بيروت، دبي؛ من يلهم من؟ مفترق طرق الشرق الأوسط و«بوابة الشرق» تنكفئ على ماضيها الآفل

بيروت، دبي؛ من يلهم من؟ مفترق طرق الشرق الأوسط و«بوابة الشرق» تنكفئ على ماضيها الآفل

كتب حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد يروي ذكرياته الأولى مع بيروت في كتابه «قِــصَّتي… تجربة 50 عامًا» يقول: «كانت من بدايات حياتي وأنا صغير؛ وأنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية،(…). سافرتُ مع إخوتي إلى بيروت. كان لا بدَّ من المرور بها للوصول إلى لندن. أذهلتني صغيرًا، وعشقتُها يافعًا، وحزنتُ عليها كبيرًا». يضيف: «كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي. وحلم تردّد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يومًا ما…»، و«لكن للأسف، لبنان تم تفتيته وتقسيمه على مقاسات طائفية ومذهبية، فلم تعُد بيروت هي بيروت، وأصبح لبنان غير لبنان». هذا الكلام انتشر بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان مدار تعليقات صحافية وسياسية، وطُرح سؤال أساسي: «لماذا ازدهرت دبي وتراجعت بيروت؟» تعددت الأجوبة بحسب الولاءات السياسية، مرة قالوا السرّ يكمن في «ثقافة الحياة»، ومرات قيل: إنها «المؤامرة».

وكلام الشيخ محمد بن راشد عن بيروت له صداه الخاص؛ لأنه يأتي على لسان حاكم دبي (ضرة بيروت ومنافستها)، وفي الواقع سمعنا كلامًا شبيهًا به سابقًا على أكثر من صعيد، فبيروت الحداثة التي كانت تقلق جيرانها، تبدو الآن قلقة على دورها، أو تعيش نوستالجيا على أدوارها الغابرة وماضيها الآفل و«اسمها التاريخي»، وتنظر بعين الحسرة إلى واقعها وتشرذمها تحت مطرقة المشاريع السياسية والتجاذبات الإقليمية ووحش العمران والاستثمار. وليس حاكم دبي أول من أشار إلى التفتيت على مقاسات الجماعات السياسية، فالكثير من المثقفين والشعراء كتبوا عن مشهد بيروت المتأرجح بين «البئر المهجورة» و«البرميل المثقوب» والنوستالجيا، حتى الرئيس فؤاد السنيورة قال عندما كان وزيرًا للمال: «قبل الحرب كان لبنان عبارة عن مخزن كبير (سوبر ماركت) وسط صحراء قاحلة، وإذا به بعد الحرب حانوت وسط غابة مخازن»، في إحالة على الدور الذي كان لبنان يتمتع به في زمن «البحبوحة» و«اقتصاد الأعجوبة»، عندما كانت الدولة تقرض أموالًا للخارج والموازنة تسجل فائضًا، مقارنة مع ما آل إليه لبنان بعد الحرب؛ إذ تدحرج إلى مرتبة تعيش على هامش الحياة والاقتصاد العالمي والمساعدات، ودخل في دائرة المنافسة بالأمور السيئة، فيحلّ اسمه على لائحة أسماء البلدان الأولى في الفساد والأمراض المستعصية والتلوث ونسبة انقطاع الكهرباء، بل يكاد لبنان يكون من الدول الفاشلة.

الحق أنه قبل الكلام عن دور لبنان «الحانوتي» في هذه الأيام، لا بدّ من الإشارة إلى الدور السوبر ماركتي السابق، فقد كانت بيروت تعدّ مفترق طرق الشرق الأوسط و«بوابة الشرق» ومركز البيزنس ومدار سجال بين الأفرقاء اللبنانيين، بين مؤيد ومعارض. وكان سليم البستاني (صحافي لبناني نجل العلامة النهضوي بطرس البستاني)، يقول عن لبنان – بيروت: «أصبحنا بابًا يدخل منه الغرب إلى الشرق ويخرج منه الشرق إلى الغرب، ولا يكتفي بالوصف بل يدل على النشاطات الاقتصادية التي توافق مركزنا» (بيروت). والأمر نفسه مع مهندس النظام اللبناني ميشال شيحا، في تنظيراته الاقتصادية القائمة على «الأعجوبة». وهذه وتلك كانتا مدار هجاء من بعض أهل اليسار، فقد وصف أحدهم بيروت في ظل الاقتصاد البورجوازي بأنها كالبطن في الجسم، حيث الأطراف تتعب ليلتذّ هو أي البطن. والقصد بالأطراف، المحيط الإقليمي للبنان. اختيرت بيروت عاصمة إدارية لولاية بيروت في العهد العثماني، وعاصمة للدولة اللبنانية في ظل الانتداب الفرنسي عام (1920م)، وبعد استقلال لبنان، تبوأت المركز المالي الأساسي في الشرق الأوسط، مجتذبة الرساميل العربية، والمثقفين والمنفيين العرب من جهةٍ ثانية بوصفها مختبرًا ثقافيًّا للعالم العربي، وتجارة المطبوعات، عبر «حداثة مستعارة من الغرب، لكنها موشاة باللون المحلّي»، بتعبير الكاتب الفرنسي فرانك ميرميه.

«إشعاع» الضرة

يقول الصحافي والكاتب حسام عيتاني في الرواية السائدة: «إن بيروت كانت مركزًا مهمًّا للثقافة العربية قبل أن تطفئ نورها الحرب الأهلية. وبرزت آمال في التسعينيات باستعادة العاصمة اللبنانية موقعها المفقود في مجالات عدة من بينها الثقافة. وبُذلت جهود في هذا المجال تمثلت في إحياء عدد من المسارح واستدعاء فنانين وكتّاب وشعراء لعرض أعمالهم في المدينة، إلى جانب عدد من النشاطات السنوية من مهرجانات ثقافية ومعارض كتب وندوات… إلا أن شيئًا ما ظل ناقصًا». وإذا كان العمل الأول للمدن من فور خروجها من الحروب المدمرة هو رفع أنقاضها ثم «ترميم ذاكرتها»، على حد تعبير نقيب المهندسين جاد تابت، فالكثير من اللبنانيين بعد الحرب راحوا يتذكرون زمن البحبوحة والثقافة والفعل السياسي، وهم ينظرون بنوع من الارتباك إلى ظواهر اقتصادية تنمو في بعض دول الخليج العربي. فما كانت تتمتع به بيروت من وهج اقتصادي وتجاري قطفته إمارة دبي فأصبحت هي «بلد الإشعاع والنور». وبيروت التي كانت مصدر إلهام لحاكم دبي، لكن النائب السابق وليد جنبلاط مثلًا، يقول في إطلالة تليفزيونية: «بيروت صارت مثل دبي»، وهو يتحسّر على مصير المباني التراثية ويطالب بلدية بيروت بشراء ما تبقى من هذه الأبنية لحمايتها. كان عدد المباني التراثية يتجاوز 1500 مبنى في منتصف التسعينيات، اليوم هبط عددها، ربما، إلى أقل من ثلث هذا الرقم. المقاولون يتصرفون كأنهم وحوش ضارية تتسابق على فريسة، ما إن يسمع أحدهم بعقار قديم للبيع حتى يشتريه، ويسارع قبل طلوع الفجر إلى المجيء بالرافعات والجرافات لهدمه وبدء التحضير لتشييد ناطحة سحاب مكانه.

باتت المباني التراثية في بيروت شبه نادرة أو في طريقها إلى الانقراض، وما تبقّى منها «اختنق» في عتمة المباني الضخمة التي تفرض نفسها ومشاعرها على محيطها، كأن كل برج هو مدينة بحد ذاتها. كتبت جمعية «مشاع» على الجدران: «لأنهم يريدون رؤية البحر لم نعد نرى السماء». شارع الجميزة المصنَّف على أنه «ذو طابع تراثي» تخترقه الأبراج أيضًا، ولا يختلف الأمر في منطقة كليمنصو، حيث يبدو بعض المباني القديمة أشبه بزينة للمباني الضخمة.

على طول الخط الساحلي لبيروت الممتد من كورنيش المنارة وصولًا إلى الرملة البيضاء، كأن المباني الضخمة نسخة واحدة. في التسعينيات، شهد لبنان «بناية الأحلام» التي غيّرت معالم محيط عين المريسة. وفي السنوات القليلة الماضية، صارت المباني كافة تتماثل مع بناية الأحلام في الضخامة، كأن جميع المباني كتلة صماء قاتمة بشعة. ربما تعبّر المباني المطلّة على البحر عن أزمة الصراع على الفضاءات المفتوحة في بيروت، وتحوَّلت بيروت، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من مدينة أفقية إلى مدينة ذات منحًى عمودي واضح، وأغلبية المباني الشاهقة تشيّد على أنقاض المباني التراثية. ونشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية مقالًا تحدّثت فيه عن التراث الذي يُضحَّى به في بيروت، وفي هذا الصدد، تقول المهندسة منى الحلاق: «من خلال الرغبة في القيام بشيء إيجابي، فقدنا إحدى أهم المجموعات المعمارية في منطقة رأس بيروت». وفيما قالت الصحيفة: إنّ هناك قتلًا للمدينة، استخدمت مصطلح «Urbicide»، الذي استُخدم لوصف تدمير الحرب الأهلية لبيروت، ويمكن أن ينطبق على دورة التدمير وإعادة البناء التي عانت منها العاصمة انتهاء الحرب عام 1990م. وقد اختفى الآن ثمانون بالمئة من المباني التي شكّلت «بيروت الطبيعية»، ذهبت معها طريقة عيش من خلال الشقق التي يدور فيه الهواء الطبيعي، والشرفات الكبيرة التي تتكيف مع مناخ البحر الأبيض المتوسط، والدور والحديقة والأشجار.

«بيروت ليست دبي»، كتب أحدهم غرافيتي على جدران بيروت، اعتراض فيه شيء من المكابرة، إذا جاز التعبير، فدبي التي قيل إنها تقلق بيروت وهي «ضرتها» بالمعنى التنافسي والمجازي، استطاعت أن «تباشر تخضير الصحراء» بحسب الكاتب حازم صاغية، بينما عمل اللبنانيون على اختلافهم على تصحير الأخضر الذي طالما تباهوا به. وغدت بيروت أقرب إلى مدينة الفوضى تجمع في داخلها الأبراج الساحرة والكهوف وبقايا الحنين.

«بيروت ليست دبي»، شعار من شعارات جدران بيروت، نقرؤه ونمضي مثلما نقرأ عشرات الشعارات الاعتراضية والأيديولوجية والفنية. المحنة بل الطامة الكبرى في بيروت لم تعد في الشكل، بل في أن هذه المدينة تعيش اللاستقرار واللادولة واللانظام واللاقانون واللاحكم مع تنامي الدويلات وتضخم المحاور… مع الإشارة إلى أن لبنان يعيش منذ مدة أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية تهدد مكوّناته.

ثقافات جديدة وأيديولوجيات دينية

من يتأمل أحوال معرض بيروت للكتاب خلال السنوات الأخيرة، يلاحظ بروز «ثقافات جديدة»، أيديولوجيات دينية تبدّل في المسار الليبرالي والفردي لهذه المدينة التي هي بتعبير الكاتب الفرنسي فرانك ميرميه «مجموعة أراضٍ متجاورة تفصل بينها حدود غير مرئية، تتنازعها الانتماءات الطائفية والسياسية بقصد السلطة والتمثيل».

كانت علاقة بيروت مع محيطها، مزيجًا من الإعجاب والرفض، ذلك أنها كانت تتبادل مع محيطها النظرات من دون أن تتفاهم معه، اليوم يبدو أن دخلت مرحلة أكثر خطورة، وهي ثقافة العداء لجزء كبير من محيطها. وإذا كان الأديب السوري محمد كرد علي جعل بيروت في زمن مضى، من «غرائب الغرب»، فاللبنانيون وغيرهم في هذه الأيام يذهبون إلى دبي ويصفونها بأنها من «غرائب الكون». دبي، هذه «القرية الكونية» بتسمية الصحافي ديفيد هرست، كتلة من التناقضات الكوزموبوليتية، تجمع بين «الدشداشة» التراثية والاقتصاد الرقمي (الافتراضي)، ويعمل في ربوعها أناس ينتمون إلى عشرات الجنسيات العربية والأجنبية. مهاجرون نسبتهم قياسًا إلى أهل البلد الأصليين أكبر نسبة في العالم، بمعنى آخر تخطت كوزموبولوتيتها الاجتماعية الاقتصادية، كوزموبوليتية بيروت الثقافية. وإذا كان سليم البستاني يسمّي بيروت «مركزنا» فإن الإماراتيين يسمّون دبي «محورنا» كونها تجذب المستثمرين وتشكل عاصمة البيزنس بين الدول المتطورة في الغرب من جهة، ودول الشرق الأقصى من جهة ثانية، وتشمل شبه القارة الهندية والعالم العربي وإفريقيا.

الاستهلاك كما نعلم، نهش معظم الرموز الثقافية في بيروت، ومقولة الروائي التشيكي ميلان كونديرا التي يقول فيها: «الأعمال الخالدة ليست المدهشة بل هي التي يعاودك الحنين للعودة إليها دائمًا». تنطبق على بيروت وواقع المعيش اليومي اللبناني، فالكثير من سائقي سيارات الأجرة يحنّون إلى زمن الرئيس كميل شمعون و«البحبوحة» أو زمن فؤاد شهاب. وبحسب الباحث مارسيا إلياد تتلخص أطروحة الحنين إلى الفردوس في أنها استمرار للأصل الديني لفكرة الجنة، ولآدم المطرود منها. تاليًا فإن استحضار الماضي هو نوع من العودة إلى الفردوس المتوهم. الحنين في العالم العربي حمّى أبدية لكل شيء، وعندما كتب روبِرت فيسك كتابه «ويلات وطن»، قال: إن سبب اليأس من بيروت هو قدرتها على التكيف، وإن مأساتها تكمن في القدرة على البقاء وعلى التجدد الدائم. والحنين إلى ماضي بيروت هو شكلٌ من أشكال التعبير عن الاحتجاج والرفض للحياة المتغيّرة. بينما دبي الآن هي «أسطورة الصحراء والجوهرة الرقمية وسط الرمال».

بيروت.. غواية الخراب .. مبانٍ شهيرة عاشت أهوال الحرب تلهم كتابًا وفنانين

بيروت.. غواية الخراب .. مبانٍ شهيرة عاشت أهوال الحرب تلهم كتابًا وفنانين

بات لافتًا في بيروت مدى اهتمام مجموعة من الفنانين والكتّاب والمصورين من عشاق الفنون المعاصرة، ببعض المباني القديمة التي عليها أثر الحرب الأهلية (1975 – 1990م)، فهي تشكل نقطة ارتكاز للمشاريع الفنية المابعد حداثية ورسوم الغرافيتي والتصوير والرواية والفن التشكيلي، وأحيانًا تصل إلى المبالغة في الدوران حول الموضوع نفسه. وأشهر هذه المباني «بيت بيروت» و«السينما البيضاوية» وفندق هوليداي إن، وبرج المر، وفندق سان جورج. وما يجمع هذه المباني، هو الخراب الذي أصابها وفتك بها، والحكايات التي خرجت منها، وتحمل الكثير من المعاني والتأويلات سواء عن الحرب أو الأمكنة أو لبنان أيام ما يسمى «الزمن الجميل»، و عن «العمارة البيروتية» وأسطورتها وتاريخها وتكوينها. فسان جورج يعتبر أول عمارة من الباطون المسلح في بيروت، وبرج المر كان أعلى مبنى في لبنان حتى زمن قريب، وسينما الدوم تقع في مول سيتي سنتر الذي يؤرخ باعتباره أول مول تجاري في الشرق الأوسط، أما مبنى بيت بيروت فهو مزيج من الثقافة العثمانية، وشيّد في زمن الانتداب الفرنسي وبقي صامدًا خلال الحرب الأهلية، وربما هو من «فلول» العمارات القديمة التي في طريقها إلى الانقراض في بيروت.

برج المر

ولكل مبنى من المباني المذكورة حكايته. برج المر الذي يعتبر محسوبًا على وسط بيروت، ومصممًا ليمثل مركزًا تجاريًّا، شيّده الوزير السابق ميشال المر في بداية السبعينيات في إطار المنافسة على من يمتلك أعلى برج في بيروت وكان ينافس برج «رزق» في الأشرفية، شرق بيروت، وقدر له أن يشكل معقلًا للقناصين والميليشيات خلال الحروب الأهلية اللبنانية، ولم تشهد طوابقه أي إضافة من عام 1975م، بقي شاحبًا باهتًا، يحمل ذكريات قاسية وأليمة، رغم مرور نحو ثلاثة عقود على نهاية الحرب، لا يرى المارة من المبنى إلا هيكلًا مهجورًا، وذاكرة وحيرة، في كل طابق من طوابق البرج الـ34، تركت مجموعة مسلحة بعض البصمات، من خلال رسمات غرافيتي، أو عبارات وكلمات أو حتى أعلام مجموعات مسلحة، البرج الذي يطل على معظم أحياء العاصمة بيروت، استخدم نقطة قتالية إستراتيجية، فهيكل البرج وتصميمه وطوابقه العالية جعلت منه موقعًا «مثاليًّا للقنص»، حيث رسم ذلك في مخيلة اللبنانيين دائرة وهمية قطرها 2 كلم حول البرج، تخيف كل من يفكر في الاقتراب منه، في خضم المعارك التي قتلت المئات، وفق ما يذكر الباحث سون هوغبول في كتابه «في الحرب والذكرى في لبنان». وكان في البرج أيضًا سجن كبير بحسب الروايات، لاعتقال المسلحين من كل الأطراف، حسب المجموعة المسيطرة على المبنى، ومنذ تسلمته شركة سوليدير كانت الحيرة بين هدمه وترميمه، شكل رمزًا جاذبًا للأعمال الفنية والبصرية والتشكيلية والتقاط الصور وتحميله الكثير من المعاني.

فقد صور الفنان نصري الصايغ برج المر بطريقة فنية ونشر صوره في كتاب «لياليّ أمر من أيامكم»، العنوان هو تحوير متعمّد لعنوان فيلمٍ للمخرج البولوني أندره زولافسكي. يقول الصايغ: «ليالي زولافسكي أجمل بالتأكيد، لياليَّ أيضًا هي أجمل، لكنّها، في لحظات، تبدو أمرّ. هذه المرارة التي تخنق الحلق، عنيدةٌ. ليالٍ بيروتية مصنوعة من ترحلاتي المتخيّلة، تشقّقات فجر سكرى بنشوة الصور، التي لا تزال هشّة. ليالٍ مرّة حيث تمتزج الكتابة فيها بالأثر الفوتوغرافي، وهي لعبة كلمات. في ذلك المكان حيث ربما وبتواضع محاولة لتثبيت ذاك الدوار الرامبوي «نسبة إلى الشاعر آرثر رامبو»: «لقد حان دوري. هذه قصة إحدى نوبات جنوني». عن سبب اختياره برج المر للتصوير يقول: «دخلتُ في علاقة غرام ممنوع مع برج المر بالتحديد الممنوع أن نصوّره بسبب وجود الجيش (اللبناني) ولما يملك من خصوصية، فله ماضٍ وتاريخ. التقطت الصور من سيارتي من زوايا مختلفة ليلًا. كانت الصور لقاء وإحساسًا لا غير، البرج ما زال حيًّا مع أنّه ميت. هو جزء أساس من الماضي الذي لم يتبرّج، وبقي معلمًا جغرافيًّا للمارين وسائقي السيارات». يضيف الصايغ: «برج المر هو معلم مكرّم لدى الفنانين، هذا البرج يسكن ذاكرتنا الجماعية كمجموعة قصص وحكايات وحقائق تشمل قناصين ومحاربين يسقطون من فوق سطحه».

وتزامن كتاب الصايغ مع مبادرة من الفنان والمهندس جاد خوري إذ ضخ شرايين البهجة في نوافذ البرج، من خلال وضع ستائر ملونة للبرج، تكسر شحوبه النمطي وتخفف من صورته التي ترتبط بالحرب ومآثرها، وبحسب خوري فإن الستائر تعطي روحًا للمدينة، واستمرت النوافذ لمدة شهر سرعان ما أزيلت من شركة سوليدير.  رسم الفنان أيمن بعلبكي برج المر بشحوبه وكآبته وخلفيته زهورًا تبعث الأمل مع التركيز على دوره في الحرب، وركزت الفنانة جنان مكي باشو، على نوافذ البرج في عمل لها، إذ تبدو النوافذ أشبه بقبور مبنية في الفضاء، مشهدية مؤثرة غامضة تدل على متاهة الحرب ولعبة القناص القاتلة، ولا تزال تداعياتها حتى الآن في الأذهان والنفوس.

وفي السينما حضرت رمزية البرج بين صور المخرج محمد سويد في فلمه «حرب أهلية»، وفي فلم «شو عم بيصير» لجوسلين صعب التي حولت البرج المثقل بتاريخ القنص إلى سوق عكاظ، مسكونًا بالكتب والشعر… في المقابل، أخرجت لينا غيبة فلمًا متحركًا قصيرًا عن البرج، سمته «برج المر». وهي عاشت في محيطه، كانت تراه كل يوم من زاوية مختلفة. يبدأ فلم «غيبة» بجملة بصوت الفنان حامد سنو، يغني واحدة من أغاني مشروع ليلى: «حبيبي»، وينتهي بكلمتين منها: «حبيبي خليك…»، حيث يصير للبرج رجلان يتنقل بهما ذاهبًا نحو المجهول. وكتب المغربي محمد الخلاد قصيدة بعنوان: «لا يمُوت الحُلم مرتين» يقول فيها:

بيت بيروت، بريشة أيمن بعلبكي

(1)

بُرْجٌ من مَرارةِ الناس

أهذا ما تبقَّى من بيروت

جدارٌ يرتفع حجرًا حجرًا

في فراغِ الخَرَاب

ومَبَانٍ مفقوءةُ العيون

تسكنها ظِلال مرعبة

وذكريات مثقوبة بالرصاص؟

… (…)

بيت بيروت

ومن المباني الغواية «بيت بيروت» (بناية بركات سابقًا) الذي رممته بلدية بيروت وحولته متحفًا للحرب اللبنانية. تبدأ حكاية «بيت بيروت» عام 1924م. بعدما عمّر يوسف أفتيموس (1866 ــــ 1952م) المهندس المعماري الطليعي، البيت عام 1924م بطابقين فقط، أتى بعدها ليكمل بناء المبنى في عام 1932م، لكنه عندما رأى الدرج الذي بناه المهندس الشاب فؤاد قزح، تنازل عن إكماله وسلّم الأخير العمل بسبب كفاءته. استعمل الأسمنت وطلاه باللون الأصفر بحِرَفية عالية حتى صَعُبَ التمييز بينه وبين الحجر المصقول. ارتفع قزح بباقي طوابق المبنى وربط بينها بواسطة جسور معلقة في الهواء ظلّلتها الأعمدة. مع بداية الحرب الأهلية عام 1975م، وجد سكانه أنفسهم في قلب الحدث وفي وسط الحرب، على خطوط تماس بين «الشرقية والغربية»، ومن المفارقات أن من بين سكانه طبيبًا ينتمي إلى حزب الكتائب، وبجواره مواطنًا ينتمي إلى حركة فتح. غادر السكان المبنى لتحتله الميليشيات المتحاربة التي جعلت من هندسته المفتوحة على المدينة نقاط تمركز أساسية، استخدم المقاتلون شبابيك المنزل للقنص، واستطاع القناص موالفة ديكوراته ومتاريسه مع هندسة البيت. حيث تعاونت الميليشيات مع المهندسين لإجراء تغييرات هيكلية، مثل تعزيز الجدران، وفتح ثقوب بحجم صندوق البريد لإطلاق النار منها. في زمن السلم ما لم يدمره القصف بدأت تقضمه الجرافات، كان أصحاب مبنى بركات يستعدون لهدمه، الصدف أنقذته، إذ كانت المهندسة اللبنانية منى حلاق تتردد باستمرار إلى محيط المبنى بوصفه نموذجًا ذا قيمة عمرانية يرتبط مباشرة بذاكرة الحرب. أثناء مرورها أمام المنزل في عام 1997م، استوقفتها بعض التغييرات الطارئة عليه، فقد رأت جزءًا من حديد المنزل وبلاطه الملوّن مفككًا، تمهيدًا لعملية الهدم. ذهبت منى فورًا إلى «جريدة النهار»، طالبة منهم نشر صورة المبنى مع عبارة «وقف الهدم». خمسة أيام من الجهد، من قبل منى وبعض الأصدقاء استطاعوا فيها وقف عملية الهدم. «بيت بيروت» اليوم، احتفظ بشكله الخارجي، لكنه تحول متحفًا لذاكرة هذه المدينة. وهو يمثل مركزًا ثقافيًّا للفن الحديث، وقد بات يستقبل أعمال رسامين ونحاتين وفنانين كثر بعد انتهاء أعمال الترميم التي استغرقت سبع سنوات. وتكمن أهمية الحفاظ على مبنى بركات في كونه يوثّق لمرحلة انتقالية في تاريخ لبنان العمراني، يروي ذاكرة حرب دمرت مدينة كانت في طور التشكل، كل حجر فيه له حكايته وكل غرفة لها قصتها، خصوصًا أنه نجا من طموحات وحوش المباني الخرسانية التي كانت تفكر في هدمه.

 

مبنى بركات بات مقصدًا للمصورين الأجانب والشبان، وعرضت فيه الفنانة زينة خليل رسوماتها واستخدمت فيها أقمشة مثل الكوفيات المغمسة بالحبر الأسود الذي هو نتيجة مزج الرماد والصباغ. أما الصور ومقاطع الفيديو فهي توثّق الأمكنة التي شهدت طقوس الشفاء وتظهر حالة الدمار الذي خلفتها الحرب في تلك الأمكنة. واهتمت به الفنانة النرويجية ماري ميد هالسوي… بعنوان «جروح» يدّعي «شفاء جروح بيروت»، تلك التي خلّفتها الحرب اللبنانية بمظاهرها العمرانية والنفسية. اختزلت هالسوي حرب خمسة عشر عامًا بإعادة بناء جدار البيت الأصفر في إحدى غاليريهات لندن، راسمةً ثقوبه لكي يتسنى لها أن تغطيها بالأقمشة. وسبق لمنى حلاق أن جمعت الأغراض الشخصية الخاصة بسكان المبنى قبل الحرب، وفي عام 2001م، قدمت الحلاق معرضًا تجهيزيًّا بعنوان «وجوه ضائعة» في بيروت ضمّ أدوات، وملابس، ومعدات طبيّة، وأحذية ورسائل عثرت عليها في شقّة طبيب الأسنان نجيب الشمالي الذي كان يسكن الطابق الأول من المبنى. إلى جانب معرض تجهيزي آخر بعنوان «يوسف أفندي أفتيموس 1866م- 1952م، عمارة فوق الزمان».

هوليداي إن

فندق «هوليداي إن»، مبنى سان شارل سابقًا، شُيّد بين عامي 1963م و1964م. وكان جزءًا من مشروع «سانت تشارلز سيتي سنتر» الذي كان يضم أيضًا مبنى تجاريًّا ومركز تسوق وصالة سينما. لطالما كان فندق «هوليداي إن» في بيروت رمزًا «لعصر لبنان الذهبي» تحوّل إلى أهم مقر لعقد المؤتمرات في لبنان، وإقامة أهم الحفلات الكبيرة فيه، ومن أهم زواره النجمة العالمية داليدا وأم كلثوم وفريد الأطرش، وصُوِّر أكثر من 15 فلمًا داخله (مصري لبناني سوري مشترك). وسرعان ما بات شاهدًا على الحرب الأهلية. كل شيء منزوع من الغرف، الدهان، البلاط، الأبواب، النوافذ، الأثاث، الأخشاب، التمديدات الكهربائية والصحية. لم يبقَ شيء سوى الجدران. وشعارات الذين مروا من هنا. وهو بعد أن شكّل علامة فارقة في الأفلام العربية التي كانت تُصوّر في لبنان، صار أيضًا محطة لتصوير الأفلام التي تتحدث عن الحرب منها فلم «التزييف» لشلوندورف كتابة نيكولاس بورن. وخلال الحرب كتبت الروائية السورية غادة السمان روايتها «كوابيس بيروت عن الحرب». تبدأ الرواية وهي تحاول بمساعدة أخيها إخلاء منزلها من النساء والأطفال وأخذهم لمكان آمن نسبيًّا وبعيدًا من القصف، ولكنها ما إن تعود إلى شقتها بعد عملية الإخلاء الناجحة حتى تفاجأ بأن فندق هوليداي إن، الذي يقف أمام بيتها مباشرة قد تعرض «للاحتلال» من قبل المسلحين، وهكذا تجد نفسها عالقة في شقتها في قلب الأحداث وفي قلب الطلقات النارية غير مجهزة بالموارد الغذائية مع احتمال انقطاع الماء والكهرباء عنها، وتتساءل والحال كذلك عن جدوى الأدب والشعر في هذه الحالة، وتتمنى لو أنها تعلمت بعضًا من فنون القتال للدفاع عن النفس في مواقف عصيبة كهذه! واختار الروائي ربيع جابر اسم الفندق ليكون عنوان روايته «طيور الهوليداي إن»، وهي عن حرب السنتين في لبنان، ورسمه أيمن بعلبكي تحت اسم «القناص». حتى اليوم لا يزال فندق «هوليداي إن» منتصبًا وسط بيروت، إذ لم يجر ترميمه نظرًا لضرورة هدمه وإعادة بنائه من جديد، الأمر الذي يحتاج إليه كلفة مالية باهظة.

  السينما البيضة

يستوقف معظم المارين في وسط بيروت مشهد مبنى بيضاوي الشكل، عليه بقايا من اللون الأبيض. إنه مبنى «سينما سيتي»، بُني عام 1965م ولا يزال شاهدًا على نهضة الستينيات، لم يبق منه غير هذا الهيكل البيضاوي الفضائي المهجور. آل صمدي وآل صالحة هم من بنوه، بعدما صمّمه المهندس جوزف فيليب كرم. مع إعادة إعمار وسط بيروت الذي بدأته شركة سوليدير في أوائل التسعينيات، وُضعت مخططات عديدة بقصد ترميم القبّة الباطونية، كان أبرزها ذلك الذي قدّمه المعماري برنار خوري، ويقضي بتحويل التصميم البيضوي إلى كتلة ضوئية مغلّفة بمرايا تلتقط قشرتها الخارجيّة وتعكس محيطها. لكن، سرعان ما أجهض هذا المخطّط، عام 2004م، من دون سبب وجيه. الفنان سمير خداج قدم في سيتي سنتر عام 2003م، أعمالًا تجهيزية ضخمة في ترجمته الرهيبة لمأدبة بترونيوس الفاجرة Satyricon، إلى مسرح روماني لوليمة خيالية. عمالقة وملوك وجنود ورجال عاديون وراقصات ومهرجون يتوزعون حول الموائد ويحيون. كل هذه التماثيل لا تستعيد «ساتيريكون» فقط. الفنانة هاتي بيدر رسمت الصالة البيضاوية في مشهدية تجمع التناقضات، الفنان أيمن بعلبكي رسم السينما من ضمن رسمه المباني التي ترمز إلى الحرب بدءًا من بيت بيروت ومبنى هوليداي إن وكثير من المباني التي دمرت وأزيلت من بيروت. الروائي اللبناني ربيع جابر كتب رواية «بيريتوس مدينة تحت الأرض» انطلاقًا من ذلك المبنى المهجور، كتب في تعريف الرواية: حارس سينما سيتي المهجورة ينزل ذات ليلة ماطرة إلى مدينة تحت بيروت تسمى بيروت أيضًا. ماذا يجد بطرس «تحت»؟ نساء فاتنات الجمال، وعائلات كاملة تحيا في نور الشموع طعامها السمك الأعمى وخبز السمك والجذور البرية… من أين أتى هؤلاء؟ ومن هم العميان في حي العميان؟ هل نزلوا من «فوق» أيام الحرب اللبنانية التي قتلت أكثر من مئة ألف إنسان، وأخفت في الظلمات 17 ألف مخطوف؟ أم أنهم ولدوا تحت رواية عن عالمين، عن التهجير والقتل والبقاء على قيد الحياة.

السينما البيضة، بيروت سيتي سنتر

فندق سان جورج

وربما فندق السان جورج أقل جاذبية لأعمال الفنانين من المباني التي ذكرناها سابقًا، لكن حكايته التاريخية أكثر غواية. فهو الفندق الذي أُحرِق خلال حرب الفنادق، واحتله الجيش السوري حتى عام 1996م، ودخل أصحابه في نزاع مع شركة سوليدير، وانهار جزء منه في الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري عام 2005م. «السان جورج»، هذا الفندق له رمزيته المعمارية والمكانية والسياسية، فقد صممه المهندس الراحل أنطون تابت، عام 1929م، وبات السان جورج من أشهر العمارات في بيروت، لكونه شيّد بالباطون المسلح. وفي عام 1945، أقام فيه الفنان صليبا الدويهي معرضًا فرديًّا، واعتبر فيما بعد أهم معرض له في لبنان، وكان موضوعه القرية والوديان بطريقة فلكلورية. وكان السان جورج موئلًا ومقصدًا للإعلاميين والسياسيين على مستوى عالٍ، فعلى مر السنين أصبح ملهاه الليلي، ملتقى رجال السياسة اللبنانيين والسفراء والملوك، مثل محمد ظاهر شاه ملك أفغانستان، والملك الأردني حسين. كما كان مقرًّا للمشاهير، أمثال المغني الفرنسي شارل أزنافور، والجاسوس البريطاني كيم فيلبي، ونجوم هوليوود من أمثال إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون، إضافة إلى فنانين عرب مثل أم كلثوم. وحين فازت جورجينا بلقب ملكة جمال الكون خصص لها الفندق غرفة بمواصفات خيالية، إذ طليت مقابض أبوابها وحنفياتها بالذهب الخالص، كما حمل باب الغرفة الرئيسي الحرفين الأولين من اسمها اللذين كتبا أيضًا بأحرف ذهبية.

فندق سان جورج

ومقهى «السان جورج» العنوان الدائم لكبار الصحافيين، من المصري محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام، إلى اللبنانيين سليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث، وعفيف الطيبي رئيس تحرير جريدة اليوم، وحنا غصن رئيس تحرير جريدة الديار… إضافة إلى عدد من الصحافيين الذين عملوا في الوقت نفسه كأبرز عملاء للاستخبارات الغربية والإقليمية. ومراسل صحيفة «كونتيننتالي»، المصري خيري حماد، كان من أبرز عملاء الاستخبارات المصرية، وقد عمل على نسج علاقات واسعة مع عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، ومع ضباط أمنيين في المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية. وكان الفندق يحتوي منتديات شهيرة. فبلاج «سان جورج» الملحق بالفندق، كان مقصدًا للبورجوازية اللبنانية السياسية والاجتماعية. أما السياسي المداوم على السباحة يوميًّا في «سان جورج»، فكان ريمون إده، العازب الأشهر في زمانه. يقول الصحافي سمير شاهين: ومن ذكريات بلاج «سان جورج»، أتذكر أن النائب السابق مخايل الضاهر تعرف إلى زوجته في هذا البلاج. أما هنري فرعون السياسي والمالي الشهير، فكان يُشاهَد يوميًّا في إحدى الزوايا يلعب «الطاولة» النرد على مبالغ كبيرة مع ميشال نادر مستثمر البلاج. وكان السفير عبدالرحمن الصلح من بين أكثر الوجوه السياسية المترددة على هذا البلاج. أما كامل الأسعد، فكان يؤثر السباحة في بلاج محدود الحجم، يقع في الجانب الآخر من الفندق تحت اسم «إيليت» Elite حيث كان يمارس أيضًا لعبة التنس.

وأبعد من الصحافة والزعامة اللبنانية، كان الفندق «وكرًا» للجاسوسية العالمية. يسرد الصحافي سعيد أبو الريش قصصًا عن جواسيس «السان جورج»، والأنشطة الأمنية الأميركية والأجنبية في بيروت، وعن مؤسسات أميركية تتخذ طابع العمل الإنمائي والثقافي، وكانت في الواقع تهدف إلى جمع المعلومات وتحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية في عيون العرب. وبقي الأشهر هو الجاسوس فيلبي، الذي ما زال الغموض يلف أسرار تهريبه من بيروت، وكان من أبرز عملاء الاستخبارات البريطانية والسوفييتية في الوقت نفسه. ويحاول كتاب سعيد أبو الريش، فك هذا الطلسم، فيذكر أن فيلبي، بعد استقراره في موسكو، أبلغ فيليب نايتلي من «صانداي تايمز»، بأن الاستخبارات البريطانية سمحت له بالهرب لتحاشي اعتقاله ومحاكمته التي ستؤذي حتمًا كبار أركان جهازها. كان النادل اللبناني، ينقل إلى الأمن العام كل ما يسمع ويرى. وبعد تقاعده في كاليفورنيا، لحق به أبو الريش إلى لوس أنجليس، ليستطلعه أخبار الماضي، فرفض البوح بما يملك من أسرار.

«بار السان جورج، إذا نظرنا إلى خصوصيته العالمية، فيجب الأخذ بعين الاعتبار أنه ركن يقع داخل بيروت لكنه منفصل عنها. إنه نموذج مختلف ومراوغ، منه تطل على العالم وتتدخل فيه أيضًا!! أي تغيير وليكن انقلابًا أو تعديلًا وزاريًّا… لا بد من أن يمر أحد فصوله داخل البار، وإذا وقع بصرك على شخصين يتبادلان حديثًا هامسًا، فتوقع شيئًا ما سيحدث غدًا، أو في القريب العاجل في إحدى عواصم المنطقة». هكذا يصف أوستن رجل الاستخبارات الأميركي أحد أبطال رواية «الضغينة والهوى» لفواز حداد بار السان جورج، والسان جورج ورد في روايات عديدة منها «يمنى» لسمير عطالله، و«بيروت» لإسكندر نجار، ويوم احترق الفندق في المرة الأولى في حرب الفنادق، كأن غلاة الميليشيات يحرقون بيروت من خلاله.

***

وتقف المباني المذكورة والمصابة بجروح الحرب والغارقة في خرابها أو حنينها، شاهدة على زمنها المرير وعلامة على زمن «جميل» قضى ولم يبقَ منه غير الحكاية.

مي زيادة.. ملكة دولة الإلهام.. حياتها راوحت بين هويات

مي زيادة.. ملكة دولة الإلهام.. حياتها راوحت بين هويات

لا أحسب أن كاتبة عربية أخذت حياتها الشخصية صدى مثلما أخذت مي زيادة (1886 – 1941م)، ولم تنل كاتبة عربية ما نالته من كتابات وأبحاث (عشرات الكتب)، كان ظهورها بين الكتّاب «كظهور زنبقة برية رائعة في صحراء قاحلة (…) وتهافت أدباء عصرها «على عتبة قلبها» كما كتب الأديب أسعد حسني، فقد لقّبها ولي الدين يكن بـ«ملكة دولة الإلهام»، وخليل مطران بـ«فريدة العصر»، ومصطفى صادق الرافعي بـ«سيدة القلم»، وشكيب أرسلان بـ«نادرة الدهر»، ويعقوب صروف بـ«الدرّة اليتيمة»، والأب أنستاس الكرملي بـ«حيلة الزمان»، وشبلي الملاط بـ«نابغة بلادي»، ومصطفى عبدالرازق بـ«أميرة النهضة الشرقية»، وفارس الخوري بـ«أميرة البيان»، وعبدالوهاب العزام بـ«النابغة الأدبية»… ووراء المجد والشهرة، كانت تعيش «مأساة النبوغ» بحسب ما عنونت سلمى الحفار الكزبري كتابها عنها. ويكفي الاطلاع على ما خلّده فيها كبار شعراء العربية المعاصرين للتأكّد من أن مي زيادة ليست امرأة عادية؛ هي التي قال فيها أحمد شوقي:

«إذا نطقتْ صبا عقلي إليها… وإن بسمتْ إليَّ صبا جَناني»

وفي كل مرة أقرأ كتابًا جديدًا عن مي، أحسب صاحبه يزعم أنه يقول جديدًا حولها لا يعرفه غيره، أو يتوهم أنه يمتلك الأوراق المجهولة عنها، خصوصًا أن حياتها راوحت بين هويات، بين الشرق التقليدي والغرب المنفتح و«التحرري»، كانت امرأة وحيدة في صالون أدبي يضم عشرات الرجال، وإذا رصدنا الكتب الصادرة عنها قديمًا وحديثًا، نجد أنها ستظل لغزًا طويل الأمد، يحمل كثيرًا من الدلالات والمدلولات الثقافية والاجتماعية. ويبدو أن حياتها التراجيدية والدرامية كانت أقوى بكثير من أدبها ونصوصها في زمننا هذا؛ إذ شكلت مادة دسمة للكتابة والبحث، بغض النظر عن النتائج والتأويلات والتخمينات، وبغض النظر إن كان بعض الكتابات استنساخًا أو تناصًّا ولا يقدم جديدًا. وآخر النتاجات عن مي، ما كتبه الروائي الجزائري واسيني الأعرج الذي أمضى، بحسبه، أكثر من ثلاثة أعوام في التنقيب عن المرحلة الأخيرة من حياة الأديبة الراحلة إلى أن ضمّن هذا الجزء المرير في روايته «ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاث مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية»، وتنطلق الرواية من البحث عن مخطوطات مفقودة كانت زيادة، قد دونتها في أثناء وجودها في مصحٍّ عقليّ يقع في لبنان يسمى «العصفورية».

والعصفورية هو أول مصحٍّ للأمراض العقلية في لبنان، شيِّد على أيدي أفراد من الإرساليات الأميركية في نهاية عام 1890م بإذن من السلطنة العثمانية. في عام 1972م توقف استعمال المصحّ لكن ظلت كلمة «العصفورية» في ذاكرة اللبنانيين. ويشير الأعرج في كتابه إلى أن أجيالًا متعاقبة ركضت وراء تلك المخطوطات في كل اتجاه لأكثر من 70 سنة لكن من دون جدوى ويتساءل عما إذا كانت ضاعت حقًّا أم أن القدر شاء غير ذلك فرماها في بقعة مظلمة ليجعل العثور عليها محالًا. وبعد رحلة مضنية رافقته فيها الباحثة الكندية- اللبنانية روز خليل يتمكن الراوي من العثور على هذه المخطوطات لدى امرأة عجوز في مصر وطابق بعضها مع أوراق معدودات كان الكاتب قد وصل إليها عن طريق مقربين من الأديبة الراحلة في بلدة الفريكة وتحمل عنوان «ليالي العصفورية»، يستغلُّ واسيني تقنية «المخطوط»، فيجتهد في مقدّمة طويلة بعنوان «غيمة النّاصرة» في رسم مسار متابعة المخطوط المفترَض: القاهرة بيروت روما الناصرة… مصوِّرًا كيفية القبض عليه وتحصيله في القاهرة بعد جهود مضنية، محاولًا حَفْز «أثر الحقيقة» في نفس قارئه إلى حدِّ إعطائه رقمًا في المكتبة الوطنية الفرنسية، وهو ما يوحي بإمكانية تصفُّحه والاطِّلاع عليه لمن يرغب في ذلك، وهو ما يجعلُ كثيرين يعتقدون ذلك حقًّا. والحال أن مي في أثناء محنتها لم تنقطع عن القراءة والكتابة، وحدثت زوارها عن كتابها لكن زوارها قلّ عددهم وأخذ يتناقص فمزقتها الوحدة والكآبة، وزاد التشهير بها ولم تطبع كتابها، وقالت: «الذين كتبوا إليّ الأشعار والرسائل إمعانًا في إثبات حبهم لي، أنطون والشناوي والعقاد ولطفي وطه، كلهم شربوا قهوتي وتقاسموا العيش والملح والأغاني، لم يسطروا سطرًا للدفاع عني، الله يرحمك يا أمين يا ريحاني ويديم عزك يا فيليكس فارس»، وهما من الذين وقفوا إلى جانبها في محنتها. ومن أجواء رواية واسيني الأعراج الجديدة على لسان بطلتها «إيزيس كوبيا»: «أخيرًا دونتك يا همّ قلبي وجرحه، إلى أين أهرب بهذا الخوف الذي سيضيف لي رعبًا جديدًا؟ تحدثت فيه عن علاقاتي السوية وحتى غير السوية مع محيطي، عن الناس الذين عرفتهم وعرفوني. عن الذين أحببتهم، والّذين ركضوا ورائي باشتهاء عرفته من عيونهم، حكيتُ عن الذين زجّوا بي في دهاليز الجنون وجعلوا من العصفورية سجنًا يموت فيه الناس بصمت. حتى النفس الأخير، قلتُ بعض ما أحرقني، وحوّلني إلى رماد في ثانية واحدة».

ويختار الأعرج اسم «إيزيس كوبيا» الذي كانت تستخدمه كاسم مستعار، يوم أصدرت ديوانها «أزاهير الحلم»، (حافظت مي على مراوحة من الأسماء، تفيء إلى التوقيع بواحد منها لاعتبارات عائدة إليها أساسًا، ساد اسم ميّ، فيما راحت تخبو التسميات الأخرى: عائدة، كنار أو كنار شهاب، خالد رأفت، ميمي برقش، دُخَّلَة). ولم يقدم الأعرج جديدًا لافتًا في روايته سوى أنه قام بمجهود في تدوينها.

وسبقت الأعرج الكاتبة دارينا الجندي التي أصدرت كتابًا باللغة الفرنسية بعنوان «مي زيادة… سجينة الشام»، ويتناول سيرة مي الأدبية وحياتها الشخصية منذ ولادتها في الناصرة مرورًا بحياتها في لبنان ومصر، وإيداعها في مستشفى الأمراض النفسية. وتقول الجندي: إن الدافع الأول وراء إعادة كتابة سيرة مي، التي كتبها عدد من المؤلفين ومن أبرزهم سلمى الحفار الكزبري، هو تعرضها للتجربة نفسها، حيث دخلت «العصفورية» لفترة من الزمن. وتقول دارينا في حوار مع تهامة الجندي: «لم يكن من المفترض أن ألتقي ميّ زيادة، هي وُلدتْ عام 1886م، وأنا وُلدتُ في سنة 1968م. كنت أسمع عنها في طفولتي أنها حبيبة جبران، وأن لديها صالونًا أدبيًّا، ثم أُصيبت بالجنون، وكنت ألعب في حديقة مستشفى الأمراض العقلية الذي قبعتْ فيه، وحين كنت أصوّر دوري في ثلاثية لمحطة «إل بي سي»، كان التصوير في بلدة الفريكة، واكتشفت أن البيت الذي كنت أختبئ فيه، كي أنفرد بنفسي وأدخن، كان بيت أمين الريحاني، وإلى جواره كان البيت الذي وضُعت فيه ميّ، بعد خروجها من المشفى، وفي باريس اكتشفت أن بيتي يقع على مقربة مئة وخمسين مترًا من الفندق الذي نزلتْ فيه، وكنت أمشي كل يوم على ضفاف السين، أصل إليه وأعود. وبت على يقين أن كل المصادفات تأخذني إلى هذه المرأة وتربط قدري بها».

أوهام الهوية

قبل الأعرج والجندي قرأنا في إحدى الصحف اللبنانية أن أهالي شحتول في منطقة كسروان اللبنانية يرفضون ما تورده بعض المراجع عن أن «مي زيادة أديبة وشاعرة فلسطينية»؛ لأنها على رغم ولادتها في الناصرة الفلسطينية، لبنانية بامتياز، لذا أقامت بلدية شحتول تمثالًا نصفيًّا لها في ساحة البلدة، مسقطها. (لنتذكر أيضًا أن جبران خليل جبران كان منبوذًا من بعض المؤسسات الدينية في أيامه، لكن بعد تبني أدبه في العالم أصبح أحد الأساطير المؤسسة للجمهورية اللبنانية) الأرجح أن أبناء البلدة اللبنانية التي تريد تكريم مي زيادة لا يعرفون كثيرًا عن حياتها، ربما هم أرادوا ما بقي منها، أي شهرتها في الوسط الثقافي. كان والد مي قد رحل من شحتول إلى فلسطين، حيث تزوج من والدتها نزهة معمر، الفلسطينية من أصل سوري، ووُلدت ابنتهما ماري في 11 فبراير (شباط) 1886م، وهي من خلال مسارها، تجمع بين اللبنانية والسورية والفلسطينية أي المشرقية الشامية ويضاف إليها المصرية من دون أن ننسى الثقافة الأوربية، وبهذا تتجاوز مي الهوية المحلية نحو «الثقافة الكونية»، وإن كانت في مرحلة ذهبت ضحية العقل المحلي المتخلف. وتأرجحت حياة وحياة مي زيادة بين الموهبة الإبداعية وبراقش الحب والمعجبين (وهم كثر) وما بينهما «ليالي العصفورية» المرة. فالكاتبة حين كانت في الخامسة عشرة كانت لا تزال تدرس في مدرسة راهبات الزيارة في عينطورة، انتحلت اسم «كنار» لتوقِّع به رسائل غرامية وترسلها إلى ابن عمها نعوم الذي كان يتعلم في مدرسة مجاورة. كان ابن عمها نعوم يبادل المرسِلة كنار رسائلَها من دون أن يدري هويتها الحقيقية. ربما كان يدري وكتم الأمر إلى حين، ولعلّه كان يضع مراسلته تحت الاختبار. خطبها فيما بعد، في أواخر يونيو عام 1905م حين قدم والدها إلى لبنان للاحتفال بخطبتها. بدت يوم الاحتفال سعيدة ووجدت في الاحتفاظ بشرعية علاقتها بنعوم تحقيقًا لاستقلالية شخصيتها وتأثرت بلطف ابن عمها ثم أصيبت بخيبة أمل دعتها إلى إلغاء الخطبة في أواخر صيف 1905م؛ إذ تبين لها أن نعوم كان يستكتب صديقه لتدبيج رسائل حب تستهويها وترضيها لعجزه عن ذلك. بعدها انتقلت برفقة والديها للإقامة في مصر في منتصف عام 1907م، حاملة مشروع أديبة تكتب بالفرنسية، بتوقيع إيزيس كوبيا، في هذا المناخ العام، صدر العدد الأول من جريدة «المحروسة» في القاهرة في 11/1/1909م باسم صاحبها ومديرها المسؤول إلياس زيادة. وكانت ماري توقِّع كتاباتها فيها طوال عامي 1909م و1910م، تأليفًا وترجمة، بأسمائها التي خبت. تعرفت مي إلى أستاذها أحمد لطفي السيد، الذي قادها إلى برنامج مكثف لدراسة اللغة العربية والخط العربي، أمّا اسم ميّ فظهر، للمرة الأولى، في عدد «المحروسة» الصادر في 3 فبراير 1911م، في الصفحة الثانية، لا الأولى. وذلك ضمن إطار خاص بعنوان «خواطر»، أُلحِقتْ به، تعريفًا، عبارة: «لحضرة الآنسة صاحبة الإمضاء (ميّ)». على هذه الصورة، وبهذا الاسم، باشرت ميّ حضورها الكتابي في «المحروسة»: «… ذهبت إلى الجامعة المصرية وفي قلبي شيء من السرور [….]، ولم أجد في الجامعة أثناء المحاضرة أكثر من ستين سيدة بين سوريات ووطنيات». ثم كرّت سبحة خواطرها عن «علّة العصر والتربية»، و«السعادة» و«حملة الأقلام». في 6 يوليو 1911م كان عنوان مقالها في «خواطر»: «لا عدالة عندكم أيها الرجال. الإنصاف تأنّث».

أسعفها ثراء أهلها في افتتاح صالونها الأدبي في القاهرة في منزلها الكائن في شارع عدلي، كل يوم ثلاثاء منذ عام 1913م، قبل أن ينتقل عام 1921م إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام، ويستمر حتى بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث كانت تقدم حفلات الشاي في أثناء المناظرات الفكرية والأدبية والشعرية، وتوفير الراحة لعشرات الوافدين، خصوصًا الأدباء الذين كثُرت التأويلات حول علاقتهم بها وعلاقتها بهم، وهي راوحت بين الاستلطاف والانسجام والغرام إلى حد العشق، وتضاربت بين الظن والتأكيد والشائعات وجعلت بعض الشعراء يهيم بزيادة كأنها ليلى العصر الحديث… ومن الأسماء التي ارتادت صالونها عباس العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وإسماعيل صبري والشيخ مصطفى عبدالرازق وشبلي شميل وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وولي الدين يكن ومصطفى صادق الرافعي وأنطون الجميل ومنصور فهمي. وكل هؤلاء أحبها على طريقته.

ولم تذهب الكتابات في تبيان علاقات زيادة مع أشخاص بعيدين من الوسط الأدبي (غير الأدباء)، كأن أهل الأدب وحدهم «محصورة بهم بالذات المؤهلات الدونجوانية» بتعبير الكاتب اللبناني فاروق سعد الذي أصدر كتابًا بعنوان «السر الموزع للآنسة مي»، مبيّنًا فيه أنه بعد وفاتها أطلق عدد من الكتّاب أعنّة أخيلتهم في تركيب الأخبار والروايات عن غراميات مزعومة لزيادة، وإن كان فيها شيء من الواقع. ولو عاشت زيادة، يقول فاروق سعد، وقرأت الحلقات المتسلسلة التي نشرها كامل الشناوي بعنوان: «الذين أحبوا مي»، وما تضمنته من مزاعم عن علاقاتها العاطفية بزوار صالونها الأدبي، لأقفلت باب منزلها في وجههم! ومي «عروس زفوها إلى ألف حبيب»، في الرسائل الموجهة من أحمد لطفي السيد إليها تستوقفنا عبارات: «جاءني كتابك فشممته مليًّا وقرأته هنيئًا مريئًا». لم يكن فعل السيد يقتصر على فيتشية شمّ رسائل مي فحسب، في إحدى رسائله يخاطبها: «أنا لا أطرد الطيور إكرامًا لخاطر كنارك الصغير ولا أهيج الحمام إكرامًا لما اشتهر به من معنى الوفاء، وحسن العشرة، (…) فطالما أصليت صغار الطير نارًا حامية من بندقيتي لا لآكل لحمها، بل لألعب بالنفوس البريئة التي هي مثلي لها حق في الحياة»! شعرت مي بحرج كبير إزاء رسائل السيد، لكنها كانت تتجاهل الأمر وتسكت عن الجواب. لم يكن وقار الشيخ مصطفى عبدالرازق، شيخ الأزهر آنذاك، حصنًا آمنًا من جاذبية مي. فأخذ يحبها بصمت وحياء ولم يعبّر عن حبه بالكلمة المسموعة، واكتفى بالتعبير بالكلمة المكتوبة عبر بعض الرسائل التي كان يراسلها بها وبلغت ثلاثًا إحداها أرسلها من باريس والأخريان من ألمانيا. إضافة إلى تلك الزيارات التي كان يحرص عليها في صالون مي زيادة.

وكان الشاعر ولي الدين يكن أحد أولئك الأدباء الذين ربطت بينهم وبين مي صداقة وطيدة. لم يقف الأمر على الإعجاب بل تجاوزه إلى الهيام وعقدة الشعور بالاضطهاد العاطفي (المازوشي) إلى درجة جعلت يكن يكتب على صورة فوتوغرافية له أهداها إلى مي: «كل شيء يا مي عندك غال/ غير أني وحدي لديك رخيص». كانت مي تشعر بعشق ولي الدين وصدق عاطفته نحوها، لكنه لم يلق تجاوبًا منها ولم يغضبها ولم يحرجها، كان يسرف في التذلل لها إلى درجة التصريح بتقبيل قدميها بكل إجلال، ختم رسالته المؤرخة 4 نوفمبر عام 1915م بعبارة: «أقبّل الأقدام بكل إجلال». حشد كامل الشناوي الأدلة لإثبات الحب بين ولي ومي، إلا أن سلمى الحفار الكزبري ترفضها، وتقول: تجاوز إعجاب يكن بـمي حدود الإعجاب، فأضحى حبًّا روحيًّا جميلًا تجلى في رسائله إليها وأشعاره فيها، مما حدا بمعاصريه أن يقولوا: إن هيامه بمي دفعه إلى ذرف الدموع، وتقبيل اليدين والقدمين، وتتساءل: «لا ندري من أين استقى الشناوي هذه الأخبار الملفقة، التي لم يذكر منها شيئًا معاصرو مي وولي الذين كانوا أعرف الناس بهما، وكتبوا عنهما صفحات مشرفة لهما ولذكراهما، أمثال العقاد ومنصور فهمي وطه حسين والجميل، ولم يلحظ أحد أنها لبست السواد عليه طوال سنتين. أما مصطفى صادق الرافعي فزار مي للمرة الأولى في صالونها عام 1923م وكان في الثانية والأربعين. بالغ بعض الكتاب في وصف مشاعر الرافعي تجاه مي، ذكر كامل الشناوي أن الرافعي «جن بمي غرامًا وفكّر أن يتخذها ضرّة لزوجته، بل إنه كتب أوراقًا ظن أنها تجلب له قلب مي وتحببها فيه وعلّقها على سارية في أعلى منزله».

وأحب العقاد مي بكبرياء في أول الأمر. ورويدًا رويدًا، بدأ يذعن لعاطفته حتى امتلكت قلبه وعقله. وبدلًا من أن يكتفي بزيارتها في صالونها الأدبي، راح يعزز علاقته بها فيقضي معها ساعة أو أقل سيرًا في صحراء مصر الجديدة. وبدأت الغيرة تجد طريقها إلى نفسه، فيغار عليها من علاقتها بجبران. وكانت مي تستلذ بغيرة العقاد عليها، فتستزيد من تلك اللذة كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا، مستخدمة أحيانًا الدلال الناعم الجذاب، كما تظهر رسالة أرسلتها إلى العقاد من برلين في 30 أغسطس عام 1925م، قالت فيها:

«وحسبي أن أقول لك: إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان. بل إنني خشيتُ أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة «المحروسة». إن الحياء منعني، وقد ظننتُ أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك. والآن عرفتُ شعورك، وعرفتُ لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران». ويقول الشناوي: إنه كان تحدث مع العقاد، ووضح له أنه يرى أن مي لم تشعر بغير يكن فأجابه بلا، وسرد المؤلف تفاصيل الحديث، حيث وضح للعقاد وجهة نظره في كتاباته الشعرية، وتكرار اسم هند، إنه يرى الأخيرة ما هي إلا اسم مستعار لميّ، كما أن رواية «سارة» لم تكن إلا مي أيضًا، وهنا تفاجأ العقاد بتحليل الشناوي لذلك قال: «لقد حاولت جهدي أن أكتم هذه الحقيقة عن أقرب الناس إليّ وكان في عزمي أن أجهر بها يومًا، ولكن بعد أن يصبح هوانا العفيف تاريخًا يجب أن يسجل، وإن عندي من رسائل «مي» إليّ، وعندها من رسائلي إليها، ما يصلح كتابًا يصور علاقتي بها، وهي علاقة قائمة على الحب المتبادل. نشير هنا إلى أن خليل مطران وأنطون الجميل رغبا في الزواج من مي وأخفقا إذ ظلا في حياتهما عازبين مثلها! أما علاقة عباس العقاد بمي فزاخرة بالمزاعم والتناقضات بين رواية وأخرى. ومي بحسب المازني «أخذت مي من جبران خياله، ومن العقاد عقله، ومن طه حسين دأبه، ومن شبلي شميّل ذكاءه، ومن مصطفى عبدالرازق أخلاقه، ومن الحياة رومانسيتها الحالمة». وثمة من يقول: «لم يثبت لميّ أية علاقة عاطفية بينها وبين أحد في مصر».

الشعلة الزرقاء

يوم أرسلت مي زيادة أول رسالة إلى جبران كانت بلغت السادسة والعشرين، وأخذت تلوح تباشير ذيوع اسمها كأديبة تكتب باللغتين الفرنسية والعربية وبأسماء مستعارة كثيرة، وتوطدت ثقتها بمستقبلها الأدبي. استمرت حتى وفاة جبران في 5 مارس 1931م. كانت مي معجبة بمقالات جبران وأفكاره فبدأت بمراسلته عقب اطلاعها على قصته «الأجنحة المتكسرة» التي نشرها في المهجر عام 1912م. في بداية المراسلات، اتسمت لغة مي بالحذر، واكتفت باللهجة الرسمية في الخطاب. لكنها مع الوقت، وقعت أسيرة كلمات جبران، وتحركت عاطفتها له، ومع ذلك آثرت التهرب من مشاعرها. فكانت تنقطع شهورًا عن مراسلته، ليدفعه ذلك للتساؤل عن هذا الانقطاع، واصفًا إياها بإحدى رسائله بأنها «موسوسة». ولدى التأمل في بعض الرسائل يتّضح بأن الصلة ما بين جبران ومي قد توثقت شيئًا فشيئًا؛ لأن لهجته في مخاطبتها تدرّجت من التحفظ إلى التودد، وعام 1919م عكرت صفو التواصل سلسلة من الخلافات بينهما التي عبّر عنها جبران مرةً على أنها «هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب إلى مرارة».

ويمكن استخلاص «معجم الأشواق» من خلال الرسائل الجبرانية المي الزيادية، ففي تعليقة على كتاب «مي زيادة صحافية» لأحمد أصفهاني كتب الباحث العراقي علي الشوك: قرأت في كتاب أصفهاني، كلمات لمي ولجبران هزتني، بدلال مي، وغلظة جبران. في رسالة مي إلى جبران، في مارس 1925م، قالت له: «… لقد قصصت شعري، وعندما ترى من صديقاتك بعد اليوم يا جبران من هن في هذا الزي يمكنك أن تذكرني، وتقول لهن، في سرك، إنك تعرف من تشبههن!» وجاءها الرد في 23 مارس: «إذًا قد قصصت شعرك؟ قد قصصت تلك الذوائب الحالكة ذات التموجات الجميلة؟ ماذا يا ترى أقول لك؟ ماذا أقول وقد سبق المقص الملام؟».

يضيف الشوك: كان جليًّا أن مي أرادت التقرب إلى جبران. ووجدت أن وسيلتها إلى ذلك هي محاكاة «صديقات» جبران. إنها تعلم أن لجبران صديقات. فأحبت أن تدخل إلى قلبه من خلال انتمائها إلى حظيرتهن، كأنثى لا تقل عنهن جمالًا. لكن جبران، الغارق في رومانسيته، ربما لم يُرد لي أن تصبح امرأة طبق الأصل عن النساء المحيطات به في أميركا. لقد قصت مي شعرها من أجله، فصفعها في رد فعله. وفي شتاء عام 1924م، وبعد ما يقارب 13 عامًا من بدء المراسلات، استجمعت مي شجاعتها واعترفت لجبران بحبها له، كانت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمرها. جُمعت رسائل جبران لمي في كتاب «الشعلة الزرقاء» لا ريب أن مي أحبت جبران حبًّا جعل المقارنة بينه وبين الذين خطبوا ودّها أمرًا محالًا. وفي عام 1931م، بعد انقضاء شهر على وفاة جبران، اعترفت ميّ لقرائها بوجود مراسلة طويلة بينها وبين جبران وذلك في مقالة: «جبران خليل جبران يصف نفسه في رسائله» نشرت في مجلة «الحديث» الحلبية لصاحبها سامي الكيالي، ضمت فيها فقرات قصيرة من رسائله إليها، وعبرت عن حزنها العميق عليه مصوِّرة غربتها وغربته في الوجود بعبارات موجعة قالت فيها: «حسنًا فعلت بأن رحلت! فإذا كان لديك كلمة أخرى فخير لك أن تصهرها وتثقّقها، وتطهرها لتستوفيها في عالم ربما يفضل عالمنا هذا في أمور شتى…». أيضًا تعرضت بعد وفاة والديها إلى حالة من الحزن، ووجدت نفسها وحيدة، فقررت إلغاء ندوة صالونها الأسبوعية كل ثلاثاء، لكنها لم تنقطع عن التأليف والكتابة، واستسلمت لهواجسها بأن أدخلت مستشفى الأمراض العقلية في بيروت. إذ كتبت لابن عمها جوزيف في 28 سبتمبر سنة 1935م رسالة مؤثرة، وصفت فيها آلامها وتردي صحتها، وطلبت منه الحضور إلى مصر لإنقاذها مما كانت تعانيه من عذابات نفسية، معربة عن رغبتها في العودة إلى لبنان:… «إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فيَّ وحولي، إني لم أتألم في حياتي أبدًا كما أتألم اليوم (..) لا، يا جوزيف، إن هناك أمرًا يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم، بل في كل دقيقة». لقد لبَّى جوزيف زيادة طلبها على جناح السرعة، فمكثت أربع سنوات متنقلة بين العصفورية ومصح الدكتور ربيز، وبين بيت متواضع في بيروت استأجره لها أولئك الذين هبوا لإنقاذها ومصيف الفريكة التي استجمت فيه بجوار صديقها أمين الريحاني.

   وفي مستهل صيف عام 1935م، كانت أُحِلَّتْ عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) محل ميّ زيادة في صفحة «الأهرام» الأولى. هو إعلان صارخ بالاستغناء عن ميّ وشطبها من الوجود، لا من «الأهرام» وحسب. لكأنه انقلاب في مناخ مصر العام بحسب الكاتب سمير سعد مراد، لا مجرّد تبدّل. هذا ما عناه استبدال عائشة عبدالرحمن بميّ، المعروفة باستغراقها في الثقافة التراثية الإسلامية «.. وكانت مطبوعة المحروسة تعرضت للأسلمة في فبراير 1921م، غامرتْ ميّ، في عام 1922م، بالتساؤل العلني «أين وطني؟»، وقالت فيه: «… فهؤلاء يقولون: «أنتِ لست منّا لأنك من طائفة أخرى، ويقول أولئك: «أنتِ لست منّا لأنك من جنس آخر». فلماذا أكون، دون سواي، تلك التي لا وطن لها؟ وُلدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمّي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأيّ هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟». والمشروع الليبرالي كله تعرض للنكسة بعد محاكمة طه حسين بسبب كتاب «في الشعر الجاهلي» والهجوم على كتاب علي عبدالرازق على خلفية كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وغيرهما من القضايا. ويوم ماتت مي عن عمر ناهز 55 عامًا في عام 1941م لم يمش وراءها رغم شهرتها ومعارفها وأصدقائها الذين هم بغير حصر، سوى ثلاثة من الأوفياء: أحمد لطفي السيد، خليل مطران، أنطون الجميل.

ذكورية السياق

ظهرت حقيقة معظم الأدباء الذين ارتادوا صالون مي، في أثناء محنتها مع ابن عمها وبعد وفاتها. فعدا ترويج الغراميات المتخيّلة، ظهّر بعض الأدباء لغتهم الذكورية وكشفوا عن أقنعتهم الحقيقية وفسقهم اللفظي والعنصري. كان الناقد عبدالله الغذامي محقًّا حين كتب في مجلة العربي (فبراير 1995م) مقالًا بعنوان: «تأنيث المكان وذكورية السياق»، قال: «لم يكن صالون «مي» صالونًا أدبيًّا عاديًّا ولكنه كان تحدِّيًا للرمز الذكوري ولاستحواذ الرجل على ضمير الخطاب اللغوي واحتكاره المواقع وتفرده في إدارتها. ظهور «مي» هو علامة على هذا التحدي وهو لغة العلاقة الجديدة التي عبثت بالأدوار التقليدية الراسخة». كان الأدباء والشعراء «يجتمعون يوم الثلاثاء في ضيافة هذه الفتاة الخارجة للتو إلى نهار اللغة الساطع». «كلهم رجال يمثلون ثقافة الفحل». حادثة تأنيث المكان وبروز النص المؤنث في مواجهة واقعية أمام ثقافة الفحول وكأن ذلك «ترجمة عملية لحكاية الجارية (تودد) التي واجهت الرجال الراسخين في عصرها في مجلس الخليفة هارون الرشيد وانتهت معهم بأن أخرجتهم عراة منكسي الرؤوس واحدًا وراء الآخر بعد أن هزمتهم وعرت زيفهم». وأسوأ ما قيل في ميّ زيادة بحسب فاروق سعد، هو ما تركه سلامة موسى، فهذا الأخير إذ كان محظوظًا سمحت له مهنته الصحافية في جريدة «المحروسة» ثم في مجلة «المستقبل» بالتقرب من الكاتبة، لاحظ في عام 1914م، أن ميّ واسعة الاطلاع على الأدب الفرنسي، وأنها على اطلاع بالأدب الإنجليزي، وكانت تتحدث الفرنسية بطلاقة وترطن الإنجليزية بدلال، وكان إحساسها الفني والموسيقي دقيقًا، وكانت تحيط إلى جانب هاتين اللغتين بأربع لغات أخرى». وتتبدل الصورة مع وقوع مي في محنة، فعندما عادت إلى القاهرة في أوائل عام 1941م. يقول موسى عن أيامها الأخيرة: ذهبت لزيارتها.. كانت صورة مي في ذهني لا تزال صورة الفتاة الجميلة الحلوة التي تضحك بتدلل، وتتحدث بتأنٍّ عن النزعات والمذاهب الأدبية والفلسفية. دققنا الجرس، خرجت امرأة مهدمة كأنها في السبعين، وقد اكتسى رأسها بشعر أبيض مشعث، وكان وجهها مغضنًا، وقد تقاطعت فيه الخيوط.. وكان هندامها مهملًا.. تلك صورة مي قبل وفاتها المأسوية بشهور.. في 19 أكتوبر 1941م». والمخيف في قلمه (وهو من جيل مي) ما كتبه بعد سنوات من وفاتها الباكرة تحت عنوان: «ذكريات من حياة مي» وهو نقيض لما كتبه عنها في حياتها، ولا سيما مقالته في مجلة «الهلال» أو مقالته في مجلة «آخر ساعة» (1952م)؛ إذ تجاهل ثقافة ميّ العلمية والنظرية. وكتب الناقد المصري شعبان يوسف في مؤلفه: «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟» بعد رحيل ميّ في عام 1941م، كتب سلامة موسى في مجلة «المجلة الجديدة» أنها «لم تكن جريئة ولكنها كانت تمالئ المسلمين، وكانت تخشى أن تنقدهم لكيلا ينتقدوها»، وزعم في كتابه «تربية سلامة موسى» (1957م) أن مي زيادة «أصيبت بلوثة حقيقية وأصبحت مجنونة بالفعل»، واستطرد في وصف حالتها الصحية في شكل مهين وغير إنساني. وكتب العقاد مقاله «رجال حول ميّ»، وحصرها في خيال ذكوري وسلطوي، وأخذ يركز على الأحاديث والنكات التي كانت تدور في صالونها؛ لا عن مآثر مي الأدبية والفكرية. أما الباحثة نوال السعداوي فتقول: إن صالون مي زيادة الأدبي كان يشمل الرجال فقط، كانوا من أعداء المرأة مثل العقاد، ولم يشمل امرأة واحدة، أديبة أو غير أديبة، ومع ذلك لم يحتمل المجتمع الذكوري كاتبة مبدعة مثل مي زيادة ولم يتركها إلا حطامًا فوق سرير في المستشفى النفسي.

لم تكن مي زيادة كمثيلات عصرها أو بنات جيلها، بل يراها بعضٌ المثلَ الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة؛ لإتقانها عدة لغات، وتهوى ركوب الخيل، وتجيد العزف على بعض الآلات الموسيقية، وتغني وتكتب الشعر وتترجم. لكن في الدراسات عنها كان قناعًا لمئات التأويلات والتخمينات والفذلكات، كل التهم قد توجه إليها، لنتخيل أن كاتبًا لمجرد أنه قرأ قصيدة لها تتحدث عن امرأة فرنسية ألمح إلى مثليتها (غيريتها)، وكاتبًا آخر من أصول يسارية عاد بعد «ردته الفكرية» للتركيز على مسيحانية ميّ زيادة وأقليتها، وروائيًّا يتسلّق على مأساة مي زيادة لا يتوانى عن استحضار كل عناوين الإثارة تخص الفنانين والفنانات مثل: هل قُتلت مي في القاهرة؟ هل كانت يهودية وماسونية؟

الرومي الأميركي.. قصائده الأكثر مبيعًا مع بزوغ نجم ترمب – محمد الحجيري

الرومي الأميركي.. قصائده الأكثر مبيعًا مع بزوغ نجم ترمب – محمد الحجيري

جلال الدين الرومي، الشاعر الأفغاني المولد، الفارسي اللغة، الصوفي الهوى، والتركي الضريح، اليوم من بين الشعراء الأكثر شعبية في الولايات المتحدة والغرب، برغم أنه لم يكن مشهورًا فيها قبل عشرين عامًا. لقد تحدثت كثير من الدراسات عن تأثيره في الشرق والغرب، خصوصًا المستشرقة الألمانية آنا ماري شيميل في كتابها «الشمس المنتصرة»، وهذا التأثير كان نخبويًّا بين المستشرقين والمهتمين، والاهتمام بشعر الرومي الآن، يتجاوز القيمة الأدبية إلى أشكال مختلفة، فمع مجيء دونالد ترمب رئيسًا الذي صعد في خطابه الشعبوي ضد المسلمين المهاجرين، حينها كتبت صحيفة «واشنطن بوست»: «أليس مدهشًا أن تصير قصائد الرومي، فيلسوف القرن الثالث عشر المسلم المتسالم» أكثر القصائد مبيعًا «في الولايات المتحدة مع ظهور نجم ترمب؟ إذا عاد الرومي حيًّا، سيرى أن الأميركيين لا يكادون يتوقفون عن قراءة قصائده ونشرها، رغم أن ترمب يتحدث عن ترحيل المسلمين من أميركا، ومنعهم من دخولها».

ميدالية باسم الرومي أصدرتها اليونسكو بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده

قالت صحيفة «لوس أنجلس تايمز»: «مثل قصائد عمر الخيام، صارت قصائد الرومي الروحية مفضلة في الأعراس، واحتفالات البلوغ، ودفن الموتى. ها هو ضباب أمام أعيننا يعيدنا إلى عصر الإسلام الذهبي». وافتتحت الجريدة ملفها الخاص بالرومي «لم تحتل أية مجموعة لمشاهير الأميركيين من الكتاب أمثال روبير فروست أو والاس ستيفنز أو الشاعرة سيلفيا بلاث والأوربيين على غرار هوميروس، ودانتي، وشكسبير، رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة الأميركية على امتداد العقد الماضي مثل قصائد الرومي».

توجد ترجمات قديمة لمؤلفات الرومي إلى اللغة الإنجليزية ولغات أوربية أخرى في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا. وقبل نصف قرن، صدرت ترجمات حديثة له أنجزها آرثر آرباري، وهو أستاذ جامعي بريطاني (كان قد ترجم القرآن الكريم ترجمة حديثة). لكن، لم يهتم الأميركيون بالرومي إلا مؤخرًا. فقد ترجم كولمان باركس، وهو شاعر أميركي، بعض قصائده، ومنها: «ضروريات الرومي» (عام 1995م)، و«كتاب الحب» (عام 2003م). ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001م، أصبح الرومي بمنزلة المعبر الذي وصل بين الأميركيين والإسلام. وشكلت قصائده «جسرًا بين الشرق والغرب» كما يقول ويليام دالريمبل الناقد والأديب في «الغارديان».

جزء من الرحلة الروحية لمشاهير هوليود

مادونا

وبلغ اهتمام الأميركيين بالرومي قمته عام 2007م، بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده، ووزعت ميداليات باسمه من جانب منظمة اليونسكو، التي جاء في إعلانها آنذاك «أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال اليونسكو». وجد أكثر من 28 موقعًا إلكترونيًّا على موقع ماي سبيس وحده تحمل مراجع حول أعمال الرومي. كما نُشر أكثر من 2200 تسجيل فيديو حول الرومي. وعندما قرر كريس مارتن، مغني فرقة «كولدبلاي» الانفصال عن زوجته الممثلة الأميركية جوينيث بالترو، وحينما انتابته حالة من القنوط، أهداه صديق له كتابًا لرفع معنوياته، وقد كان ذلك الكتاب مجموعة من قصائد الرومي، من ترجمة كولمان باركس. قال مارتن بعد ذلك عن أشعار الرومي: إنها غيَّرت حياته، بل تضمن آخر ألبومات كولدبلاي مقطعًا بصوت باركس من إحدى قصائد الرومي يقول فيه: «هذا الإنسان بيت للضيافة/ في كل صباح يصله زائر جديد / الفرح، الحزن، الدناءة / إنها لحظات وعي خاطفة/ تأتي كما لو كانت ضيفًا غير متوقع». وكان الرومي جزءًا من الرحلة الروحية لمشاهير آخرين، مثل مادونا التي غنت من كلماته: «تعلم كيف تقول وداعًا»، وتنافست كل من نجمة هوليود ديمي مور، وزميلتها غولدي هاون وسارة جيسكا باركر على شراء حقوق قراءة هذه الأشعار على أسطوانات مدمجة، (لأن الرومي كان، أيضًا، موسيقيًّا مشهورًا، واستعمل كثيرًا آلة الناي، غنت الأميركيات بعض قصائده على أنغام هذه الآلة).

وتُنشر كلمات الرومي يوميًّا على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف حفز من يقرؤها على الأغلب. إضافة إلى عروض الأزياء الأميركية التي استضافت شعر الرومي كأسلوب تسويقي لملابس السهرات الرومانسية، وأصبحت عباراته تزين ستائر الحمامات، والحلي وأشجار عيد الميلاد وشركات الآلات الموسيقية التي قررت حفر أبيات من شعره على

ديمي مور

منتجاتها. كذلك تنشر الأبواب الثقافية في الصحف الصادرة في المدن الأميركية الكبرى كلها تقريبًا أماكن قراءة أشعاره ومواعيدها وإلقاء محاضرات عنه وعن أعماله.

تحولت قصائد الرومي ودواوينه، على يد باركس، إلى نجاح قياسي تجاري يتربع مؤلفه على عرش إمبراطورية الشعر الغربي الحديث إلى جانب أسماء نعرفها وهي شديدة المعاصرة، لكن انتشار القصائد الرومية كان مفخخًا ببعض الشوائب، ففي مقالة لروزينا علي في مجلة «ذي نيويوركر»، تناولت عملية محو الأفكار والمعاني الإسلامية والقرآنية في التراجم الأميركية لشعر الرومي، وناقشت ما إذا كان ذلك الحذف متعمدًا، أم أنه جاء بهدف تقريب الصورة، وإذا ما كان يشوه النص الأصلي أم يحافظ عليه. تقول الكاتبة: «إن أستاذة الدراسات الفارسية بجامعة ماريلاند، فاطمة كيشاورز، أخبرتها أن الرومي كان على الأغلب يحفظ القرآن الكريم؛ نظرًا لتكرار استشهاده به في أشعاره، وهو ما قاله الرومي نفسه سابقًا، إذ قال عن «المثنوي» بأنه يشرح القرآن الكريم». يقول أوميد صافي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة ديوك: إن ذلك حدث خلال العصر الفيكتوري، حينما بدأ القراء في الغرب فك ارتباط الشعر الصوفي بجذوره الإسلامية، إذ لم يتمكن المترجمون ورجال الدين في ذلك الوقت التوفيق بين أفكارهم ورؤيتهم للإسلام، وبين هذه الأفكار الأخلاقية السامية غير التقليدية التي وردت في شعر الرومي، تدلل الكاتبة على فصل الغرب الرومي عن الإسلام بمقدمة ترجمة «المثنوي» للسير جيمس ريدهاوس الصادرة عام 1898م، التي قال فيها: «يخاطب المثنوي هؤلاء الذين يرغبون في ترك العالم، ويحاولون معرفة الله والقرب منه، أولئك الذين يريدون محو الذات وتكريس أنفسهم للتفكر والتأمل الروحاني».

وساهم مترجمون عدة خلال القرن العشرين في تعزيز حضور الرومي في النصوص الإنجليزية، إلا أن باركس هو من كان أكبر المساهمين في توسيع قاعدة القراء للرومي، هو ليس مترجمًا بقدر كونه مفسرًا، فهو لا يعرف قراءة الفارسية أو كتابتها، إلا أن ما قام به كان تحويل تراجم القرن التاسع عشر إلى نظم أميركي. يقول باركس: إن شعر الرومي هو أشبه بالسر الذي يفتح القلب، وإنه من الصعب التعبير عنه بالكلمات، ومن أجل أن يتمكن فهم بعض الأشياء التي كان صعبًا عليه إيضاحها، أعطى باركس نفسه شيئًا من حرية التصرف في التعامل مع النص، وبخاصة في بعض الكلمات المستوحاة من النصوص الإسلامية التي كان صعبًا عليه كتابتها بلغة أخرى.

الرومي وتحدي الصورة النمطية للمسلم

أعلن «فرانزوني» عن ترشيح الممثل ليوناردو دي كابريو للقيام بدور شخصية الرومي في فلم سينمائي

ولم يقتصر أمر الاهتمام على شعر الرومي، فانتشاره والاهتمام بنصوصه، دفع بعض المنتجين إلى الحماسة لتصوير فلم عنه، مثل: السيناريست ديفيد فرانزوني، مؤلف فلم  The Gladiator، والمنتج ستيفين جويل براون، قالا قبل مدة: إنهما يريدان تحدي «الصورة النمطية» عن الشخصيات المسلمة في السينما الهوليودية، وذلك من خلال تسليط الضوء على حياة جلال الدين الرومي. ويَعُدّ فرانزوني «الرومي مثل شكسبير… ومن الواضح أنه لا يزال يتمتع بصدى واسع حتى اليوم، وهؤلاء هم دائمًا ممن يستحقون الاكتشاف». لكن فرانزوني واجه موجة واسعة من الانتقادات؛ بعد إعلانه عن رغبته في أن يؤدي ليوناردو دي كابريو شخصية الرومي، لا ضير في أن هوليود تبحث عن الجمهور والاستهلاك، واختارت شخصًا يحمل هوية كونية أو عابرة للهويات، فهو الأفغاني والفارسي والتركي والصوفي والأميركي والغربي والعربي والإسلامي…

بالطبع اندفاع ديفيد فرانزوني لكتابة فلم عن الرومي ليس ناتجًا عن حب في الثقافة المشرقية بقدر ما هو ثمرة تفكير تجاري قبل كل شيء؛ لأن الرومي ماركة شعبية بامتياز، ندرك ذلك من خلال اندفاع القراء لشراء رواية «قواعد العشق الأربعون» للروائية التركية إليف شافاق التي ترجمت إلى كثير من اللغات، وتتناول موضوعات الحب بين الشرق والغرب، والروحي والدنيوي، كل ذلك من خلال قصة جلال الدين الرومي. وشمس التبريزي المتصوف (ولد سنة 1185م في تبريز في مقاطعة أذربيجان واستهوته الطرق الصوفية). و«عشق» شافاق ذات نسيج مركب، وأبطالها هم إيللا ربة بيت أميركية ذات أصل يهودي تعشق رجلًا أسكتلندي الجنسية يقيم في هولندا، ثم يسلم فيما بعد ويتسمى باسم عزيز زهارا، ومن جانب آخر هنالك شمس التبريزي وجلال الدين الرومي وكيررا التي تقترن بجلال الدين الرومي، وتتحول من الديانة الأرثوذكسية الرومية إلى الإسلام. بدأ ولع شافاق بالصوفية حينما كانت طالبة، وقرأت لكثير من الباحثين في مجال التصوف، منهم: آنا ماري شيميل، وإدريس شاه، وكارين أرمسترونغ،… وفي روايتها لا تدخل شافاق الصوفية كتعليم نظري، وتجريدي. بل هي شغوفة بما تعنيه الصوفية بالنسبة لها في العالم المعاصر. وقد اتهم كثير من المثقفين المسلمين شافاق بتصوير مترف مشابه للمذهب الصوفي.

ساعدت رواية شافاق، التي صدرت في أميركا عام 2010م، على فهم بعض مناحي الاهتمام الغربي بالمتصوف الرومي. فشعبية الرواية إلى اليوم لا تقلّ عن شعبية أبطالها: الرومي وشمس التبريزي، وهي أيضًا مثار استغراب. وصار الرومي ثيمة للرواية فإلى جانب رواية شافاق هناك رواية «الرومي نار العشق» للإيرانية الأصل الفرنسية الجنسية نهال تجدد، واستندت المؤلفة إلى مقالات شمس التبريزي مستخدمةً معلومات مستمدة من السيرة الذاتية للرومي وحاشيته «مناقب العارفين» بقلم الأفلاكي شمس الدين أحمد، بناءً على طلب حفيد الرومي. يرى قراء كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي أن المؤلفة تقدّم صورة ملفقة للرومي في محاولة لجذب القارئ الغربي، كذلك صدرت عن دار «نينوى»، ترجمة رواية «بنت مولانا»، للكاتبة الإنجليزية موريل مفروي، وهي ترسم في جوّ لافت شخصية «كيميا»، تلك الفتاة التي فرّت من أهلها والتحقت بجلال الدين الروميّ، إذ عاشت حياتها المشتعلة والمرتبكة في بيته بكلّ ما فيه من تباينات… ويتنازع الأفغان والأتراك والإيرانيون جلال الدين الرومي، فقد وُلد في بَلْخ، وعاش في إيران وتركيا، وهو على نحو ما يوحد بينهم، كما أن الغربيين يستنتجون من تسميته «الرومي» بأنه منهم، ولكنه يقول كأنه يرد على هؤلاء جميعًا: «أنا لست من الشرق ولا من الغرب، ولست من الأرض ولا من البحر.

أنا لست عطر النعناع، ولست من الكون الدوار.

أنا لست من الأرض ولا من الماء، ولا من الهواء ولا من النار.

مكاني هو اللامكان، وأثري لا أثر له، ليس لي جسد ولا روح؛ لأنني أنا هو المحبوب…».

بحر يمشي خلف بحيرة

وُلد الرومي في 30 سبتمبر 1207م في بَلْخ (ما يعرف بأفغانستان حاليًّا) التي نُسِبَ إليها كبارُ العلماء والفلاسفة والفقهاء؛ مثل: الفردوسي وابن سينا والغزالي، وقد غادرها أبوه بهاء الدين وَلَد سنة 1219م هربًا من الغزو المغولي الذي دمَّر المدينة بعد عام وأتى عليها. تروي المستشرقة الفرنسية إيڤا دو ڤيتراي مئيروڤتش أن بهاء الدين توجّه إلى مكة لأداء فريضة الحج. وفي نيسابور (إيران)، التقى الشاعر الصوفي فريد الدين العطار، الذي أهدى إلى الرومي كتابه «أسرار نامه». ولقد ظل الرومي معجبًا بالشاعر الصوفي طوال عمره، وكان يردِّد القول:

لقد اجتاز العطار مدن الحبِّ السبع، بينما لا أزال أنا في الزاوية من دهليز ضيق.

بعد العودة من مكة، استقرت عائلة الرومي في أرْزَنْجان، وهي مدينة في أرمينيا، احتلَّها علاء الدين السلجوقي، ومنها دعا بهاء الدين وَلَد، والد جلال الدين، إلى قونية، عاصمة الدولة السلجوقية في تركيا اليوم، تتلمذ جلال الدين على يد برهان الدين محقِّق الترمذي، ثم توجَّه إلى حلب للدراسة، ومنها انتقل إلى دمشق، وكان الشيخ محيي الدين بن عربي يمضي بها السنوات الأخيرة من عمره. ويُروى أن ابن عربي رأى الرومي من قبلُ يمشي خلف والده بهاء الدين، فقال: «يا سبحان الله! بحر يمشي خلف بحيرة!.

عاد جلال الدين إلى قونية، فاستقرَّ في مدرسته وتولَّى فيها تعليم الشريعة ومبادئ الدين، حتى عرض له حادثٌ غيَّر مجرى حياته وجعله صوفيًّا محترقًا، كما عبَّر عن حاله بالقول: كنت نيئًا، ثم أُنضجتُ، والآن أنا محترق. ترجع بداية ذلك عندما التقى الرومي شمسَ الدين التبريزيَّ، الذي وصل قونية سنة 1244م وأقام في أحد خاناتها منقطعًا إلى نفسه.. يتفق الجميع على أن التبريزي أثر بشكل كبير في شعر الرومي وفي ممارساته الدينية. في سيرة ذاتية جديدة كتبت عن الرومي بعنوان: «سر الرومي»، تناول الكاتب الأميركي براد غوش في كتاب «أسرار الرومي: عن حياة وعشق الشاعر الصوفي» فكرة تأثير التبريزي في الرومي دينيًّا وفكريًّا، وأنه كان عاملًا أساسًا حدد الاتجاه الذي سار فيه الرومي، وهو مزج حب الإله الذي وجده في الصوفية، مع قواعد الإسلام السُّني والفكر الباطني الذي تعلمه من التبريزي. وكتب الباحث الأفغاني عناية الله إبلاغ الأفغاني في كتابه «جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام»: «فقد ألهاه (شمس التبريزي) هذا الصوفي عن مسيرته كفقيه، وجعل منه صوفيًّا غارقًا في التصوف حتى أذنيه!».

باختصار، الرومي خرج عن سياق أنه شاعر التصوف والحب، هي لعبة الثيمة، سواء في الروايات أو في الأفلام السينمائية أو الثقافة الشعبية حتى الغناء والاستهلاك وتأليف الشعر. يرى بعض النقّاد أن هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي في القراء الأميركيين، فبالرغم من أنه قد يكون الأكثر مبيعًا، لكنه ليس الأكثر تأثيرًا، إذ يرون أن شعبيته ظرفية، مرتبطة بالحرب ضد الإرهاب، وهواجس البحث عن إجابات روحانية لمشكلات شديدة المادية. وهناك مبالغات في الحديث عنه وعن تصوفه ودوره، المبالغة تأتي من الشهرة والانتشار، فعندما يتحول أحد الشعراء إلى ماركة أدبية لا بدّ أن نسمع العجائب الوهمية عنه، والرومي ليس وحيدًا في هذا المجال، فجبران خليل جبران سبقه، وكذلك رامبو وعمر الخيام.

زعماء البيت الأبيض .. لا أحد يستطيع العيش بلا كتاب – محمد حجيري

زعماء البيت الأبيض .. لا أحد يستطيع العيش بلا كتاب – محمد حجيري

تعدّ الكتب والقصائد من الأدوات الأكثر استخدامًا من قِبَل معظم الرؤساء الأميركيين، لإعطاء صورة فكرية وسياسية للشعب الأميركي، وكثيرًا ما كان اختيار بعض الرؤساء لكتب بعينها سببًا في ترويجها وانتشارها. ما يقرؤه الرؤساء لا يعطيهم استراحة من الملل الذي يشعرون به عند قراءة التقارير والبيانات وتوقيع القرارات فحسب حتى إطلاق المواقف. والكتاب والقصيدة ميديا يستطيع المرء من خلالهما معرفة توجهات الرئيس كيف يفكر وما هي وجهة نظره. وثمة الكثير من المقالات والكتب عن الرؤساء الأميركيين والقراءة، من بينها كتاب لهارولد إيفانز، يبين أن الميل إلى القراءة معيار نجاح أي رئيس، مستندًا إلى وقائع تثبت أن أنجح الرؤساء في الولايات المتحدة هم أولئك الذين يولون القراءة اهتمامًا كبيرًا، لكن هذا الاستنتاج ليس بالضرورة حقيقيًّا أو دقيقًا، فالقضية ليست في أن الرؤساء يقرؤون، بل أي كتب يقرؤون أو ماذا يقرؤون؟ والسؤال هل كل شيء يقرؤونه يعلنون عنه، هل يقرأ زعيم البيت الأبيض كتبًا شيوعية أو إسلامية، أم أن إدارته توجهه في القراءة…

ثيودور-روزفلت

ثيودور روزفلت

بالطبع هذه الأمور تبقى في دهاليز الاستخبارات الأميركية، المهم القول: إنه لم يمر عهد رئاسي في أميركا من دون أن تشتهر مجموعة من الكتب، وقصة البيت الأبيض مع الكتاب عمرها عقود، فإبراهام لينكولن تمكّن من الوصول إلى مجموعة محدودة من الكتب، ومنها: «حياة بارسون ويمز في واشنطن»، و«خرافات إيسوب»، و«روبنسون كروزو»، و«تقدُّم الحاجّ»، و«تاريخ الولايات المتحدة». أيضًا كان لينكولن يعشق الشعر، ومغرمًا بصفة خاصة بالشاعر الأسكتلندي روبرت بيرنز، ويحفظ الكثير من قصائده عن ظهر قلب. توماس جيفرسون كان يمتلك مكتبة شخصية تضم 6487 كتابًا، التي أصبحت الأساس لمكتبة الكونغرس. ودوّن جيفرسون ذات مرة: «لا أستطيع العيش من دون الكتب». وامتلك جون آدامز مكتبة تضم 3000 كتاب، واعترف ذات مرة لزوجته أبيجيل: «لقد كنت أحمقَ وأنفقت ثمن عقار في شراء الكتب». في عام 1816م، كتب آدامز يقول: إنه «لو كان لي أن أختار عبقريتي وظروفي، لاخترت أن أجعل من نفسي شاعرًا». لكنه اعترف أن شعره كان «ملعونًا بالبقاء في ربقة المستوى المتوسط». تيودور روزفلت، كان يتصفح الكثير من الكتب في يوم واحد، وكتب أكثر من اثني عشر عملًا في موضوعات تتنوع ما بين حرب 1812م والغرب الأميركي. ويقال: إنه لا أحد يجاري روزفلت في القراءة، فهو يقرأ كتابًا واحدًا في اليوم في حالة انشغاله القصوى، أما في أوقات الفراغ التي يتحرر فيها من العمل فإنه يستطيع الانتهاء من قراءة كتابين إلى ثلاثة كتب، وقد وصفه بعض بأنه «أكول للكتب» ويسعد كثيرًا إذا ما زاد اطلاعه.

أما ليندون جونسون فتأثر بكتاب الاقتصادي البريطاني باربارا واردز «الأمم الثرية والأمم الفقيرة»، وقال: إنه قرأه أكثر من مرة، وحوّل الهجوم إلى حرب على الفقر. وظهر على الطبعات المستقبلية من كتاب هارينغتون عبارة «الكتاب الذي أشعل حربًا على الفقر» على الغلاف. ريتشارد نيكسون قارئ نهم للسير الذاتية، وفي كلمة وداع طاقمه في 9 أغسطس 1974م، قال: «لست متعلمًا، لكنني أقرأ كتبًا».. هاري ترومان كان قارئًا نهمًّا ومهتمًّا تحديدًا بالتاريخ والتراجم، وقال في إحدى المرات: إن «الشيء الوحيد الجديد في هذا العالم هو التاريخ الذي لا يعرفه المرء». وكان المفكر المقيم في البيت الأبيض آرثر شليزنغر يرشح كتبًا لكينيدي كما ألّف كتاب «ألف يوم». ووسط الحديث عن الكتب والبيت الأبيض، يطرح السؤال عن علاقة الرؤساء الأميركيين بالكتاب الأدبي، الرواية والشعر تحديدًا، وخصوصًا باراك أوباما وبيل كلينتون.

 أوباما.. والتوازن النسبي

باراك اوباما

باراك اوباما

إذا بدأنا في الحديث عن تجربة الرئيس باراك أوباما مع القراءة والكتاب، فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن تاريخ رؤساء الولايات المتحدة لا يذكر رئيسًا، منذ عهد إبراهام لينكولن الذي تولى قيادة أميركا بين عامي 1861 و1865م، لعبت القراءة والكتابة دورًا كبيرًا في بلورة شخصيته وقناعاته ورؤيته للعالم مثل الرئيس أوباما الذي قال: «سمحت لي بالمحافظة على توازن نسبي خلال السنوات الثماني المنصرمة؛ لأن الرئاسة مكان تصيبك فيه الأحداث إصابة مباشرة باستمرار من دون أي هوادة». من يراقب مسيرة أوباما، يلاحظ مدى اهتمامه بالكتب الأدبية وتوظيفها، ففي مكالمة هاتفية له مع الرئيسة الأرجنتينية السابقة كريستينا كيرشنر، أعرب عن اهتمامه بالتعرف إلى العاصمة بوينس أيريس؛ لأنه في أثناء فترة الدراسة الجامعية كان قد قرأ بشغف أعمالًا لكل من الأديبين الأرجنتينيين خوليو كورتاثار وبورخيس. وحين خطب أوباما عن القضية العرقية في الحياة الأميركية استشهد بعبارة للروائي الأميركي وليام فوكنر تقول: «إن الماضي لم يمت ويدفن، وهو في الحقيقة ليس ماضيًا»، وأن يستشهد أوباما بفوكنر صاحب رواية «الصخب والعنف»، فهذا إيماء إلى أهمية هذا الأخير، حظيت رواياته باهتمام بالغ في أميركا وخارجها نظرًا إلى تأثيرها الكبير في إبراز حقيقة التناقضات في المجتمع الأميركي وخصوصًا في الجنوب.

