فرقنا الكروية.. أوطاننا الجديدة

فرقنا الكروية.. أوطاننا الجديدة

يكتفي بعض بأن يطرح قضية كرة القدم طرحًا أخلاقيًّا فيستنكر الأهمية التي قد تغدو مبالغًا فيها في بعض الأحيان، وتُعطَى للكُوَيْرة الصغرى على حساب قضايا الكرة الكبرى. وهو لا يقتنع بهذا المنحى الذي اتخذته هذه الرياضة التي أصبحت «تشغل الإنسان اليوم عن أمور أخرى أكثر جدية وأعلى أهمية»، فيرى أن هذه اللعبة، رغم أنها تروّج الملايير وتشد الجماهير وتجند الطاقات، فإنها تظل لعبة في نهاية الأمر، ولا ينبغي لها أن تنسينا حروبنا وتلهينا عن صراعاتنا ومبارياتنا «الحقيقية». وعلى الرغم من ذلك فإن أصحاب هذا المنظور يظلون عاجزين أن يثنونا عن الاعتقاد بأن ما ينعتونه بـ«مجرد لعبة»، يشكل اليوم إحدى النوافذ الأساسية التي يمكن أن نطلّ منها على الحياة المعاصرة. وعلى أية حال، حتى إن لم نعدّ اليوم الرياضةَ بصفة عامة، وكرةَ القدم على وجه الخصوص، مفتاحًا من أهم المفاتيح لفهم العالم المعاصر، فلن يكون من السهل علينا، على الأقل، نفي أهميتها الاقتصادية والسياحية، بل دورها السياسي.

لا يكفي، بطبيعة الحال لإدراك ذلك، الاستدلال على أهمية الرياضة على العموم، وكرة القدم خاصة، وإبراز فوائدها الصحية ودورها في تربية الأجسام والعقول، بل في تطوير القدرات الجسدية والتحطيم المطرد للأرقام القياسية؛ إذ إن الأمر الذي يعنينا هنا لا يكاد يتعلق بالرياضة الكروية بهذا المعنى حيث كان بإمكان جميع أطفال العالم، مهما كان وضعهم الاجتماعي والجغرافي، أن يصنعوا كرة من قش ويضعوا قطعتي حجر على جنبات الطريق ويخوضوا في مباراة تستغرق الساعات.

كرة القدم التي تعنينا هنا «لعبة» في غاية الجدّ، حيث غدا لاعبُها اليوم مهووسًا بقضايا لا علاقة لها إطلاقًا بـ«اللعب»؛ إذ المطلوب منه، أوّلًا وقبل كل شيء، أن يحقق الانتصار، ومن الأفضل أن يكون «انتصارًا ساحقًا»، وهذا الانتصار يقدَّر كمّيًّا قبل كل شيء، فهو عدد من الإصابات. لا يهمّ، لبلوغ ذلك، مختلف أشكال التحايل التي سيلجأ إليها من إضاعة للوقت، أو خروج عن قواعد « اللعبة»، أو مراوغة للحكم، أو حتى تعنيف الخصم. المهم هو النتيجة، ولا شيء غير النتيجة (حتى إن اقتضى الأمر دفع الكرة نحو المرمى باستعمال الأيدي كما فعل أحد اللاعبين، مضلِّلًا الحكم). النتيجة هي التي سترفع من قيمة اللاعب في«سوق» اللاعبين، هي التي سترفع ثمنه وتفتح له أبواب النوادي الكبيرة، وهي التي ستجلب لقميصه أغلى الإعلانات، هي التي ستبرز الوطن الذي ينتمي إليه وترفع «رايته» بين الأعلام الدولية. بل إنها قد تُوجِد ذلك الوطن إيجادًا فلا يعود «تلك البقعة الصغيرة المنسية على خريطة العالم». «لاعبنا» إذًا لا يلعب، ولا يحق له حتى ابتكار أساليب جديدة، بل عليه أن«ينضبط» ويمتثل للخطط المرسومة، و«الأهداف» المتوخاة. وهي أهداف تتجاوزه كلاعب، وكفرد ما دام يمثّل بلدًا بأكمله، إنه ليس لاعبًا بل هو قميص له لون ويحمل إعلانات. وإنجازه سيتخذ قيمة اقتصادية وسياحية بل سياسية. لذا فهو متيقّن من أنه يقدّم لبلده أنجع الخدمات الدبلوماسية، فهو ليس سفيرها في وطن بعينه، إنه سفير في العالم بأكمله.

يظهر إذًا أن ما يتحكم في كرة القدم في عالمنا المعاصر يكاد لا تكون له علاقة بالرياضة، أو على الأقل بالرياضة بالمعنى الذي كنا نقبله. كرة القدم ومبارياتها ومهرجاناتها ولقاءاتها تحيل اليوم إلى الرياضة بمعنى مخالف تمام الاختلاف، لا إلى الرياضة كلعبة، إنما إلى الرياضة كمؤسسة لها إدارتها وحُكّامها، والحاكمون فيها وعليها، مؤسسة لها قوانينها وبنياتها، وموازين قوة تتباين وفق البلدان والمناطق، وفق الجغرافية والسياسة. وهي مؤسسة يحكمها الاقتصاد وتحكم هي الاقتصاد، مؤسسة لها أسواقها وبورصاتها ومنطقها الاقتصادي الخاص.

ليونيل ميسي والكرات الذهبية

بُعد ميتافيزيقي

هذه «الرياضة» لم يكن لها وجود حتى وقت قريب. قد يقال: إن الألعاب الرياضية مغرقة في القدم، هذا صحيح، لكنها بالضبط كانت «ألعابًا»، ولم تكن تخضع لقواعد دولية، يسهر على تنفيدها حكام دوليون، وتنظّم على صعيد دولي، وتتبارى فيها الدول والأنظمة، بل تتصارع الأيديولوجيات، وتتنافس لنقلها كِبَار القنوات كي تخلق النجوم وترسّخ العلامات وتحتكر الإعلانات. بل إن بإمكاننا أن نذهب أبعد من ذلك بكثير، ونقول: إن لهذه الرياضة اليوم بُعدًا ميتافيزيقيًّا من ناحية أنها تروّج الفانتاسمات وتخلق الهويات، أو تكرّسها على الأقل، فتؤجج الانتماءات، وتسوّق وهْم الولاءات، وتحدد موازين قوى وتضبط علائق. وفي هذا الإطار ما زلنا نذكر ما راج في فرنسا في المونديال سنة 2006م إذ تحدّث بعض عن المفعول السياسي البعيد لذلك المونديال الذي قيل: إنه أنزل مكانة زعيم الحزب اليميني المتطرف لوبين وقتئذ درجات كثيرة، بل قيل: «إن مونديال 2006م عمل على توحيد الفرنسيين وصيانة هويتهم التعددية» لما شملته الفرقة الفرنسية من نجوم ذوي أصول متنوعة. وربما بإمكاننا أن نذهب إلى القول بأننا نعيش هذا التعدد، هذه الولاءات المتعددة، عند كل مونديال، حيث يعرف كل منا تجربة هوية لا محدودة. فقد يجد الواحد منا نفسه اليوم مع هذا البلد وهذا الفريق، كي ينتقل في الغد القريب إلى فريق آخر ربما كان هو خصم الأمس. لا يعود هذا فحسب لما يسمى عادة روحًا رياضية بقدر ما يرجع إلى «تعدد الألوان» التي تتسم بها الهوية بما هي كذلك؛ إذ تكشف الولاءات أن كلًّا منا باستطاعته أن يغير بين يوم وآخر موقعه داخل دوائر متمركزة فيخرج من إحداها ليقتحم أخرى، وهو الأمر الذي يجعلني أنتصر للفريق العربي ضد الفريق الإفريقي اليوم، لكنني سأجد نفسي مع الفريق الإفريقي غدًا ضد بلد أوربي، بل مع البلد الأوربي مرة أخرى ضد بلد أوربي آخر.

فكما لو أن الكرة «بنية تحتية» لا تكتفي بأن تحدد التراتبات الاجتماعية وترسم العلائق الدولية وتعلي من دول وتحط من أخرى، إنما تذهب حتى أن تحدد الهوية وترسم الأوطان. وهي لا تكتفي بأن تفعل في السياحة والاقتصاد، إنما هي التي تحدد اليوم الجغرافية السياسية والعلائق الدولية والولاءات للأوطان، إلى حد أن فرقنا الكروية غدت اليوم هي أوطاننا الجديدة.

في كتاب إ.غاليانو عن كرة القدم، نقرأ ما يلي: «هناك نُصْب في أوكرانيا يذَكّر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1942م. ففي أوج الاحتلال الألماني، اقترف أولئك اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي، وكان الألمان قد حذروهم: «إذا ربحتم ستموتون» دخلوا الملعب وهم مصمّمون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، لكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة. فأعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب، عند حافة هاوية، بعد انتهاء المباراة مباشرة».

نادرون جدًّا اليوم لاعبون مثل هؤلاء الذين في مقدورهم أن يرتكبوا مثل هذه «الحماقة» ويُظهروا مثل هذه «الاستماتة» في ميدان اللعب (ليس بالمعنى المجازي هذه المرة). لا يقول الكاتب إنهم فعلوا ذلك من أجل الانتصار، إنما لكونهم «لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة». إنهم «دخلوا الملعب وهم مصمّمون على الخسارة»، إلا أنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم يلعبون من أجل اللعب، سرعان ما «أخذهم اللعب» مثلما «يأخذ» منظر طبيعي «أخّاذ» الفنان وهو يرسمه، أو مثلما تأخذ المقطوعة الموسيقية العازف وهو «يلعبها». فكأنما نسوا أنفسهم، بمجرد أن دخلوا الملعب، ليضحوا غارقين في اللعبة، لا شيء يشغلهم إلا فنّها. لا يظهر أن مؤلف كتاب «كرة القدم في الشمس وفي الظل» يغفل الوجه السياسي للّعبة. وهو يبرز ما كانت هذه اللعبة قد اتخذته عند النازيين منذ الثلاثينيات من القرن الماضي «عندما أصبحت كرة القدم قضية دولة». لقد حذر النازيون فريق دينامو كييف من أن هزيمة الفريق الألماني تعني هزيمة النازية، وأن الكرة تعني بالنسبة إليهم استمرارًا للحرب داخل ميدان اللعب. إلا أن الكاتب قد أصرّ على أن يبين بالضبط عجز التفسير الأحادي عن فهم هذه اللعبة، وضرورة عدم اختزال كرة القدم في بعد واحد. فهو لا يدّعي مطلقًا نفي الأوجه الأخرى لهذه اللعبة، وأعني هنا الوجه الأيديولوجي والسياسي، لكنه لا يرى أنها لم تعد لعبة لتغدو سياسة أو اقتصادًا أو مهرجانات احتفالية، إنما يحاول أن يبيّن، أنها، إذ تتخذ كل تلك الأوجه، فهي تظل لعبة، وأن اللاعب سرعان ما يتحرر مرة مرة من ضغوطات العالم المعاصر وأسواقه وإعلاناته ويتنصل من الخنوع والخضوع و الانضباط والامتثال؛ كي يسترجع في شخصه الفنانَ الذي يسكنه، فيُؤخذ في لحظة ما باللعبة، لينسى، ولو مؤقتًا، الأرباح ونشيد الوطن، ويسترق لحظات يخوض فيها في «الرقص مع الكرة».

تمثال لدينيس بيركامب

الفلسفة والترجمة:  البقايا المنفلتة من كل رقابة شعورية

الفلسفة والترجمة: البقايا المنفلتة من كل رقابة شعورية

لنبدأ بهذا السؤال: هل يمكن تصور كتاب في الفلسفة، مهما كانت لغته، لا يتضمن كلمات أجنبية؟ لا أعتقد أن الجواب عسير؛ إذ يكفي تصفح أيّ كتاب في هذا المضمار تأكيدًا الجواب. وبطبيعة الحال، الأمر يصدق بالأَوْلى على النصوص المكتوبة بلغة الضاد. لا أعني فحسب نصوصنا الحالية، إنما أيضًا المتون الكلاسيكية. علينا إذًا أن نتساءل: لماذا تَعْلق اللغة المنقولة بالنص المترجِم؟ لماذا لا تكف الكتابة الفلسفية عن التعلّق بلغة الأصول عندما تنقلها؟ ما سر المصاحبة الدائمة للّغة المنقولة للنّص الناقل؟

ما دمنا قد تحدثنا عن المتون الكلاسيكية، لنتساءل: ما العلاقة التي أقامتها الفلسفة العربية الكلاسيكية بالنصوص التي نقلتها؟ سنلتمس الجواب الذي يفسر عجز اللغة الناقلة عن نقل نهائي لمعاني الأصل من نص مأخوذ من المناظرة المشهورة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، وجرت بين المنطقي مَتَّى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي، حيث يقول هذا الأخير: «أنت إذًا لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ وقد عفَت منذ زمان طويل، وباد أهلها وانقضى القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضَهم بتصاريفها. على أنك تنقل عن السريانية، فما تقول في معانٍ متجوّلة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية؟ ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟

قال مَتَّى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة حفِظت الأغراض وأدّت المعاني وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلمنا أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقوَّمت وما حرَّفت… ولا أخلَّت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخصّ الخاص ولا بأعمّ العام، وإن كان هذا لا يكون وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال مَتَّى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحابُ عناية بالحكمة، (…) وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر من أنواع العلم، ولم نجد هذا لغيرهم. قال أبو سعيد: أخطأت وتعصَّبت ومِلت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم».( أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وآخرين، المكتبة المصرية، بيروت 1953م، ص116).

طبائع اللغات

يعتمد هذا النص تأويلين يُفسران عجز النسخة المترجِمة عن نقل «أمين» للأصل، أو، لكي نبتعد من مفهوم الأمانة، عجزها عن التحرّر مما سيسميه التوحيدي «الإخلال بالمعاني»، أقول يعتمد هذا النص تأويلين لذلك: تأويلًا يقف عند التوسط اللغوي والزمني، وما يسميه التحوّل بالنقل من لغة إلى أخرى، وتأويلًا آخر لا يظهر جليًّا في هذا النص، ويمرّ مع جملة اعتراضية يُرجع فيه التوحيدي الإخلال إلى ما يسميه «طبائع اللغات ومقادير المعاني». ولعل نصًّا للمؤلف نفسه غير هذا الذي بين أيدينا مأخوذ، هذه المرة من المقابسة 63، يوضح توضيحًا أكثر هذه المسألة. يقول التوحيدي: «على أن الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، قد أخلّت بخواص المعاني في أبدان الحقائق، إخلالًا لا يَخفَى على أحد. ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع وتصرفها الواسع، وافتتانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافيةً بلا شوب وكاملةً بلا نقص، ولو كنا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضًا ناقعًا للغليل، وناهجًا للسبيل، ومُبلّغًا إلى الحد المطلوب. ولكن لا بد في كل علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحدٌ من البشر إليها». بهذا المعنى تغدو حكمة يونان منطوية على خفايا لم تغب عن الذين نقلوها إلى لغتهم فحسب، إنما غابت عن يونان أنفسهم. هذا ما يؤكده التوحيدي نفسه: «إنا لا نظنّ أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم، وعرف حقيقة أقوال متقدميهم». فكأن الإخلال بالمعاني من صميم المعاني حتى قبل أن تُنقل إلى لغة أخرى.

لعل هذا النصّ يُبرز بشكل أكثر وضوحًا التأويلين اللذين أشرنا إليهما لتفسير تعلّق النص الناقل بالنص المنقول، ومصاحبة لغة النص الأصلي للّغة المترجِمة. التأويل الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه بلغتنا المعاصرة التفسير التاريخاني، بمقتضاه تعجز الترجمة عن نقل المعاني بخواصّها لكون تلك المعاني مرغمة على أن تهاجر، وتستغرق الزمن، وتُقحَم في مسلسل التاريخ، وتُنقل عبر وسائط متعدّدة ومتنوعة. وربما لإبراز هذا العامل يصرّ التوحيدي هنا على الوقوف على المسافة الزمنية التي قطعتها حكمة يونان، وذكْر مختلف المحطات التي استقرت بها، والقنوات التي مرت عبرها كي تصل إلى اللغة العربية، مما حال دون حلول حكمة يونان في جسم البيان العربي، وما ترتب عن ذلك من إخلال بخواص المعاني حرَم اللغة العربية من أن تصلها الحكمة «صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص».

