أدباء عرب في المهجر  جزر ثقافية وأزمة هوية.. وأحلام مستحيلة

أدباء عرب في المهجر جزر ثقافية وأزمة هوية.. وأحلام مستحيلة

نشأ مصطلح أدباء المهجر في القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما هاجر كثير من الشوام إلى الأميركتين، ولمعت أسماء كتاب عاشوا وكتبوا وتكيفوا مع أحوال وثقافات البلدان التي هاجروا إليها. وكانت أغلبية المهاجرين وقتها تسعى إلى تنفس الحرية في بلدان العالم الجديد، هربًا من قسوة القبضة التركية على بلدانهم. كان ذلك في الماضي البعيد، لكن لاحقًا بعد عقود وبسبب الأنظمة السياسية هذه المرة، فر عدد كبير من الأدباء والمثقفين إلى المنفى بحثًا عن الحرية وأيضًا سعيًا إلى حياة كريمة من ناحية العيش. مرحلة أخرى، شهدت هجرة أدباء ومثقفين عرب كانت في أعقاب ثورات الربيع العربي، بعد أن ظهرت على السطح ميليشيات راديكالية في مختلف تنظيماتها وتحالفاتها. ليعاود مصطلح «أدباء المهجر» إلى الظهور من جديد. أدباء وكتاب ومثقفون يعيشون اليوم في أوربا وأميركا وسواهما من بلدان العالم، باحثين عن فرص أفضل للحياة والحرية والأمن، ناظرين بأعين دامية إلى بلدانهم غير المستقرة على الجانب الآخر من البحر المتوسط، فكيف يعيشون؟ وكيف ينظرون إلى ما جرى في بلدانهم؟ وما الذي يحلمون به؟ وكيف اندمجوا في الثقافات الجديدة؟ تساؤلات تطرحها «الفيصل» ويجيب عنها عدد من هؤلاء المهاجرين.

وليد خليفة: باريس لا تتسع لمبدعيها فكيف بالغرباء؟

وليد خليفة

هي ليست نفسها، باريس كما رأيتها في أغاني، جاك بريل، وأديت بياف، وسيرج غينسبور، ولا تلك التي قرأتها في قصائد بودلير ورامبو وجاك بريفير، ولا تلك التي لمستها في كتابات زولا وهوغو وكامو وسارتر ورفيقته سيمون، ولا تلك التي مر فيها طه حسين وتوفيق الحكيم وعاش فيها هنري ميلر وهمنغواي؛ إنها صورة عن ذلك الزمن الذي كلما نطقت اسم باريس بالفرنسية كما ينطقها أهلها تراءت لك التي لا تشبه ما هي عليه الآن، التي يتقاسم واجهات مكتباتها ومقاهي سان جيرمان دي بري وسان ميشيل، فيها برنار هنري ليفي ومرافقوه من أدباء يلبسون نظارات السياسة ويخلطون الفلسفة بالحروب.

إذا كانت حال باريس للفرنسيين على ذلك النحو الذي وصفه ألبير كامو «كل شيء يبدو غريبًا لي، كل شيء، لا شخص يبدو قريبًا بالانتماء إليّ، لا مكان يبرئ كل هذه الجروح؛ ما الذي أفعله هنا؟ ما جدوى هذه الابتسامات وهذه الإيماءات؟ أنا لست من هنا ولا من مكان آخر، أصبح العالم بأكمله مكانًا يتكئ فيه قلبي على عدم، على اللاشيء»، فكيف تكون الحال بكاتب العربية، لعلنا نعثر في شوارعها على الروائي السعودي أحمد أبو دهمان، أو على المصري يحيى إبراهيم، أو السوري أدونيس، أو الجزائري واسيني الأعرج، لكنها أسماء غريبة على المدينة وأهلها، وإذا استثنينا السوري أدونيس، فلن نجد أثرًا للآخرين، الأدباء العرب المقيمون في المهجر الفرنسي، الهاربون من أهوال بلدانهم ليسوا أكثر من عابرين في مكان لا يتسع لمبدعيه فكيف بحالها مع الغريب. ثمة حالة للأسماء العربية التي تكتب بالفرنسية، حالة تترسخ كل يوم بعلو قامة، يحضر هنا أسماء مثل: كمال داوود، وياسمينة خضرا وبو علام صنصال وأمين معلوف، وأمام لمعان مثل هذه الأسماء تبهت أسماء كتاب العربية باللغة الأم مثل خفوت أنوار المراكز والمعاهد الثقافية العربية التي هي واجهات بلا مضامين كما حال معهد العالم العربي الذي يتحول رويدًا رويدًا إلى متحف للعجائز وعلاقاتهم العامة ويغادرها جمهورها المفترض نحو واحات لا تحتاج توصية الآباء.

ما زال الإبداع العربي الباريسي في مرحلة الأبوة، فرض الأبوة على القارئ، مفاهيم الولاء للزعيم والشلّة، ما زالت المراكز العربية ودور النشر القليلة والمهملة من جمهور القراء والتابعة في أغلبيتها لعواصم التأثير السياسي والمرتهنة للصراعات السياسية بين العواصم العربية والإقليمية، حالها كحال المبدعين العرب، ما زالت تراهن على منطق أزمنة أصبحت في متاحف الزمن، ما زالت وما زالوا يصرون على استعادة البرهة التي مضت، وهنا لا يبقى إلا أمثال كمال داوود وبو علام صنصال الذين لم يجدوا بعدُ طريقهم إلى الترجمة باللغة التي يفكرون بها ولا يتقنون الكتابة بها، هكذا يعبر داوود في جلسات خاصة: إنها اللغة التي سمعت أبي يصلي بها، فيما يقترح صنصال على الفرنسية حميميةً لم تخطر على بال بودلير. ثمة فقر في المكتبة العربية في فرنسا، فقر مدقع لا يوازيه إلا فقر الخيال في المشهد الإبداعي بالعربية هنا الآن، وفقر ضواحي العرب حول المدن الفرنسية، حيث أحزمة الفقر التي تنطق بعربية مكسرة تصرخ فيهم زعيمة اليمين الفرنسي، مارين لوبان: عودوا إلى بلادكم.
شاعر وكاتب سوري مقيم في فرنسا.

محمد ميلود غرافي: أنا مندمج ومتوازن

محمد ميلود غرافي

يتوقف الاندماج في ثقافة عن أخرى على المعنى الذي نعطيه لمصطلح اندماج. فهو مصطلح يحرق الرأس كثيرًا في بلاد المهجر، لأن كل الناس من سياسيين وغير سياسيين، ديمقراطيين وعنصريين، يرددونه كلما دار الحديث عن وضعية العرب والمسلمين في أوربا، وكل طرف يضع في الكلمة ما شاء من محتوى توجهه السياسي. بكل بساطة إذا كان المقصود بالاندماج هو أن يعيش المرء حياته في المهجر في احترام تام لثقافة وقوانين البلد الذي استضافه فأنا أعتبر نفسي مندمجًا من دون أي عقدة وفي توازن تام مع ثقافتي الأصلية وثقافة البلد الذي أعيش فيه (فرنسا)، مع مرور الوقت، يتكيف المرء مع ثقافة وعادات وطقس بلد المهجر، ربما بشكل متفاوت ومختلف من شخص إلى آخر. أعرف كُتابًا عربًا يعيشون ما يسمونه أزمة الهوية، ولا يكفون عن الشكوى من مسألة الاغتراب.

أعتقد أني شخصيًّا قد تجاوزت هذه المعضلة منذ بداية إقامتي في فرنسا التي دخلتها طالبًا، واخترت الإقامة بها في آخر المطاف، ولعل ذلك راجع إلى أني استوعبت منذ البداية أن أفضل سلاح لمواجهة ما يسمى بالاغتراب هو عدم السقوط في عقدة الذات والدونية أمام الآخر.

أن يعيش الإنسان العربي في أوربا، مهما كانت معتقداته وتوجهاته الثقافية والسياسية، لا يستطيع أن ينكر وهو يقيم المقارنة بين بلده الأصلي وبلده الثاني أن الفرق شاسع جدًّا، وأن العالم العربي في ركود تام، بل في تقهقر تاريخي لا مثيل له. العالم العربي يعيش الآن خارج التاريخ ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وتكنولوجيًّا وعلميًّا… حتى إنني أكاد أفقد الأمل في المستقبل، لكني أطمح مع ذلك وآمل أن نخرج رأسنا من المستنقع والرداءة والركود.
شاعر ومترجم مغربي مقيم في فرنسا.

فاتنة الغرة: أكثر التجارب حظًّا السورية والفلسطينية

فاتنة الغرة

أعتقد أننا لو أردنا أن نكون منهجيين أكثر يمكننا أن نضع المثقفين والأدباء في قائمتين؛ قائمة تخص من جاء إلى أوربا قبل الربيع العربي، وقائمة تضم من جاؤوا بعدها، والملاحظ أن أغلبية الذين قدموا قبل الربيع العربي كانت مشاريعهم الثقافية خاصة وذاتية، حيث التقاطع مع الوسط الثقافي الأوربي تقاطع خجول ومقطوع، وقلما تقف على تجربة أسهمت في الحياة الثقافية الأوربية انطلاقًا من ثقافتها العربية، غير أن الذين قدموا بعد ما يسمى الربيع العربي كانوا ذوي حظوظ أوسع، ربما بسبب تركيز العالم على البلدان التي جاؤوا منها؛ بسبب ما يحدث فيها، وما له من تأثيرات في مجرى الحياة الدولية. ولذا ترى أكثر التجارب التي أخذت مكانة في الأوساط الأدبية والثقافية هي تجارب سورية فلسطينية تنوعت بين الشعر والموسيقا والمسرح، سواء هنا في بلجيكا أو غيرها من البلدان الأوربية إلا أن الوجود الأكبر لحركة الشعر السوري تحديدًا تراه في ألمانيا، وذلك بسبب وجود كثير من الأسماء الشعرية الجيدة من أجيال مختلفة، سواء كانوا سوريين أو من فلسطينيِّي سوريا. كما أن الحركة المسرحية والموسيقية العربية في أوربا تحديدًا صار لها روادها الشغوفون بالاطلاع على هذه الثقافة؛ لأنها قادمة إليهم من بلاد ينظرون إليها على أنها في أسفل سلم الحضارة الإنسانية، غير أننا لا نستطيع تجاوز حضور المسرح العراقي في بلجيكا أو في غيرها من البلدان الأوربية، وهو الأمر الذي يشكل امتدادًا لحركة المسرح في العراق، التي تعوض عن وجود الدراما الغائبة عن الحضور العربي، وإن كانت من أول البلدان التي شهدت صناعة الأفلام السينمائية، والحقيقة أنني تعمدت عدم ذكر أي من الأسماء الناشطة في المجال الثقافي لتفادي أي حساسية من أي شخص غفلت عن ذكر اسمه.
كاتبة وصحافية فلسطينية تقيم في بلجيكا.

أحمد يماني: مستويات فردية متفرقة

أحمد يماني

فيما يخص تأثير الثورات العربية في المثقف العربي في إسبانيا تحديدًا فلا بد من الإشارة بداية إلى ندرة النخب الثقافية العربية في إسبانيا، فلا يمكن قياس الحضور الثقافي العربي في إسبانيا بنظيره في فرنسا وإنجلترا وألمانيا على سبيل المثال، وعلى هذا فإن تأثيرًا من هذا النوع لا يمكن قياسه على مستوى جماعي بل على مستويات فردية متفرقة لا تشكل في مجملها حركة بعينها. على أن ثمة ظاهرة يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي عمل بعض الجاليات على تكوين كيانات وتجمعات بعد أن أعادت الثورات العربية صياغة علاقاتها ببلدها الأم، وكما في مثل هذه الأحوال فإن الاستقطابات السياسية أدَّت في النهاية إلى تشرذم تلك التجمعات. يمكن أن يكون هذا الملمح هو الأكثر بروزًا. على مستويات أخرى فردية، ولندرة هذه النخبة المثقفة كما أسلفت، فإن الضوء يصبح مسلطًا بشكل ما على القليلين من فنانين وكتّاب ممن يعيشون في إسبانيا وقد تم الاستعانة ببعض منهم للحديث عن تلك الثورات، سواء في وسائل الإعلام المكتوبة أم المرئية والمسموعة وكذلك في منتديات ولقاءات نظمتها بعض الجامعات والمعاهد والجرائد الكبرى، لكن هذا الانتباه سرعان ما ابتعد بعد سنوات قليلة وعادت النخبة الثقافية لما كانت عليه، أي العمل بشكل فردي. لكن يمكن أن نرى كذلك أن من تأثيرات الثورات العربية حدوث اهتمام نسبي في مجال الترجمة، ترجمة بعض من الأدب العربي إلى الإسبانية، وإن لم يتم الأمر بشكل موسع، لكن هذا أفاد على الأقل في تحريك عجلة الترجمة بشكل ما. أعتقد أن المثقف العربي لم يكن بعيدًا عما يحدث في بلاده وإن كانت المشاركة في الحدث الثوري مختلفة عمن شارك فعليًّا في الحدث، ولكن الكثير ممن يعيشون في الغرب قد شاركوا فعليًّا. وأما ما يتمناه المثقف العربي في الخارج فمثل ما يتمنى المثقف العربي في الداخل، ربما يكون الأمر أكثر إيلامًا لمن يعيش في الغرب، حيث يحيا بنفسه حياة المجتمعات المتقدمة على مستويات عدة منها السياسي والاجتماعي والعلمي والفكري والأدبي والفني، وجل ما يتمناه أن يرى بلاده على تلك المستويات، ولا شك أن الثورات العربية قد منحت أملًا كبيرًا للجميع كي يتحقق كل ذلك.
شاعر ومترجم مصري مقيم في إسبانيا.

هادي الحسيني

هادي الحسيني: أنظر إلى وطني بعيون دامية

البلدان الأوربية توفر كل وسائل العيش الكريم للإنسان ومن ضمنها التعليم والعمل، الناس بمساواة وعدالة ونظام منقطع النظير، لا أحد يموت من الجوع هنا كما في بلداننا العربية! ولا أحد يتميز عن الآخر إلا بمثابرته وتفوقه وإخلاصه للعمل، فتبدو الحياة مملوءة من الفراغ، إن وُجد الفراغ بالنسبة للعاطلين عن العمل الذين تتكفل مكاتب ودوائر البلديات بإيجاد العمل المناسب لهم، أو تصرف لهم رواتب الإعانة الاجتماعية.

شخصيًّا كعراقي أنظر إلى وطني بعيون دامية من منفاي البعيد وأتحسر على فترات السبعينيات الذهبية التي عاشها العراق كأي بلد مستقر ينشد العلم والتطور، لكن بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م كانت القشة التي قصمت ظهر البعير! وما زال مسلسل الحروب والموت اليومي المجاني يرافق العراق المذبوح من الوريد إلى الوريد!

الغربة الطويلة متعبة وتفطر القلب لكن على المثقف أن ينخرط ويندمج مع هذه المجتمعات الغربية ما دام يعيش بينهم ومفتاح الدخول لهم والتعرف عليهم هي اللغة، بمجرد أن تعرف اللغة سوف يمكنك أن تحشر أنفك فيما بينهم لتعرف كيف يفكرون وكيف يتعلمون حتى كيف يقرؤون ويأكلون! وقد نجح الكثير من العرب في بلدان الغرب في أوربا وأميركا وغيرها أن يحصلوا على مكانة مرموقة في عالم الأدب بشكل خاص، وقد حصدوا العديد من الجوائز العاليمة، وأنا أحد هؤلاء الذي فازوا بجائزة الشعر العالمية في أميركا قبل سنوات.

اليوم لدينا أدباء وكتاب يكتبون الشعر والرواية والمقالة في لغة البلد الذي يعيشون فيه ويتفوقون على أهل البلد، المثقف العربي من المحيط إلى الخليج لديه إمكانيات فهو مبدع ومتألق في داخل بلده بالرغم من العوز والحاجة لكنه في المنفى يبدع أكثر.
شاعر وكاتب عراقي مقيم في النرويج.

صفاء‭ ‬فتحي‭:‬ لغة‭ ‬مختلفة‭ ‬وانغماس‭ ‬يائس

صفاء فتحي

ليس هناك نمط واحد لكيفية الوجود فيما تسميه بلاد المهجر، فهو مصطلح قادم من القرن التاسع عشر. شعراء المهجر وما إلى ذلك، كما أنه ليس هناك مهجر واحد. أعتقد أن الاسم ينطبق أكثر على الأميركيتين أكثر مما ينطبق على أوربا. ففيما يخصني أنا أتنقل عمومًا بين عدة بلدان أوربية بشكل منتظم باريس/ مدريد/ برلين. هناك من لا يسافرون وهناك من يسافرون من وقت لآخر وهناك من يعملون في التدريس، في الترجمة، في الصحافة… إلخ. بشكل عام هذه المهن مكملة لمهنة الكتابة التي غالبًا لا تمكّن الكتاب من أكل العيش باعتبارك استخدمت مفردة كيف يعيش! ويصعب الحديث بشكل عام عن الانخراط في الثقافات الجديدة، فالأمر يعتمد على اللغة التي نكتب بها، فمن يكتبون بالعربية فقط أعتقد أنهم يتحركون في أوساط عربية وهي كثيرة في أوربا، ومن يكتبون بلغة الثقافة التي يعيشون فيها بجانب العربية يتحركون في أوساط أكثر اندماجًا مع هذه الثقافات، وعمومًا أعتقد أن هناك حركة خفية، قوية في كثير من الثقافات؛ لأن الدوائر تنغلق ولا تتسع، لأن كل وسط ينفصل عن الآخر، وتظل هناك نقاط تقاطع صغيرة تتمركز عادة حول عملية الترجمة. في فرنسا مثلًا الأكثر انخراطًا هم من كانت اللغة الفرنسية هي اللغة الإدارية لدولهم في أثناء عصور الاحتلال.

