بواسطة ماجد الحجيلان - رئيس التحرير - ٢٠١٥ - ٢٠١٨م | ديسمبر 27, 2016 | مقالات
بحلول هذا العام الميلادي تبلغ «الفيصل» عامها الأربعين؛ إذ تستكمل أربعة عقود منذ إصدارها الأول عام 1977م.. سنوات طويلة مرت اعترى خلالها السياسة والثقافة والصحافة ما اعتراها مما يعرفه كل متابع وقارئ. وظلت المجلة وفيّة لموعدها الشهري، تتفاعل مع المتغير وثابتها الوحيد خدمة القارئ العربي حيث كان.
ففي الوقت الذي يتوقف فيه عدد من الصحف والمجلات التزمت مؤسسة الملك فيصل الخيرية ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برسالة الفيصل. وظل القرّاء وعشاق المجلات الثقافية هم عمادها الأول، وكان وفاؤهم للمجلة مصدر اعتزاز القائمين عليها، ومبعث حرصهم على الاستمرار وتجاوز العقبات التي تعتري صحافة اليوم؛ من تعثر التوزيع، وقلة التمويل الإعلاني، وتكاليف الورق والطباعة، وأخيرًا هجرة جماعية للقراء من المطبوع إلى الإلكتروني.
قبل عام من الآن أعلنت الفيصل عن رؤية جديدة للمجلة صدر منها حتى الآن خمسة أعداد مزدوجة هذا سادسها، غيرت المجلة حجمها الورقي، وزادت عدد صفحاتها وموادها، وأنشأت موقعًا إلكترونيًّا وحسابات إعلام اجتماعي، وأضافت (كتاب الفيصل) ليكون هديتها لقرائها مع كل عدد، وشملت الرؤية الجديدة انفتاحًا على كل ما هو ثقافي، كما واكبت المجلة أحداثًا لا غنى لقارئ اليوم عن مطالعتها والتفاعل معها.
وقد نشرت المجلة خلال العام المنصرم عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات والتحقيقات والنصوص والترجمات التي انفردت بها، وكانت الملفات الثقافية الكبرى في كل عدد هي عنوان المجلة الأول؛ إذ تختار هيئة التحرير موضوعًا ثقافيًّا آنيًّا وتستكتب له أبرز المعنيين، بما يقدم للقارئ جرعة معرفية غنية في موضوع واحد من زوايا متعددة وآراء مختلفة.
وكما تعتز المجلة بما تلقته من قرائها وكتابها من ثناء على ما تنشره؛ فإننا نثمن عاليًّا ما طالعناه من نقد نثق أن مردّه حرص القارئ على إيصال صوته إلى مجلته، وفي الحالين فإن المجلة تعتذر عن عدم نشر هذه الرسائل على صفحاتها التزامًا من هيئة التحرير بالخط المهني الذي اعتمدته للمجلة، غير أننا جميعًا نسعد بما عبر عنه مثقفون في منابرهم الخاصة تجاه الفيصل.
وبهذه المناسبة الأربعينية فإن الفيصل ستعمل على ملف خاص بمسيرة المجلة، تستعيد فيه بعض تاريخها وتتناول حاضرها، وترحب المجلة بمشاركات القراء ممن قرأها وعرفها قبل عقود، أو ممن انضم إلى قرائها اليوم، من كتّاب المجلة وممن عمل فيها أو تعاون معها. كل ذكرى، كل موقف مع الفيصل سننشره في هذا الملف المقبل، وبين العدد الورقي والإلكتروني سيطالع القارئ شيئًا من تاريخ المجلة وأثرها الذي صنعته في الحياة الثقافية لمتابعيها.
كل شيء تغير في الظروف المحيطة بالصحافة الثقافية، غير أن الثوابت الأساسية بقيت كما هي، فالثابت هو المادة الثقافية الرصينة، والمتغير هو موضوعها وآلية نشرها وإخراجها.
لقد بلغتنا مشاعر عدد من متابعي المجلة ممن يذكر أن أول مادة صحافية نشرها في شبابه كانت في الفيصل، فقد اتسعت صفحاتها في ذلك الحين لمشاركات الشباب وعشاق الأدب والشعر والفنون من الجيل الغض، وكان ذاك منهج معظم الصحف والمجلات، أما المتغير اليوم فلم تعد الصحف والمجلات هي المنبر الوحيد الذي يستطيع فيه الجيل الناشئ أن يعبر عن نفسه وأن يطور مواهبه الكتابية، فقد أتاحت وسائل الاتصال الجديدة لكل مبدع مهما بلغت سنه وخبرته أن يكتب وينشر ويتفاعل مع قرائه من دون الحاجة إلى وسيط صحافي يراقبه ويقيمه.