كثافة ذاتية

يردّ هذا التفسير إذن ضياع المعنى إلى تعدّد الوسائط، بحيث لو كان في استطاعتنا أن «نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم»، من غير قطع كل تلك المسافة الزمنية والانتقال عبر توسّطات، لكنّا بلغنا «الحدّ المطلوب» ونهجنا الطريق الصحيح من غير تيهٍ ولا ضلال و«إخلال» بالمعاني. بيد أن التوحيدي لا يبدو مقتنعا بهذا التأويل «التاريخي»؛ إذ سرعان ما ينتقل إلى تأويل آخر هو الذي يهمّنا هنا لأنه لا يفسر ضياع المعاني بـ«السقطة» التاريخية، إنما بردّه إلى طبيعة المعنى بما هو كذلك. ما يحول دون بلوغ المعنى «كما هو»، ما يحول دون بلوغ «خواصّ» المعاني في هذا التأويل الثاني، ليس هو التوسّط واللامباشرة، إنما المباشرة ذاتها. هنا ينطوي المعنى على كثافة ذاتية تحول بيننا وبين الوقوف على خواصّه جميعِها، تحول بيننا وبين الإحاطة بمضامينه. حينئذ لا يكون التوسّط هو سببَ الضياع، ما دام في كل علم «بقايا لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها». بهذا المعنى تغدو حكمة يونان منطويةً على خفايا غابت عن يونان أنفسهم: «إنا لا نظن أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم، وعرف حقيقة أقوال متقدميهم». الظاهر إذًا أنه إن كان للتوسط مساوئُه، فإن للمباشرة عيوبَها ونواقصَها. هنا يغدو الإخلال بالمعاني، ولا يقول التوحيدي خيانتها، من صميم المعاني حتى إن كانت مباشرة، وسنقول نحن اليوم، مع من يُدْعون بفلاسفة التوجس les philosophies du soupçon، خصوصًا إن كانت مباشرة.

لن يرجع تستّر المعنى، والحالة هذه، بالأساس إلى أخطاء المترجم ولا إلى عجزه عن إدراك ما يجول بذهن المؤلف، وعدم تمكّنه من بلوغ نواياه، والوقوف على مقاصده، إنما إلى ما يسميه التوحيدي بالبقايا التي ينطوي عليها كل علم وعمل. كل علم يَدَع شيئًا ما يفلت من يديه، كل نصّ ينطوي على كثافة سيميولوجية تجعل حتى صاحبَه عاجزًا أن يحصرها من غير انفلات «بقايا لا يقدر عليها». فلا سبيل إلى استرجاع تامّ للنص الأصلي. ولا تسعف المباشرةُ المؤلفَ نفسه حتى يتمكن من بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكّم في المتلقي مهما تنوّعت مشاربه اللغوية والثقافية. إنها ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل النصّ يفلت من قبضة صاحبه، وتجعل المعنى ينفلت ويمتد في اختلاف عن ذاته، لا يحضر إلا مبتعدًا منها مباينًا لها، خصوصًا إن كان مرغمًا على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات.

الفلسفة والترجمة:  البقايا المنفلتة من كل رقابة شعورية

«موت المؤلف» أم «تقويض الكوجيتو»؟

ما ينيف على العقد والنصف من الزمن، قبل أن يعلن كل من رولان بارت (1968م) وميشيل فوكو (1969م) «موت المؤلف»، كان موريس بلانشو قد تحدث عن «غيابه». إذا كان ما حرّك «بارت» و«فوكو» لإعلان ذلك «الموت» هو محاولة القيام ضد مفهوم معيّن عن الأدب كان مهيمنًا على الدراسات الأدبية نقدًا وتأريخًا، فيبدو أن ما دفع «بلانشو» إلى إعلان «الغياب» فيما قبل، ربما كان أبعد من ذلك بكثير.

قبل أن نقف عند «الثورة الفكرية» التي بلورها بلانشو في كتابيه المؤسِّسين: الفضاء الأدبي (1955م)، وكتاب المستقبل (1959م)، لا بأس أن نقف عند الدعائم الأساسية التي كانت تقوم عليها الدراسات الأدبية خلال النصف الأول من القرن الماضي نقدًا وتأريخًا: معروف أن الشكل الرسمي الذي اتخذه «تأريخ الأدب» كتابةً وتدريسًا هو ذلك الذي أرسى دعائمه غوستاف لانسون عند نهاية القرن التاسع عشر، والذي ظل يهيمن على الجامعة الفرنسية خلال عقود، مكرّسًا تفسيرًا للأعمال الأدبية بوصفها تعبيرًا عن مؤلفيها؛ لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد المؤلفين، ومعرفة ما يجول بخواطرهم، وما يدور بخلدهم؛ كي تتضح معاني تلك الأعمال. بلوغ مقصد المؤلف وإدراك نواياه كفيل بأن يجعلنا نقف على معنى العمل. ولن يكون النقد الأدبي حينئذ إلا دراسة لـ«الرجل وأعماله».

لم يكن هدف بلانشو ليقتصر على إعادة النظر في هذه الكيفية التي يتم وفقها النقد ويُؤرخ بها للأدب، وإنما كان يرمي إلى الكشف عن الفلسفة الثاوية خلف الكتابة الأدبية بهدف إعادة النظر في الأسس الأنطلوجية التي تقوم عليها نظرية الكتابة. وقد أدى به ذلك إلى خلخلة النظرة السائدة عن العمل الأدبي، تلك النظرة التي كانت تُعلي من «ذاتية» المؤلف، وتؤكد سلطته على النص، مع ما يصاحب ذلك من إلحاح على الطابع التعبيري للكتابة. صحيح أن هناك من كان قد مهد الطريق لهذا النوع من إعادة النظر، فقام ضد المفهوم السيكولوجي الذي يرجع العمل الأدبي إلى الأحوال النفسية لصاحبه، ويكفي أن نذكّر هنا بما سبق لـ«ت.س. إليوت» أن أشار إليه عندما كتب أن «الأدب ليس تعبيرًا عن الشخص، بل هو هروب وانفلات»، إلا أن بلانشو لا يكتفي بالتأكيد على هذا الطابع اللاشخصي للكتابة، وإضفاء طابع «الحياد» عليها، وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع محلّ المؤلف، كمبدأ إبداع العمل الأدبي وتفسيره، اللغةَ بما تتسم به من طابع لا شخصي، ملبّيًا دعوة مالارميه إلى «انسحاب صوت الشاعر، لإفساح المجال للكلمات».

بلانشو وحصة النار

لا داعي إذًا لأن يولي النقد الأدبي عنايته لما يدور بخلد المؤلف، ما دام العمل سينحل إلى لغة، أي إلى منظومات من العلامات لا تكترث بالذات المتكلمة. كتب بلانشو في حصة النار: «نستخلص من الملاحظات السابقة حول اللغة نقطًا أساسية لعل أهمها هي الخاصية اللاشخصية للغة، ووجودها المستقل المطلق الذي تحدّث عنه مالارميه. فهذه اللغة، لا تفترض أي شخص يتكلمها، ولا أيّ شخص يسمعها: إنها تكلّم ذاتها وتكتب نفسَها. وذلك هو شرط سيادتها. والكتاب هو رمز هذا الوجود المستقل. إنه يتجاوزنا ولا حول لنا ولا قوة أمامه. وإذا كانت اللغة تنعزل عن الإنسان وتعزله عن الأشياء، إذا لم تعد فعل شخص يتكلم تجاه من يسمعه، فهِمنا لماذا غدت، بالنسبة لمن يتمثلها على هذا النحو، قوة سحرية. إنها نوع من الوعي من غير ذات، انفصل عن الكائن، وغدا هو نفسه انفصالًا ونفيًا وقدرةً لا متناهية على خلق الفراغ».