للأسف المثقفون السوريون يعيشون في مأساة لا يمكن لها أن تقارن بأخرى، حتى المثقفون العراقيون أو اليمنيون. أما الربيع العربي الساخن! إذا كنا نعني به الثورة في مصر، فأنا شاركت فيها، وكتبت عنها نظريًّا، وكتبت عنها مجموعة شعرية، وصورت أحداثًا عدة في مسارها، منها احتلال التحرير مثلًا 18 يومًا كما أصبح من الدارج تسميته. كما أني سجلت أهم منتوج جمالي لها، ذلك المتمثل في الجداريات. وهذا سؤال إجابته كتاب كامل. ولك أن تسألني: ما هي طموحاتي للمستقبل؟ وهو سؤال غاية في الصعوبة لأنه ينطوي على السؤال الأهم وهو: أي مستقبل؟ إذ إن مستقبلي الشخصي متقاطع ومسكون بمستقبل مصر/ أوربا/ التغير المناخي/ البشرية نفسها التي تمتحن في جوهرها، أي في إمكانية أن يكون لها مستقبل على الإطلاق. هل تعني مشاريع الكتابة؟ عندها من الممكن الرد بنعم، هناك مشاريع للكتابة مختلفة عما كتبت من قبل، بلغة أيضًا مختلفة، وبانغماس يائس.
شاعرة مصرية تقيم في فرنسا.

رزان‭ ‬مغربي‭:‬ أحلم‭ ‬بجسر‭ ‬ثقافي‭ ‬يكسر‭ ‬صقيع‭ ‬المنفى

رزان مغربي

منذ ما يقارب ثلاثة الأعوام اخترت المنفى، وانضممت إلى عدد كبير من كتاب وصحافيين وفنانين ومثقفين في المهجر كما التسمية القديمة، ولو أني أعترض على كلمة المهجر فهي تنزاح لمعني هجرة اقتصادية، أكثر منها غربة ومنفى، لأسباب لا تخفى عن الجميع، وأعتقد أنه بدأت هذه الموجات من اختيار المنافي لكثير من المبدعين منذ الحرب العراقية، ومن ثم جاءت موجة أخرى للمثقفين والمبدعين السوريين اليوم، وأعتقد أن مكان إقامتي هولندا، فضله العراقيون أكثر من غيره، في حين نجد خارطة الأدباء السوريين، الغالبية، في ألمانيا، ثم السويد وفرنسا وهولندا، أما بقية الجنسيات من اليمن وليبيا ومصر وتونس فهم لا يشكلون جالية أو لنقل أسرة من الكتاب والفنانين بسبب قلة عددهم.

أعتقد أن ملاحظتي الأولى عن الحياة الثقافية في المنافي، وما شعرت به أيضًا، هناك تشكل لجزر ثقافية معزولة نوعًا ما بعضها عن بعض، هناك نشاطات تأسست سابقًا من مثقفين عراقيين لهم نشاطات، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من العلاقات للتعرف عليها. شخصيًّا أتلقى دعوات من الجميع مؤخرًا، ولكني أعتقد أن إقامة الأمسيات من قراءات وموسيقا واحتفاءات صغيرة لن تشكل حياة ثقافية حقيقية.. لهذا كان لدي حلم شخصي وهو إقامة منتدى يصبح مع مرور الزمن شبكة تضم الجميع مستقبلًا، فيها مكتبة كبيرة وأمسيات ثقافية دورية، ومعرض مصغر سنوي، إضافة إلى دار نشر تهتم بترجمة الأعمال من اللغة العربية وإليها، واستضافة الكتاب الذين لا يزالون في الأوطان، وهو ما يسهم في كسر صقيع المنفى، حتى تتصل الجزر الثقافية ببعضها ببعض، فلا بد من بناء جسر جديد يقوم على تبني هذا المشروع، أعتقد أنه يحتاج إلى تمويل ضخم، لكنه حلم.
كاتبة ليبية تقيم في هولندا.

هل من مشترك بين كرة القدم والكتابة؟

هل من مشترك بين كرة القدم والكتابة؟

هدى الدغفق – الرياض – الفيصل

ما علاقتك ككاتب بكرة القدم، من واقع خبرة شخصية باللعبة أو مراقب لشغف الأصدقاء باللعبة؟ هل تجذبك المهارات الفردية لللاعبين؟ ما الفارق بينها وبين مهارات الكتابة؟ ما رأيك في سوء الظن بين المثقفين العرب وكرة القدم، في التكريس السياسي لها؟
تساؤلات «الفيصل» يجيب عنها عدد من الكاتبات والكتاب:

وحيد‭ ‬الطويلة‭:‬ الجهلة‭ ‬فقط‭ ‬ينسون‭ ‬المتعة‭ ‬ويتذكرون‭ ‬النتائج‭ ‬بين‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬والرواية

ربما القاسم بين الفن والرواية أن كليهما يبحث أولًا عن المتعة.. هناك من يريد النتيجة بالطبع وهؤلاء من خلقوا فكرة التعصب لفريق أو لكاتب.. هذا التعصب المقيت هو الذي أنتج كتابًا مهما فازوا لكنهم في الغالب تنقص نصوصهم المتعة… وكما هناك حكام أغبياء جهلة هناك نقاد أغبياء.. ربما تمرُّ على حَكَمٍ هفوةٌ لم يرها أو أساء تقديرها في لحظة وهذا طبيعي. لكن ذلك يجب ألّا يكون في حالة ناقد.. على أية حال هناك خطة ما واضحة لفريق ما قد تتغير بتغير ظروف اللعب مع مدرب ذكي.. هناك أيضًا خطة في ذهن الروائي.. تتغير أيضًا بطبيعة مباراة الرواية وبما توده الشخصية رغمًا عن أنفك.. يحدث هذا أيضًا في الكرة لكنه يستلزم مهاجمًا من عيار روماريو لا يعرف مدربه ماذا سيفعل وهو ربما لا يعرف ذلك إلا في خياله العارم. معظم المدافعين في الملعب حتى مهما كانت إجادتهم لن تجد خيالًا منهم إلا في حالات نادرة.. باريزي ممتاز لكنه بلا خيال حتى باكينباور.. أكره المدافعين لا أستثني منهم أحدًا إلا حالات نادرة مثل الضلمي والبياز في المغرب. هل تعرف حكاية مجدي عبدالغني المعروف بمجدي مقشة.. كان هيديكوتي يقسم اللاعبين في التمرين الأخير إلى فريفين: الأحمر والأبيض أما الباقون فيتركون الفريق لم يعد لهم مكان.. كل لاعب له من يعوضه… لكن مقشة رفض الخضوع لذلك وراح يدور حول الملعب في انتظار أن يصاب أحد اللاعبين وهو ما كان.. أصيب واحد وهبط مقشة للملعب ومن يومها لم يخرج حتى خرجت روحنا.

مثله مثل من يكتب ثلاثين رواية.. لكنه لم يبدع يومًا.. حاضر في كل شيء عدا الإبداع. الإبداع يحتاج إلى خيال.. فان باستن مبدع رغم أنه أنتج رواية واحدة.. تحتاج روائيين من عينة كرويف وبيتجا الإيطالي الذي كان موهوبًا لكنه لم يحصل على جائزة فنسوه… إنه صبري موسى الرواية. هناك بناء مشترك وخطة وتوزيع للأدوار.. الرواية الحديثة أخذت نهج الكرة؛ أصبح المدافعون يهاجمون، والشخصيات الثانوية في رواية ما ربما هي من تبقى في ذهنك. وتتراجع الشخصية الرئيسة لحساب الثانوية… تكتيك اللعب وتكنيك الرواية. في الكرة لا تستطيع أن تلعب من دون مدافعين… في الرواية يمكنك أن تفعل هذا… تلعب طوال الوقت مهاجمًا.. في الكرة لا تستطيع أن تلعب من دون حارس مرمى.. في الرواية يمكنك أن تفعل هذا لتترك للنقاد بابًا يهاجمونك منه.. في الكرة يمكنك أن تفعل مثل إيطاليا تدافع في الأدوار الأولي ثم تهاجم حين تصل لربع النهائي… في الرواية هذا مؤلم حتى لو ربحت إيطاليا وأبدعت في الدفاع.. في الكرة هناك جمهور مجنون ينسى البداية السيئة طالما سيربح في النهاية… في الرواية لن ينتظرك جمهورك ولن يغفر لك حتى لو غفر لفوكنر.

شيء واحد قد يريح جمهورك إذا فزت بجائزة حتى لو كانت رديئة وهذا أسوأ ما يحدث.. والمتعصبون والجهلة ينسون المتعة ويتذكرون النتائج. الكرة والكتابة يشتركان في متعة الهجوم بحساب حتى لا تنكشف الخطة باكرًا… الدفاع والهجوم حسب الحالة.. هناك روايات تلعب بطريقة دفاع المنطقة، ثم تهاجم في النهاية لكن الدفاع يحتاج للمتعة حتى لا يهرب القارئ وحتى لا يموت المتفرج.. الهجمة المرتدّة تحتاج شخصيات ذكية تنفذها لتحرز الهدف ثم تعود لقواعدها.

كاتب مصري.

——————

هناء‭ ‬حجازي‭: ‬شرطي‭ ‬المرور‭ ‬يوقف‭ ‬السيارات‭ ‬ليعبر‭ ‬أبي

لم أكن الوحيدة التي أنظر إلى والدي بإعجاب وفخر، كان يشاركني في ذلك غالبية سكان مدينة جدة، ولم أكن أفهم سبب ترحيب الجميع به وهو يمشي في الشارع، وحين أوقف له شرطي المرور السيارات كي نعبر الطريق وهو يرفع يده بتحية شخص يشعر بالامتنان لأن أبي سمح له أن يوقف السيارات من أجله، أيضًا لم أفهم، كنت أسمع الناس تحيي أبي في كل مكان، بصوت مرتفع وحبور عظيم، وكنت أسأله أنا الطفلة التي لا تعرف معنى الشهرة: بابا، هل تعرفهم؟ كان أبي يبتسم لي ونكمل طريقنا وأنا متعجبة لتكرار الموضوع كلما أخذنا في نزهة أنا وإخوتي.

أبي، لاعب كرة القدم الشهير، كابتن نادي الاتحاد وكابتن المنتخب، عبدالله حجازي، أبو عابد كما يناديه المعجبون، ولدت بعد أن ترك اللعب، لكنه لم يترك النادي، ظل معروفًا ومحبوبًا حتى وفاته، ظل يخدم كرة القدم في النادي وفي المنتخب حتى النهاية. لذلك كرة القدم بالنسبة لي ليست مجرد لعبة، أو رياضة نتابعها في التليفزيون ونشجع بتعصب أو بروح رياضية ناديًا نختاره؛ كرة القدم حياة عشتها مع أبي. صور اللاعبين وهم يقفزون في الهواء أو يركلون الكرة ليست صورًا أشاهدها في الجرائد، هذه صور أراها في ألبوم العائلة. أبي ضمن تشكيلة الفريق، أو واقفًا يصدّ كرة، أو يتسلّم الكأس من يد الملك سعود والملك فيصل، كل هذه الصور من تاريخ العائلة، مبنى النادي مبنى أعرفه من الداخل لأن أبي كان يصحبنا أحيانًا لمشاهدة الفلم السينمائي الذي اعتاد النادي أن يعرضه كل أسبوع، كنشاط ثقافي وترفيهي.

وحين يغيب أبي أسابيع وربما شهورًا كنا نعرف أنه يرافق الفريق أو المنتخب في معسكراته استعدادًا لبطولة ما. ظل أبي وفيًّا لعشقه لهذه اللعبة، لم يتركها قط، ظل سحرها يناديه، وبعد أن ترك اللعب واعتزل أكمل المشوار كمدرب للحراس؛ لذلك ظلت كرة القدم جزءًا من حياتنا. أتذكر جيدًا كيف كان يعود من الوظيفة في الثانية ظهرًا كي يشاركنا الغداء ثم يرتاح قليلا، ويستيقظ في الرابعة كي يشرب الشاي وهو ينتظر «باص» النادي في الشرفة مرتديًا زيه الرياضي. هذا برنامجه اليومي الذي لم يتغير. أتذكر أيضًا اللاعبين الذين قدموا من مدن أخرى، يستضيفهم أبي في بيتنا كي يساعدهم على التأقلم مع الحياة في مدينة أخرى، يشعرهم بالألفة ويمنحهم الجو العائلي الذي يعرف أنهم يفتقدونه. فكان يجعلنا نحن أبناءه نجلس معهم ونشاركهم المائدة والحوار والتسلية.

قوانين اللعبة، الاستمتاع بها، الحماس والصراخ والحزن حين ينهزم الفريق والفرح والصخب حين يفوز، هذه ليست أشياء تعلمتها أو اكتسبتها من الآخرين، هذه أشياء يومية عشتها منذ فتحت عيني على الدنيا. أعرف الفاول والبلنتي والآوت والأوف سايد؛ لأنها الكلمات التي كانت تستخدم في ذلك الوقت، قبل أن تُعرَّب ويُلزَم المعلقون أن يستبدلوا بها الخطأ وركلة جزاء وخارج الملعب وتسلل.

ما زالت عروقي تضج بالحماس لكرة القدم، أبي لم يعش طويلًا، مات وأنا في السنة الأولى في الجامعة، حماسي لكرة القدم يختلط بالحنين إليه، ويطيل الشعور بأنه لا يزال معنا.

كاتبة سعودية.

——————

شاكر‭ ‬عبدالحميد‭: ‬ نجوم‭ ‬يسقط‭ ‬عليها‭ ‬الناس‭ ‬أحلامهم

كنت حارس مرمى شديد المهارة، وكان من الصعب أن تدخل مرماي كرة، وفي الصبا كنت أمارس الجري وألعاب القوى وكرة القدم. في الصبا كانت كل المدارس بها ملاعب كنا نمارس فيها الرياضة، وكانت كرة القدم هي الاهتمام الأول للجميع، كانت الكرة التي في المدارس جديدة وجميلة، كرة نتلمسها فنعجب بها، أما منظرها فقد كان رائعًا إلى درجة تثير الدافعية والخيال. كان الأهلي والزمالك يسيطران على المشهد كما هو الحال الآن، وكنا نهتف بأسماء لاعبيهم أمثال: عادل هيكل، وصالح سليم، ومصطفى الشاذلي وغيرهم، وعلى الرغم من ضيق الإمكانيات في ذلك الوقت فقد كان هؤلاء نجومًا يحققون المعجزات، لدرجة أن الأهلي هزم بنفيكا بطل البرتغال في الستينيات، ولاعَبَ بطلَ إنجلترا توتنهام في مبارة عظيمة. كانت لدينا فرق تلعب مباريات دولية، وبعض اللاعبين تحولوا إلى التمثيل، كصالح سليم وعادل هيكل، كانت أدوارهم وأعمالهم في السينما قليلة، لكنهم استطاعوا الانتقال بفيض الشهرة من الملاعب إلى الشاشات البيضاء.

كانت الكرة في زماننا كما هي الآن جزءًا من انشغالات الناس، ومحاولاتهم للتوحد مع اللاعبين الذين يسقطون عليهم أحلامهم، فلاعب مثل محمد صلاح بالنسبة للناس بطل، يسقطون عليه أحلامهم، ويحلمون بأن يكونوا مثله، تمامًا كما يحدث مع البطل على المسرح، فهم يعتبرونه البديل بالنسبة له، حيث يحقق نجاحاتهم المتخيلة والمأمولة، وهكذا صلاح وغيره في عالم الكرة، يشكلون خيال الناس، وينتقل حبهم وتشجيعهم كما تنتقل عدوى التشجيع. ولعل الكثيرين لا يعرفون أن الأصل القديم لفكرة الكرة والإستاد هو المسرح الروماني القديم، حيث كان يلقى بالمحكوم عليهم للأسود، فكان الناس يجلسون في المدرجات الحجرية ليشاهدوا المصارعة بين الأسود والمجرمين، ويتوحدون مع البطل سواء كان الأسد أو المجرم، هذه الفكرة التي انتقلت إلى كرة القدم حيث المدرجات سواء الأولى أو الثالثة، وحيث المنصة التي كان يجلس عليها الإمبراطور والأمراء، التي أصبحت لرئيسي الفريقين أو رجال الفيفا ومعهم رئيس الدولة أو من يمثله.