ولا بد من تحية يقدمها الفريق العامل على إعداد مجلة الفيصل لكل قارئ ظل وفيًّا لمجلته حريصًا على اقتنائها في مكتبته، وشكر خاص لكل من عمل في هذه المجلة من الزملاء الذين غادروا إلى مواقع أخرى، وللمئات من الكتاب والصحافيين الذين راسلوا المجلة ونشروا فيها أعمالهم، وستبقى الفيصل بدورها على العهد في خدمة القارئ العربي لتواصل رسالتها الثقافية.
بواسطة ماجد الحجيلان - رئيس التحرير - ٢٠١٥ - ٢٠١٨م | نوفمبر 6, 2016 | مقالات رئيس التحرير
اطلعت على كتاب (باريس) الذي جمعه الصحافي المصري الراحل أحمد الصاوي محمد، وصدرت طبعته الأولى عام 1933م، ثم أعادت نشره هذا العام دار إصدارات في الرياض مع دار آفاق في القاهرة، وفي الكتاب اللطيف يحشد الصاوي عشرات المقالات والمقولات التي كتبت في باريس، وبعضها أعده المشاركون لأجل مشروع الكتاب أوائل القرن الماضي. والواقع أن الكتاب يمثل رحلة ثقافية ووجدانية خاصة في طُرقات باريس وميادينها ومقاهيها، ولفتني أكثر ما لفتني محاولات المثقفين على اختلاف مشاربهم الإجابة عن سؤال كبير حول ما سمّوه لغز باريس.. سر باريس.. سحر باريس.. من دون أن تخرج بإجابة واحدة تصمد أمام سرّها المزعوم. هل يكمن في تاريخها، طقسها، حدائقها، حاناتها، معمارها…؟ بل إن الصاوي نفسه وفي مقدمته الموجزة لم يعلِّل اختياره باريس ليجمع فيها هذه المقولات، واكتفى بوصف عمله هذا بأنه «طاقة من الزهر لباريس» التي هي «دنيا منيفة يصعب حصرها بين غلافي كتاب».
ولطالما شغلني سؤال حول المدن وأسرارها. ما الذي يجعل مدينة ما حميمة ومؤنسنة، ومدينة أخرى موحشة لا يقرّ لك فيها قرار. فباريس مثلًا التي يقول الصاوي إنه كُتب فيها أكثر من مئتي ألف وصف حتى مطلع القرن الماضي؛ انفردت بين المدن الأوربية الأخرى بهذا الهيام الذي يبديه المثقفون والروائيون والسيّاح والعشاق من ساحة الكونكورد إلى غابة بولونيا، والقارئ في تاريخ «باريس الجديدة» يعرف أن من هدمها وأعاد بناءها هو جورج أوجين هوسمان الموظف المدني البسيط الذي حوّلها من برك وبيوت للفقراء على هامش نهر السين إلى ما نعرفه اليوم بعاصمة النور، واستمرت باريس تحافظ على بنيان هوسمان ومشروعه المعماري مهما توسعت على مر العقود الماضية، فيما نعرف أن القاهرة الخديوية التي بناها هوسمان نفسه بطلب من الخديو إسماعيل لا يكاد يبقى منها اليوم شيء وكانت أجمل ما في القاهرة، ربما لا يعرف سر المدن إلا بُناتها العظام ومهندسوها الأوائل. إنه الفارق الذي لا تخطئه العين بين لطف ميونخ على بساطتها وقسوة فرانكفورت على فخامتها، بل إنه الفارق في جدار من بضعة سنتيمترات فصل بين برلين الغربية والشرقية، مدينة تعامل النهر بوصفه شريان حياتها وتزينه بالورد وتنمو على ضفافه كل بهجاتها، ومدينة ترى النهر وسيلة نقل ومستوعبًا لنفايات المصانع، بين مدينة تحشر الناس في صناديق صفراء هائلة تسميها مساكن شعبية، ومدينة تفتح نوافذها على الحدائق والساحات والمهرجانات الملونة، إنه الفارق بين ثقافة الحياة وثقافة الحزب.
ولعله من الوهم أن يُظَن أن بناء المدن وتخطيطها هو شأن هندسي معماري لا علاقة له بالثقافة والسياسة، الأحزاب الشمولية التي جثمت على بعض المدن الأوربية حوّلتها لغرف للعمال وساحات للشعارات الحزبية وصور الزعماء وتماثيلهم، ومخطئ من يظن أن البناء الحديث والأبراج الزجاجية العالية والإسمنت المسلح يصنع مدينة، فبعض أجمل مدن العالم يخلو من برج أو عمارة بأكثر من خمسة طوابق، لكنها جميلة وعملية ونابضة، فيما تبدو المدن الكوزموبوليتية المصنوعة مكتظّة لكن فارغة، مهولة لكن موحشة، كأنما بنيت لتعيش فيها القاطرات والشاحنات. زائر الحي اللاتيني في باريس لن يفطن إلى العمارات المتهالكة والحديد الصدئ والألوان غير المتجانسة والممرات الضيقة، لكنه سيرتاح إلى المكتبات العتيقة والمقاهي التاريخية، وهذا المزيج البشري الحيّ الذي يعشق الحياة ويتنفس الفنون ويعبر عن نفسه بلا تزييف وتنميق.
بناة المدن العظام كانوا مشغولين بالبشر قبل الحجر، وأكثر ما يشد انتباهي وأنا أزور بعض العواصم العربية التي ما زالت مزدهرة هو مزارع الناطحات التي لا تنفك تتزايد ويعلو بعضها على بعض، وتحت عنوان التحديث والتنمية تنسى هذه الأبراج الشاهقة أن هناك إنسانًا تحت كعبها يريد أن يمر بينها ويدخل إليها ويخرج منها، معظم هذه الأبراج بنيت للسيارات تصل إلى بابها وليست مشغولة أبدًا بمن يدب على الأرض من المشاة، ووسط هذا التطاول يضيع كثير من المعنى الإنساني وراء العمران ليحل محله شيء من التحدي والتنافس المحموم.
لم يكن انتعاش الثقافة وتفاعل الأفكار وانصهارها مرتبطًا ببناء ضخم تحت عنوان مكتبة أو مركز أو متحف أو منتدى لا يفتح أبوابه إلا في المناسبات الرسمية، فعلى ضفاف التايمز في لندن تطل ثلاثة مراكز ثقافية كبرى تفتح أبوابها للمبدعين أيًّا كان لونهم وجنسهم وسنهم ليمارسوا فنونهم، وتظل المراكز مفتوحة حتى ساعة متأخرة من ليل العاصمة البريطانية، وقد تنشأ التيارات الثقافية الكبرى، وتؤلف الكتب وتعقد المناظرات والحوارات في أماكن لا يتوقعها أحد؛ مقهى صغير أو ميدان على جوانبه تباع الصحف والكتب والورد ويفترشه الرسامون والموسيقيون.
لقد غابت النشاطات الثقافية العفوية التي كانت تبعث الحياة في المدن العربية، وكثيرًا ما يبرز سؤال عن المدن المغلقة وتلك التي لا تتيح للأفراد والمجموعات فرصة التعبير عن الذات في الهواء الطلق، ومثل حقيقة فيزيائية سيجيء اليوم الذي تعبر فيه هذه الذوات عن رأيها بشكل عنيف، بدلًا من طرحها أفكارًا قد لا تصمد طويلًا وتنتهي.
هناك سر ما يميز المدن قديمها وحديثها، يطبعها بخصوصية أهلها، يؤنسنها ولا يحولها إلى مكان ضخم للعمل ووسائل النقل، يجيء هذا الحديث ونحن نتابع أخبار الحواضر العربية الكبرى تهدم وتدمر كل يوم، وبأقصى قدر من التفاؤل الممتنع عقلًا يتمنى الواحد منا أن يكون كل ما يراه مخاضًا لشيء جديد.
بواسطة ماجد الحجيلان - رئيس التحرير - ٢٠١٥ - ٢٠١٨م | أبريل 26, 2016 | مقالات رئيس التحرير
70 يومًا فصلت بين طلب الأمير سعود الفيصل إعفاءه من وزارة الخارجية ووفاته رحمه الله، مدة وجيزة كانت إعلانًا رامزًا عن هذا الارتباط الوثيق بين العمر والعمل، بين حياته الشخصية ومكتبه في وزارة الخارجية، بين معاناته وطائرته التي كانت أبدًا في وضع الاستعداد، كأنما وهب نفسه لهذه المهمة ما عاش، فلما انتهت المهمة أسلم الروح لبارئها. أربعون عامًا قضاها في الطائرات والاجتماعات والمفاوضات، كان يؤجل الراحة ويؤخر العلاج حتى تعالج القضايا وتنتهي الملفات، غير أن هذه الملفات والقضايا ما لبثت تتناسل بما تنوء به أكتاف رجل واحد كان في همّة أمّة. تعامل مع المرض والألم في السنوات الأخيرة بتحدٍّ، فكأنما كان يسخر من أوجاع لن تستطيع تثبيط عزيمته. أتذكره في السنين الأخيرة يمرّ أمام الصحافيين ويلوح بعصاه: من يسابقني؟ وأعرف ممن دوّنوا ذكرياته عناده لنصائح الأطباء ووصايا المحبين بالراحة، أتذكر كلماته البليغة وعباراته المصقولة عن قضايا العرب، وهو يعالج عشرات الأزمات ويتناسى عامدًا أن للجسد طاقة، وأن الحمل الكبير سيكون له أثره على قامة سامقة وعقل متوقد وبلاغة لم تؤت لأحد في جيله من السياسيين.. وهنا أشارك من كتب عن الراحل الكبير بعض مواقف عشتها صحافيًّا ألاحق الأخبار.
في مايو 2011م كان وفد دبلوماسي خليجي في صنعاء ينتظر في السفارة الإماراتية أن يقبل علي عبدالله صالح توقيع المبادرة الخليجية بعد أن وقّعتها المعارضة، تجمّع حول السفارة مسلحون ليحاصروها، وكان الموقف يتصاعد ويزداد خطورة بمرور الوقت.. في هذه الأثناء كان المجلس الوزاري الخليجي منعقدًا في قاعدة الرياض الجوية ينتظر عودة الوفد الخليجي بقيادة الأمين العام لمجلس التعاون ومعه المبادرة موقعة من الطرفين.. وكنا مجموعة من الصحافيين خارج قاعة الاجتماع نتابع الأخبار ونجري الاتصالات. حين بلغ الصحافيين والدبلوماسيين خارج القاعة نبأ احتجاز الوفد الدبلوماسي الخليجي ومعه عدد من السفراء الغربيين، ووجود مسلحين بالمئات يهددون سلامة الوسطاء؛ اشتعلت التكهنات حول كيفية الرد الخليجي على هذا التصرف من الرئيس اليمني السابق الذي كان قد زعم موافقته على المبادرة واستعداده للتوقيع، ثم أخلف وعده. حينها سألت دبلوماسيًّا خليجيًّا مطلعًا: ماذا تتوقع أن تكون ردة الفعل؟ هل سترد دول الخليج بقوة؟ تسحب المبادرة؟ تذهب لمجلس الأمن؟ تتحرك عسكريًّا؟ وكنت أعلم أن هناك دولًا خليجية راغبة في ردع الرئيس اليمني والرد على هذا التصعيد.. قال لي: «ما دام سعود الفيصل في هذا المجلس فلا تتوقع رد فعل غير دبلوماسي.. سيكون الرد مدروسًا؛ ثقْ بذلك». وفعلًا عاد الوفد الخليجي بعد انتظار ست ساعات تقريبًا دون توقيع المبادرة الخليجية، وأعلن المجلس حينها «تعليق المبادرة» لحين التزام الأطراف كافة بها.. كان هذا الإعلان من وجهة نظر إعلاميين حينها هادئًا، ولا يمثل ردًّا موجعًا على الرئيس اليمني السابق.. بعد أقل من خمسة أشهر على هذه الحادثة كان علي عبدالله صالح في الرياض يوقّع المبادرة الخليجية ويتنازل عن السلطة، وأيًّا كان ما جرى بعد هذا التاريخ؛ فإن المبادرة الخليجية ظلت حتى اليوم هي مرجعية الأطراف اليمنية كافة، وتحظى باعتراف الشرق والغرب.
اليوم أستعيد هذا الموقف، وأعرف كيف رسم سعود الفيصل المبادرة، وأشرف على تفاصيلها، وكيف تجاوزت نظرته البعيدة ردود الفعل الآنية إلى النتائج، كان يمكن للمجلس الوزاري حينها أن يعلن مواقف قاسية، ويخرج بعناوين عريضة تشفي صدور المتحمسين، لكنه فضّل تجاوز الموقف ليصل للغاية، وهي تجنيب اليمن حربًا أهلية كانت على وشك الاندلاع حينها، وأعرف أن الفضل الأكبر في ذلك يعود إلى حكمة سعود الفيصل، وبعد نظره، وحصافته، وسيسجل التاريخ يومًا أن الفيصل كان المهندس الحقيقي للانتقال السياسي في اليمن، وأن الذين غدروا بالعملية السياسية –يا للمفارقة!- ما زالوا يرون المبادرة مرجعيتهم الأولى لإنهاء الأزمة.
بعد ذلك بقرابة العام، وتحديدًا في مارس 2012م، جاءت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية إلى الرياض؛ لحضور الحوار الإستراتيجي بين دول الخليج والولايات المتحدة، وكان معها طاقم عسكري قدّم عرضًا مرئيًّا لوزراء الخارجية حول نظام دفاع صاروخي باليستي تقترحه الولايات المتحدة على دول الخليج، وفي المؤتمر الصحافي سأل صحافي الأمير سعود الفيصل وهيلاري كلينتون عن هذا النظام الصاروخي وفاعليته، وموقف دول الخليج منه، ما زلت أذكر كيف راحت كلينتون تحاول جاهدة شرح النظام الصاروخي، وتأثير انحناء الأرض، وأنماط الرياح على أنظمة الرادار والتحكم! سردت كلينتون ما سمعتْه من العسكريين بشكل مرتبك.. وكان الفيصل يرقب ما تقوله الوزيرة، حتى إذا انتهت من الإجابة ابتسم وقال بإنجليزية رفيعة: «زملاؤنا الأميركيون يحبون الحديث في الشؤون العسكرية، ويمكنكم أن تروا كيف أن دبلوماسيتنا لم تتطور بنفس سرعة الدبلوماسية الأميركية، فهم يستطيعون الآن الحديث بلغة عسكرية بينما لا نستطيع ذلك. سنستعين بخبراء!».
كان الجواب لاذعًا ومحمّلًا بالدلالات، والرسالة السياسية وراءه أن الحوار الإستراتيجي الذي يريده الخليج مع الولايات المتحدة يتعلق بمواقف سياسية كمفاوضاتها السرية مع إيران، وأهمية المساعدة في حل المعضلة السورية، ولم يكن الخليج آنذاك مشغولًا بصفقات تسلّح، فضلًا عن أن المجلس الوزاري لم يكن مفوّضًا ولا متخصصًا في شراء أنظمة صاروخية، بل كان ذلك تخصص وزارات الدفاع. لقد كان حضور سعود الفيصل الذهني في المؤتمرات الصحافية مثيرًا للإعجاب، ولم تكن الأسئلة والمواقف السياسية المختلفة تبعده من أهدافه المباشرة.
ولم يشأ الفيصل أن يرحل من دون أن يدوّن كلمات أخيرة في سجله الحافل، فقبل ثلاثة أشهر من وفاته وفي الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ نهاية مارس 2015م؛ ألقى كلمة حاسمة ردًّا على رسالة الرئيس الروسي للقمّة العربية، طلب الفيصل الكلمة ليرد مفصلًا رأيه في الموقف الروسي من الأحداث في سوريا، ووجوب أن تكون العلاقة بين الدول العربية وروسيا ندّية، وقائمة على مراعاة مصالح الطرفين، وهنا أتذكر شهادة الدكتور يوسف السعدون أنه والوفد المرافق دهشوا لهذه الكلمة رغم أن الألم كان قد تمكّن من الراحل بحيث لا يسمعون ما يقول قبيل الكلمة بدقائق، فيما جاءت الكلمة مثالية في قوتها ودبلوماسيتها، وتناسب مدرسة سعود الفيصل في الدقة والبلاغة.
