: الاستحواذ على الشرق وثرواته وعدم تمكينه من أمره وقراراته، وإغراق مواطنيه في دوامة الركض خلف رغيف الخبز، والحرص على جعل الحرية والعدالة والكرامة مجرد كماليات لا يستطيع اقترافها حتى في الأحلام.  تماهى المستشرقون مع القادة فخلقوا (القاعدة)، وابتكروا بعدها فزاعة الإرهاب، ثم شرعوا بشيطنة الإسلام، وراحوا يؤدلجون المسلمين بتقسيمهم إلى معتدلين ومتطرفين، وبدأ اللعب على أوتار المذهبية والإثنية، وسهلوا لإيران أن تلعب دورًا رئيسًا في المسرحية، فغرق شرقنا العتيد بالدماء. فهل نرجو من هذا الغرب الذي بنى أيديولوجياته على أفكار المستشرقين الجدد الأخطبوطية أن يسمح بنجاح الربيع العربي، فنملك أمرنا وموقفنا ونصبح أحرارًا؟ التجارب ماثلة أمامنا، وما زالت تتفاعل في مصر والعراق وتونس واليمن وسوريا وليبيا، وما زال نهر الدم يتدفق بغزارة منذ سنوات، أما الغرب، الذي يثور إذا ما عثر كلب في أحد أزقته، فيواصل الاستمتاعَ بمشاهدة مسلسل الإبادة في الشرق.

ناقد وباحث سوري.

فخري‭ ‬صالح‭: ‬استشراق‭ ‬ذو‭ ‬أغراض‭ ‬وغايات‭ ‬أيديولوجية‭ ‬فاقعة

إذا نظرنا إلى ما قدمه الاستشراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، في دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه، فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة الاستشراقية حول العالمين العربي والإسلامي. وبغض النظر عن نقد الاستشراق الذي مارسه مفكرون مثل أنور عبدالملك، وإدوارد سعيد، وطلال أسد، وضياء الدين ساردار وآخرين غيرهم، فإن الاستشراق الكلاسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية وميراثها. أما ما سميته في كتابي الأخير «الاستشراق الجديد»، أو بالأحرى «الاستشراق الراهن»، ممثلًا في كتب برنارد لويس الدعويَّة الأخيرة، وتنظيرات صمويل هنتنغتون، وسياحة الكاتب الترينيدادي الأصل، والبريطاني الجنسية والثقافة: في. إس. نايبول في العالم الإسلامي، فهو يتسم بالسطحية، وتغلب عليه الصور النمطية، والتحليلات المستمدة من مصادر ثانوية.

إنه «استشراق» ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة. فإذا كان الاستشراق الكلاسيكي واقعًا في شرك العلاقة المعقدة بين المعرفة والخطاب والسلطة فإنه سعى، في أعمال المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس غولدتسيهر أو الألماني كارل بروكلمان، إلى دراسة الميراث الإسلامي العظيم، وقراءة هذا الميراث في تاريخيته. أما النسل الجديد من المستشرقين الجدد لوزارة الخارجية الأميركية، وللسي آي إيه، ومراكز صنع القرار في أميركا والغرب، فوجدوا لتوفير معرفة نظرية يمكن من خلالها اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. لا شك أن بعض الاستشراق القديم كان في خدمة الإمبراطورية، لكنه لم يكن كذلك في معظمه، أما ما كتبه برنارد لويس وتلامذته، الأقل منه شأنًا ومعرفة دون أي شك، منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلا قيمة معرفية له، بل هو دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة. إنها مجرد مواد إعلامية دعوية هدفها اصطناع عدو جديد للغرب وأميركا لغايات إستراتيجية، وكذلك هوياتيَّة في مواجهة الآخر: المسلم، الذي يعتقد هؤلاء أنه يهدد هوية الغرب المسيحي –العلماني– الديمقراطي. يمكننا أن نرى الآن هذا الجنون القومي –الهوياتي– المعادي للأجانب (وهم في الأغلب: المسلمون) الذي يجتاح أميركا وأوربا، لنفهم إلى أي حد أساء هؤلاء المستشرقون الجدد إلى أميركا والغرب قبل أن يسيؤوا إلى العرب والمسلمين. إننا مُقبِلون على كارثة بعد أن أصبحت كراهية الإسلام سياسة يعتنقها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب ومساعدوه في البيت الأبيض. ولا شك أن ذلك ينسحب على أوربا التي ستعاني كثيرًا بسبب السياسة الأميركية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة، الإنجليزية الثقافة، وهو ما نظَّر له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه «من نحن؟» (2004م)، وهو الذي نبه من قبلُ إلى خطر المسلمين، ثم أضاف في كتابه الأخير المهاجرين من أميركا اللاتينية الذين رأى أنهم يهددون هوية أميركا في بدايات القرن الحادي والعشرين. هذه الرؤى النظرية، إذا اعتُنِقت، قد تقود إلى حروب أهلية ومواجهات كونية، وربما حروب عالمية. وها نحن نرى دونالد ترمب يوقع مراسيم سياسية بإقامة جدار بين المكسيك والولايات المتحدة، ويمنع دخول المسلمين إلى أميركا؛ لأنهم في نظره إرهابيون. ومع أنني لا أومن أن الأفكار وحدها يمكن أن تقود إلى صناعة السياسات، فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو-إستراتيجية وثقافية، فإن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد، إضافة إلى صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة الأميركية، قد صنعت رأيًا عامًّا في الأوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب رئيس أميركي شعبوي، جاهل، معادٍ للثقافة، معادٍ للتجربة الديمقراطية الأميركية، كاره للأجانب، محتقر للنساء، قد يجرُّ العالم إلى كارثة، وربما مواجهة نووية.

ناقد ومترجم فلسطيني مؤلف كتاب «كراهية الإسلام..

كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين»