إليزابيث كاتليت.. فنّانة الاحتجاج الأسود

إليزابيث كاتليت.. فنّانة الاحتجاج الأسود

توفيت في المكسيك في 2 إبريل 2012م، عن 96 عامًا، النَّحَّاتة وفنانة الليثوغراف إليزابيث كاتليت، التي اعتُبِرَت واحدةً من أكثر الفنانين الأفرو – أميركيين أهميةً في القرن العشرين (تحولَت منحوتاتُها لتصبحَ رموزًا لحركة الحقوق المدنيَّة)، رغم أنها أمضت معظم حياتها في المكسيك. عَكَسَ مزجُها المهيب لكُلٍّ من الفن والوعي الاجتماعي تأثيرَ الرسّام الألماني ماكس بخمان، والمكسيكي دييغو ريفيرا، وفناني منتصف القرن العشرين أمثالهما، ممن جعلوا من الفن وسيلةً لنقد البنى السلطوية.

«كانت كاتليت، منذ بداية احترافها للفن، جزءًا من محيطٍ سياسيٍّ عريض شملَ فنانين ينتمون إلى عدة إثنيات عانوا اللاعدالة الاجتماعية»، بحسب ما صرَّحَت ميلاني آن هيرزوغ لصحيفة التايمز عام 2005م، وهي التي نشرت عام 2000م سيرة الفنانة الذاتيّة: «إليزابيث كاتليت: فنانة أميركية في المكسيك» بدا قرار كاتليت في التركيز على هويتها الإثنيّة، وانخراطها في النضالات ضد الاسترقاق والتمييز الطَّبَقي، قرارًا جَسورًا وغير مألوف في الثلاثينيات والأربعينيات، في الوقت الذي اعتقدَ الأفرو – أميركيون وأمِلوا في «أن يتمثّلوا أكثر داخل الأخلاقيات الأوربيَّة»، كما قالَ راعي الفنون لاوري ستوكس سيمز، في مقابلة مع «الراديو الوطني العام» سنة 1993م.

جابهَت كاتليت، بثقتها في قدرة الفن على تعزيز التغيير الاجتماعي، الممارسات المنافية للعدالة الأشدّ مضايقةً ضد الأفرو – أميركيين، بما فيها حالات الشَّنْق والقمع والضرب. وكانت منحوتة «الهدف» (1970م) واحدة من أشهر أعمالها، وكانت شرعت في تنفيذها إثر إطلاق الشرطة النار على أحد أفراد منظمة الـ«بلاك بانثرز/ الفهود السود»، وتُظهر رأسَ رَجُلٍ مؤطَّر بدائرة التهديف لمسدس. غير أنها اجترحَت تعبيرات أكثر تفاؤلًا من خلال لوحات ليثوغرافية ومنحوتات لكُلٍّ من هاريت توبمان العَبْدَة التي قادت آخرين نحو الحريّة، وسوجورنر تروث، العَبْدة الأخرى الناشطة من أجل إلغاء الاسترقاق. وفي الأغلب كانت تعود إلى الموضوعة الدائمة المتمثّلة في الأُم وطفلها، وعكست سلسلةُ أعمالها الليثوغرافية المطبوعة عام 1946م المُسمَّاة «المرأة الزنجيّة» الكرامةَ البطوليّة التي عاينتها في موضوعاتها.

تاريخ النساء السود

«أردتُ أن أُظهِر مختلف أوجه تاريخ النساء السود وقوتهن»، أدْلَت كاتليت بهذا لصحيفة ذا سان بيترسبرغ تايمز في 1992م، شارحةً: «النساء العاملات، والنساء الريفيات، ونساء المدن، والنساء العظيمات في تاريخ الولايات المتحدة» بُني عمل كاتليت المبكِّر على تشكيل الوجه، وهو ما أفسحَ المجال للتكعيبيّة كلّما تحركَت باتجاه المنحوتات شبه التجريديّة، وهو المآل الذي باتت تفضّله بعد دراسة الشكل عندما كانت طالبة قيد التخرج أواخر الثلاثينيات. ظَلَّ تاريخا الجنوب الأميركي والإفريقي الأميركي ماثلين وبارزين في منحوتاتها. وتُظهر منحوتة «الوحدة السوداء» العائدة لسنة 1968م قبضةً من خشب الماهغوني المصقول اللامع في جانبٍ منها (الأمام)، وقِناعين إفريقيين يشبهان الوجه في الجانب الآخر (الخلف). وكذلك منحوتة «إجلالًا لأخواتي الصغيرات السوداوات» في السنة نفسها، المشغولة من خشب الأرْز الأحمر، تمثّلُ امرأةً برأسٍ مرفوع وقبضة مشهرة على نحوٍ تجريديّ. ثم تحوّلَ هذان الشكلان البسيطان «لا ليكونا رمزين فقط لحركةٍ ما، إنما هما رسالة خَطّية بتوقيعها تشهد على أنّ رأسها وقلبها كانا قد تجذرا عميقًا في النضال»، بحسب ما كتبت لاينل جورج عام 1999م في جريدة التايمز.

وكعادتها في الأشكال المطبوعة لأعمالها؛ رَسَمَت كاتليت مجموعة موضوعات ذات علاقة بالرجال الأفرو–أميركيين؛ عُمَّال مصانع، ورجال من الطبقة الوسطى بسترات ورابطات عُنق، وعلى نحوٍ بارز رَسَمَت أيضًا أشخاصًا مثقفين مثل مارتن لوثر كينغ. بعد انتقالها للمكسيك في الأربعينيات لدراسة فن السيراميك، أبْقَت على التزامها بقضايا الأفرو-أميركيين، لكنها أخذَت في الحسبان كذلك نضالات العُمّال المكسيكيين. ولقد أشارت إلى هذا بـالتوصيف التالي: «شَعباي الاثنان»، وأحيانًا أقدَمَت على دمج ملامحهما الجسديّة في أعمالها.

وسرعان ما وجدَت في مكسيكو سيتي ضالتها من خلال ورشة فنيّة مختصّة بالغرافيك، مكوّنة من مجموعة فنانين معروفين بإنجاز أعمال جداريّة هائلة الحجم غايتها دعم ومؤازرة قضايا عامة. وهناك حظيت بمستوى من القبول لم تعرفه على الإطلاق في وطنها، وتزوجَت زميلًا لها في تلك الورشة هو فرانسيسكو مورا أواخر الأربعينيات. «ثمّة مسلكيات مختلفة حيال الفن في المكسيك»، قالت في مقابلتها مع جريدة ذا سان بيترسبرغ تايمز: «فأنت تحظى بالتقدير لكونكَ فنانًا، ولا يُنظر إليك باعتباركَ شيئًا غريبًا» ورغم اكتسابها المواطنة المكسيكيّة في عام 1962م، فإنها تابعَت ملاحقة قضايا السود في أميركا. وتضمنَت أعمالها الليثوغرافيّة منذ نهاية الستينيات صورًا لقائدَيِ النشاطات الاجتماعيّة في تلك السنوات، مالكولم إكس، وأنجيلا ديفيز.

في مقابلة أجرتها جريدة التايمز عام 2005م، قالت تريتوبيا هايس بنجامين، مديرة غاليري الفن في جامعة هوارد في واشنطن العاصمة: «إليزابيث كاتليت جزء من تاريخ فن الاحتجاج في أميركا. لقد صاغت مواقفها عبر فنها من شروط الظرف الإنساني، وحيال العدالة الاجتماعية والإجحاف» أدّى وجود تجمُّعات يساريّة تنحو باتجاه الاندماج إلى أن تعلن حكومة الولايات المتحدة أنّ كاتليت «شخصية غريبة غير مرغوب فيها» عام 1959م، وذلك حين شاركت في جمع شمل الأميركيين المقيمين في المكسيك المشتبه بكونهم منخرطين في أنشطة شيوعيّة. وفي حقبة الستينيات حُرِمَت الحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة، وهو ما شكَّلَ عاملًا معززًا –إضافةً إلى كونها إفريقية الأصل– لأن تكون شخصًا مغمورًا، نسبيًّا، داخل التيّار الرئيس في الفن الأميركي.

حفيدة لعبيد محررين

ولدت إليزابيث كاتليت في 15 إبريل 1915م في واشنطن العاصمة، حفيدة لعبيدٍ محررين. أبوها بروفيسور في الرياضيات توفي قبل ولادتها، وأُمها عملت مسؤولة ضبط الحضور والغياب في إحدى المدارس. نالت شهادة البكالوريوس في الفن من جامعة هوارد، المعهد التعليمي التاريخي للسود، منتصف الثلاثينيات، بعد أن طُرِدَت من معهد كارنيغي التكنولوجي بسببٍ أنها «مُلوَّنة»! انضمت إلى «إدارة النهوض بالعمل»، البرنامج الذي عمل على توظيف عدد كبير من الفنانين الجائعين إبان حقبة الكساد، وجرى تعريفها بريفييرا وزميله المكسيكي فنَّان الجداريات ميغيل كوفارّوبياس، حيث كان لفكرهما السياسي تأثيره في أعمالها المستقبليّة. عملت كاتليت في تدريس الفن في «نورث كارولاينا هاي سكول» لمدة من الوقت، لكنها أُحْبِطَت بسبب عدم المساواة في الرواتب بين الأساتذة السود والبيض. ثم انتقلت إلى ما يُعرف الآن بجامعة أيوا، لتنال منها درجة الدكتوراه في الفن عام 1940م. وكان من بين هيئة التدريس المشرف عليها الفنّان غرانت وود، المشهور بلوحته المُسمَّاة «القوط الأميركيون»، التي رسمها في عام 1930م، وفيها رجلٌ وامرأة ريفيان متزمتان من أيوا (هنالك أكثر من تأويل في تأمل هذه اللوحة التي باتت أيقونة عن الجنوب الأميركي)، ولقد شَجَّعها على أن تحتذي به وتعمل ما عمله هو؛ وذلك بأن تستعين بثقافتها ومجتمعها كموضوعات لفنها.

«لم أكن محاطة في أي وقت بأناسٍ بيض طوال حياتي، سوى الذين أتعارك معهم» قالت كاتليت فيما بعد، واصفةً دعم وود لها غير المتوقَّع. أما موضوع تخرجها، فكان منحوتتها «أُمّ زنجيّة وطفل»، وفازت بالجائزة الأولى في معرض كولومبيا 1940م، ومعرض شيكاغو للفنانين الأفرو – أميركيين. حين عُيِّنَت أستاذة كرسي لقسم الفنون الجميلة في جامعة ديلارد في نيو أورليانز عام 1940م، لم يكن مسموحًا للأفرو-أميركيين بدخول موقف السيارات المحيط بمتحف نيو أورليانز، فما كان من كاتليت إلّا أن تحتال على هذا الحظر بجعل طلابها يستقلون الحافلة حتى باب المتحف. وفي عام 1941م، انخرطت كاتليت في أنشطة المركز الفني لمجموعة الجانب الجنوبي في شيكاغو، وكان نقطة جذب للفنانين الأفرو – أميركيين التقدميين. وهناك التقت الفنان تشارلز وايت، وانتقلت معه إلى نيويورك بعد زواجهما. ثم ما لبثت أن انضمت إلى هيئة التدريس في كلية جورج واشنطن كارفر، وهي بمنزلة مركز تعليمي في هارلم يُدار من أشخاصٍ تقدميين وراديكاليين. وهناك، بحسب ما كتبت هيرزوغ عنها في سيرتها: «تجذرت قناعتها بأنّ على فنها أن يتجه مباشرةً للجماهير العريضة من العُمّال».

في نهاية الأربعينيات انتقلت لمكسيكو سيتي وسرعان ما انفصَلَت عن زوجها الأوّل. ومن خلال ورشة أعمال الحفر والطباعة، تعرفت إلى مورا (زوجها الثاني) الذي عرض عليها تعليمها اللغة الإسبانيّة، ثم توفي في عام 2002م. رُزِقَت من مورا بثلاثة أبناء أعانوها على مواصلة حياتها؛ فرانسيسكو: موسيقيّ معنيّ بالجاز، وخوان: صانع أفلام، وديفيد: فنّان. إضافة إلى أنها جَدّة لعشرة أحفاد وستة أبناء أحفاد.

في عام 1959م، أصبحت أوّل امرأة ترأس قسم النحت في الجامعة الوطنية المستقلّة المكسيكيّة، وهو المنصب الذي شغلته حتى تقاعدها في عام 1975م. عند مباشرة «متحف الأستديو» في هارلم العمل على إقامة معرضٍ كبير لأعمالها الفنيّة عام 1971م، منحت وزارة الخارجيّة كاتليت تأشيرة دخول إثر انهمار عرائض استرحام من أجلها. وكان لهذا المعرض أن دعمَ سمعتها المتنامية كفنّانة من الروّاد وكصوتٍ يعلو لصالح الأفرو – أميركيين. تبع ذلك معارض أخرى في الولايات المتحدة والمكسيك، واقتنت أعمالها المتاحف الرئيسيّة. وبمناسبة إقامة متحف كاليفورنيا للفن الأفرو – أميركي معرضًا لأعمالها في لوس أنجليس عام 1999، قالت كاتليت لجريدة التايمز: «إنّ مشاهدة كلّ هؤلاء الناس إنما تبعث لي برسالة تفيد بأني ربما أفعلُ شيئًا ولو بسيطًا مما كنت أريد فعله، وهو إدخال الأفرو – أميركيين للمتاحف. وإني أومن فعلًا إنْ كان لهذا علاقة بهم، فإنهم سيأتون».

عنوان المادة من وضع المترجم

المصدر: Los Angeles Times, 4 April 2012

ماري‭ ‬رورك،‭ ‬وفاليري‭ ‬جي‭. ‬نيلسون


الاكتمال‭ ‬الذاتي‭ ‬للنساء

«لطالما أردتُ أن يكون فني في خدمة الناس السود، أن يكون انعكاسًا لنا، أن ينتمي لنا، أن يمثّلنا، أن يجعلنا نعي إمكاناتنا وجهودنا. إنَّ تَعَلُّم كيف نفعل هذا كلّه وتمريره للآخرين إنما هو أحد أهدافي».

● ● ●

«إني مهتمة بتحرر المرأة من أجل الاكتمال الذاتي للنساء. مهتمة بذلك ليس فقط من أجل العمل والمساواة مع الرجال؛ لكن من أجل ما يمكن أن يساهمنَ به في إغناء الإنسانيّة. إنَّ مساهماتهنّ قد أُنْكِرَت عليهنّ».

● ● ●

«للتعبير عن المشاعر من خلال الشكل المجرّد، واللون، والخطّ، والفضاء؛ حاولتُ الوصول إلى الناس العاديين الذين لا يملكون إلّا القليل من التجارب أو فهم مبادئ الفن، وأن أجد صِلةً تربطهم بما يشعر به كثيرٌ من الناس حيال موضوعٍ ما، سواء كان غَضَبًا، استياءً، قوةً، جَمالًا، تضحيةً، تفهمًا، أو أيّ أمر آخر. لكنْ ثمّة أمر ما مشترك».

● ● ●

«أنا سوداء، وامرأة، ونَحّاتة، وفنّانة أعمال طباعيّة. كما أنني متزوجة، وأُم لثلاثة أبناء، وجَدّة لسبع بنات صغيرات ووَلَد. ولدتُ في الولايات المتحدة وأعيش في المكسيك منذ عام 1946م. أومن بأنّ جميع هذه الحالات التي مررتُ بها قد أثرّت في أعمالي وجعلتها على ما تبدو عليه اليوم. مصدر إلهامي هو الشعبان الأسود والمكسيكي، هُما شَعباي الاثنان. وفني يخاطب هذين الشعبين معًا».

● ● ●

«تعلّمتُ كيف أستخدم فني لخدمة الناس، لخدمة المناضلين من الناس، لخدمة أولئك الذين من أجلهم يصبح للواقعية معنى».

● ● ●

«أعتقد أنّ بمقدور الفنّ جعل الناس يعون الأشياء من حولهم. أما فيما يتعلق بأولئك الذين تعرضوا للغُبْن والإجحاف؛ فبإمكان الفنّ أن يجعلهم يرون الأشياء على نحوٍ آخر، يجعلهم يدركون أن أناسًا آخرين في ثقافات أخرى يملكون التجارب نفسها».

● ● ●

«لا تهملوا أو تتغافلوا عن أي مظهرٍ مهما كان، بصرف النظر أين هو».

● ● ●

«لطالما سُبِكَت النساء داخل وظيفة الأمهات ومدبرات البيوت، ونحن في الحقيقة جيدات في أداء هذه الوظيفة. جرى قَوْلَبَة النساء السود داخل وظيفة حَمْل مسؤولية نجاة القوم السود من خلال موقعهنّ كأمهات وزوجات، يقمنَ بحماية وتعليم وتنشئة الأطفال والرجال السود. يمكننا التعلّم من النساء السود. كان عليهنّ النضال لقرون عدة. أشعر بأننا نملك التعبير عن الكثير، وينبغي علينا المطالبة بأن يُنْصَت إلينا، والمطالبة بأن نُرى؛ لأننا نعرف ونشعر ونقدر على التعبير على نحوٍ كبير، والمساهمة بقدر عظيم من الأداء الجَمالي».

● ● ●

«في المرحلة الثانوية كنتُ دائمًا طالبة متطرفة جدًّا. أذكرُ في تلك المرحلة أني كنتُ أقف أمام مبنى المحكمة العليا في واشنطن العاصمة معلِّقةً حَبْلَ أنشوطة حول رقبتي، احتجاجًا على عقوبة الإعدام من دون محاكمة. لا أتذكر الجماعة التي كنتُ ضمنها، كل ما أتذكره هو اعتقالنا من جانب رجال الأمن».

إليزابيث كاتليت

المصدر: مواقع إلكترونية مختلفة

ليبوفيتسكي وفارغاس يوسا: الحياة ليست ثقافة فقط.. الحياة سياسة أيضًا

ليبوفيتسكي وفارغاس يوسا: الحياة ليست ثقافة فقط.. الحياة سياسة أيضًا

fr

إلياس فركوح

في مناظرته مع الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيليه ليبوفيتسكي، وصاحب كتاب «إمبراطورية الموضة»، و«الأزمنة الحديثة جدًّا»، يناقش الروائي الحائز على جائزة نوبل للأدب ماريو فارغاس يوسا ما هو جدير بالفحص حول الثقافة الراقية و«الجماهيرية» في العالم المعاصر، مدافعًا عن الأفكار التي ضَمَّنها كتابه الأخير «حضارة الفُرْجَة». المناظرة التي عقدت في معهد سرفانتس بمدريد باللغة الإسبانية، ثم ترجمت لاحقًا إلى اللغة الإنجليزية، شهدت نقاشًا عميقًا وحيويًّا حول العديد من الموضوعات والقضايا ذات الطابع الإشكالي. هنا نص المناظرة مترجمًا من الإنجليزية.

يوسا: «حضارة الفُرْجَة» محاولة للتعبير عن شعورٍ بالقلق، عن ضربٍ من الأسى، وعن رؤية ما كنا فهمناه بـ«الثقافة» عندما كنت شابًّا وقد أصابه التغيُّر في سني حياتي، حيث تحوّل فهمُنا إلى شيء مختلف جدًّا، إلى شيء أصابه التميّز والتغيّر في جوهره مقارنةً بما كنا نعنيه بكلمة «ثقافة» في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. سعى الكتاب محاولًا وصف التحوُّل، وفحص تأثيرات أوهام ما نسميها ثقافة اليوم على مظاهر مختلفة من الأفعال الإنسانية –اجتماعيًّا، وسياسيًّا، ودينيًّا، وجنسيًّا- طارحًا مسألة أن الثقافة تعمل على تخصيب كل أفعالنا في الحياة وتحيلها إليها.

لم يُنْجَز الكتاب ليكون متشائمًا، لكنه هدفَ إلى الإقلاق وحفز الناس إلى التفكير بالدور المهيمن للتسلية والإلهاء؛ لكونهما ينشران الزيف في وقتنا الحاضر، مثلما كانا أيضًا سببًا في أن يصبحا مركزًا في الحياة الثقافية. أعتقد أن هذه هي المسألة، وأنها حدثت بمباركة من قطاعات واسعة في المجتمع، ومن ضمنها أولئك الذين مثّلوا تقليديًّا مؤسساته وقِيَمه الثقافية.

إنّ جيليه ليبوفيتسكي، من وجهة نظري، أحد المفكرين اليوم الذين حللوا هذه الثقافة الجديدة بعمق بالغ وصرامة قصوى. ففي كتابه «إمبراطورية الموضة: ديمقراطية اللباس الحديثة»، قام وبتبصُّرٍ بوصف مكونات هذه الثقافة الجديدة. وخلافًا لما قمت به، عالجها محللًا إيّاها من دون قلق، ومن دون أيّ إحساس مفرط بالأذى؛ عالجها بتعاطف، رائيًا في صورها وملامحها ما عده أمرًا إيجابيًّا جدًّا. فمثلًا، التأثير باتجاه الديمقراطية لثقافة تصل لكل شخص، إنما هو ثقافة، في مقابل الثقافة التقليدية، لا تخلق فروقًا، ثقافة لا تحتكرها النخبة، ليست محصورة بالمتخصصين أو المثقفين والمفكرين، لكنها تتخلل كليَّة المجتمع وتنفذ فيه، بطريقة أو بأخرى.

كما أنه يقول، وهذه نقطة لافتة وقابلة للنقاش: إن هذه الثقافة أدّت إلى حرية فردية كبيرة. وبالعكس في الماضي –عندما كان الفرد، على نحوٍ ما، هو الأسير والمعبِّر عن ثقافةٍ ما– بات بمقدور الأفراد اليوم الاختيار ضمن مجال واسع وعريض من الاحتمالات الثقافية، وبالتالي لا تنحصر قدرتهم في عدم الاكتفاء بممارسة استقلالهم وإرادتهم الحرة فقط؛ ولكن بمقدورهم كذلك ممارسة أذواقهم وميولهم الشخصية. إنه يحاجّ ليبرهن على أن هذه الثقافة تتيح للناس البحث عن متعهم عبر أنشطةٍ هي ثقافية على نحوٍ قاطع، لكنها لم تكن تعدّ كذلك في الماضي.

هذه الأفكار قابلة للجدال حولها: أحيانًا تُقنعني، وأحيانًا أخرى تتركني حائرًا بلا قرار. أعتقد أن حوارًا بين موقفينا – موقفان مختلفان لكنهما، بطريقةٍ ما، يمكن أن يتكاملا – سيكون حوارًا مثمرًا.

Lipovetsky

جيليه ليبوفيتسكي

mario-vargas-llosa

ماريو يوسا

ليبوفيتسكي: شكرًا جزيلًا، ماريو، على هذا التقديم الذي أدركتُ فيه نفسي كاملًا. لقد أكَّدْتَ على حقيقة أن مجتمع الفُرْجَة هذا يشكّلُ تحديًا لمعنى الثقافة النبيل. أنا أوافقك بهذا الخصوص. ولسوف أسمح لنفسي بتطوير هذه النقطة قليلًا؛ لأنني أعتقد أنها تندرج في الاتجاه الذي تركِّزُ عليه. ماذا كانت الثقافة النبيلة، الثقافة الراقية، بالنسبة لدعاة الحداثة؟ قامت الثقافة بتقديم الكمال الجديد. ففي الوقت الذي بدأ فيه دعاة الحداثة بتطوير المجتمع العلمي والديمقراطي، خلقَت الرومانطيقيّة الألمانيّة صيغةً للدين بوساطة الفنّ، حيث تمثلت مهمتها في توفير ما لم يقم لا الدين ولا العلم بتزويد المجتمع به، وذلك لأنّ العلم ببساطة لا يقوم سوى بوصف الأشياء. أصبحَ الفنّ شيئًا مقدّسًا. كان الشعراء –والفنانون عامة– هُم أولئك الذين يُظهرون الطريق، الذين قالوا ما كان الدين يقوله منذ وقت مبكِّر.

عندما نتقيَّد بماهيّة الثقافة في عالم الاستهلاك، في عالم الفُرْجَة –ما رأيتَه مناسبًا أن تدعوه بـ«حضارة الفُرْجَة»– إنما هو تحديدًا التسليم بانهيار النموذج الرومانطيقي. باتت الثقافة وحدةً من وحدات الاستهلاك. لم نعد ننتظر من الثقافة أن تغيِّر الحياة، أن تغيِّر العالم، مثلما فكَّرَ رامبو. كانت هذه مَهمة الشعراء، كبودلير على سبيل المثال، الذي رفضَ العالم النَّفْعي. لقد آمنوا بأنّ الثقافة الراقية بمقدورها تغيير الإنسان، تغيير الحياة. واليوم، من غير المحتمَل وجود أحد يؤمن بأنّ الثقافة الراقية سوف تغيِّر العالم. في الحقيقة، وبمفهوم السِّباق والتنافس، فإنّ مجتمع التسلية، مجتمع الفُرْجَة هو الذي فاز. إنّ ما نتوقع الحصول عليه من الثقافة هو التسلية، ضربٌ من اللهو الرفيع بعض الشيء؛ غير أن الرأسماليّة هي ما تغيِّر الحياة اليوم بشكلٍ أساسي، والتكنولوجيا أيضًا. ولقد تحولَت الثقافة لتصبحَ المجد المُتَوِّج لهذا كلّه.

نحن، ضمن حدود معينة، نشترك في رؤيةٍ صارمةٍ سلبيّة لحضارة الفُرْجَة هذه، وللمجتمع الاستهلاكي عامة. ورغم ذلك، حاولتُ عبر السنين إظهار إمكانياتهما الإيجابيّة. وعند النظر من زاوية نموذج الثقافة التقليدي، فإنّ ما يبدو سلبيًّا هو الجانب الطاغي بلا جِدال. غير أن الحياة ليست ثقافة فقط. الحياة سياسة أيضًا –الديمقراطية بالنسبة لنا- علاقاتنا مع الآخرين، علاقاتنا مع أنفسنا، مع أجسادنا، مع المتعة ومع عناصر كثيرة أخرى. على هذا الصعيد، يمكننا القول بأنّ مجتمع الفُرْجَة، المجتمع الاستهلاكي، قام بتعميم مسلكيات نَمَطيَّة، ومنح قدرًا أكبر من الاستقلاليّة للفرد. لماذا؟ لأنه عَنَى انهيار الخطابات الكبرى، الأيديولوجيات السياسية الكبرى التي قيَّدَت الأفراد برباط محكم من مجموعة قوانين، واستبدلت بها الفراغ، بمذهب لذة ثقافي. وبتعاظم هذه الحال، لم يعد الناس يريدون الخضوع للسلطة، إنما يريدون أن يكونوا سعداء، والبحث عن هذه السعادة بكلّ معانيها ووضعها تحت تصرفهم. مذهب اللذة، إضافةً إلى المجتمع الاستهلاكي، أتاحا لأنماط الحياة أن تتكاثر. فالتلفزيون، على سبيل المثال، باتَ ضربًا من المقبرة للثقافة الراقية، لكنه مَدَّ الناس بمصادر أخرى وفتح لهم آفاقًا جديدة؛ إذ مَكَّنَ الأفراد من عقد المقارنات. على هذا الصعيد، أتاح مجتمع الفُرْجَة للأفراد أن يصبحوا مستقلين، وأن يُوجِدوا نوعًا من مجتمعٍ بحسب الطَلَب ووفقًا للثمن، حيث يشكلون فيه طريقة عيشهم الخاصة.

أعتقد أن هذا مظهرٌ مهمّ؛ لأنّ المجتمعات حيث تهيمن الفُرْجَة هي مجتمعات اتفاقيّة بشكل عام أوجدها عَقْدٌ ديمقراطي. واليوم لم تعد الصراعات الاجتماعيّة تنتهي بحمّامات دم، وبات رمز الطاغية مرفوضًا في جميع هذه الأماكن. بهذا المعنى، أعتقد أن مجتمع الفُرْجَة أتاحَ للديمقراطيات أن تحيا بمأساوية أقلّ، أقلّ حالة شيزوفرينيّة عمّا كانت من قبل. ومع هذا، لم يحررنا ذلك كلّه من مَظهرين أساسيين –من العَيبين العظيمين- للعصر الحديث: الثورة، والقوميّة. فالقوميّة توجد حيثما يسود مجتمع الفُرْجَة، لكنها ليست مجتمعات دمويّة، والثورة –ملحمة الماركسيّة الكبرى- الأمل الثوري الأُخروي، لم تعد تحظى بأتباعٍ مؤمنين كُثر. إنّ تَذَكُّرنا ما كانت تعنيه كُلٌّ من القوميّة والثورة للقرن العشرين إنما يتيح لنا تَجَنُّب القراءة الرؤيوية لمجتمع الفُرْجَة، رغم إمكانية مواصلتنا توجيه نقدنا له.

انتصار الفوضى

يوسا

ماريو يوسا

يوسا: تلك هي المظاهر الإيجابيّة لِما يمكن لنا تسميتها بحضارة الفُرْجَة، إذا ما وافقتُ على المسألة ككل. ولكن، فلننظرْ إلى بضعة مظاهر سلبيّة. إنَّ اختفاء –أو انهيار– الثقافة الراقية أدّى كذلك إلى انتصار الفوضى والارتباك. لقد شهدنا، ضمن سيرورة الثقافة الراقية، انهيار قِيَم جَمالية معينة، والتراتبيّة التي أسستها الثقافة القديمة التي كنا نحترمها بنسبة أو بأخرى؛ لم يعد للقاعدة أو المبدأ أو النظام المقبول للأولويات أيّ وجود. يجوز لنا القول بأنّ هذا أمرٌ استثنائي، ما دام أنه يعني حيازتنا لحريةٍ مطلقة في الوقت الراهن في المجال الثقافي، غير أنه بالإمكان، ضمن تلك الحرية، أن نكون ضحايا السفاهة الأسوأ. هذه حقيقة يمكننا معاينتها يوميًّا. وربما تكون الفنون البصريّة هي الحالة الأكثر دراماتيكيّة. تتمثّل الحرية التي أحرزتها الفنون البصريّة في حقيقة أنّ بمقدور أيّ شيء أن يكون فنًّا، وأن لا شيء هو فنّ؛ وأن كل فنّ يمكن أن يكون جميلًا أو قبيحًا، غير أنه لا مجال للتمييز بين الاثنين. لم يعد المبدأ أو النظام القديم، الذي أتاح لنا التمييز بين الممتاز، بين الدنيوي الطبيعي واللعين المقيت، متوفرًا، اليوم يعتمد الوضع على وَلَع أو ذوق الزبون. بَلَغَت الفوضى والارتباك في عالم الفنّ، أحيانًا، حدودًا قصوى مضحكة. الذكي الألمعي والوغد كلاهما ضحية لمؤامرات مختلفة؛ لإعلاناتٍ وإشهارات، على سبيل المثال، لها القَوْل الفَصْل. صحيحٌ أن الفوضى والارتباك، في حقول أخرى، لم تبلغ هذا الحد الأقصى، لكنها وجدت طريقًا لها بمعنى ما، وخلقَت حالةً حادّة من عدم اليقين.

إذا كانت الثقافة مجرد تسلية خالصة، فذلك يعني أنْ لا شيء يتسم بالأهميّة. إذا كانت مسألة لهو، فبمقدور المُنْتَحَل إلهائي وتسليتي بلا أدنى شك أكثر من شخصٍ أصيل عميق. ولكن إذا كانت الثقافة تعني أكثر من هذا؛ إذَن فإنّها تدعو للتفكير. وإني أعتقد أنّ الثقافة تعني أكثر بكثير، ليس بسبب المتعة التي نحصل عليها نتيجة قراءة عمل أدبي كبير، أو مشاهدة أوبرا عظيمة، أو الإنصات لسيمفونيّة جميلة، أو حضور حفلة باليه ساحرة؛ إنما لأنّ طبيعة الوعي، طبيعة الخيال، طبائع الأذواق والرغبات التي تخلقها الثقافة الراقية والفنّ العظيم في الكائنات الإنسانيّة تمنحها القوة وتمدّها بما يجعلها تعيش على نحو أفضل. تجعل الكائنات الإنسانيّة أكثر اهتمامًا بالمشكلات التي تغوص فيها، وأكثر تبصرًا بما هو صحيح وما هو خطأ في العالم الذي تعيش فيه. إنّ الوعي المُصوغ عبر الفنّ يجعل الكائنات الإنسانيّة قادرة على الدفاع عن نفسها أكثر، وأن تستمتع بالحياة أكثر، أو أن تعاني أقلّ.

إني أتحدث بناءً على تجربة شخصية. وإني أعتقد أن حصولي على فرصة قراءة «غونكورا» ( لويس غونكورا: شاعر باروكي إسباني 1561- 1627م). والاستمتاع به، وقراءة وفهم «يوليسيس» لجويس، قد أغْنَت حياتي على نحوٍ عميق. ليس فقط بسبب المتعة التي منحتني إياها بالعيش في تلك التجارب الثقافية؛ لكن لأنها أمَدّتني بفهمٍ أفضل للسياسة، وللعلاقات الإنسانيّة، ولِما هو عادل وما هو جائر، ولِما هو صواب وما هو خطأ، ولِمْا هو خطأ كبير.. كبير جدًّا. اختفى الدين من حياتي عندما كنت يافعًا، وحَلَّت محله قِيَمٌ روحيّة ما كان لي أن أبلغها من دون تلك الكتب. إني أتحدّث من زاويتي كفرد، غير أننا، إذا مددنا هذا ليشمل مجتمعًا كاملًا؛ عندها، وفي حالة اختفاء تلك الثقافة وكل ما تعنيه لتُسْتَبْدَل بالتسلية الخالصة، فماذا سيحدث لِما تَبَقى؟ هل بوسع التسلية الخالصة تمكين المجتمع من مواجهة كل تلك المشكلات والتصدي لها؟

أنا لست ضدّ الرأسماليّة، أنا مؤيدٌ لها؛ لقد أتاحت المجال لتقدم إنسانيّ استثنائي. لقد جَلَبَت لنا مستويات معيشية مرتفعة، وصيغةً من التطور العلمي سمحت لنا بالعيش على نحو أفضل وبلا حصر مقارنة بأسلافنا. ورغم ذلك، لطالما قال المُنظِّرون الكِبار بأنّ الرأسماليّة نِظامٌ قاسٍ بلا قلب، نِظامٌ يخلق الثراء لكنه يخلق الأنانيّة أيضًا. وهذا يجب أن يُعَوَّض بحياةٍ ثقافية في حدّها الأقصى. كثيرٌ من مُنَظِّري الرأسماليّة اعتقدَ أنّ السبيل الروحي كان الدين؛ وآخرون، من غير المتدينين، اعتقدوا أنه الثقافة. وإذا كنا لا نريد الوصول إلى النقطة التي يتحرك نحوها المجتمع –خواء روحيّ حيث جميع تلك المظاهر السلبيّة للمجتمع الصناعي، وجميع حالات التجرّد من الإنسانيّة التي يجلبها معه، أصبحت أكثر وضوحًا وسطوعًا كل يوم– فإني أعتقد أن أفضل وسيلة لمواجهة تلك الأنانية والغرور، تلك الوحدة، وتلك المنافسة الرهيبة التي تصل إلى حدّها الأقصى من التجرّد من الإنسانيّة، إنما هي الحياة الثقافية الغنية في حدّها الأقصى، وإنها المعنى الرفيع السامي لكلمة «ثقافة».

إني، خِلافًا لجيليه، لا أعتقد أن حضارة الفُرْجَة قد أتت بالسلام، بالسَّكينة والانسجام، وبالتالي التخلُّص من العنف، أو التقليل منه. على العكس من ذلك، لا يزال العنف موجودًا وحاضرًا في مدننا المبتلاة بالجريمة، في جرائم الجنس وفي التمييز بين الأجناس والتحامل عليها. ثمّة ناتجٌ متخيَّل متأتٍّ عن الأزمات الاقتصاديّة أدّى إلى رُهاب الأجانب، إلى العنصريّة والتمييز على هذا الصعيد. العنفُ ماثلٌ ضد الأقليات الجنسيّة، وهو منتشر، مع استثناءات قليلة، عبر العالم. كيف نفسِّر هذا كلّه؟ أحد التعبيرات الذي يتجلّى فيه هذا العنف إنما يتركز تحديدًا في انهيار الثقافة الراقية. هذه الثقافة التي تُثري وعينا وتقودنا، بطريقة أو بأخرى لأن ننشغل نحن أنفسنا بالقضايا الكبيرة. ثقافة بقدر ما هي ممتعة فإنها تدعو للتفكير، وللقلق، غارسة في الذهن حالة من عدم الانسجام ومثيرة روح النقد؛ وهو أمر تعجز عن خلقه الثقاقة المسليّة الخالصة. هذه الثقافة التي سمّاها جيليه في إحدى مقالاته «عالم الثقافة.»

لستُ ضد الفُرْجَة؛ إنها بالنسبة لي باهرة وتُسلّيني كثيرًا. ولكن، إذا تحوَّلت الثقافة لتكون هذا فقط، فإنّ فقدان المعايير سيسود في النهاية وليس الاطمئنان، سيسود نوعٌ من الإذعان السلبي. والإذعان السلبي الخالص لدى الأفراد، داخل المجتمع الرأسمالي الحديث، لا يعني تعزيز ثقافة ديمقراطية بقدر ما هو انهيار المؤسسات الديمقراطية؛ والمثال على ذلك السلوك المضاد المقاوم لمشاركة الأفراد المبدعة والنقديّة في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والمَدنية. فيما يتعلق بي؛ إنّ أكثر الظواهر المقلقة في المجتمع المعاصر تتجلّى في عدم انخراط المثقفين والفنانين في الشؤون العامة، وفي احتقارهم الكامل للحياة السياسية التي يرون أنها قذارة، وخساسة، وفساد، وأنها شيءٌ ينبغي لهم إدارة ظهورهم له إذا ما أرادوا البقاء غير ملوَّثين. كيف بالإمكان لمجتمعٍ ديمقراطي النجاة على المدى الطويل من دون مشاركة الشخص الأكثر تفكيرًا، الأكثر وعيًا، من دون مشاركة الناس الأكثر إبداعًا وقدرةً على التخيُّل؟

ليبوفيتسكي: نحن غالبًا ما نُرْفِقُ مجتمعَ الفُرْجَة باختفاء المُثُل العُليا. هذه واحدة من مظاهره بلا شكّ، لكنها ليست الوحيدة. ففي الأجيال الجديدة من الناس المَعنيين ثمّة قواعد وأُسس لم تعد سياسية، غير أنها متصلة بلزومات الكَرَم والسَّماحة، وبالعَون المشترك. المجتمع المعاصر ليس مرادفًا لكليّة الاستخفاف بالأشياء (الكَلْبيّة) والعَدَميّة. ربما يكون هذا مظهره المسيطر، لكنّ ثمّة نزوعات مضادة وميولًا أخرى، نعاينُ ذلك في المنظمات غير الحكوميّة: في المتطوعين الواهبين أنفسهم للعطاء، والواهبين وقتهم والساعين لِعَمَل شيء في سبيل الآخرين لا في سبيل أنفسهم. أعترفُ بأنّ هذا الأمر ليس ظاهرةً عالميّة، لكنني مفاجَأ، بالرغم من كل شيء، من أن مجتمع الفُرْجَة يساند ويدعم هذا العطاء وينشره عبر العالم. مجتمع الفُرْجَة لا يخلق الأنانيّة فقط؛ بل يخلق ظواهر أخرىتسمح لنا بتعديل كفَّة الميزان.