وكأنما كانت هذه الكلمة رسالته البليغة الأخيرة لأمته العربية، كان واجبه يناديه، وكان استقبال كلمة الرئيس الروسي بلا تعليق أمرًا غير مناسب للقمة وللعرب.. تحامل على ألمه وارتجل خمس دقائق يمكن وصفها بالنادرة في القمم العربية، كانت، على قوتها، تحتفظ بحقّ روسيا في حماية مصالحها، وعلى عنايته بالكلمات؛ فقد أوصل رسالة ناقدة، أثارت وسائل الإعلام، واحتلت عناوين الصحف والوكالات، بما يليق بمكانة سعود الفيصل وتاريخه وثقة السياسيين برجاحه رأيه.
رحم الله سعود الفيصل، كان أمّة في رجل، وسيظل مكانه شاغرًا في القلوب والعقول التي عرفته وأحبته.
بواسطة ماجد الحجيلان - رئيس التحرير - ٢٠١٥ - ٢٠١٨م | مارس 16, 2016 | مقالات رئيس التحرير
الأخبار المتصلة بمشهد الصحافة الدولية لا تبشر بمستقبل مشرق للمطبوعات؛ فقد أعلنت الإندبندنت البريطانية إيقاف نسختها المطبوعة ودخولها فيما سمّته «المستقبل الرقمي»، وفي الولايات المتحدة قالت وكالة الصحافة الفرنسية إن العائد الاقتصادي للصحف الورقية لن يتجاوز عشر سنوات وفقًا للخبراء، هذا عن صحف سيّارة وعامة، فماذا عن مستقبل الصحافة المتخصصة، بل قل حاضرها، وأعني منها الثقافية والرصينة؟
في عالمنا العربي تابعنا توديع مثقفي لبنان ملحق النهار الثقافي، وحسرتهم على غيابه بعد خمسين عامًا من الانتظام، أما في الكويت فقد تداعى مثقفون لإنقاذ مجلة العربي العريقة بعد إلغاء ندوتها السنوية، وفي السعودية وجّهت مجلة المنهل الرائدة نداءً عامًّا لإنقاذها قبل توقفها، ومرت شهور على هذا النداء، ولم أقرأ حتى الساعة استجابة له أو حتى خبرًا عنه.
يبقى أن نقول إن هذا المشهد، الذي لا يمكن وصفه بالتفاؤل، يظل ناقصًا وانطباعيًّا، ففي اليوم الذي أعلنت فيه الإندبندنت توقفها؛ أُعلن في لندن نفسها عن صدور مطبوعة «نيو داي» اليومية التي لن يكون لها نسخة إلكترونية، وأكدت مجموعة «ترينتي ميرور» التي أصدرتها، أن دراسة الجدوى وجدت لدى القراء حاجة ملحّة لما وراء الخبر من تحليل ووجهات نظر، وهي بالمناسبة أول صحيفة جديدة في لندن منذ ثلاثين عامًا.
ولنتجاوز لندن وصحفها؛ ألا يحتاج القارئ العربي إلى أن يعرف ما الذي يقف خلف هذه المذابح اليومية في المدن العربية؟ الأخبار تعلن أنها الدكتاتورية والطائفية، وعلى الصحافة الرصينة اليوم أن تحيطه بما وراء ذلك.. لماذا صار هذا مآلنا؟ عليها أن تنقل له الرأي والتحليل؛ كي يعرف موقعه من العالم، وإلى أين وصل سياسيوه وأحزابه، وما الذي أوقف قطار حضارته في محطة التاريخ.
ألسنا أيضًا نسمع شكوى أكاديميين ومثقفين من أن الناس لا يقرؤون ولا يتابعون؟ فكيف نفسر الحضور الهائل لمئات الألوف من القراء في مواقع التواصل الاجتماعي الذين يتناقلون يوميًّا الآلاف من الأخبار والمقالات والصور والفيديوهات، ويتفاعلون معها بالرأي والنقد؟ إنها قراءة أيضًا، لكنها قراءة لا نكاد نعترف بها؛ لأنها جديدة علينا، وخفيفة وسريعة.. القراءة التي عهدناها دهورًا هي ما نرصفه في المكتبات، ولم يحن الوقت بعد لندرك أن مصادر المعرفة تعددت، وأننا إن لم نوظفها خسرناها، وخسرنا معها مستخدميها.