يقول أحد أصدقاء أوباما: إنه كان يقرأ كتبًا لأدباء سود من بينهم جيمس بولدوين ورالف إليسون اللذين يركزان على مشاعر الزنوج في المجتمع الأميركي، كتب الأول «اذهب وقل ذلك على الجبل»، وأصدر الثاني «الرجل الخفي». كذلك قرأ أوباما قصائد الشاعر الزنجي لانغستون هيوز، أحد كبار الشعراء المعاصرين وأحد رموز ما عرف في القرن العشرين بـ«نهضة هارلم»… وعام 2012م أشار كثير من متابعي حملة الانتخابات الأميركية التي خاضها باراك أوباما إلى اعتماده على الشعر في سباق الرئاسة مع خصمه الجمهوري ميت رومني، وكتب الناقد روبرت مكورم في صحيفة «ذي غارديان» البريطانية: «أوباما الذي اشتهر في حملته الانتخابية الأولى بعبارة «نعم نستطيع»، توسل بلغة الشعر في حملته الثانية ليلهم أنصاره ويجذب الناخبين لمنحه ثقتهم من جديد، بعدما وجد أن لغة النثر لن تسعفه كثيرًا أمام خصمه ميت رومني. وعرضت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» تقريرًا يرصد كتب أوباما المفضلة التي دوَّن قائمتها على «فيسبوك» وتضمنت كتبًا لرالف والدو إيمرسون وموبي ديك وتوني موريسون، وهذه الأخيرة كرمها أوباما، واحتفل بالشعر في البيت الأبيض ولم يتردد في القول: «إن القصيدة الرائعة هي تلك التي تتغلغل في أحاسيسنا، وتتماهى مع وجداننا، وتتحدانا وتلقننا شيئًا عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه. ولطالما أدى الشعراء دورًا بالغ الأهمية في سرد ملحمتنا الأميركية». والتقى كبير نقاد صحيفة «نيويورك تايمز» ميكيكو كاكوتاني، أوباما لسؤاله عن «حياته كقارئ» وخلال المقابلة أشاد أوباما بعدد من الكتب والكتاب. وذكرت نيويورك تايمز أن أوباما تحدث عن الكتب التي منحها ابنته ماليا، ومن بينها «المفكرة الذهبية» لدوريس ليسينغ و«مئة عام من العزلة» لماركيز، و«امرأة محاربة» لماكسين هونغ كينغستون.

 كلينتون «على نبض الصباح»

كلنتون

بيل كلينتون

في عهد الرئيس بيل كلينتون، أيضًا كان للكتاب الأدبي والقصيدة الشعرية حضورهما في كواليس البيت الأبيض، فخلال تنصيبه عام 1993م اختار كلينتون الشاعرة الأميركية من أصل إفريقي مايا أنجيلو لتلقي واحدة من قصائدها الأكثر شهرة «على نبض الصباح»، وقدمت مايا قصيدتها بأداء مسرحي، وهلل لها الإعلام مثلما هللوا قبل نحو نصف قرن للشاعر روبرت فروست الذي أسس هذا التقليد حين قرأ قصيدته «الهبة المباشرة» في حفل افتتاح عهد الرئيس جون. ف. كينيدي في عام 1961م. في حفل عام 1993م أطلق بيل كلينتون على مايا أنجيلو لقب «الرئيسة الإفريقية للأمة» (يحبها إلى جانب رالف أليسون وتايلور برانتش). تبدأ قصيدة في نبض الصباح بتحية للطبيعة الأم التي احتضنت كل الأعراق بلا تمييز: صخرة، نهر، شجرة، كانت موطنًا لكل السلالات منذ تفارقت وحددت وجود الكائنات المنقرضة.

كلينتون قارئ جيد، وكتابه المفضل هو «التأملات» للكاتب ماركوس أوريلس، وكان يحب الروايات البوليسية التي وصفها بأنها «سبيل المتعة البسيط والرخيص» بالنسبة له. وأبعد من ذلك، ففي احتفال أقيم تكريمًا لماركيز في مسقط رأسه في كولومبيا كانت لكلينتون مداخلة عن ماركيز قال فيها: «هو أهم روائي نُشر له في اللغات كلّها منذ موت فوكنر، وعندما قرأت له رواية «مئة عام من العزلة» عام 1972م وأنا طالب في كلية الحقوق لم أستطع ترك الكتاب من يدي حتى في أثناء المحاضرات. لاحظت أن هذا الرجل يبحر في أشياء تبدو كخيالات أحلام اليقظة لكنها واقعية وبالغة الحكمة». مع التذكير أن كلينتون في أول حملة انتخابية له في بداية التسعينيات أعلن أن كتابه المفضل هو «مئة عام من العزلة» لماركيز الذي علَّق قائلًا: إن كلينتون «يحاول كسب أصوات الأميركيين اللاتينيين». وعندما التقى كلينتون ماركيز والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في جلسة عشاء، أنصت بهدوء إلى ملاحظات سياسية قاسية تقدَّم بها الكاتبان حول حصار كوبا خصوصًا. وفي اللقاء نفسه سُئل كلينتون عن أحب الأفلام إلى قلبه، فكان جوابه: «في عز الظهيرة»، وأدهش الرئيس الحضور بأحاديثه حول الأدب والثقافة ملقيًا جملًا من رواية «دون كيخوتة» لثرفانتس، وحين حان موعد تسمية أحبّ الروايات إلى القلب اختار ماركيز «كونت مونت كريستو» فيما وقع خيار الرئيس على «حكم قصير» لجورج أورويل. وحين اختار فوينتس «أبسالوم أبسالوم» لفوكنر نهض كلينتون ملقيًا مونولوغًا طويلًا من روايته «الصخب والعنف». فحب كلينتون لروايات ماركيز وفوكنر يبدو لافتًا؛ ذلك أن معظم الرؤساء يبحثون عن الكتب الإستراتيجية وليس عن الروايات الثقافية بامتياز. وأثرت الكتب التي يقرؤها كلينتون في المنحى الذي اتبعه في مطلع التسعينيات مع أزمة البلقان، وهو الصراع العنيف الدامي من أجل السيطرة على المنطقة البوسنية التي كانت من قبل جزءًا من يوغوسلافيا. وفي ذلك الوقت، قرأ كلينتون كتاب روبرت كابلان «أشباح البلقان» وفوجئ بوصف كابلان لمشاعر الكراهية الإثنية الموجودة داخل المنطقة منذ فترة طويلة، قد جعل ذلك كلينتون غير متحمس للتدخل في البوسنة. وقال وزير الدفاع ليس أسبين لمستشار الأمن القومي أنطوني ليك: إن كلينتون لم يكن متحمسًا لمقترحاتهم. وبعد أعوام كتبت الصحافية لورا روزن أن «بعضًا لا يسمع اسم روبرت كابلان من دون تحميله مسؤولية التأخر في التدخل الأميركي». 

جورج بوش (الابن) «الغريب»

جورج بوش (الابن)

جورج بوش (الابن)

بوش

جورج بوش

إذا كانت نظرة الصحافيين عابرة في متابعة قراءات كلينتون وأوباما القارئين بنهم، فهي ليست كذلك مع الرئيس جورج بوش (الابن) الذي لا يُعرَف عنه شغفه بالمفكرين ولا سيما الفرنسيين منهم. اطلعنا أنه أراد الاستفادة من وقته في مزرعته قبل مدة كي يقرأ، فاختار رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي ألبير كامو. وكان بوش اقتبس عبارة من كامو في خطاب ألقاه في بروكسل في فبراير 2005م، داعيًا فيه أوربا إلى الانضمام إلى الولايات المتحدة من أجل «تقدّم الحريّة في العالم، ومن أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط». مضيفًا: «نحن ندرك أن العقبات كثيرة، وندرك أن الدرب طويل». كلمات بوش هذه تشبه إلى حد كبير قول كامو: «إنّ الحريّة هي جريٌ طويل»، يومها برَّرت بعض الصحف الأميركية شغف بوش بـ«غريب» كامو المباغت بعثور بوش على ذاته الدفينة في شخصيّة بطل الرواية «قاتل العرب». وكتبت الصحافية في «نيويورك تايمز» مورين داود، أن «القاتل في رواية كامو يتخذ كثيرًا من القرارات الخاطئة، ويقتل رجلًا عربيًّا وسط صحراء من الرمال. إنه يتحرّك في عالمٍ مظلم، وعنيف لا صلة له بمعتقداته ورغباته. وإذا كان ثمّة ما يؤكّد فهم كامو لعبثية الحياة، فهو أنّ الرئيس يقرؤه». بذلك يكون بوش المحافظ والمتطرف دينيًّا انضمّ وبشكل غير متوقع، إلى المعجبين بالكاتب الثائر الموصوف بالإلحاد الذي كان دائمًا قريبًا من الحركة الفوضوية.

من جانبه، علق ريتشارد كوهين، في مقال له في «واشنطن بوست»، بقوله: «الصورة الكاريكاتيرية لبوش كشخص غير مثقف انتهت اليوم، أو ربما بالأمس، لكن تبقى حقيقة الرجل المثقف قائمة». وأثارت حقيقة أن بوش قرأ رواية «الغريب» لكامو صيحات سخرية من وسائل الإعلام. على سبيل المثال: كتب جون ديكرسون من مجلة «سليت» أن قراءة جورج بوش لروائي وجودي فرنسي أشبه بقراءة أوباما لكتالوغ متجر «كابيلا». واستضاف تلفزيون «بي بي سي» الصحافية الفرنسية بينديكيت باتون، والناقد البريطاني المتخصص في الأدب الفرنسي آلان دي بونو، لتخمين سبب اختيار بوش لهذا الكتاب. وقالت باتون: إن كثيرًا من الرجال يمسكون بكتاب عالي الثقافة ليس لقراءته -إذ يتعذر عليهم فهمه- إنما لإبهار الآخرين.. إلا أن الناقد ديبونو خالف باتون الرأي قائلًا: إن أحداث الكتاب وشخصية «الغريب» تروق للرئيس بوش وتماثل شخصيته، وربما اقترحه عليه أحد مساعديه؛ إذ إن بطل الرواية يقتل شخصًا بريئًا من دون سبب ولا يشعر بالندم، ويخالف نصيحة الآخرين، وهي مواصفات لدى بوش في ممارسته السياسة العالمية، إذ يظهر «غريبًا» عن أي من الأعراف الإنسانية العادية.

طيف‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬والسلام‮»‬‭ ‬

جيمي كاتر

جيمي كاتر

ثمة روايات تتحول في أروقة السياسيين إلى أشبه بالكتب الإستراتيجية أو أيقونات السياسة، فقد كتب جيمي كارتر في كتاب مذكراته: «الحفاظ على الإيمان: مذكرات رئيس»، أن ثلاث نساء أثَّرن في حياته: والدته ليليان، وزوجته روزلين، ومعلمته جوليا كولمان، التي كانت تدرّس له في مدرسة بلين الثانوية (حيث ولد كارتر وتربَّى). وأوضح كارتر أن كولمان شجعته على قراءة كتب التاريخ والأدب. جيمي كارتر من أشد المعجبين بشعر ديلان توماس. ويقول: «شجعتني على قراءة كتاب «الحرب والسلام» للروائي الروسي ليو تولستوي. ظننت، في البداية، أن الكتاب عن الحرب والسلام في الدنيا الجديدة، وأن أبطاله رعاة بقر وهنود حمر». واستعان كارتر برواية «الحرب والسلام» في حكمه، واقتنع بفضله أنّ الأحداث الكبرى لا يتحكم فيها الزعماء، إنما الجماهير وعامة الناس الذين يحددون مصير العالم وفقًا لآمالهم وأحلامهم. واللافت أن طيف رواية تولستوي حاضر بقوة في أروقة البيض الأبيض، كان ريتشارد نيكسون، الذي أشار في مذكراته إلى أنه قرأ كتب تولستوي بصورة مكثفة خلال فترة شبابه، ووصف نفسه بأنه من أتباع تولستوي، يبحث دومًا عن الكتب التي لها علاقة بالقضايا الكبرى في حياته اليومية. وسئل جورج بوش (الأب) في حوار له عام 1995م عن أكثر الكتب إلهامًا له فكان لكتاب «الحرب والسلام» حظ وفير من مديحه، وقال: «لقد اعتدت على قراءته في المدرسة». والنافل أن الرواية نشرت لأول مرة بين سنتي 1865 و1869م على شكل سلسلة في مجلة المراسل الروسي، تدور أحداثها في بدايات القرن الـ19، إبان الاجتياح الفرنسي لروسيا بقيادة نابليون بونابرت، والتغيرات التي لحقت بالطبقة الأرستقراطية. وتسرد الرواية حكاية خمس عائلات وتقص حيواتهم الشخصية مع التاريخ بين 1805 و1813م، وبشكل رئيس غزو نابليون لروسيا سنة 1812م، ثم دخوله موسكو وانسحابه بعد الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس، ورفض القيصر الروسي ألكسندر الأول الاستسلام.

ولا يتوقف الأمر هنا، فثمة قصص كثيرة عن علاقة الرؤساء الأميركيين بالشعر، كان الرئيس جيمس غارفيلد من أشد المعجبين بالشاعر الألماني غوته، وقد استطاع في أثناء فترة رئاسته تكوين مكتبة كاملة ضمت أرشيفًا لقصاصات من الكتب التى صدرت في عهده. وفي صغره كان غيرالد فورد يتعرض لنوبات من الغضب. وبعد نوبة غضب سيئة بصورة استثنائية، ألزمته أمه دوروثي فورد بحفظ قصيدة «لو» للشاعر روديارد كبلنغ، وقالت له: «إن هذه القصيدة سوف تساعدك على أن تتحكم في غضبك». هذه القصيدة تبدأ بقول الشاعر: «لو أنك قادر أن تبقي على رأسك/بينما كل من حولك يفقدون رؤوسهم ويلومونك أنت…». منذ أن تخرج هاري ترومان من المدرسة الثانوية سنة 1901م ظل يحمل في محفظته عبارة من قصيدة للورد تينيسن هي قصيدة «قاعة لوكسلي» ظلت الورقة التي نقلت عليها تلك العبارة تبلى، وظللت أعيد نقلها على ورقات أخرى. لا أعرف كم مرة حدث هذا، عشرين مرة أم ثلاثين، ربما» وأضاف ترومان في حديثه الشهير للصحفي مارتن فيلر قائلًا: «إن إيماني بالشعراء أكبر بكثير من إيماني بالصحفيين».

ماذا يقرأ ترمب؟

هذا غيض من فيض عن مشهدية الرؤساء والقراءة الأدبية ورمزيتها في البيت الأبيض… والسؤال: ماذا يقرأ الرئيس الجديد دونالد ترمب؟ ماذا لو قرأ الرئيس الأميركي رواية «المسخ» لكافكا، أو«رأس المال» لماركس، أو«المراقبة والعقاب» لفوكو، أو أي روائي عربي، كيف ستكون التفسيرات وردود الأفعال؟!