نحن نملك رؤيةً مختلفة للثقافة الراقية. أنتَ تراها كالثِّقَل الموازن نوعًا من الخَلاص أو الترياق حيال الحقيقة القاتلة الماثلة في إفساح السلطة لصناعة الفُرْجَة والرأسماليّة الحرية الأكبر في إدارة شؤونها. أنتَ لستَ ضد الرأسماليّة، لكنك تبحث عن وسيلة لأنْسَنتها. نحن متفقان هنا. لكننا لسنا، من ناحية ثانية، متفائلين بالقدر نفسه. أنتَ تعتقد أنّ الثقافة الراقية تشكِّل العامل الأساسي والجوهري في عملية ضبط وتصويب أحد مظاهر الرأسمالية. أما أنا فأكثر ريبةً؛ ربما لأني أقلّ إيمانًا منكَ بالثقافة الراقية.

أنتَ ذكرتَ بعض الأشياء عن العنف في غاية الأهمية، منها أن في داخل مجتمع الفُرْجَة، المتصف كذلك بالتسلية والإلهاء، وقعت جميع أشكال العنف. ومع ذلك، ففي لحظة مهمة في سيرورة الثقافة الراقية أمضى أوسكار وايلد سنتين في السجن، وبقية حياته الوجيزة في المنفى. كما عجزت الثقافة الراقية عن حماية البَشَر، في أُمة غوته وكانط، من الوحشيّة النازيّة.

أنا رجل أكاديمي، أدافع عن الثقافة الراقية، لكنني أعتقد أنْ علينا أن نقترح وسائل أخرى ومختلفة. وبالنظر إلى حيرة العالَم المعاصر وتيهانه، فإنّ ما ينبغي لنا عمله هو المحافظة على كرامة الناس والإيمان بالعمل. لا الاكتفاء بالإيمان بالمعرفة والاستمتاع بالأعمال الأدبية العظيمة. الثقافة الراقية تساعد الإبداع والفرد، لكن في الوقت نفسه فإنّ الأفراد هم الممثلون الذين يبنون عوالمهم الخاصة. على التعليم ألّا يقف ساكنًا أو يهرب بعيدًا من التلفزيون وما يماثله. على التعليم توفير الأدوات للأفراد ليصبحوا مبدعين، ليس فقط فيما يتعلق بالفنّ والأدب إنما في كل شيء. على الثقافة الراقية والنزعة الإنسانية العمل جنبًا إلى جنب بطرائق مختلفة، أما إذا مارسنا ذلك بطريقة محددة واحدة؛ فلسوف نواجه مشكلات. فمشاركة الجماهير، في مجتمع التسلية، أكثر صعوبة حين يتعلق الأمر باختمار هذه الثقافة. عند النظر إلى غير الممتلكين للتعليم الضروري، فإنّ قراءة «يوليسيس» اليوم ليست هينة، لكنها ليست مستحيلة. نحن بمقدورنا العيش، والعيش جيدًا، وبوضعٍ يتيح الكرامة، من دون الاطلاع على الأعمال الأدبية العظيمة.

نحن متفقان في تشخيصنا لمجتمع الفُرْجَة وبدء انهيار التراتبيّة الجَمالية. لكن هنا علينا أن نتراجع قليلًا ونشهد على أن مجتمع الفُرْجَة ليس المجرم المتَّهم الوحيد. فالأمر يبدأ بالثقافة الراقية: الطليعة. فهناك يحدث الهجوم المضاد للفنّ الأكاديمي، لـ«الجَمال». لم يكن «دوشان» (مارسيل دوشان (1877- 1968م)، رسّام فرنسي وأحد مؤسسي المدرسة الدادائية والسريالية) جزءًا من مجتمع الفُرْجَة، ومع ذلك كان مَن فتحَ باب الفكرة القائلة بقابلية وضع كل شيء في المعرض، وأنّ هذا يجوز لنا أن ندعوه «فنًّا». إنّ بذور انهيار الجماليات والثقافة الراقية تكمن في داخل الثقافة الراقية نفسها.

وفي النهاية، لم يكن مجتمع الفُرْجَة مَن قام بتغيير التراتبية الجَمالية كثيرًا. ما الذي حدث؟ لقد خلق مجتمعُ القرن العشرين الحديث شيئًا لم يُسْمع به من قبلُ في التاريخ: «فنّ الجماهير – الفنّ الجماهيري». فلنأخذ السينما على سبيل المثال. فالفلم السينمائي يستهدف كل إنسان، بصرف النظر عن مكوناته الثقافية؛ مجترحًا شيئًا مختلفًا. لقد خلق فنَّ تسليةٍ بمقدوره منحنا أعمالًا متوسطة القيمة لكنها رائعة أيضًا. وإذا أخذنا في الحسبان معدلات الأفلام، وعلى نحو مطرد، فإنّ الأعمال التي هي ليست عظيمة وليست رديئة، تؤدي إلى تحريك المشاعر وتدفع الناس إلى التفكير.

حريق في الهواء الطلق

يوسا: يسعدني أن جيليه قد لامَسَ موضوع النازيّة. إنّ أوّل شيء فعلته النازيّة وهي في طريقها لاستلام السلطة كان إقامتها محرقةً هائلة للكتب أمام جامعة برلين، حيث بات كامل الإرث الثقافي العظيم لألمانيا، عمليًّا، داخل أتون حريق في الهواء الطلق. النازيّة ليست الحركة الشموليّة الوحيدة التي أضمرت ارتيابًا ساحقًا في الإبداع الفني، وبالتفكير الفلسفي، وبالفنانين الذين كانوا، بشكل أو بآخر، نُقّادًا لزمنهم، ولمجتمعهم؛ الفنانين الذين، بطبيعة الحال، قد تعرضوا لقمعٍ وحشيّ.

وبسبب ارتيابهم الفظيع في الثقافة، فإنّ أوّل شيء قامت به جميع المجتمعات التسلطيّة تمثّل في سَنِّها لأنظمة الرقابة على الكتابة والنشر. وكانوا محقين في رؤيتهم للخطر الكبير الكامن في الثقافة. فمنذ محاكم التفتيش، اجْتُرِحَت مؤسسةٌ لقمع التداول الحُر للآراء والقناعات، وذلك بغية تصنيف الأفكار والحياة الفرديّة كما الحياة الروحيّة ضمن نماذج ومعايير دقيقة تُدين وتُجَرِّم بما يتوافق مع السلطة. هذا ما فعلته الشيوعيّة، والفاشيّة، والنازيّة، وجميع الدكتاتوريات التي وُجِدَت. وهنا نجد الدليل الأمثل على أهمية الثقافة الغنية، والراقية، والمبدعة، والحُرة. في الحقيقة، إنّ ثقافةً غنيةً وراقيةً مبدعةً لا تكون إلّا حُرة، وهي، حقًّا، أحد أُسس الحرية. وإذا ما اختفت تلك الثقافة، فبسبب أن الحرية اختفت من قلب ذلك المجتمع. يمكن للثقافة أن تختفي على أيدي الأنظمة المتوحشة، والشموليّة؛ هتلر، ستالين، فيدل كاسترو، ماو تسي تونغ، لكن ثمّة إمكانية لاختفائها أيضًا بطرائق أخرى. فإذا وصلنا نقطة الاعتقاد بوجود أُناس معينين لا يجدون ضرورةً للثقافة؛ لجويس، لإليوت، ولبروست، وأن هؤلاء جميعًا لا نفع منهم على الإطلاق ولا يخدمون غَرَضًا، وأنّ لهؤلاء الناس اهتمامات فوريّة آنيّة أكثر إلحاحًا وضغطًا؛ فلسوف يُصاب المجتمع بالإفقار المتزايد عبر العَبَث والطيش، والزهو والخيلاء. هذا الضرب من التفكير خطير. أعتقد أن بروست مهمّ لكل إنسان؛ رغم أن البعض ربما لا يعرف كيف يقرأ؛ رغم أن ما قاله بروست يقع في صالحهم، أيضًا، بصرف النظر عن أنهم ليسوا في وضعٍ يمكّنهم من قراءته. لقد خلقَ نوعًا من الوعي يعبر أشياء معينة تجعل الأفراد غير قادرين على التأثر به هو أكثر إدراكًا لوضع الناس الأفقر والأحْوَج. كما أنه دفعهم إلى الالتفات والاهتمام بالإشارة إلى وجود حقوق إنسانيّة معينة. هذا الضرب من الإدراك والوعي ناتج عن الثقافة. وحين لا تكون الثقافة وراء هذا الوعي والإدراك، فإنها فقيرة على نحو استثنائيّ. وهذا يفسِّر، إضافةً إلى أن أوربا عاشت تجربة الهولوكوست الشنيعة، لماذا لم تختفِ اللاساميّة؛ بل ولدت من جديد. وهذا يفسِّر لماذا رُهاب الأجانب، الذي هو فَشَلٌ عالميّ، يجتاح المشهد ثانيةً، ليس في مجتمعات بدائية غير مثقفة، إنما في مجتمعات مثقفة ثقافة قصوى، وتحديدًا ضمن تلك الدوائر التي لم تصلها كتابات بروست، وإليوت، ورائعة جويس «يوليسيس».