والكُتاب ينتابهم الحسد تجاه لاعبي كرة القدم لسببين؛ الأول أن الكتاب يرون أنهم يقومون بعمل أسمى وأرقى من وجهة نظرهم؛ لأن الكتاب يستخدمون العقل والخيال، ويعتبرونه ملكة عليا، وهم غير مدركين أن استخدام الأقدام مرحلة أخيرة ضمن منظومة من المراحل السابقة عليها لدى لاعب كرة القدم، هذا الذي لا بد أن يتمتع بالخيال وسرعة التفكير والقدرة على اتخاذ القرار والإدراك لجنبات الملعب، فضلًا عن أن الكاتب يعمل بمفرده باستثناء النقاد والقراء فيما بعد، لكنّ لاعب كرة القدم يتعامل مع خصم آخر مباشر. ومن ثم فاعتقاد الكُتاب أنهم يقومون بنشاط أعلى من لاعبي كرة القدم هو اعتقاد غير صحيح، والسبب الثاني في هذا الحسد أن لاعبي الكرة يحصلون على أموال طائلة، في حين يعيش أغلبية الكتاب ،إلا من رحم ربي، حالة من الفاقة وضيق ذات اليد التي تجعلهم يرضخون لشروط قاسية في الحياة.

ناقد مصري ووزير الثقافة الأسبق

——————

إبراهيم‭ ‬عبدالمجيد‭:‬ في‭ ‬الحقبة‭ ‬الناصرية‭.. ‬كل‭ ‬رؤساء‭ ‬الأندية‭ ‬من‭ ‬الجيش

في الخمسينيات، حيث بقايا الحقبة الملكية، كانت المدارس كلها بها ملاعب كرة قدم وسلة، وكانت الأحياء الشعبية في الليل تقيم مباريات ليلية بينها وبين بعضها، وكانت الإسكندرية منقسمةً أحياء شعبيةً فقيرة مثل كرموز وكوم الشقافة وغيرهما، وهذه كانت تلعب في الغالب الكرة المصنوعة يدويًّا من الشراب -الجوارب القديمة- ونادرًا ما تلعب بالكرة البولي أو الجلد المعروفة لنا الآن، أما أحياء محطة مصر وغيرها فكانت تلعب بالكرة البولي، فهي أحياء الأثرياء والأرستقراطيين، وكانوا يلعبونها في الأندية الرياضية، ونادرًا ما تكون في الشوارع مثل الأحياء الشعبية التي كنت من أبنائها. كنت من عشاق الكرة ولاعبيها في صغري، حتى إنني في لحظات كنت أقول لنفسي: لو عاد بي الزمن فلن أتمنى سوى أن أكون لاعب كرة قدم، يحدث هذا في لحظات الضيق، لكن في الغالب طبعًا لا، فلو عاد بي الزمن فلن أتمنى سوى أن أكون كاتبًا؛ لأنني أحب الكتابة وأستمتع بها.

دائمًا ما يرى بعض من الكتاب أو حتى البسطاء في الشارع أن الكرة نوع من اللهو، وأموال تنفق على لا شيء، وربما يرى بعض أيضًا أنها صنعت من أجل إلهاء الناس عن متابعة شؤون السياسة والحكم، وربما يعود هذا الأمر إلى الحقبة الناصرية، ففيها كان كل رؤساء الأندية من الجيش، ومن ثم ربط الناس بين ظهور الكرة ومبارياتها ونقلها في الراديو والتليفزيون وبين الحالة السياسية والحربية، لكن الأمر تغير الآن، فنادرًا ما يكون رؤساء الأندية من الجيش، وهم بالانتخاب وليسوا بالتعيين، ومن ثم يصعب الربط بين الإلهاء السياسي والنشاط الكروي. بالطبع الحسد قائم، فلاعبو كرة القدم يظهرون على الشاشات، وينتشرون جماهيريًّا بقوة وبسرعة، ويجنون مالًا أكثر وأهم من عشرات الكتاب، لكن هذا الأمر موجود في كل شيء، فالسيناريست يأخذ أفضل من الروائي، والممثل يأخذ أكثر منهما، وهكذا. ومن ثم فالكتابة في كل مكان لا تأخذ ما تستحقه، ودائمًا ينظر إليها على أنها الأقل ماديًّا. وعلى كلٍّ فالكرة ليست مجرد لعبة أو موهبة، إنها صناعة كبرى، بها جماهير وإعلانات وإعلاميون ومدربون وعمال ورؤساء أندية وغيرها. هذه الصناعة ونجاحها لا يجعل أموالها تعود على شخص واحد، ولكن على كل عناصر اللعبة، وهي عمل جماهيري وليست عملًا نخبويًّا.

كاتب مصري.

——————

عالية‭ ‬شعيب‭:‬‭ ‬الساذج‭ ‬من‭ ‬يغار‭ ‬من‭ ‬لاعبي‭ ‬الكرة

لا يخفى على نبيه منفتح ذهنيًّا ومثقف مطلع أن الحكام والسياسيين العرب استخدموا لعبة الإشغال والإلهاء للناس عبر رياضة الكرة، لإبعادهم عن الأمور المهمة والقضايا المصيرية. ثم حولوها لتجارة مربحة وضخوا فيها الانفعال والمشاعر والهوس الجماهيري والاستهلاكي. ومنه نشأ العنف والفرقة والاختلاف والخلاف والعنصرية والشتائم. سواء الكرة المحلية أو الأجنبية. وكنت في صغري أشجع نادي القادسية في الكويت. وكنا نختار اللون الأصفر رمزًا لولائنا للنادي. لا يمكن مقارنة الكتابة بالكرة من ناحية اهتمام ومتابعة الجمهور. فالكرة تشغيل للجسد، وتحريك الطاقة والحيوية والاستمتاع، في حين الكتابة تحتاج لجهد عقلي وتفكير وتحليل وانتباه، ونحن شعوب لا تريد التفكير وتشغيل المخ؛ لذلك نجد زحامًا على مباراة كرة في حين المكتبات فارغة والرائج في المعارض كتب الأبراج والتنجيم والطبخ وكتب السحر والشعوذة. فكل ما يخاطب المشاعر ويدغدغ القلب والحواس، ويطبطب على الجهل، يبيع. أما ما يكشف الحقيقة ويشجع على التنوير والتغيير للأفضل والإصلاح فلا أحد يريد أن يشغل نفسه و«يصدع» رأسه بهذا. الكاتب الساذج وربما المبتدئ هو من يغار من لاعبي الكرة؛ لأن الكتابة قيمة عليا سامية. فكما أن الكرة رياضة للجسم. تعتبر الكتابة رياضة الروح والإحساس. ورغم أن المردود المادي عال للاعبي الكرة ويعتبر بعضهم نجوم إلا أن الكاتب الأصيل لا يرتجي مالًا من إبداعه. رغم أن بعض الكتاب نجوم يتقاضون مبالغ فلكية مقابل كتبهم. لكن هذا يأتي بعد جهد وصبر وتضحيات عديدة.

كاتبة كويتية

——————

ليلى‭ ‬الأحيدب‭: ‬شخص‭ ‬بلاشغف‭ ‬محبط‭ ‬ويفتقد‭ ‬للحياة

الشغف هو روح الحياة. شخص بلا شغف هو شخص محبط وكئيب ويفتقد للحياة. ومن أشكال الشغف أن نقع في غرام أمر ما، نتابعه ونتعلمه ونحسن صنعه. في كرة القدم لم يكن ذلك الخيار متاحًا لنا بوصفنا فتيات؛ لذلك كان التشجيع هو لغة الشغف الوحيدة التي نمتلكها. أتذكر أننا في مراهقتنا كان نجم ماجد عبدالله ساطعًا كمجرة ولم يكن النصراويون فقط هم من يبجله، بل كانت الجماهير السعودية بأكملها ترى فيه النجم الذي لن يخذلها.

شغف الجماهير بماجد عبدالله اتخذ شكلًا بعيدًا عن التعصب، كان نجم النصر والمنتخب، لا أحد يكرهه، ولا أحد ينتقص من قيمته، بل كنا نردد: «نبدى بتسعة قبل ما نقول واحد»:

تسعة هو رقم ماجد عبدالله نجم الجماهير. أذكر مثال ماجد عبدالله لأنه نموذج للاعب الذي اتحدت حوله الآراء، مثله مثل لاعب البرازيل بيليه، الجوهرة السوداء. والآن لدينا النجم الشاب المصري محمد صلاح لاعب ليفربول، كثيرون شغوفون بلعبه لكننا لا نتعصب له لأنه عربي؛ لأن كثيرين أيضًا شغوفون برونالدو، لاعب ريال مدريد، وميسي لاعب برشلونة. الشغف شيء جميل ما لم يتحول إلى حزب يمجد شيئًا ويحتقر شيئًا آخر، يصبح الأمر مزعجًا حين يتعنصر الشغف، ويتعصب ويصبح رديفًا للكراهية لا رفيقًا للودّ.

أتذكر أن أحد الكتاب العرب من الذين فازوا بالبوكر وكان شديد التعصب لمنتخب بلده لدرجة أنه كتب مقالًا ينتقد شعبًا بأكمله تعصبًا لمنتخب بلده! وكان مقالًا بذيئًا مليئًا بالعنصرية المقيتة، تصرفه أوغر صدور البلدين وجعل من الكرة وهي اللعبة الجميلة منجنيق كراهية متحرك يقذف الحمم بين بلدين عربيين ربطتهما اللغة والدين وفرقتهما الكرة. الكرة المدورة التي تقول أنا بشكل دائري كيلا يكون أحد رأسًا والآخر قدمًا. مدورة بلا زوايا حادة تجرح، فلماذا تؤذون بعضكم بي؟! هذا التعصب المؤذي ليس شغفًا جميلًا وليس دلالة تحضر بل دلالة جهل وغباء.

الشغف لا يقود أبدًا إلى نفق الكراهية؛ لذلك فالشغف بكُرة القدم أو أي رياضة أخرى مطلوب ما لم يتعدَّ إلى التعصب والعنصرية. كرة القدم رسالة سامية لمن يفهم منطقها. أما أولئك الذين يكرهون ويحقدون ويشتمون ويركلون ويتلفظون بالبذيء من الكلام لأجلها فهم مرضى لا معجبون.

كاتبة سعودية.

——————

رؤوف‭ ‬مسعد‭: ‬التسلل‭ ‬غير‭ ‬محسوب

في مدرجات ملاعب كرة القدم يحتشد الآلاف بطبولهم وأعلامهم، يزأرون استحسانًا أو استهجانًا لموقف لاعب أو لصافرة حكم، في حين يحتشد ملايين آخرون من جنسيات مختلفة أمام أجهزة التلفاز يتابعون مباريات يذيعها، يأملون في تفوق فريق معين على فريق آخر. يحتشد الملايين في الملاعب بأرجاء الكرة الأرضية يتابعون طقسًا احتفاليًّا له قواعده وكَهَنَتُه ومعابده، فإذا ما وقف شخص ما في وسط ميدان ما بمدينة ما في العالم وهتف بحياة محمد صلاح أو رونالدو سوف يتجاوب معه كل من سمعه، لكن إذا ما هتف بحياة نجيب محفوظ فلن يجد إقبالًا إلا من ناس معينة، هذا هو الفرق الشاسع بين لاعب كرة القدم والكاتب، مهما نال هذا الكاتب من أرفع الجوائز العالمية، سيظل اسمه وكنيته مجهولين للأغلبية في العالم، على العكس من لاعب كرة القدم. طقوس الملاعب لها قوانينها، أما طقوس الكتابة فهي بلا قوانين، فلا يمكن بحال الإجماع على أن كاتبًا ما تسلل إلى نص كاتب آخر وسرق أفكاره، على العكس من أن يتسلل لاعب ليسرق الكرة ويسددها في شباك الخصم، وفيما يلعب اللاعبون كفريق متجانس فإنه لا يمكن للكُتاب أن يتعاونوا ويتفاعل بعضهم مع بعض كفريق متجانس، فكل كاتب هو شخص منفرد متفرد وشخصاني، يكتب بطريقته الخاصة التي يستخلص منها الآخرون والنقاد القواعد الجديدة في الكتابة، على العكس من كرة القدم التي حددت قواعدها مسبقًا، ولا يمكن لفريق ما أو لاعب ما أن يتخطاها، أما الكتاب فهم يخلقون من أعمالهم القواعد الجديدة، أي أنهم يضعون العربة أمام الحصان، ويعلنون أنك لا تنزل إلى النهر مرتين.

كاتب مصري يقيم في هولندا.

——————

محمود‭ ‬الريماوي‭:‬ من‭ ‬مظاهر‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة

زار كاتب هذه الكلمات قبل مدة قصيرة بلدًا عربيًّا هو المغرب الذي يمتاز من بين ما يمتاز به بكثرة المقاهي التي تتسم بنظافتها وخدمتها الجيدة وبثها لمباريات (تسمّى هناك: مقابلات) كرة القدم. ويحدث أن يكون الرواد يشغلون نصف عدد كراسي المقهى الكبيرة، لكن ما إن يبدأ بث مباراة، حتى يغص المقهى فجأة بالرواد، الذين يجلسون في صفوف منتظمة، مفعمين بالاهتمام والترقب والتركيز الفائق، وما إن يُسجَّل هدف حتى ينفجر الرواد معًا مطلقين صيحة مدوية ترتجّ لها جدران المكان. والواضح أن هذه اللعبة باتت تجتذب أوسع اهتمام جماهيري في العالم، وهو أمر عزّزه انتشار الفضائيات ثم وسائل الاتصالات الحديثة التي تبث المباريات قديمها وجديدها. وقد تضاعف الاهتمام مع الدعم الذي تلقاه اللعبة والرياضة عمومًا من الجهات الرسمية ومن القطاع الخاص في أغلبية دول العالم. وهو ما يقرّبنا من الحديث عن علاقة كرة القدم والرياضة عامة، بعالم السياسة؛ إذ بات جليًّا أن دول العالم ترى في الرياضة ومسابقات الألعاب الأوليمبية فرصة لإظهار تميزها، ولتثبيت حضور هذه الدولة أو تلك على الخريطة وجعلها جاذبة للاهتمام، مع ما لذلك من انعكاس على السياحة وعلى الصورة العامة للبلد. وشيئًا فشيئًا يزداد الإدراك بأن الرياضة هي من مظاهر القوة الناعمة التي تستحق إيلاءها كل اهتمام شأنها في ذلك شأن العلوم والآداب والفنون.

وتتصل بذلك العلاقة الناشئة بين كرة القدم والبيزنس، فإقامة المباريات الكبرى يوفر فرصة كبيرة لاجتذاب السياح وتنشيط حركة الطيران، ويوفر فرصة مماثلة للشركات والمؤسسات والمصانع للترويج لسلعها ومنتوجاتها، ويوفر دخولًا لشركات الإعلان ومحطات التلفزة كما يوفر ضرائب ورسومًا على المداخيل المتأتية من المناسبات الرياضية. أما ما يتعلق بالعلاقة بين الأدب والرياضة، فمن الشائع أن يعزف أدباء وفنانون عن الانغماس في متابعة هذه اللعبة، غير أن الأجيال الجديدة من هؤلاء باتت ترى أن كرة القدم هي من مظاهر الحياة العصرية غير القابلة للإنكار أو التجاهل. علاوة على أن أدباء مرموقين أقروا بافتتانهم بهذه اللعبة ومن هؤلاء الكولومبي غارثيا ماركيز الذي كان طموحه للتفوق في كرة القدم يفوق (في مرحلة شبابه الأولى) طموحه الأدبي، وكذا الأديب نجيب محفوظ.

وأجدني أتفق مع الرأي القائل بأن كرة القدم تستثير مشاعر بدائية غائرة في النفس لمتابعة الطريدة واقتناصها، وأن مراوغة الكرة بأقدام اللاعبين على درجة من الشبه مع مراوغة الكلمات بين أيدي الأدباء. إن كرة القدم في النهاية هي لعبة نظيفة، ومن أبرز الألعاب الجماعية التي تعتمد على جهد فريق متكامل، مع إتاحة الفرصة لكل لاعب لإظهار مهاراته الخاصة به، خلافًا لمعظم ألعاب الرياضة التي تقوم على التنافس الفردي، وأحسب أن هذه الميزة: جماعية اللعبة، هي ما تشد الجموع الغفيرة إليها، وهي التي تستثير لدى بعض مشاعر الانحياز الأعمى وصولًا إلى التعصب وكراهية الآخر.

كاتب أردني.

——————

صلاح‭ ‬حسن‭: ‬الكاتب‭ ‬لاعب‭ ‬ماهر

كنت في صبايا لاعب كرة قدم جيدًا، وكنت أسأل نفسي: هل تريد أن تكون لاعبًا أم شاعرًا أم ممثلًا؟ لكنني في النهاية اخترت أن أكون شاعرًا، ثم درست المسرح، أي أنني حققت ميزتين هما الشعر والمسرح، ولم تختف محبتي لكرة القدم، كانت لدينا مراكز للشباب في الحي، وكنا منضمين لفريق من الشباب ونلعب بشكل دوري، وكانت مهارتي في اللعب بالكرة قوية وواضحة، وذات يوم جاء مدرب أجنبي للمنتخب الوطني، وكاد أن يختارني إلى المنتخب، لكنه غيّر رأيه فيما بعد لحسن الحظ، وإلا كنت قضيت حياتي ركضًا وراء الكرة، بالطبع لم أحزن ولم أندم على الشهرة والغنى اللذين لم يصيباني جراء تركي اللعب، وانشغالي بالشعر والمسرح، فقد كنت حينها لاعبًا هاويًا، ولم تكن الأضواء متوهجة وقتئذ حول الكرة بالشكل الذي نراه الآن، كما أنني كنت مشغولًا بالمسرح والشعر، إلا أن الكرة ظلت في دمي. أحببت لاعبين كبارًا من العراق أمثال هادي أحمد وعدنان درجال وأحمد راضي، لكن ميسي ومارادونا كانا أبرز اللاعبين العالميين الذين استحوذوا على إعجابي، فقد فتنت بمهاراتهما الفردية الباهرة، وقدرة أي منهما على تسجيل الأهداف في أية لحظة. وطيلة الوقت كانت تشغلني المقارنة بين مهارات اللاعبين الفردية ومهارات الكتاب، كنت أتابع أسلوب كل منهم في العمل واللعب، وأتصور أن الكاتب الماهر هو لاعب ماهر، وأن اللاعب الماهر بطريقة ما هو كاتب ماهر أيضًا، فاللاعب الماهر يستطيع أن يحتفظ بالكرة أكبر وقت ممكن، أما الكاتب فإنه يستطيع أن يجلب انتباه القارئ ويسحبه معه حتى النهاية، أما في المسرح فالأمر أكثر وضوحًا، حيث يصل التشابه إلى حد التطابق، فالمخرج يقابل المدرب، واللاعبون يشبهون الممثلين، وساحة الكرة في مقابل خشبة المسرح، والتمرين يجري على الساحتين، أما الابتكارات الفردية فهذه يستطيع أن يراها المشاهد بسهولة، سواء في الملعب أو خشبة المسرح، واللامتوقع في كلتا الحالتين هو تدخل السياسة وإفسادها لكل شيء، حيث ينحرف الهدف الجمالي إلى شيء آخر.

في كأس العالم المقبل سأحرص على مشاهدة الفريق الهولندي والبرازيلي والأرجنتيني والإسباني، وسأتذكر أنني كنت أحب أن أجترح حركات في كرة القدم، وأنني نجحت في مرات قليلة، لكنني مع الكتابة وعلى الورق أصبحت أكثر نضجًا، وأن كلًّا من اللاعب والكاتب يمكنه أن يكون سفيرًا جيدًا للبسطاء، بشرط الحب والنية الصافية، سأتذكر أيضًا أن السحر في اللعب هو حصول غير المتوقع، في حين السحر في الكتابة هو قلب الواقع أو نسفه والحديث عن المسكوت عنه، وأن الفرق بين لاعب كرة القدم والشاعر هو أن اللاعب يركض كثيرًا والشاعر يخطط ويتأمل أكثر، وفي النهاية سأتمنى الفوز لمن يلعب أفضل.

مسرحي عراقي يقيم في هولندا.

——————

علياء‭ ‬المالكي‭: ‬النساء‭ ‬لا‭ ‬يجدن‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬فريق

المهتمون بالثقافة عادة لا نجدهم يتابعون أخبار الرياضة –الكرة تحديدًا– ربما لأنهم منهمكون في هوايات أخرى تعبر عن الجانب الحسي أكثر من الجانب العضلي، وهذا واضحٌ في ملامحهم التي تحاول الإمساك بالنجوم في السماء لا بالكرة على أرض الملعب، لكننا بالرغم من ذلك نجد أن المعادلة هذه غير شاملة فهناك من الأدباء والفنانين من رواد المقاهي يجلسون بانتظار مرير حتى تبدأ مباراة كرة القدم لمتابعة كل اللحظات التي تنتقل بها الكرة بين هدفهم وهدف الخصم. وهناك من كتب قصائد امتدح بها بعض اللاعبين وهناك من تفنن في رسم الحركات الرياضية بكل حالاتها، وبالطبع لا يخفى ما لدور المباريات الكروية في تغيير الكرة الأرضية سياسيًّا والرهانات التي تقع على عاتق المدربين لرفع علم الدولة أو إعلان الهزيمة، ودور هذه اللعبة في تحسين الروابط بين الدول كمباريات العراق والسعودية مؤخرًا حين أصبح العراق راعيًا في مباراة ودية جرت على أرضه في محافظة البصرة، وكان الجميع ينتظرها ويرحب بهذا اللقاء الذي طال انتظاره واتضحت خلاله السمات الودية على أرض الواقع لا أرض الملعب فقط بعد قطيعة طويلة. لذا فهذه اللعبة غيرت البوصلة وصاغت معادلة جديدة نرتضيها كشعوب مُحبة للسلام، هنا الرياضة استطاعت أن تشير إلى أحد العوامل المشتركة بيننا كدول عربية مجاورة بعيدًا من الرؤية القاصرة على مناطق الاختلاف، كما تفعل منصة الشعر وهي تجمع الشعراء على منصة واحدة. أما إذا حلمنا بفريق كرة قدم نسائي فسأضحك حتمًا لأن النساء لا يجدن اللعب كفريق بمقدورك أن تثق به، فالتسلل هو الأسلوب الأمثل للمرأة.

شاعرة وإعلامية عراقية

——————

مايا‭ ‬الحاج‭: ‬درويش‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬مارادونا

أستغرب فعلًا موقف الأدباء العرب من بعض القضايا التي يتطلعون إليها باستعلاء غير مبرّر، مثل الرياضة والفنون الشعبية والأزياء… فالأدب هو في الأساس انعكاس حياتنا عبر مرآةٍ يتجوّل بها الكاتب طوال الطريق، كما يقول الكاتب الفرنسي ستندال في تعريفه للرواية. اقتصرت الكتابة الروائية مثلًا على موضوعات ثابتة منها الحب والوطن والهوية، في حين غابت عنها موضوعات أخرى اعتبرت أقلّ شأنًا. لكنّ بعض الكتّاب (روائيين وشعراء ومفكرين) كسروا هذه الثوابت اللامنطقية في الأدب وتطرقوا إلى مسائل اعتبرت هامشية إبداعيًّا.

كتب إدوارد سعيد مثلًا عن تحية كاريوكا مقالةً اختصر فيها موقفه من الرقص الشرقي الذي ظلّ أسير النظرة الذكورية له. وكتب محمود درويش قصيدة عن دييغو مارادونا في عام 1986م، عقب فوز الأرجنتين بكأس العالم، وتساءل:«لماذا لا تكون كرة القدم موضوعًا للفنّ والأدب؟». ولم يكن سؤاله غريبًا لأنه عاش في أوربا وقرأ اهتمام الناس- سواء كانوا شعوبًا وأدباء وسياسيين- بلعبة كرة القدم التي كانت حاضرة في مقالات كبار المفكرين وكتاباتهم، ومنهم ألبير كامو الذي وصف كارهي هذه اللعبة بـ«الأغبياء». وخلال السنوات الأخيرة قرأت بعض الأعمال الجديدة التي اتخذت من كرة القدم موضوعًا لها، منها رواية أحمد محسن «صانع الألعاب» ورواية شكري المبخوت «باغندا».. وعلى المستوى الشخصي كنت مولعة جدًّا بهذه اللعبة التي تستحوذ على تفكير الإنسان وأعصابه وتضعه تحت ضغطٍ كبير، فإما أن تخلّف فيه شعورًا بالسعادة العارمة وإما أن تجعله خائبًا وحزينًا. كنت أحبّ هذه الحالة التي تحيلنا لاعبين أساسيين في المباريات، وإن كنّا نشاهدها من قارة أخرى. والمفارقة أنني في مراهقتي كنت أفضّل لاعبي كرة القدم على نجوم الغناء والتمثيل، فكنت معجبة بديفيد بيكهام ولويس فيغو وراوول غونزاليس وتريزيغيه وكانافارو…

ثمة «سحر جماعي» تمارسه هذه اللعبة على العالم. تصنع من شباب فقراء نجومًا وتعيد الصوت لدولٍ أبكمتها الإمبراطوريات الكبرى. كرة القدم تخلط الأوراق التي رتبتها سياسات الدول الكبرى، وتمنح المهمشين فرحةً ضاعت وسط زحمة العالم وقسوته. إنها مجرّد لعبة… لكنها أيضًا صورة عن الحياة. من الخارج، ترى ملعبًا ولاعبين ومحكمين. أما واقعًا، فيشارك فيها زعماء وسياسيون ورجال المافيا والأثرياء… وبين الصورة المرئية واللامرئية، لا ننتظر نحن سوى بهجة عابرة يقدمها لنا أبطال يركضون من دول العالم كله خلف طابة واحدة.

كاتبة أردنية.

المؤرخون الجدد.. التاريخ على ضفاف الشاشة الفضية ما الخيط الفاصل بين رؤية الدراما ودراما التاريخ وأين يمكن التزييف؟

المؤرخون الجدد.. التاريخ على ضفاف الشاشة الفضية ما الخيط الفاصل بين رؤية الدراما ودراما التاريخ وأين يمكن التزييف؟

لم يعد الشعر ديوان العرب، ولم يعد الزمان زمن الرواية، لكنه زمن الدراما التي دخلت كل بيت، ليراها في وقت واحد ملايين المشاهدين، فيأخذوا عنها معارفهم وأفكارهم وتقاليدهم وعاداتهم؛ لتصبح الشاشة الفضية هي الصفحة الكبرى لتدوين التاريخ الحديث والقديم في أذهان المتلقين، عبر عشرات المراجع التي عمل عليها كاتب السيناريو، والتماهي في الصدق الفني لدى الممثلين، ومحاكاة الواقع التاريخي في الأزياء واللغة وإدارة المعارك، وإعادة صياغة الصراع وفقًا لرؤية المخرج والمونتير. ما حدود التداخل بين الدراما كأحد فنون الاستعراض الكبرى، والتاريخ كواقع وحقيقة مستحقة لبشر وأسلاف؟ وإلى أي مدى أفادت العلاقة بينهما المشاهد الذي جعلها مرجعه الوحيد؟ وكيف يمكن للمؤرخين أن يصححوا الأخطاء التي وصلت إلى حد تزييف التاريخ؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها «الفيصل» على عدد من المختصين:

فراس الشاروط

فراس الشاروط:

صانع الدراما أعلى من المؤرخ

لأن الواقع أصبح بصريًّا بامتياز، والسينما والتلفاز أهم وسائل الاتصال والدعاية المعاصرة، فإنهما قد قدما للمؤرخين وللإنسان عمومًا تشكيلًا فائق الوصف والروعة لحالات عديدة ومختلفة مر بها العالم من حولنا، من هنا عملت الدراما عمل التاريخ، رغم أن المعارضين يطالبون بترك الدراما جانبًا، يذهب (أُمبيرتو إيكو) إلى أن صانع الفلم لا يعدو في نظره أن يكون مؤرخًا، لكنه يحتل مرتبة أعلى من كاتب التاريخ؛ لأنه يخلق التاريخ مرة أخرى، (إيكو) هنا يتقاطع نسبيًّا مع المهمة الإبداعية الجمالية الموكلة لصانع الدراما، والمشتقة من أحقية الفن بالتدخل في الحياة الطبيعية إضافة وحذفًا وإعادة تركيب وصياغة لكونه يرصد التاريخ الخفي المهمل الذي يحتاج إلى استبصار ووعي وإدراك. ومن الضروري أن تقيد الدراما صانع العمل بالمادة التاريخية، والالتزام بعرضها عرضًا حقيقيًّا صادقًا من الناحية التاريخية، وهنا ما يكفي لتحجيم المساحة الإبداعية التي ينبغي لصانع العمل الدرامي التحرك ضمنها، فإذا ما توخى الدقة والصدق التاريخي فإنه يقترب من مهمة المؤرخ في الوقت نفسه الذي يغتال فيه واحدًا من أهم مظاهر الدراما وأبرزها (استعراضيتها)، وهذا ما يبعده من مهمته الإبداعية، فصانع الدراما إنما هو صاحب خلق حر جديد، وهذا الخلق يختلف بالضرورة عن الكتابة التاريخية كما وقعت بالفعل، من جهة أخرى فإن إطلاق يد المخرج في التصرف بالمادة التاريخية لا يعني السماح له بأن يضلل المشاهد تاريخيًّا، بمعنى أن يؤسس تاريخًا خاطئًا، فيبدل وقائع تاريخية خطيرة ومهمة يعرفها المتلقي مسبقًا فيزيّفها خدمة لموضوعه.

إن العمل الفني لا يشكل مبررًا لتزييف الأحداث التاريخية بما يخلّ بما يعرفه المشاهد، وإذا كان صانع الدراما غير مطالب بالخضوع كليًّا لحقائق التاريخ فهو مطالب بعدم مناقضتها أو تجاهلها، ونحن هنا بأمسّ الحاجة لأعطاء صناع الدراما أكبر قدر من الحرية في التعامل مع الحقيقة التاريخية إلى الحد الذي يسمح بالابتكار أو خلق حقيقة فنية جديدة. يقول جورج لوكاش: «إذا أريدَ للحقيقة أن تبقى وجب مزجها بأكاذيب، فالحقيقة المطلقة لا تطاق، وما من أحد يملكها، وهي ليست جديرة حتى بالكفاح في سبيلها، إنها غير إنسانية وليست جديرة بأن تعرف». إذًا الحقيقة التاريخية في حاجة لأن تعمل الدراما فيها وتعيد صنعها بما يجعلها مقنعة، مؤثرة، جميلة، أي بجعلها قريبة إلى الصدق الفني الذي لا يقل أهمية عن الصدق التاريخي ذاته.

كاتب وناقد سينمائي عراقي

حسام عاصي

حسام عاصي:

الدراما أضرت بصورة العرب في هوليوود

الدراما ليست وثائق تاريخية دقيقة، بل هي تملك الرخصة لتعديل الوقائع التاريخية وتحويلها إلى روايات ترفيهية تثير مشاعر المتلقي وتحثه على التفاعل مع شخصياتها من خلال وضعهم في أزمات وجودية ونفسية وفلسفية واقتصادية واجتماعية وغيرها. ولكن هذا لا يعني أن الوثائق التاريخية هي أكثر صحة من الروايات الدرامية، وذلك لأن المؤرخين يطرحون الأحداث التاريخية من منظورهم الخاص، الذي يكون عادة متناقضًا تمامًا مع مؤرخين من حضارات أخرى. حتى في عصر الكاميرات والأجهزة الذكية، هناك تباين بين الصحافيين والإعلاميين في طرح أحداث الواقع، فهل يمكن أن نصدق ما كتبه مؤرخ روماني عن معركة تاريخية بين الرومان والمسلمين؟ بداية، الإغريقيون كانوا يعتمدون على الدراما لسرد وقائع التاريخ قبل أن يظهر المؤرخون على غرار هيرودوتس، الذي سجل وقائع تاريخية كما شاهدها أو نقلها عن شهود عيان من دون صبغها بالإثارة الدرامية. وإذا نظرنا إلى أعمال بعض الدراميين المعاصرين مثل المخرج الهوليوودي أوليفر ستون تجد أنه لا يوجد فرق كبير بين أفلامه الروائية والوثائقية. فعلى الرغم من أن الأولى تعتمد على الإثارة والتشويق في سردها، والأخرى مليئة بالحوارات وصور أرشيفية في طرح أحداث تاريخية إلا أن الرسالة تكون متشابهة. مشاهدة أفلامه الدرامية والوثائقية تكشف عن أنه يساري الميول، ويؤمن بنظريات المؤامرات ومناهض لسياسات الحكومات الأميركية، ولكن لا يمكن أن نعتمد عليها كمصدر تاريخي موثوق به. هي وثائق تاريخية من منظور شخص واحد وحسب وليست الحقيقة المطلقة. وهذه هي الحال مع كل المؤرخين والروائيين، فكل منهم يطرح حقيقته وعلى المتلقي أن يختار واحدة من تلك الحقائق، أو يخلق حقيقته بنفسه. منظور شخص ما يتحول إلى حقيقة مطلقة إذا نجح في نشره بين أكبر عدد من الجماهير العالمية.

إعادة كتابة تاريخ العرب وتزييف حضارتهم في الأفلام الهوليوودية هو أخطر ما يواجهه العرب هذه الأيام. أفلام هوليوود نجحت في محو مساهمة العرب التاريخية في تطوير العلوم والتكنولوجيا والإعمار، وتحويلهم إلى عبء على الإنسانية. فإذا سألت شخصًا في أي مكان في العالم عما يعرفه عن العرب، فسيرد بالقول: إنهم إرهابيون وجشعون ومتخلفون. هذه صفات تطرحها الأفلام الهوليوودية التي تصل إلى كل أقطار العالم. المقلق هو أن كثيرًا من العرب مخدرون بالمسلسلات التلفزيونية الرومانسية وغير واعين نفوذ السينما وتأثيرها في الناس وما زالوا يعتبرونها خزعبلات. وفي عدة دول عربية مثل لبنان، والعراق، وسوريا، والمغرب ومصر تقلص عدد دُور عرض السينما من المئات في منتصف القرن العشرين إلى العشرات أو حتى أقل من عشرة في العقدين الأخيرين. وفي بعض الدول دُور عرض السينما ما زالت ممنوعة. إضافة إلى أنه لا يوجد دعم لتطوير المواهب وصنع الأفلام في العالم العربي ما عدا الإمارات وقطر. فإذا لم يصحُ العرب من غفوتهم ويحموا تاريخهم وحضارتهم فسوف تضيع هويتهم إلى الأبد.

 كاتب ومخرج وناقد سينمائي فلسطيني – مقيم في لوس أنجليس

 

محمد عفيفي

محمد عفيفي: العشق الممنوع

بشكل عام تعامل الدراما مع التاريخ، وتعامل الأدب -بدءًا من روايات جُرجي زيدان وغيرها- حتى وقتنا الراهن، بهما جوانب إيجابية وأخرى سلبية، أما الجانب الإيجابي فهو أن الأدب والدراما لديهما هوامش حرية تمكنهم من طرح أسئلة، ومن ثم فحين يتعاملان مع التاريخ يثيران جدلًا واسعًا، فضلًا عن الشعباوية الكبيرة التي يتمتعان بها، لكن هناك جوانب خطرة لدى أمة لا تقرأ، فهي تأخذ التاريخ من الأدب أو الدراما، وهذا موجود منذ أعمال مثل «رد قلبي» وغيرها، وفي العادة يحدث هذا الأمر في الغرب، لكن الغرب أكثر احترافية منا. فهناك العديد من الندوات والنقاشات التي تعقد لتوضح للناس الخلافات بين الواقع التاريخي وبين ما قدمه المؤلف في عمله، إضافة إلى أن هناك المستشار التاريخي الذي لا يفارق طاقم العمل الدرامي، حيث يشرف على اختيار الملابس وغيرها بحيث يحافظ على المناخ التاريخي الكامل للعمل، ويضمن أن تكون المعلومات سليمة، لكن المشكلة أن التاريخ يعتمد على روايات متعددة، والمؤلف يختار رواية تخدم وجهة نظره، ويقدمها، أو يسلط الضوء عليها، مثلما فعل وحيد حامد في الجزء الثاني من مسلسل «الجماعة»، فسيد قطب كان مدنيًّا في قيادة الثورة، لكنه لم يكن المدني الوحيد، ولم يكن يتصدر منضدة الاجتماعات، فهذا خطأ كبير، وعلى كل فأنا أشبه العلاقة بين الدراما والتاريخ بالعشق الممنوع؛ لأن الدراما قائمة على التخييل، أما التاريخ فهو قائم على البحث عن الحقيقة، ومن ثم فالعلاقة بين التاريخ والدراما ضرورة لكنّ بها كثيرًا من المخاطر.

شخصية صلاح الدين الأيوبي أثارت الكثير من الجدل، حتى إن يوسف زيدان قال: إن صلاح الدين لم يكن له وجود في الذاكرة المصرية إلا مع جمال عبدالناصر، وهذا خطأ، لأن السينما المصرية أَنتجت عام 1941م فلم صلاح الدين الأيوبي، وهو فلم أقدم من فلم يوسف شاهين بنحو عشرين عامًا، أنتجه الأخوان إبراهيم وبدر لاما، مثّل فيه كل من أنور وجدي ومحمود المليجي، لكن يوسف زيدان لم يره، وأعتقد أن فلم يوسف شاهين هو أول اهتمام السينما والذاكرة المصرية بصلاح الدين. المشكلة الكبرى لدى كتاب الدراما هي الكتابة عن الأحداث المعاصرة، فكلما اقتربت من التاريخ المعاصر، حيث شاهد الجمهور الحدث، يصبح الكاتب الروائي أو الدرامي في خطر، كما حدث مع وحيد حامد في مسلسله «الجماعة»؛ إذ علق كثيرون بالرفض لكثير من أحداث المسلسل.

أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة

محمد السيد عيد

محمد السيد عيد: الكتابة وجهة نظر

الكاتب لا يكتب التاريخ في حد ذاته، لكنه يحتاج من التاريخ ما له علاقة بواقعه، وبالتالي فالعلاقة بين الواقع والتاريخ وطيدة، فأنا حين احتجت لأن أكتب عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي لم أكن أكتب التاريخ، كنت أحاور القضايا التي نعيشها مثل: الإرهاب والعقل والنقل، وهل ينتصر علينا العدو لأنه قوي أم لأننا متفرقون، إضافة إلى قضايا أخرى مثل تحريم الموسيقا، والعلاقة بين المسيحيين والمسلمين وغيرها، ومن ثم فاختياري للشخصية التاريخية يكون نابعًا من الواقع الذي نعيشه.

الكتابة وجهة نظر، فالكاتب يتعامل مع وقائع التاريخ ثم يختار ما يعبر عن وجهة نظره، والكتابة التاريخية نوعان، الأول هو التعبير عن التاريخ، ويكون الكاتب فيه تلميذًا في مدرسة التاريخ، يعبر عنه كما هو، وأوضح مثال لذلك مسرحية «عرابي زعيم الفلاحين» لعبدالرحمن الشرقاوي، فقد جمع المؤلف المشاهد التي وردت في مذكرات عرابي وحولها إلى مشاهد مسرحية، أما النوع الثاني فهو التعبير بالتاريخ، ومعناه أن الكاتب يقدم التاريخ إضافة إلى رؤيته الخاصة، كما في مسرحية «مأساة الحلاج» لصلاح عبدالصبور، فهو لم يقدم الحلاج كما ورد في الكتب فقط لكنه قدم رؤية، فإذا كان التاريخ يقول: إن الحلاج كان يعرف أنه سيموت، وإن المسيح كان يعرف قدره، وسار بقدمه إلى قدره، فقد سار الحلاج أيضًا بقدمه إلى قدره حسب رؤية عبدالصبور… ومن هنا جاءت مأساة الحلاج عملًا دراميًّا فريدًا يستحق أن نقف عنده ونحن نؤرخ للمسرح الشعري.

سيناريست مصري

صالح علي الشورة: سوريا تفوقت على مصر في الدراما التاريخية

لا بد من الاعتراف بأن مؤلف الدراما هو رهين زمانه ومكانه وكل ما بينهما، وهذا لا يدخل في باب التحيز أو الانغلاق أو التكلس على الفكرة من دون قبول غيرها، بل يبحث في نشر التاريخي السائد الفاضل، ومحاولة طمس النادر المبتذل. ومن هنا فإن كانت الأحداث الواقعة الراهنة لا تبعث على التفاؤل وصناعة الأمل في نفس الأمة، بل تدفع باتجاه التيه والتشرد الفكري والشعور بالضعف والتخلف، والانغلاق، وللأسف هذه هي حال جل الشباب العربي المغلوب الذي أصبح مولعًا بثقافة الغالب كما يرى ابن نبي، فإن أحداث التاريخ التي تصورها الدراما تفعل أفاعيلها في نبذ القطيعة بين الماضي والحاضر، وتقرب المسافة بين الأماني والأحلام من جهة، وما وقع فعلًا في التاريخ وصداه الحاضر. يأتي هنا دور الدراما التاريخية التي تحقن الجيل بمضادات قوية تعمل على تحفيز الاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية التي تركن إلى حضارة عظيمة قدمت للإنسانية الشيء الكثير، وتغرس في نفسه القيم غرسًا، وبخاصة أن الدراما ينطبق عليها التأثير المباشر للمثل العربي القائل: فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل. فالأحداث الجارية في العصر الراهن بقدر ما هي محبطة، بقدر ما هي مشجعة على تقديم التاريخ في قالب خالٍ من الشوائب وأسباب الفُرقة في الوقت ذاته، بل تعمل على ترقية الاعتزاز بالفعل التاريخي، وتحاول إبرازه علّه يكون دافعًا للاستدارة باتجاه خير الإنسان العربي المسلم أولًا والإنسان أنّى وُجد ثانيًا. أما فيما تعلق بتقدم الدراما التاريخية السورية على غيرها فأعتقد أنه يعود إلى تمويل إنتاج الدراما التاريخية من قبل القطاعين العام والخاص، أي اهتمام الدولة السورية بإنتاج دراما تاريخية كان هدفها ثقافيًّا وليس ربحيًّا، بعكس مصر على سبيل المثال رائدة الدراما العربية. فذهب السوريون إلى الأماكن المفتوحة وتجاوزوا الأستديوهات المغلقة. ثم إن لغة أهل الشام هي الأقرب إلى الفصحى من غيرها. ثم إن السوريين تنبهوا إلى ضعف الإنتاج المصري للدراما التاريخية، فأكثروا من المسلسلات على حساب الأفلام. إضافة إلى التنوع الذي قدمه السوريون سواء مشاركة ممثلين من الخارج أو كتاب أو غيرهما من أدوات وعناصر النجاح للدراما التاريخية.

مؤرخ وسيناريست سوري

كمال القاضي: تزييف التاريخ

المناطق الأثيرة في التاريخ لدى صناع الدراما هي المناطق التي بها الشخصيات الأكثر شهرة لدى الجمهور مثل: صلاح الدين الأيوبي، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والإمام محمد عبده، وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وبالطبع تلعب السلوكيات دورًا مهمًّا في جذب الجمهور، مثل: الزهد والعدل والورع والفروسية، وعلى الرغم من أن الجمهور نفسه لا يتحلى بأي من هذه الصفات، وربما في قرارة نفسه لا يريد أن يتحلى بأي منها، لكنه يعشق رؤيتها على الشاشة. هناك نوعان من الصدق؛ الصدق الفني في الإخراج والديكورات والإكسسوارات واللغة وكل ما يجسد اللحظة التاريخية المقدمة على الشاشة، وهناك الصدق في الوقائع التاريخية، مثل مدى تاريخية الحادثة والمشاركين فيها وما نتج عنها، وكلا النوعين مطلوب ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما، وقد تحدث مشكلات كبرى في حال غياب أي من النوعين، فقد لا يصدق الجمهور العمل في حال ضعف العناصر الأساسية للدراما مثل: الإخراج والمونتاج والإكسسوارات والملابس وغيرها، وقد يعشق الناس العمل ويرددون ما به من مغالطات، فثمة قداسة لدى الجمهور العام لكل ما يظهر على الشاشة، فهم يتعاملون معه بصدق شديد مثلما يتعاملون مع الأخبار والمقالات الواردة في الجرائد التي اعتادوا عليها، والجمهور أحيانًا له مزاجياته، ففلم «رابعة العدوية» ناقش حياة رابعة في الزهد وقبل الزهد، لكن الجمهور لم يتوقف عند النصف الأول من حياتها، ولم يتوقف عند فكرة التوبة التي يناقشها الفلم، وتوقف عند الزهد وما عانته من آلام في سبيل عشقها الإلهي، وفي الأخير الجمهور ليس معنيًّا بالورق ولا المراجع ولا كتب التاريخ، الجمهور معنيّ بالدراما وقدرتها على تجسيد الموقف، وأحيانًا يتخذ الجمهور مواقف سابقة خاطئة، لكنه يتراجع عنها حين يراها على الشاشة، فالجمهور كان رافضًا لتجسيد الأنبياء، وظل هذا الرفض حتى عرض مسلسل «يوسف»، فأحبوه دراميًّا، ووجدوا فيه معلومات كانت ناقصة لديهم، فلم يعودوا لمناقشة فكرة التجسيد. جمال الدراما أحيانًا يقدم تزييفًا في التاريخ، ويرتبط الناس بهذا التزييف كأنه التاريخ الحقيقي، فمثلًا في مسلسل «بونابرت» قُدِّمت رؤية مختلفة ركزت على الجانب الإيجابي للحملة الفرنسية، وقدمت صورة لبونابرت غير صورته المعروفة تاريخيًّا، فمن المعروف أن له ساقًا أقصر من أخرى، ومن ثم كانت به نسبة عرج خفيف، وكان به غرور يصل إلى حد البارانويا، لكن الدراما تجاهلت كل ذلك.

كاتب وناقد سينمائي مصري

مراد وهبة: خيانة المثقف جلبت الأصولية إلى العالم

مراد وهبة: خيانة المثقف جلبت الأصولية إلى العالم

هو واحد من الشخصيات التي يصعب عدم الانتباه لحضورها الفكري والثقافي، ليس لأنه صاحب الخصومة الطويلة مع تيارات الإسلام السياسي، ولا لأنه يرى أن العلمانية هي الحل لخلاص الشرق الأوسط من صراع الأصوليات الذي يجتاحه، ولا حتى لأنه التلميذ الأوفى في زماننا لابن رشد، والداعي لإحياء الرشدية العربية في إطار نظرية فلسفية جديدة، ولا لأنه من كبار المثقفين الذين دعوا للحوار مع إسرائيل، وتغيير مناهج التعليم في المنطقة لتكون على أساس علماني لا أصولي، ولكن لأنه نموذج الفلَّاح المصري القادم من قراه البعيدة ليكون ممثلها الأمثل في ردهات المركز النابض بكل أنواع الثقافات والعلوم.

لا يمكنك أن ترى البروفيسور مراد وهبة لا يتحدث عن الصراع الدائر بين الأصوليات، ومفارقات الذهنية المصرية والعربية في الزمن الحديث، وعلاقته الملتبسة بعبدالناصر والسادات، والفاترة حد الجمود في زمن مبارك، لا يمكنك أن تتحدث ولا تجده ينصت باهتمام بالغ، ليسألك عما يجري وما يدور من أحداث في العالم، وهو المفكر الكبير الذي احتفل في الرابع عشر من أكتوبر الماضي بإتمامه العام الحادي والتسعين، وصاحب الكتب الإشكالية، بدءًا من «المذهب في فلسفة برجسون» (1960م)، و«محاورات فلسفية في موسكو» (1977م)، و«فلسفة الإبداع» (1996م)، و«مستقبل الأخلاق» (1997م)، و«جرثومة التخلف» (1998م)، و«ملاك الحقيقة المطلقة» (1998م)، و«الأصولية والعلمانية» (2005م)، فضلًا عن مقالاته في كثير من الجرائد المصرية والعربية، وسعيه الدائم لإحياء فلسفة ابن رشد، بوصفها الجسر الذي نقل أوربا في القرن السادس عشر من غياهب الظلام إلى آفاق التنوير، وهي الحل الأمثل الآن ليس للمنطقة العربية فحسب، لكن للحضارة الإنسانية عامة، وبخاصة بعدما طغى عليها صراع الأصوليات المتناحرة في كل مكان.

في هذا الحوار مع «الفيصل» يتيح لنا الدكتور مراد وهبة أن نتأمل معه ما جرى له مع كثير من الأنظمة، بدءًا من الملكية التي استشرى فيها الفساد فسقطت، مرورًا بعبدالناصر الذي عيَّنه سرًّا مستشارًا خاصًّا له في شؤون التعليم، والسادات الذي كتبت له أجهزته السرية أن وهبة هو أخطر أستاذ جامعة على النظام، فكان أستاذ الجامعة الوحيد الذي عزله السادات من وظيفته، في حين حاصره مبارك، وفي النهاية جاء الإخوان الذين لم يلبثوا كثيرًا في الحكم. يتحدث أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس عن زيارته لإسرائيل، وكيف راوغت السلطات في السماح له بالذهاب إلى تل أبيب، يحكي عن ذهابه إلى باكستان وكيف رأى تخليها عن أفكار محمد إقبال لصالح «أبي الأعلى المودودي»، متهمًا المثقف بالخيانة، والمجتمعات العربية بعشق التراث وكراهية الحداثة، هنا يرصد كيف يعيش العالم حضارة واحدة، يجتاحها صراع المطلقات:

● أمضيت جانبًا كبيرًا من جهدك العلمي في الدعوة لإحياء فلسفة ابن رشد، على الرغم من أن زمن ابن رشد نفسه، كان زمنًا أكثر قوة وتنويرًا مما نحن فيه، إذ لم يُقبَل بفلسفته وأُحرقت كتبه وجُرِّمت أفكاره، ألا ترى أن ذلك مفارقة تحتاج إلى تفسير؟

■ المفارقة تعني أنه يوجد تناقض، وكان في زمن ابن رشد تناقض، وفي زماننا أيضًا تناقض، وحين دعيت لإحياء فلسفة ابن رشد في إطار فلسفة جديدة أطلقت عليها «الرشدية العربية» كنت أدرك تمامًا هذا الفارق، أين يكمن الفارق بين زمن ابن رشد وزماننا؟ في زمن ابن رشد السلطة السياسية هي التي استدعت ابن رشد؛ لماذا؟ لكي يشرح ما هو غامض في فلسفة أرسطو؛ لماذا؟ لأن أرسطو هو الملقَّب بالمعلم الأول، وكان فيلسوفًا في القرن الرابع قبل الميلاد، وأرسطو كان له منطق يعتمد على مفهوم البرهان، ومن هنا أمكن لإقليدس أن يؤسس علمًا هندسيًّا نظريًّا على أساس مفهوم البرهان، كما ورد في فلسفة أرسطو.

إذًا استعانت السلطة السياسية بأرسطو، وتركت ابن رشد يقوم بتأسيس تيار أرسطوطالي ولكن بنكهة إسلامية، وكانت تعني أن العالم الإسلامي عليه أن يكون منفتحًا على الحضارة اليونانية، وبالأدق على الفلسفة اليونانية، والدافع إلى ذلك هو رؤية السلطة السياسية في حينها مع مستشارها ابن رشد أن الغزالي، وهو فيلسوف إسلامي في القرن الحادي عشر الميلادي، كان مهيمنًا على الشرق العربي، والثغرة الموجودة في فلسفة الغزالي أنه ضد الانفتاح على الفلسفة اليونانية، ولذا كفر الفلاسفة المسلمين عندما استعانوا بفلاسفة اليونان، واتهمهم بالكفر على نحو ما جاء في الفقرة الأولى من كتابه «تهافت الفلاسفة»، وكان على ابن رشد ومعه السلطة السياسية أن يمنعوا هذا التيار اللاعقلاني للغزالي من الانتشار في المغرب العربي، ولكنه واجه صعوبات أدت في النهاية إلى اتهامه بالكفر وحرق كتبه ونفيه إلى قرية «أليوسانا»، وهي قرية كانت تتميز بأن أغلبية سكانها من اليهود، ولذلك أطلقت إشاعة بأن ابن رشد من أصول يهودية.

وبذلك انتهت العقلانية في المغرب العربي الذي انضم بعد ذلك إلى المشرق العربي، فأصبح العالم الإسلامي محاصرًا في إطار فلسفة لا عقلانية يتزعمها الغزالي، وفي القرن الثالث عشر، وهو القرن التالي لاضطهاد ابن رشد سيطر ابن تيمية في اتجاه الغزالي على توليد قوة مانعة من أي رغبة للانفتاح على الفلسفة اليونانية، وهذا واضح في رفض ابن تيمية لإعمال العقل في النص الديني؛ لأن آيات القرآن كلها -في رأيه- واضحة المعنى، وليست في حاجة إلى أي إعمال للعقل، وبالتالي هبط بالعقل إلى مستوى الحس، وكفَّر من يستعين بالتأويل في فهم النص الديني، ومن هنا أصبح الفارق الجوهري لابن تيمية في فهم أو قبول التأويل. ابن رشد يقول عن التأويل: إنه يكشف عن المعنى الباطني للنص، وهو الأمر الذي يستلزم الاستعانة بالمجاز، من دون الاستعانة بالمعنى الحسي، أما ابن تيمية فيرفض التأويل تمامًا، وهذه هي حقيقة المعركة في العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر.

● ماذا حدث بعد ذلك؟

■ ما حدث هو أن العالم الإسلامي وقف عند ابن تيمية، وبالتالي يمكن القول: إن العالم الإسلامي يقف الآن عند القرن الثالث عشر. والآن عندما فطنت إلى أن ابن رشد هو الحل لإخراج العالم الإسلامي من الذائقة الموجودة فيه وجدت أمامي ظاهرة مكتسحة بدأت مع منتصف السبعينيات، وهي ظاهرة الأصولية الدينية، وهي لا تخص العالم الإسلامي وحده، إنما تخص أيضًا العالم الغربي، فماذا تعني ظاهرة الأصولية؟ تعني أن المعتقد الديني في أي دين هو مطلق، فإذا تعددت العقائد الدينية المطلقة فمعنى ذلك تعدُّد المطلقات، وإذا تعددت المطلقات سندخل بالتالي فيما أسميه صراع المطلقات؛ لأن المطلق بحكم تعريفه هو واحد لا يقبل التعدد، وبالتالي إذا تعددت المطلقات فلا بد من مطلق واحد يمارس إقصاء المطلقات الأخرى، يقصيها بتكفيرها في الحد الأدنى وقتل أتباعها في الحد الأقصى، والظاهرة القريبة ما يحدث في ميانمار أن الأصولية البوذية تذبح أتباع الأصولية الإسلامية، والأصولية الهندوسية تقف وراء الأصولية البوذية في إقصاء واضطهاد الأصولية الإسلامية في ميانمار. «الرشدية العربية» الآن تأخذ معنى أوسع مما حدث في القرن الثالث عشر، بالرغم من أن مصطلح الرشدية يوحي إليك بأنها مسألة عربية، لكنها ليست كذلك، بمعنى أنه يتحدث باللغة العربية، لكنه مطلوب للعالم بأسره، وذلك لأنه في القرن الثالث عشر في أوربا، عندما أرادت أوربا أن تخرج من العصور الوسطى كان هناك الإمبراطور فريدريك الثاني يقف ضد الأصولية المسيحية المدعمة بالنظام الإقطاعي، وكان فريدريك يقف إلى جانب الطبقة التجارية الصاعدة، فقيل له: لكي تنتصر لا بد أن تستعين بفلسفة ابن رشدن، فوافق وأصدر قرارًا سياسيًّا بترجمة مؤلفات ابن رشد، وبدأ ينشأ تيار في جامعة باريس ثم في إيطاليا اسمه تيار الرشدية اللاتينية، وسُمي كذلك لأن مؤلفات ابن رشد في أوربا كانت باللاتينية، إضافة إلى العبرية، ودخل تيار الرشدية اللاتينية في مواجهة مع السلطة الدينية المدعمة بالإقطاع، وفي النهاية انتصرت الرشدية اللاتينية، فتأسس عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ثم التنوير في القرن الثامن عشر. هنا يوجد فارق بين الاستعانة في أوربا بابن رشد خلال أوقات مختلفة، وحاليًّا في العالم الإسلامي يُستعان بابن تيمية، إذًا فالرشدية العربية تتجاوز الآن العالم الإسلامي إلى العالم الغربي؛ لأن العالم الغربي يعاني الأصولية الدينية كما يعانيها العالم الإسلامي، معنى ذلك أن العالم الإسلامي الآن لا ينفرد بالأصولية الدينية، لأنها شائعة في جميع الأديان، وأنا الآن أريد لابن رشد أن يكون معينًا للحضارة الإنسانية من تدهورها وانزلاقها نحو الأصولية الدينية، وكي تخرج من مأزق الإرهاب، وقد سعدت حين علمت أنه في الجامعة الألمانية يوجد كرسي لابن رشد، وهذا معناه أن الغرب في حاجة لابن رشد.

● في كتابك «جرثومة التخلف» ترى أن العقل العربي هو عقل ديني في مجال التقدم، وعقل علماني في مجال التخلف.. فكيف ذلك؟

■ لدينا في مجال الدين الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهما يطالبون بتحرير المرأة، ولكنه تحرير في إطار الدين، ومن هنا نحن نقول: إذا كنا نتقدم فنحن نتقدم في هذا الإطار الديني، ولكن عندما نريد أن نوسع دائرة الإصلاح الديني إلى إصلاح سياسي في إطار العلمانية فهذا أمر مرفوض، ورفض العلمانية يعني التخلف، وبالتالي أقول هذه العبارة الملتبسة: «العقل العربي هو عقل ديني في مجال التقدم، وعقل علماني في مجال التخلف»؛ لأنه يقبل الأول ويرفض الثاني.

خيانة المثقف

● في الكتاب نفسه تذهب إلى أن مشكلة المجتمعات العربية ليست في صدام المثقف مع السلطة، ولكن في صدامه مع المجتمع ذاته؛ لأن المجتمع متخلف، ووظيفة المثقف هي الكشف عن جذور التخلف… فهل هذا هو السبب الذي جعلك فيما بعد تتّهم المثقف بالخيانة؟

بطرس غالي

■ نعم هو خائن وما زال، لماذا؟ اليوم نعاني تيار الإخوان المسلمين وما نتج عنه من تيارات أخرى، ونحن نتّهم هذا التيار بأنه تيار إرهابي تكفيري في الحد الأدنى، ويقتل في الحد الأقصى، ماذا أنتجنا من تيار ضد هذا التيار؟ لا شيء، والمثقف يكتفي فقط بإدانة الإرهاب، ويمتنع عن إزالة هذا الإرهاب، كيف يمتنع؟ هنا تكمن الخيانة، فهو يريد أن يبعدك من التفكير في ظاهرة الإرهاب، ويجرف عقلك في قضايا أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، مثل الفقر والجهل وغيرهما، هنا الخديعة والخيانة؛ لأن هذه الأمراض موجودة قبل الإرهاب وبعده، ولها حلول أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، فالمثقف يقول دائمًا: إنه يوجد إرهاب، لكن ما سببه؟ سببه الفقر. هذه خديعة، لأن «بن لادن» و«الظواهري» وأغلب قيادات الإخوان مليونيرات ومليارديرات، فعلى المثقف ألا يكون خائنًا، وأن يعمل على تأسيس تيار فكري مناقض لتيار الأصولية الدينية، وهو لن يفعل، وأذكرك بما حدث لنجيب محفوظ، من شاب جاهل طعنه بسكين، ومحفوظ سأله: إنْ كان قرأ أولاد حارتنا؟ فقال لا. فمن الذي قرأها؟ الذي قرأها مثقف قال للشاب: أن يقتل نجيب لأنه كافر، نجيب أدى دوره التنويري بكتابة رواية «أولاد حارتنا»، وأنا أول من كتب عنها في جريدة «وطني» حين انتهى من نشرها مسلسلة في الأهرام؛ لأني لمحت الدور التنويري في هذه الرواية، لأنه جعل من عرفة رمز العلم، وجعله لقيطًا، ولا أحد يعرف من أين جاء ولا أين ذهب، وهذا يعني أننا ضد العقل والعلم، ولعل السؤال هو: أين دور المثقف الذي عاصر نجيب محفوظ، لقد أمضى المثقفون وقتهم في الالتفاف حول نجيب محفوظ والتسامر معه، من دون أن ينجزوا ما عليهم، وحين لمح نجيب الدور المتخاذل للمثقف من حوله، أدرك أنه لن يكون سندًا له، وبالتالي لا نطالب نجيبًا بأكثر من أنه كتب الرواية ونشرها. فهل يقتل نجيب محفوظ نفسه من أجل مثقف كلُّ دوره أنه يتباهى بصداقته بنجيب، أم أن المسألة هي الالتفاف معًا لتغيير الذهنية المصرية؟

السيسي والعادات الذهنية

جمال عبدالناصر

● في الوقت الذي يُتهم فيه المثقف بالتعقيد والتقعُّر، فإنك ترى أن مهمة المثقفين في الأحزاب هي تبسيط الأفكار للجماهير وجعلها أكثر شعبية، وأن مشكلة الأحزاب أنها بلا فلاسفة. أليست هذه مفارقة للواقع؟

■ نعم مفارقة، أحزاب بلا فلاسفة هي أحزاب بلا دور، لا بد أن يكون للأحزاب فلاسفة، وإلا فإنها تنتهي، ومن هنا ينتصر الحزب بمعارضة السلطة فقط، متخليًا عن دوره في تنوير الجماهير، ويلزم التنويه إلى أننا نعيش في عصر الجماهير بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية، المفارقة أن هذه الثورة ليست من إنتاج الجماهير، ومع ذلك وجدت لخدمتهم، ونحن أبعدناها عنهم، ونوضح أن الثورة العلمية والتكنولوجية أفرزت مصطلح mass، وهو له معنيان: أحدهما كتلة، والآخر جمهور، وأنا اخترت معنى الجمهور؛ لماذا لأنه نشأت ألفاظ بها لفظ mass مضاف إليه لفظ آخر، كأن نقول:mass- media  (وسائل إعلام جماهيرية)، mass- communication (وسائل اتصال جماهيرية)، mass-socity  (مجتمع جماهيري)، mass- man (رجل الشارع).

نحن نقول: تنمية، ولا يمكن وجود تنمية من دون رجل تاريخ مستنير، ومن يقوم بتنوير رجل الشارع؟ المثقف الذي تركه، وذلك كي يتفرغ للاصطدام بالسلطة، وهذا ما أسميه: وهم الصدام، فحقيقة الأمر أن المثقف والسلطة في مركب واحد، والسخرية أن المثقف منشغل بأسئلة وهمية مثل: هل السيسي فقد شعبيته؟ ونسي المثقف أن دوره هو تنوير الجماهير كي تساند السيسي في إصلاحاته السياسية والاقتصادية، فالسيسي منشغل بتغيير العادات الذهنية المتخلفة، فهو يقول: إن المشكلة هي الإرهاب والانفجار السكاني، وتعني كلمة انفجار سكاني وجود عادات ذهنية متخلفة، مثل القول بأن كل ولد يأتي ومعه رزقه، ومن المفروض تغيير هذه العادات الذهنية، وهذه مهمة المثقف وليست السلطة السياسية.

● كيف جعل الاستعمار العقل العربي الذي حمل مشعل الحضارة لأكثر من خمسمئة عام مصابًا بالعجز عن ممارسة العقلانية؟

■ هذا سؤال جيد، لكن معناه أننا نُرجِع التخلف إلى الاستعمار، وهذا خطأ، فالاستعمار في حقيقته استثمار، عندما يجد إنسانا متخلفًا ينجذب نحوه؛ لأن من الممكن استثماره، فهو جاهز ومستعد لذلك؛ إذ إنه ليس لديه مقاومة، ولذا من المفروض القول بأن التخلف ليس سببه الاستعمار، ولكن عوامل داخلية مرتبطة بخيانة المثقف، المفكر الجزائري مالك بن نبي له عبارة ملهمة تقول: إن العالم الإسلامي لديه القابلية للاستعمار، وهذا معناه أن العالم الإسلامي جاذب للاستعمار، وذلك لأنه سلبي، فإذا أردت ألا تتخلف فلا بد من تفجير الطاقات الإبداعية، ولكن تفجير هذه الطاقات ممتنع بسبب وجود محرمات ثقافية، والمحرمات الثقافية ليست من صنع الاستعمار، ولكن من صنع الشعب والجمهور وخيانة المثقف. ومن ثم فربط التخلف بالاستعمار هو من بين الأوهام التي يعيش عليها المثقف لتبرير خيانته، فعلى سبيل المثال ستجد من يقول: إن الشعب المصري أو العربي متدين بطبعه، فهل الشعب الألماني أو الإنجليزي أو الياباني ليس متدينًا؟ للأسف هذه أوهام عظيمة كاذبة لتبرير خيانة المثقف لدوره في مجتمعه.

السلطة تنحاز

● على الرغم من أنك تقول: إن المثقف والسلطة شريكان في مركب واحد، فإنك تلقي باللائمة دائمًا على المثقف متهمًا إياه بالخيانة، وتبرئ السلطة رغم امتلاكها الأدوات والإمكانيات؟

■ السلطة هي ثمرة تداخل عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية، وليست هي السبب، فمثلًا السادات بوصفه سلطة سياسية اعتمد على التيار الإسلامي لضرب اليسار والناصرية، هنا السلطة وجدت نفسها أمام تيارين فاختارت واحدًا، وأنا الأستاذ الوحيد الذي فُصل من كليات التربية عام 1981م، وجاء في تقرير سبب الفصل، وهو تقرير صادر من مخابرات القصر الجمهوري: هذا الأستاذ أخطر أستاذ على النظام في الجامعات. فالنظام اعتبر عدائي للتيار الإسلامي عداء له، وهذا غباء؛ لأنه لو تركني وترك أمثالي فإنه سيجدهم وقتما يحتاج إليهم، والدليل أنه حين قتل الإسلاميون السادات لم يجد النظام تيارًا بديلًا للتعامل معه غير الإسلاميين، فاضطر مبارك إلى التواطؤ على وجود الإسلاميين، والسير على نهج السادات، فسلم لهم البلد. المقصود أن الذي يخلق التيار هو المثقف، والذي يستعين بالتيار هو السلطة، ومن ثم فالسلطة لا تخلق، لكنه المثقف يفعل ذلك، وحين يتراجع المثقف عن دوره فإنه يصبح خائنًا.

● طالبت باقتحام المحرمات الثقافية كما حدث في أوربا، بينما كانت أوربا الناهضة في ذلك الوقت تحتل الأميركتين وثلاثة أرباع المعمورة، بينما المجتمعات الشرقية تعيش حالة من التقزم والتضاؤل بسب الاحتلال الأوربي الممنهج منذ نحو خمس مئة عام حتى الآن، فكيف يمكن اقتحام هذه المحرمات الثقافية؟

■ لديك محرمات ثقافية تخصك، فإنك ممنوع من تأويل وفهم النص الديني، وممنوع من قبول أي نظرية علمية تقف ضد ظاهر النص الديني، ومن ثم أنت تقف ضد نظرية التطور، بينما تقبلها أوربا بفضل الإصلاح الديني والتنوير، حين تحدث تيارًا تنويريًّا تستطيع أن تحدث تطورًا، وعدم اقتحام المحرمات الثقافية يجعل الباب مفتوحًا لاستثمارك في كل ما يتصل بالاستثمار، بعد ذلك تتوهم أن سبب تخلفك مردود إلى ما نسميه الاستعمار، وهو في حقيقته استثمار.

الخير وهم

● وصفت في كتاب «مستقبل الأخلاق» أو «الميتافيزيقا والأخلاق» الخير بأنه وهم.. فكيف ذلك؟

■ الخير وهم، حين تبحث في معنى الخير فأنت تبحث عن الجذور، فأنت تحدد هذا خير وهذا شر، ومع الوقت والتطور تجد أن ما كنت تقول عنه: إنه خير أصبح شرًّا، وما كنت تصفه بالشر أصبح خيرًا، ومن ثم فجذور التفرقة ليست في الخير والشر، ولكن في الأسباب التي تدفعك للقول بأن هذا خير وهذا شر. مثلًا حين يكون الناس في جلسة ويأتيهم خبر مفرح يقولون: «خير اللهم اجعله خير»، أي أنك تصنع معنى الخير، أي أنه لا يوجد خير في حد ذاته، ولكننا الذين نحدد هذا الخير، فالخير من ثم وهم، فحين أعطي مساعدة لشخص فإننا نقول: إن ذلك عمل خير، أما الأوربي فيقول: إن هذا ليس عمل خير؛ لأننا نساعده على التقاعس.