تصلنا يوميًّا على هواتفنا عشرات النصوص المطوّلة، ونقرؤها ونناقشها ونتأثر بها، ولو أنك جمعت ما قرأته في هاتفك خلال مدة وجيزة ستجده يعادل كتابًا متوسط الحجم، صحيح أن الغثّ فيها كثير، لكن من يقتنص الفرائد يعرف مواضعها وأهلها. نقرأ في فيسبوك وتويتر لشباب وشابات، ليست لهم أسماء معروفة، نقدًا ورأيًا هو أكثر حصافة ورصانة مما نعدّه في أغلبية صحفنا وملاحقنا الثقافية، الواقع أن القراءة ازدادت ولم تنقص الهواتف الذكية جعلت الصغار والكبار، العلماء والبسطاء يقرؤون، لكن الوسيلة اختلفت، والاهتمامات تعددت.. وعلى الصحافة الثقافية العربية أن تستجيب راغمة، وتزاحم المبتذل والسطحي على القراء ولا تستسلم له، وهي لن تكون فريدة في هذا، فقد سبقتها الصحف والمجلات الغربية الرصينة؛ جولة سريعة في حسابات الإيكونومست وتايم ونيويورك تايمز ستخبرك أنها نزلت من عليائها إلى الناس، وهذه مجلة فورن بوليسي تعلن أنها تنشر السياسة والاقتصاد.. ثم تضيف «والأفكار».
وتجيء مجلة «الفيصل»، في هذا العدد الجديد، وفي هذا التوقيت؛ لتعلن انفتاحها على معنى الثقافة الأوسع، ومزاحمتها الهواتف الذكية على أيدي المثقفين، ورهانها على قراء نوعيين، في عصر التطبيقات الإلكترونية متناهية الصغر، فائقة الذكاء، رخيصة التكلفة، موسوعية المعارف، سريعة كالبرق، وهي فوق ذاك متحررة من الطباعة والرقابة والتوزيع.. وإذا كنت ستكتفي بمطبوعة ورقية أمام هذا السيل الإلكتروني؛ فما أصعبه من تحدٍّ، وما أخسره من رهان، غير أن المجلة عالجت ذلك بحضورها في كل الصيغ الممكنة إلكترونية أو ورقية، بنسخة كفية للهواتف، ونسخة لسطح المكتب، سيجدها القارئ كيفما أحب أن يقرأها ووقتما شاء.
سؤال أخير سيسأله أي صحافي مشتغل بمجلة متخصصة؛ ما الثقافي وما الثقافة حقًّا؟ بكلمات أخرى: ما المجلة الثقافية؟ أهي ما قدمته المجلات العربية الأدبية الرائدة منذ الهلال والمقتطف؛ من جميل الشعر والنقد ومسامرات الكتاب ورسائلهم؟ أم أنها مجلات الثقافة الأوربية اليوم مثلما يقدمها الفرنسيون منفتحة على الأزياء والأطعمة والطهي وتربية الحيوانات؟ يكفي أن تفتح أي قاموس على كلمة (ثقافة (Culture لتنظر كيف تطور المفهوم، وكيف اختلف من حضارة إلى أخرى، ومن زمن لآخر.. وكيف أن فهم الثقافة في صحافتنا ما زال مقتصرًا على ما نسميه الأدب، ونعني به الشعر والسرد وما يدور حولهما.
لن تكون «الفيصل» مجلة أدب فحسب، في الوقت الذي دخلت فيه هموم السياسة كل بيت، ولن تقصر موادها على نقد الشعر الجاهلي في وقت نشاهد فيه جاهلية تبعثها داعش في الرقة والموصل، ومقتلة كل يوم من تعز إلى بنغازي، ولن تكون مجلة سياسة فحسب، في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى الفنون والجمال؛ هي ستكون ذلك كله، بل أكثر.
كل ما يتصل بالنتاج الفكري الإنساني الرفيع هو ثقافة، وكل ما يعني الناس في فضائهم العام ثقافة أيضًا، يبقى أن تقدّم هذه الثقافة إلى القارئ المتخصص وغير المتخصص على حد سواء في شكل وجبات معرفية صغيرة، تحيله إلى وسائل المعرفة الأكبر والأوسع، هذا ما سنحاوله.. والعدد الذي بين يديك اليوم لن يكون كل ما تقوله المجلة؛ إنما هو استعداد لما ستقوله.
*رئيس تحرير مجلة الفيصل