لن ندرك قيمة هذا الكلام وأهميته التاريخية إلا إذا وقفنا على ميزة السبق التي يتمتع بها والتي ستمكّنه من أن يكون تمهيدًا لكل المواقف البنيوية. وبالفعل، لن يعمل شيوخ البنيوية الفرنسية فيما بعد إلا على تأكيد هذا الموقف من اللغة. وهكذا فنحن نقرأ على سبيل المثال عند ليفي ستروس، محرفًا عبارة باسكال «للقلب من الحجج والأسباب ما لا يملكه العقل»: «إن اللغة عقل إنساني له حججه وقواعده التي لا يعرفها الإنسان».

يقوم هذا الموقف البنيوي من اللغة على دعائم ثلاث:

أولًا- اللغة منظومة من الاختلافات، بدون حدود مطلقة. والمسافة بين الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غير مادة جوهرية، لا طبيعية ولا ذهنية.

ثانيًا- لا تتوقف الشفرة المتحكمة في المنظومات على الذات المتكلمة، وإنما هي بالأحرى اللاشعور المقولي الذي يسمح بممارسة الكلام من طرف أولئك الذين يستعملون اللسان.

ثالثًا- الدال نفسه يتكون من اختلافات، ولا يستدعي الدال أي علاقة خارجية.

لذا فإن اللغة، والحالة هذه، منظومة بلا «حدود» ولا «ذات» ولا «أشياء». والذات مفعول للغة، وليست فاعلًا متحكمًا فيها.

ستغدو الكتابة، كما سيقول بارت فيما بعد «هي ذلك المحايد، وتلك اللامباشرة التي تنفلت عبرها ذاتيتنا. إنها البياض والسواد اللذان تضيع فيهما هوياتنا، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب». سيخلي المؤلف إذًا المكان للكتابة و«النصّ»، وسيترك المجالَ للناسخ الذي لن تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» بالمعنى النحوي واللغوي للكلمة، وليس مطلقًا بالمعنى الأنطلوجي من حيث هو الحامل المؤسس. بل إن هناك من سيقول فيما بعد: إن المؤلف ليس إلا كائنًا من ورق، وهو ليس مطلقًا ذلك الشخص الذي يتحكم في لعبة الكتابة؛ يهيمن على معانيها، ويتحكم في دلالاتها.

وهكذا سيتضح إلى أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم الأدباء» عائقًا معرفيًّا في الدراسات الأدبية؛ لذا فبدلًا من أن تنكبّ تلك الدراسات على الأدباء والشعراء وما يقصدون إليه، سيتحول الاهتمام إلى دراسة الشعر والأدب، أو الأدبية على الأصح.

على هذا النحو سينتقل النقد من المرمى التفسيري الذي يسعى إلى بلوغ مقاصد المؤلف ونواياه إلى المرمى التأويلي الذي يروم قراءة النص لتقصي معانيه. نقرأ في كتاب الفضاء الأدبي: «كل قراءة هي نوع من الخصام الذي يقضي على المؤلف؛ كي يضع العمل الأدبي أمام حضوره النكرة، أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف ولا شخصي». ولن تتوخى القراءة بلوغ المقاصد والنوايا، وإنما ستنغمس بين ثنايا النص بحثًا عن القوى المطموسة في غياهب النسيان، وسعيًا وراء تلك اللغة التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية. وهكذا سيغدو «غياب المؤلف» مجرد شكل من الأشكال التي يتخذها تقويض الكوجيتو في الفكر المعاصر.

لم يكتف م. بلانشو إذًا بإعادة النظر في مفهوم الكتابة، وإنما أسهم من زاوية الأدب في إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح على الفكر، وليس على نظرية الأدب وحدها، أسئلة من نوع جديد. ولعل أهمها تلك التي صاغها م. فوكو في عبارة مركزة عندما كتب: «ماذا يتعين علي أنا الذي أفكر وأشكل تفكيري، لكي أكون ذلك الذي لا أفكر فيه، ولكي يكون تفكيري غير ما أنا عليه».