● ما هو تفسيرك لأن يتبنى الأزهر المذهب الأشعري، وهو أكثر المذاهب تشددًا وإعمالًا للنقل لا العقل، وأن تتبنى الكنيسة المصرية المذهب الأرثوذكسي القبطي، وهو أكثر المذاهب المسيحية تشددًا ورفضًا لكل ما هو جديد؟

■ المناخ منذ القرن الرابع الميلادي في مصر هو مناخ أصولي، وذلك منذ أن حاولت الفيلسوفة هيباتيا في مكتبة الإسكندرية أن تمزج بين الأفلاطونية الحديثة والمسيحية، فكان رد فعل المسيحيين هو قتلها، وانتشار فعل التشدد واللاعقل بسبب خيانة المثقف الذي يبتعد من طبيعة الصراع، ويخلق أفكارًا وهمية يلقي عليها بتبريراته لخيانته، فالمثقف الأوربي لم يكن خائنًا لقضاياه، ومن ثم أمكن لأوربا أن تنهض من جديد، وأن تقيم الإصلاح الديني وتدخل في عصر التنوير، فسارتر كان يقول: «طالما أنا عائش في الحرب العالمية الثانية فأنا مسؤول عن إشعالها»، هذا هو تحمل المسؤولية تجاه القضايا الاجتماعية والوطنية وعدم التبرير والهروب.

● ما الذي دفعك للصدام مع السادات؟

أنور السادات

في عام 1974م أصدر السادات قانون الانفتاح الاقتصادي الذي يقول: «استيراد بدون تحويل عملة»، بمعنى أنك حين تستورد ستدفع دولارات، لكن لا تذهب إلى البنك كي يعطيك العملة، بل اذهب إلى السوق السوداء واشترِ الدولار وتعامل مع الأجنبي من دون المرور بالبنك، أي دون تحويل العملة عن طريق البنك، مما جعل البنوك لا تمتلك دولارات، ولكن السوق السوداء هي التي تمتلكها، هذه السوق التي يسيطر عليها مدرس تربية رياضية متفاهم مع شركات توظيف الأموال، والتي صدرت بفتوى دينية حرمت التعامل مع البنوك، هذه الشركات التي أسميتها بالرأسمالية الطفيلية، أي أنها تتعامل مع غير المشروع، وفي هذه الحالة توجد علاقة عضوية بين الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية، ومن ثم لم أصمت. وكانت لي علاقاتي في الخارج، فبدأت أتساءل عن مدى صحة فكرتي، ووجدت تأييدًا لها في الخارج، وتأكد لي أن هذه العلاقة اتسعت ووصلت إلى الدول الأخرى، وكان هجومي عليها ضمنيًّا يعني هجومًا على السادات باعتباره الحاضن لهذه العلاقة العضوية، وكان صديقي وقتئذ هو وزير الخارجية بطرس غالي، وكان الإسرائيليون قد بدؤوا يدعونني لمؤتمرات فلسفية في إسرائيل، فكنت آخذ الطلب الذي يأتيني وأذهب به إلى السلطة فتراوغ؛ لأنها وقعت على معاهدة من بين بنودها التطبيع الثقافي، فلا تعطيني الموافقة على الطلب إلا بعد أن تقوم الطائرة من المطار. تكرر هذا الأمر ثلاث مرات، كان آخرها مع عمرو موسى حينما كان وزيرًا للخارجية.

● قمت بزيارة إسرائيل، ودعوت للتعاون مع أساتذتها الجامعيين، فما ظروف هذه الزيارة وكيف تعامل الأمن معها؟

■ كان رأيي أن الشرق الأوسط محكوم بأصوليات ثلاث، هي الإسلام والمسيحية واليهودية، هي أصوليات ثلاث حاكمة للمنطقة، وأصحاب هذه الأصوليات أهل حرب؛ لأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ولكي ننهي الحروب، ونتخلص من الأصوليات الثلاث، ونحلّ الصراع العربي الإسرائيلي،

فإن ذلك لن يحدث إلا بتأسيس تيار علماني، هذه العبارة قلتها بعد أن اعتُمد إعلان كوبنهاغن، بعدها طلبت الكلمة وقلت رأيي فهاجمني اثنان؛ أحدهما أصولي يهودي والآخر أصولي إسلامي، هكذا لم يتفقا معًا إلا على مهاجمتي، والسبب أنني أطرح بديلًا غيرهما، أطرح العلمانية كاختيار ينهي الصراعات والحروب والإقصاء والنفي، فما كان من هما إلا أن هاجماني وطلبا إعادة صياغة البيان بحيث يضيفان عليه نكهة أصولية أكثر وأعمق، كان ذلك عام 1975م في كوبنهاغن.

ومن ثم جاء ذهابي إلى إسرائيل امتدادًا لتنفيذ هذه العبارة، فرأيت أنه عليَّ أن أذهب إلى إسرائيل كي أقول لهم: إن الحل في إقامة العلمانية، وهناك التقيت عميدة كلية التربية في تل أبيب، فقالت لي: لقد قرأنا مشروعك عن الإبداع في التعليم، ونحن متحمسون لإدخال الإبداع في التعليم للخلاص من الأصولية الدينية، فكيف نعمل معًا على ذلك؟ فقلت لها: أن تأتي إلى القاهرة، إلى حيث كلية التربية التي أعمل بها، لتلتقي عميد كلية التربية في مصر، وحين عدت إلى القاهرة كلمت عميد كلية التربية، لكن لم يمضِ كثير من الوقت حتى وجدتني قد عُزلت من عملي في نهاية أيام السادات.

نجيب محفوظ

● ما قصة مؤتمر «وحدة المعرفة»؟

■ في عام 1980م دعوت لإقامة مؤتمر دولي بعنوان: وحدة المعرفة، دعوت لحضوره كبار الفلاسفة والعلماء، وكانت فكرتي أن جميع العلوم متداخلة، ولا يوجد فارق بين علوم طبيعية وعلوم حيوية، وكانت نيتي أن أغيِّر في المناهج والمقررات في الجامعات، وكان الفلاسفة موافقون على إجراء التغيير في المناهج، حتى إن رئيس جامعة كندا قال لي: إنه متحمس لتنفيذ المشروع. المهم أنه في هذا المؤتمر أرسل إليَّ اثنان من الفلاسفة والأساتذة الجامعيين الإسرائيليين طالبين الحضور للمشاركة، فحملت الطلب وذهبت به إلى رئيس الجامعة، فقال لي: إنه لا علاقة له بالموافقة، فحملت الطلب وذهبت به إلى صديقي بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية، فسألني: هل أنت موافق؟ فقلت: نعم، فقال: وأنا أيضًا، فقلت له: اكتب لي على الطلب بالموافقة، فضحك قائلًا: إن خالي قال لي أن أوافق بـ«البق» فقط.    

● في كتابك «الأصولية والعلمانية» عرَّفت الأصولية بأنها نظرية في المعرفة وليس السياسة، ثم ذهبت إلى أن المودودي هو المنظِّر الأول للأصولية، ومن بعده سيد قطب والخميني صاحب «الحكومة الإسلامية»، فكيف ذلك؟

■ هل أنشأ حسن البنا حزبًا سياسيًّا؟ وهل فعل ذلك أبو الأعلى المودودي أو سيد قطب؟ بالطبع لا، ومن ثم فالسلطة تستثمر هذا الاتجاه لصالح أغراض تخصها هي، وأذكر أنني جاءتني دعوة إلى باكستان عام 1975م، للمشاركة في مؤتمر فلسفي هناك، لكنني لم أستجب، وقلت: إن هذه دولة دينية وأنا علماني، فطلب السفير الباكستاني في القاهرة مقابلتي، وحين سألني عن سبب رفضي قلت له ذلك، فقال: إن باكستان دولة دستورها ينص على الدين لكن أسلوبها علماني، في حين أن الهند دولة دستورها علماني، في حين أن أسلوبها ديني، فوافقت وذهبت متحدثًا عن الإصلاح الديني، فلاحظت أن كبار الأساتذة صاروا ضدي، بينما الشباب صاروا معي. وبدأت وسائل الإعلام تحكي عن الصراع الذي حدث، وطلبوا مني أن أبقى لما بعد المؤتمر كي أرى باكستان على مهل، وبعد مناقشات ورحلة طويلة خرجت بنتيجة واحدة، وهي أن أبا الأعلى المودودي وكان لا يزال على قيد الحياة وقتها، كان يدعو لأصولية دينية، وأن تعاليمه تدخل البيوت بدلًا من تعاليم محمد إقبال، لأن إقبالًا لديه انفتاح على الغرب، في حين المودودي يرفض الغرب، وكان ذو الفقار علي بوتو وقتها هو الحاكم في باكستان، وقد استقبلنا في حفل خاص بالأساتذة، كان النظام علمانيًّا، فحدث انقلاب ضياء الحق على «ذو الفقار بوتو»، وأصبح مستشار ضياء الحق هو أبو الأعلى المودودي، في حين قتل بوتو.

الفيزياء اليهودية

● إلى أي مدى ترى أن صراع الحضارات ليس قائمًا على صراع الأصوليات؟

■ هي حضارة واحدة وليست حضارات، حضارة واحدة تتحرك من الفكر الأصولي إلى العقلاني، ومن ثم تتأثر المجتمعات بهذه الحركة، فمن يقترب نقول عنه: متقدم، ومن يبتعد نقول عنه: متخلف، والتعدد هو تعدد ثقافات في إطار حضارة واحدة، فالصراع هو بين الثقافات والحضارة الواحدة، تدخل فيها وتفتحها ولا تعرضها، هذه هي القضية، وأهم شيء لدى اليهود هو أن يتحكموا في الحضارة الواحدة، من خلال إبداعهم في النظريات العلمية والفلسفية؛ لأنهم بوصفهم أقلية ولكي يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، فإنهم يدافعون عن الحضارة ويؤسسونها أيضًا، وفي القرن العشرين نشأت الفيزياء الحيوية، وكانت تسمى اليهودية؛ نظرًا لأن أغلب مبدعيها كانوا من اليهود.

● أتيح لك أن ترى عددًا متباينًا من الأنظمة السياسية بدءًا من الملك مرورًا بالناصرية والساداتية والمباركية، فماذا كانت مواقفك منها؟

■ كنت ضد الملكية؛ لأن الفساد كان منتشرًا، وأنا كشاب كنت أريد أن تكون لي مكانة، فكنت منزعجًا من الفساد، لكن قامت الثورة، وهي ثورة جيش، فأخذت أتأمل كيف سيتصرف عبدالناصر، فوجدت أنه ضد الإخوان، وكنت مع عبدالناصر لأنه رجل وطني لا يفرق بين الأديان، فظللت مؤيدًا له، إلا أنه كان عضوًا بالإخوان مثلما كان عضوًا في «حدتو»، واكتشفت أنه التقى الهضيبي قبل الثورة وأخبره أن الجيش سيقوم بالثورة، لكن الهضيبي طلب منه أن يؤجل الأمر مدة خمس سنوات فقط، حيث سيكون الإخوان قد تمكنوا من وضع أيديهم على التعليم، فتقع البلاد في أيديهم وحدها، لكن عبدالناصر أخبره أنه مضطر للإسراع بالأمر لأن الملك لديه علم بأمرهم، لكنه يَعِدُه بأن يجعل للإخوان السيطرة على التعليم، ومن ثم عيّن كمال الدين حسين وزيرًا للتعليم، فكان أول قرار له أن ألغى تدريس الفلسفة من المدارس ففسد التعليم، ولم نكتشف ذلك إلا قرب النكسة، ومن ثم اتصل عبدالناصر بكمال الدين حسين وطلب منه أن يفسح لي المجال في مجلة روز اليوسف؛ كي أتحدث عن التعليم وإصلاحه، فأفسح لي صفحات روز اليوسف كي أكتب رؤيتي، وبعدها عيّنني عبدالناصر مستشارًا سريًّا له في شؤون التعليم، فكان لي مكتب في القصر الجمهوري، لكن لا أحد يتعامل معي إلا الساعي أو الفراش، كان يحضر الأوراق فأقرؤها وأبدي الرأي ثم أمشي، ظل هذا الأمر لمدة ستة أشهر، بعدها مات عبدالناصر. أما السادات فقد عزلني من وظيفتي كأستاذ جامعة عام 1981م، في حين أن مبارك حاصرني، فكان ممنوع علي أن أكتب في الأهرام، وقد حاول أسامة سرايا لكنه فشل، ومبارك كان متلاحمًا سرًّا مع الإخوان، فعمل خدعة كبيرة؛ إذ جعلها في العلن جماعة محظورة، لكنها في السر كانت جماعة محظوظة.

حسني مبارك

● هل كان مبارك يستحق الثورة عليه؟

■ نعم، فقد أجهز على طموحات الشباب، فكان الشباب لا يستطيع أن يتزوج أو يعمل أو حتى يحلم، ومن ثم كان شبابًا محبطًا، ومن ثم قاموا بالثورة عبر تقنيات الثورة التكنولوجية والإلكترونية الحديثة.

بريطانيا إسلامية

● ترى من أين أتت داعش، وما مستقبلها؟

■ هي تفريعات من الإخوان؛ لأن الغاية واحدة عند كل الفروع النابعة من الأصولية الإسلامية، كلها ينشد الخلافة الإسلامية، كانت الخطة هي القضاء على الكتلة الشيوعية، ثم الرأسمالية، وهم نجحوا في الأولى، وفي الطريق للقضاء على الثانية، ولكن ترمب على وعي بهذه المسألة، وعلى الضد من أوباما، الإخوان تغلغلوا في جميع مؤسسات دول العالم، فأصبحت دول العالم من حيث لا تدري محكومة بفكر الإخوان. جمعيات حقوق الإنسان لعبت دورًا مهمًّا في ذلك؛ لأنها تبنت الدفاع عن الإخوان باسم الحريات، فكلما يتم القبض على الإخوان تطالب بحريتهم. ومنذ نحو أربعة أعوام سألني أستاذ فلسفة إنجليزي: تفتكر بريطانيا من الممكن أن تكون دولة إسلامية بعد عشر سنوات؟ وفي مؤتمر بإسبانيا منذ نحو خمس سنوات قالت أستاذة سويدية: إننا في السويد نحاول أن تكون الشريعة هي المادة الثانية في دستور السويد.

● في رأيك، ما أبرز مفارقات الواقع الثقافي العربي؟

■ المفارقات الشهيرة التي أؤكد دائمًا أنها موجودة في الثقافة المصرية، ورأيت أهمية مناقشتها في الاحتفالية التي أعدَّتها وزارة الثقافة لتكريمي، هي: مفارقة ابن رشد، وتعني أن ابن رشد ميت في الشرق وحي في الغرب، ومن ثم فليس لدى العالم العربي تيار رشدي. ومفارقة الديمقراطية وهي تعني ألا ديمقراطية بلا علمانية. ومفارقة التنوير وتعني أننا نزهو بأن لدينا تيارًا تنويريًّا في حين أنه منعدم بحكم سيادة الأصولية الدينية التي تعارض التنوير بلا تيار مضاد يمنع سيادتها. وأخيرًا مفارقة الإرهاب، التي تعني أن الإرهاب ديني في حين أننا نتعامل معه على أنه ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية، الإرهاب أصبح ظاهرة كوكبية ولا بد من مواجهته كونيًّا.

● هل نحن شعوب تؤمن بعبادة الأسلاف أم لدينا فوبيا من الحداثة؟

■ هناك عبارة تقول: نحن محكومون بالموتى وليس الأحياء. أي أننا محكومون بالتراث، فأي فكرة جديدة ناقشها مع التراث، فإن اختلفت ألغِها. ومن ثم فالحداثة لدينا مرفوضة، ومن ثم الغرب مرفوض، ورفض الغرب يعني العودة إلى الأجداد، أي الدخول في التراث.