الثقافة الراقية غير منفصلة عن الحرية. ولطالما كانت ثقافة نقديّة، ولطالما كانت نتيجة لعدم التطابق ومصدرًا له. فالمرء لا يمكنه قراءة كافكا، أو تولستوي، أو فلوبير، ولا يوقِن بأن العالم ليس سويًّا، وأنه بالمقارنة مع الأشياء الجميلة جدًّا، والكاملة تمامًا، والرائعة جدًّا، حيث كل الأشياء رائعة –الأشياء البشعة والرديئة هي أيضًا رائعة وجميلة- وأنّ العالم الحقيقي متوسط القيمة إلى حد كبير. لقد خلق فينا هذا الأمر شعورًا رهيبًا بانعدام التكيُّف، بالمقاومة ورفض الحقيقة الواقعية. ذلك هو المصدر الرئيس للتقدم والحرية، ليس في العالم المادي فقط؛ بل في مجال الحقوق الإنسانية والمؤسسات الديمقراطية. إنّ الدفاع عن الثقافة الراقية مرتبط بذلك الانهماك الكبير بكلٍّ من الحرية والديمقراطية.

صحيحٌ أن فظائع اجتماعيّة وإجحافات اقتصاديّة قد وقعت في ماضي المجتمعات المثقفة. ولكن، ما الذي جعلنا نقلق من كونها كانت موجودة؟ إنها الثقافة. منحتنا الثقافةُ الوعيَ والإدراكَ والعقلانيّةَ مما دفعنا لأن نشعر بالقلق حيال ما كان ليس صحيحًا، وأن علينا وضع نهاية له؛ وأن الاستعمار كان أمرًا ليس صحيحًا وأنْ علينا وضع نهاية له؛ وأن جميع ضروب العنصريّة والتمييز ليست صحيحة وعنيفة. عندما كان بروست يكتب «البحث عن الزمن الضائع»، لم يكن يعرف أنه إنما يعمل من أجل الحرية والعدل، لكنه كان يفعل هذا. هذا ما كان رامبرانت ومايكل أنغلو يفعلانه؛ مثلما فعل فاغنر عندما قام بتأليف موسيقاه، مع أنه كان عنصريًّا. وهذا نفسه ما حصل مع فنانين كِبار، ومع مفكرين كِبار، ومع مبدعين كِبار. إنّ عملهم يختلف عن عمل التكنوقراط أو المشتغلين بالعلوم، ومساهمة الأخيرين الاستثنائيّة للإنسانيّة مباشِرة؛ إنهم متخصصون وعملهم يتحرك في خط مستقيم. أما عمل الإنسانيين الكِبار، بالمقابل، فإنه يتحرك في أكثر من اتجاه واحد؛ إنه يتجه نحو المجتمع مستهدفًا إيّاه ككل، وأحيانًا يقوم بالتأسيس للقواسم المشتركة التي ضاعت في خضم التحديث والتصنيع. المجتمع الحديث يعزل ويشتت الأفراد؛ وهنا تكمن أهمية حصولنا على قاسم مشترك يجعلنا نشعر بالمسؤولية الجماعية والرباط الأخوي؛ لأن في ذلك تتأسس فيما بيننا مجموعة اهتمامات وانشغالات. وحدها الثقافة ما يخلق مجموعة الانشغالات تلك؛ فهي لم تتأسس أبدًا بالتكنولوجيا والعلم؛ إذ يخلق الأخيران متخصصين من أصحاب خلافات تبادلية فيما بينهم لا لَبس فيها.

الدفاع عن الثقافة الراقية لا يعني الدفاع عن النُّخَب الصغيرة فقط، التي تستمتع بمخرجات هذه الثقافة، ولكنه دفاعٌ أيضًا عن أمورٍ أساسية وضرورية للإنسانية؛ كالحرية، والثقافة الديمقراطية. الثقافة الراقية تدافع عنا نحن ضد الأنظمة الشمولية والتسلطية، كما تدافع عنا ضد الطائفية والاعتقادات المغلقة.

يطرح جيليه ليبوفيتسكي رأيه القائل بأنّ الأيديولوجيات –التي لا أثق بها أنا أيضًا وأخشاها- قد تآكلت في مجتمع الفُرْجَة؛ وأنّ مجتمع الفُرْجَة هذا كان أشد فعالية وتأثيرًا من المنطق والعقلانية، ومن السجال الديمقراطي في الصراع ضد الأيديولوجيات اليوتوبية الكبرى. وإذا ما كان ثمّة إنجاز من إنجازات مجتمع الفُرْجَة –بالنظر إلى حاجته للهو والتسلية، والموضة، والمتعة العاجلة- فإنه التفسُّخ التدريجي والتلاشي المتصل لكثيرٍ من الأيديولوجيات، ولهذا فعلينا الاحتفال بهذا الأمر حقًّا. إنّ انهيار الأيديولوجيات الكبرى هو انهيارٌ لواحدٍ من أكبر مصادر الحرب والعنف في المجتمع الحديث.

هيجان عنف السلطات الشمولية

ليبوفيتسكي: لقد أضاء ماريو نقطةً أوافق عليها تمامًا، إننا حقيقة رجالًا ونساءً نعيش العصر الحديث، وندين بالكثير للثقافة الراقية. إننا نشأنا هكذا نتيجة عملية اختمار للأفكار، ونتيجة وعيٍ حديث أسهمَ في تكوينه فلاسفةٌ وكتّاب، وهذا بالضبط ما صاغَ وصبغَ الكون الإنسانيّ، والفرديّ، والديمقراطي. لقد نشأ العالم الحديث من عقول مفكرين معينين زرعوا البذور، بوساطة أُناس منحوا الشيفرة والناموس مجتمعًا لا يُضاهى في مؤسساته، ولكنها تواجه نفسها بإدراكها للحرية، والكرامة، والمساواة للجميع. هذا الابتكار العقلي ندين به للثقافة الراقية. نحن متفقون، تمامًا مثلما اتفقنا على أنه يجب على الإبداع أن يكون مدافعًا عن الحرية بوصفه مندوبًا عنها.

بالمقابل، لستُ مقتنعًا تمام الاقتناع بأنّ الثقافة الراقية تقينا من هيجان عنف السلطات الشمولية، أو أي عنف من نوع آخر. فإذا كانت الثقافة الراقية تعمل على توليد الحرية، فإنها، في كثير من الأوقات، مثلما يمكن لـ«كانط» أن يقول، تحتمل أن تُصاب بالعجز تحت تهديدات السلطة والمصالح الخاصة. واليوم، ليست الثقافة الراقية وحدها مَن يدافع عن القِيَم التي تحبّها وتقدّرها بقدر ما أفعل أنا؛ فهناك التلفزيون، والسينما، وسلسلة عريضة من منتجات وسائل الإعلام الجماهيرية تحتفي هي أيضًا بحقوق الإنسان وكرامته. ربما لا تكون أعمالًا قابلة للتكريس في التاريخ، لكنها، رغم كل شيء، بذرت أيديولوجيا إنسانية. إني أُدْهَش عندما أشاهد فلمًا لـ«سبيلبرغ» (المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ صاحب أفلام: اللون القرمزي. لينكولن. ميونخ. قائمة شندلر). تلك ليست ثقافةً راقية، إنها أعمال رائجة جدًّا وتكلِّف ملايين الدولارات لتُنْتَج، لكنها تعمل على نشر الأفكار الإنسانية والرموز الديمقراطية، وكذلك القِيَم التي صيغت أصلًا في ثقافة راقية وقد باتت في حالة تواصل وتفاعل مع المجتمع.

ليبوفيتسكي

ليبوفيتسكي

أسهمَ مجتمع الاستهلاك، مجتمع الفُرْجَة –إنهما يشيران إلى المعنى نفسه– في كثيرٍ من الأشياء؛ لقد خلقَ الرغبة في حياة أفضل، وأتاح للناس المشاركة بآرائهم، ودمَّر الأيديولوجيات الكبرى، ومنح الشعب مزيدًا من الاستقلال. غير أن هذا ليس كافيًا. إنّ مجتمع الفُرْجَة، الذي يَعِد بالمَسَرَّات، لا يمكنه الوفاء بوعده. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع شَيْطَنَة المجتمع الاستهلاكي، ولا ينبغي لنا رفضه بقضه وقضيضه ككل. علينا المضي مع ما هو إيجابي في هذا المجتمع –الحرية. إطالة العُمْر. طرائق العيش- غير أننا نحتاج أيضًا إلى أن ندرك، وهنا نحن متفقون، على أن عالم الاستهلاك ليس بمقدوره الإيفاء بطموحات الشعب وآماله. فالناس ليسوا مجرد مستهلكين، رغم أن المجتمع الاستهلاكي يتعامل معهم كأنهم كذلك. ما الفارق بين المستهلك والفرد؟ الفرق كبير جدًّا. إننا بطرحنا للمنظور الإنساني، وإرث الثقافة الراقية، إنما نتوقع من الناس أن يكونوا مبدعين، وأن يبتكروا أشياء، وأن يمتلكوا قِيَمًا. المجتمع الاستهلاكي لا يزوِّدنا بذلك، ولهذا فإننا نشاهد حركات متكاثرة تعمل على البرهنة عن نفسها، وعلى طرح الأفكار واقتراحها، وعلى الإتيان بالأعمال. الناس بحاجة إلى توكيد ذواتهم.

نحن نرى، بوساطة الإنترنت وأدوات التواصل الجديدة، تطورًا مذهلًا لدى الهواة من الشباب وهم ينجزون أعمالًا معينة، يبدعون أشرطة فيديو، وأفلامًا قصيرة، وموسيقا. ليست جميع هذه المُخْرَجات عبقريّة، غير أن هذا النشاط يُرينا أنّ مقولة نيتشه «إرادة السلطة» تُترجم اليوم بإرادة الإبداع. هذه الإرادة لم يعمل مجتمع الاستهلاك على تدميرها، كما لم يعمل على تحويل الناس إلى مجرد كينونة لا تريد سوى العلامات التجارية. فالناس يواصلون المطالبة بأن يجعلوا من حيواتهم شيئًا مهمًّا. هذا ما يجب على التعليم عمله: إتاحة الأدوات للناس، أينما كانوا؛ ليخلقوا من حياتهم حالةً مهمة من دون الاكتفاء بكونهم مجرد مستهلكين للعلامات التجارية الشائعة وصراعات الموضة. ثمّة عَمَلٌ كبير يقع إنجازه على عاتقنا.

لقد قللَ نظام الرأسمالية العالمي من مجال المناورة، وضَيَّقَ من الزمن الممنوح للفعل، لكننا نستطيع عمل أمور عدة في الثقافة؛ وبإمكان التعليم أن يفعل أيضًا. هذه واحدة من تحديات القرن الحادي والعشرين الكبيرة. لن يتشكل المجتمع عبر التكنولوجيا فقط؛ بل عبر الناس الذين يملكون الحَصافة ورجاحة العقل فيما يتعلق بذواتهم، والذين يملكون رغبات قوية. يجب على التعليم مساعدة الناس على فعل ذلك. الثقافة الراقية واحدة من الأدوات، لكنها ليست الأداة الوحيدة. علينا إعادة التفكير بالتعليم في حقبة الإنترنت. علينا التفكير في طبيعة التعليم في مجتمعٍ مرتبك تائه لم يعد يملك المرجعيات السابقة. إنها مَهمة هائلة، لكنها كفيلة بتصميم عالم الغد.

يوسا: أتفق معك تمامًا. لقد أتاح المجتمع الصناعي الحديث، ومجتمع السوق، ومجتمع البلدان المتقدمة، شروطَ العيش للفرد الإنساني على نحوٍ هائل. لكنه لم يجلب، قط، السعادةَ التي يبحث عنها الناس لكونها تمثّل مصيرهم الأخير. الناقص هو تحديدًا ما يندرج تحت عنوان «الحياة الروحيّة الغنية». لقد أتاح الدين هذه الحياة لقطاعٍ من المجتمع –القطاع الذي يشعر بأنّ وجوده المادي مُحاط بالإيمان- لكن يتبقى قطاع عريض لم يكن للدين وجودٌ فيه، قطاعٌ لا معنى للدين في أوساطه، وهناك بالضبط ما يجب على الثقافة أن تلعب دورًا أساسيًّا فيه.

أوافق. يجب على التعليم أن يكون واحدًا من الأدوات الرئيسية التي بوساطتها يمكن للمجتمع الحديث أن يملأ هذا الخواء الروحي. ولكن، إذا ما كان هناك ما يتعرض للأزمات في المجتمع الحديث؛ فهو التعليم على وجه الخصوص. ليس هناك من مجتمع واحد في العالم لا يعكس نظامه التعليمي أزمات عميقة، وذلك لسببٍ بسيط يتمثّل في أننا لا نعرف ما هو النظام الأفضل والأكثر قابلية لتلبية الحاجات، النظام الذي يلبّي، من جهة، حاجات المجتمع من تقنيين ومحترفين، ومن جهة أخرى، يملأ الثغرات الكائنة في العالم الروحي لهذا المجتمع الحديث. يعيش التعليم أزمةً؛ لأنه عجز عن إيجاد معادلة يمكن لها أن تجمع هذين البُعدين معًا. هناك تحديدًا يجب أن نعمل إذا أردنا مجتمعًا حديثًا قادرًا على إشباع الحاجات الماديّة للرجال والنساء مثلما يملأ العالم الروحي. التعليم أمرٌ أساسيٌّ بكل تأكيد، ولكن إلى جانب التعليم فإنّ العائلة والفرد أساسيان أيضًا، وهذا كلّه يقتضي وجود إجماع معيّن حين تبدأ عملية تطوير البرامج التي سوف تحكم حياة مدارسنا، وحياة مؤسساتنا وجامعاتنا. ثمّة فوضى وارتباك غير مسبوقين يعتريان هذه العملية، ولكن إذا ما توافر الاهتمام على الأقلّ والتركيز على أن ضمن مجال التعليم ينبغي أن نكون مبدعين وفعّالين، عندها أعتقد أننا سنكون قد حققنا خطوةً هائلة إلى الأمام. على أي حال، ورغم أن تناقضاتنا تبدو على السطح عديدة؛ فإني أعتقد أنّي وجيليه قد اتفقنا على ضرورة قراءة بروست، وجويس، ورامبو؛ وأنّ أفكار كل من كانط، وبوبر ( كارل بوبر 1902- 1994م: فيلسوف نمساوي – هنغاري، ولد في فيينا، ودرّس كأستاذ في جامعات بريطانية عدة. يُعتبر أحد أكبر فلاسفة العلوم في القرن العشرين) ونيتشه تصلح لهذا اليوم والعصر، وقادرة على مساعدتنا في تشكيل تلك البرامج التعليمية التي يعتمد عليها مجتمع المستقبل، إذًا سوف يكون أقلّ عنفًا وأقلّ خلوًا من السعادة.