مقارها تشبه بيوتًا مهجورة في وسط المدن..  مجامع اللغة العربية تعيش في غربة على هامش العصر

مقارها تشبه بيوتًا مهجورة في وسط المدن.. مجامع اللغة العربية تعيش في غربة على هامش العصر

هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن العربي؟ سؤال تستدرجه القطيعة بين هذه الكيانات المعنية بحراسة اللغة، والواقع الذي يتجدد في كل لحظة، القطيعة التي يستشعرها على نحو واضح، المثقف والمختص والرجل العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي، بدءًا من مجمع دمشق عام 1916م، ومجمع القاهرة (1932)م، مرورًا بالمجمع العلمي العراقي (1947م)، والمجمع الأردني (1961م)، والمجمع التونسي (1983م)، والمجمع السوداني (1993م)، وأخيرًا مجمع اللغة بالشارقة (2016م)، فضلًا عن كثير من المؤسسات والروابط المعنية باللغة، إلا أن أحدًا لا يشعر بحضور أي من هذه المجامع والروابط والمؤسسات في الحياة الاجتماعية والثقافية، على الرغم من الأدوار الأساسية التي أنشئت من أجلها، وعلى الرغم من أهمية المعاجم والقواميس التي عكف شيوخ اللغة الكبار على إنجازها… فقد ظلت مغلقة على نفسها حتى إن بعض مقارها يكاد يكون أشبه ببيوت مهجورة في وسط المدن، لذلك لا عجب أن تسأل عن مقر مجمع ما للغة في عاصمة عربية ولا تعثر على إجابة شافية، الأمر الذي يعكس حال العزلة الذي أضحت تعيشه هذه المجامع ومن ينتسب إليها، العزلة التي راحت تتفاقم مع تقدم ثقافة العصر وتقنياته، فما تقترحه هذه المجامع من معادل لغوي لكثير من مفردات العصر لا يلقى الاستحسان، إما لوعورة الكلمة المقترحة، أو لعدم تعبيرها عن روح المفردة الجديدة، إضافة إلى التحديات التي تواجهها هذه المجامع، ومنها ضعف التمويل وعدم صدور قرارات سيادية تلزم بتوصياتها.  فهل تجاوز الزمن فكرة مجمع اللغة، أم أن خروج العرب من دائرة الإسهام الحضاري جعل لغتهم ومؤسساتها خارج اهتمام المثقف وليس فقط المواطن العادي؟

محمود فهمي حجازي: التمويل لا يتناسب مع الطموحات

مجمعا اللغة العربية في القاهرة وفي دمشق أُسِّسَا على نمط مجمع اللغة الفرنسية في باريس، ومن ثم فقد أخذ العمل فيهما عمقًا لغويًّا أكثر، ومن ثم تمثل دوره الثقافي في عمل ملتقيات لغوية من حين إلى آخر، وهناك اتجاه قوي الآن لعمل ندوة شهرية بدءًا من أكتوبر المقبل عن موضوعات لغوية أو ثقافية سواء في الإطار المصري أم بالتعاون مع جهات عربية مماثلة. المجمع له دور قومي قديم في تحقيق التراث العربي، وهذا موجه إلى جمهور الباحثين، كما أن له دورًا في صناعة المعاجم المتخصصة في الأنثربولوجيا والهندسة والرياضيات، فضلًا عن معاجم اللغة التي تهم جمهور المثقفين، ومن بينها المعجم الوسيط الذي يعد أهم معجم صُنِّف في العصر الحديث، كما أن المعجم الوجيز كان يُسلَّم لتلاميذ المدارس في دول عربية عدة من بينها مصر وتونس.

وأكبر المعوقات التي تواجه المجمع في أداء دوره المنوط به أنه يعمل وحده، بوصفه مؤسسة متخصصة ووحيدة في هذا المجال، في حين أن الأكاديمية الفرنسية، أو المجمع الفرنسي الذي أُنشِئ المجمع العربي على غراره، تعمل إلى جانب كثير من مراكز البحوث العلمية في الجانب اللغوي، وليس لدينا في بلادنا مراكز حقيقية متخصصة في ذلك، حتى المركز القومي للبحوث لا علاقة له باللغة، والجامعات بها أقسام لغة عربية لكنها ليست متخصصة في دراسات وأبحاث وتاريخ اللغة، وفي الوقت الذي توجد فيه دُور نشر متخصصة في نشر كتب لغوية وتوزيعها مثل دودن في ألمانيا ولاروس في فرنسا، مما يحقق عائد يمكن إنفاقه على الباحثين وأبحاثهم، فإن هذا غير موجود في بلادنا، ومن ثم فالتمويل أغلبه من الحكومة؛ إذ يتبع المركز وزارة التعليم العالي، وإن كان تدخل الوزارة هامشيًّا لدرجة يمكننا القول من خلالها: إن المجمع جهة مستقلة، فوزير التعليم العالي يفتتح المؤتمر السنوي، ويعتمد قرارات المجمع وانتخابات الأعضاء الجدد. ومن المعوقات عدم وجود سياسة لغوية في البلدان العربية، والمقصود هنا تحديد المجالات التي تستخدم فيها لغتنا العربية، وكيف يمكن إبرازها والتأكيد على هويتنا من خلالها، ومن ثم فلا بد من وجود قوانين تنظم وضع اللافتات واللغة المستخدمة فيها، وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في الإعلام والمدارس والتعليم بشكل عام. وفيما يخص التمويل فهو أمر يحتاج إلى تأمل؛ إذ إنه ضئيل ولا يتناسب مع الطموحات الموجودة، لأننا في المجمع نتبع القوانين المصرية، والقوانين تكبله في تعامله مع الجهات الخاصة أو تلقي تبرعات منها.

عضو المجمع المصري

منصف الوهايبي: المجامع تنهض بترتيب العلاقة بين اللغة وتراثها

ينبغي أن نقرّ، ونحن نمهّد السبيل إلى جواب سائغ مقبول، أنّه ليس من حقّ أيّ منّا أن يستصدر حكم قيمة، على مجامع اللغة العربيّة، وبيوت الحكمة، في استجوابات خاطفة  كهذه؛ وهي المؤسّسات التي تؤدّي عملها في ظروف مادّية صعبة. على أنّ ما يعنينا أنّ هذه المؤسّسات تواجه علميًّا قضايا لغويّة شائكة، لعلّ من أظهرها أنّ ضبط حقيقة الكلمة أو ماهيتــها أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى نفس العائلة المفهوميّة الكبرى نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة… وما إلى ذلك، عمل لا يخلو من صعوبة في ثقافة العرب المعاصرين؛ لأسباب: من أبرزها أنّ المصطلح مادّة لغوية بالأساس، وليس بالميسور الإلمام بأطرافها والوقوف على نموّها وتطّورها في معاجم مثل معاجمنا تستدعي الداني والقاصي، وتجمع الشاذة والفاذّة؛ فإذا الكلمة تقفز من عصر إلى عصر، ومن معنى إلى معنى، عبر فجوات فاغرة، ومتاهات لغويّة متشعّبة الأصول والفروع، قد لا يقدر الباحث على تخطي عقباتها ورياضة صعابها. والكلمة شأنها شأن المصطلح، لا تنهض بوظيفتها، إلّا إذا أدّت عن «المفهوم» الذي وضعت له، بدقّة من جهة، واتصلت بأفهام القرّاء من جهة أخرى، ودخلت حيّز الاستعمال. وعلى أساس من هذه الوظيفة المنوطة بها، نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر، كلّما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة وأوفى دلالة.

إذن قد يكون مردّ الإشكال في مستوى أوّل إلى أنّ معاجمنا عامّة تنقلنا من عصر إلى عصر؛ دون أن يعبأ صاحبها بما انسدل بين هذه العصور من كثيفِ حُجُب الزمان والمكان. صحيح أنّنا نكتب بلغة «واحدة» هي الفصحى. ولكنّ الأمر في واقعنا العربي ليس بهذه البساطة، فثمّة مؤثّرات اللغات الأجنبيّة واللهجات المحليّة في كلامنا ونصوصنا. وهذا ممّا لا تتفطّن إليه المؤسّسات المذكورة، أو هي تتحاشاه، لأسباب قد تكون دينيّة «قداسة» اللغة العربيّة، أو سياسيّة. أليس في هذا الاستعمال اللغوي المختلف أو المتنوّع؛ ما يؤكّد أنّ الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد؛ وإنّما تغيّر ما بنفسها توسيعًا أو تقييدًا أو تحويلًا؟
فهذه «العربيّات» يجري أكثرها على أصول العربيّة وقوانينها في اشتقاق الصيغ وتصريفها؛ على نحو يتيح لنا الرجوع إلى صورة الكلمة أو وزنها أو صيغتها أو بنائها، ولكنّ استعمالها «يختلف» من بلد إلى آخر.

وهذه المؤسّسات هي التي تنهض بإعادة ترتيب العلاقة بلغتنا وتراثها؛ بل إعادة وصفها دون تهيّب.

عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)

وفاء كامل: لا يوجد قانون يلزم بالأخذ بتوصيات المجمع

رسالة المجمع تكمن في الحفاظ على اللغة وسلامة نطقها على ألسن الجميع، والوفاء بمتطلباتها من مستلزمات الحضارة والعلم ومصطلحاتهما الحديثة، إضافة إلى دراسة تاريخ اللغة وتطورها عبر مراحلها المختلفة. المشكلات التي يواجهها المجمع أنه لا يوجد قانون ملزم لبقية هيئات المجتمع بالأخذ بتوصيات المجمع، كان الدكتور فتحي سرور قد شرع في إعداد قانون لمجلس الشعب بهذه الصيغة لكن الأمر توقف ولم يكتمل. وضعف التواصل بين المجمع وغيره من مؤسسات المجتمع يعد أكبر المعوقات، فكثير من المحاضرات والأبحاث التي تُنشَر في مجلة المجمع لا تصل إلى الناس، وكم الترجمات عن المنجزات العلمية أو غيرها كثير، وأي دراسة علمية تحتاج إلى وقت وجهد وتأني، وهنا تكمن المشكلة الكبرى، فالمجمع يبدو أداؤه بطيئًا، ويضم مجموعة من كبار السن غير قادرين على ملاحقة ما يحدث، في حين الترجمات المتوالية لا يمكن توقيفها إلى حين الانتهاء من ترجمة المصطلحات، ومن ثم تنتج لدينا مصطلحات عُرِّبت بمعرفة المترجمين على عجل، ورغم أنها لا تحمل الصواب الكافي لدلالتها المعرفية إلا أنها تذيع وتنتشر إعلاميًّا، ويصبح من الصعوبة تغييرها في أذهان الناس، ولا يتقبل أحد ما يقدمه المجمع من تصويبات أو مصطلحات.

أعد المجمع قواميس في الأنثربولوجيا والهندسة والفيزياء والطب وغيرها، لكن أحدًا لا يعود إليها ولا يلتزم بها، وقد طالبت فور انضمامي للمجمع منذ ثماني سنوات بضرورة عمل لجنة لمراجعة ما ينشر في الصحف والمجلات؛ لجنة تجتمع بشكل يومي، وترد على الأخطاء وتصوِّبها، ولا يكون موعد اجتماعها أسبوعيًّا مثل بقية لجان المجلس، لكن هذا الاقتراح ذهب أدراج الرياح، ربما لمعوقات إدارية أو بيروقراطية. أكبر المشروعات التي يعمل عليها المجمع هو المعجم التاريخي للغة العربية، وهذا قام به الألمان والفرنسيون في بلادهم في غضون أربعين سنة، شاركت فيه مجموعات كثيرة وكبيرة، بدءًا من أساتذة الجامعات مرورًا بالباحثين في اللغة وصولًا إلى مدرسي اللغة في المدارس.

هذا المشروع بدأه الألماني فيشر حينما كان مقيمًا في مصر في الأربعينيات، وكان يعمل بطريقة التسجيل على الجذاذات الورقية، وحين سافر إلى بلده قامت الحرب وفقدنا الجذاذات التي جمعها. أنا أول عضو نسائي بالمجمع، وأيضًا أول امرأة عملت على التاريخ اللغوي في رسالتي للماجستير في الوقت من 1970 إلى 1974م عن «كعب بن زهير: دراسة لغوية»، وكانت وقتها جامعة القاهرة قد قررت أن يقوم كل باحث ماجستير على دراسة شاعر أو أديب من القدماء، وقمت بدراسة دلالية للمعاني والأضداد والمترادفات، وسجلت كل المعجم اللغوي لكعب بن زهير في نحو 525 صفحة من أصل الرسالة المكونة من 725. في مطلع الألفية الجديدة، بدأ تعاون بين مجمع اللغة العربية وجامعة القاهرة من خلال مشروع المعجم التاريخي، هذا الذي تبرع حاكم الشارقة ببناء مبنى خاص به هو واتحاد المجامع العربية، وتعهد بأن ينفق على أبحاث المعجم التاريخي، التي تهدف إلى دراسة اللغة في العصور الأولى، ثم تطور صيغها في العصور التالية حتى وقتنا الحالي، وهو أمر يحتاج إلى تمويل كبير لأنه بحاجة إلى تكاتف كثير من الفِرَق البحثية، وإذا كان الألمان والفرنسيون أنجزوا المعجم التاريخي للغاتهم في أربعين عامًا، فأنا متفائلة أننا قادرون على إنجازه في زمن لن يتجاوز عشرين عامًا، وعشرون عامًا في عمر الشعوب رقم ليس بكثير.

أول عضو نسائي في المجمع المصري

علي السامرائي: قضايا لا طائل منها

من وظيفة المجامع اللغوية إنشاء تواصل بين لغات العالم بهدف نقل المنجزات الثقافية والفنية والحضارية والإفادة منها في تلاقح اللغات وتعميق أواصر المنجزات العلمية بين الأمم، لكن يبدو أن المجامع العربية لم تفلح إلى يومنا هذا في فهم واستيعاب هذا الهدف فبقيت تجتر قضايا لا طائل منها ولا أهمية لها.

ترقد الآن على رفوف المجامع العربية مئات الآلاف من المصطلحات في كل العلوم والفنون والآداب والفلسفة ومسميات علمية كثيرة لم يجدوا ما يقابلها في اللغة العربية، ما يعزز الرأي أن العربية قاصرة عن استيعاب هذا الكم من المعارف والواقع أن عدم إيجاد ما يقابل ذلك في اللغة العربية ليس قصورًا بل إن ذلك ربما يضيف إلى لغتنا ثراءً معرفيًّا في إدخال هذه المصطلحات بأسمائها أو الأقرب إليها، لكن المجامع تعد ذلك خطرًا على اللغة، من هنا فدخول أسماء إلى لغتنا ليس لها عهد بها هو أمر حتمي شئنا أم أبينا، والحاضر يقتضي من المجامع العربية أن تنظر الأمر بجدية للحاق بركب المنجزات العلمية التي تخطو سريعًا.

ناقد ولغوي عراقي

أحمد فؤاد باشا: التدريس في الجامعات «سمك لبن تمر هندي»


المجمع كأي شيء في المجتمع يقوى بتقوية إمكاناته، شأنه شأن التعليم والمرافق الثقافية وغيرها، لكن مشكلته في أن توصياته

وقوانيه لا تفعَّل، وهو ليس مسؤولًا عن تفعيلها؛ إذ إنه يخاطب على سبيل المثال التربية والتعليم لتصحيح المناهج وتعديلها، ويخاطب الإعلام لمعالجة أخطاء المذيعين، ويخاطب الجهات القانونية لتعريب المصطلحات القانونية، وقد قام على تعريب مصطلحات كل العلوم في مجلدات، لكن لا الجهات التنفيذية تستجيب لتوصيات المجمع ومخاطباته، ولا أحد يخرج المجلدات ليقرأها.

الأمر يحتاج إلى قرار سيادي لجعل اللغة العربية هي اللغة الأولى بالفعل، ولك أن تنظر إلى حال التعليم وتعدده، وهو ما يوضح أن الأمر أكبر من إمكانيات المجمع، وأننا صرنا على الأقل بحاجة لأن تكون خطابات المسؤولين باللغة العربية، وليس العامية. المدهش أن الأساتذة في الجامعات لا يقومون بالتدريس باللغة العربية، رغم أن اللغة قسمة أساسية في الهوية، والتنازل عنها هو تنازل عن الهوية، وعلى الرغم من كثرة إثارة الموضوع إلا أن أحدًا لا يستجيب، حتى إن قاعات الدرس صارت كما يقولون: «سمك لبن تمر هندي»، كلمة عربية وأخرى إفرنجية، وبينهما كلمات عامية، ومصطلحات علمية تارة، وشعبية تارة أخرى. علينا أن نستفيد من تجربة المأمون في إنشاء دار الحكمة، أليست الدول العربية قادرة على إعادة إحياء هذه التجربة؟ فبيت الحكمة العصري هو المخرج من هذه الأزمة التي تزداد حدة، نظرًا لأن المصطلحات العلمية في تزايد، والأمر يحتاج إلى قرار سيادي قوي.

لغوي وأكاديمي مصري

عبدالله مليطان: مؤسسات منفصلة عن الواقع

يؤسفني القول: إن مجامع اللغة أصبح شأنها شأن ما يجري في الواقع العربي على كل المستويات… بعيدة من الواقع منفصلة عن حياة الناس على الرغم من طبيعة علاقتها بوسيلة التخاطب، وهو اللسان العربي… وإن قال قائل: إن أمرها يتصل بالشأن الأكاديمي والعمل العلمي، فماذا قدمت في هذا الصدد؟ وفي تصوري أن أي مؤسسة لا تتصل مباشرة بالناس لا جدوى من وجودها. ترى ماذا قدمت المجامع العربية من برامج وخطط ومشاريع للارتقاء بلغة التخاطب؟ ماذا قدمت من معاجم لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة في مجالات الإعلام والصحافة والسياسة والعلوم والتقنية؟ أين دورها في ترجمة المصطلحات المستحدثة في عالمنا المعاصر؟ بالطبع هناك من سيتعلل بعدم وجود الإمكانات المادية الداعمة لنشاطه وبالعراقيل التي تواجهه إداريًّا وفنيًّا… وهو أمر واقع لذلك فإن الدول التي لا يعنيها أمر اللغة ومجامعها ما كان عليها أن تنشئ مجمعًا لتتركه يعاني الدعم وقلة الإمكانات ليكون عبئًا عليها وثقلًا يضاف إلى أثقالها. لذلك من الطبيعي ألا تجد لها أثرًا في حياة الناس، وربما لا يعلم كثير من الناس بوجود مجمع للغة لديهم. حتى ما اتفقت المجامع العربية على تعريبه منذ سنوات لا يزال الناس لا يعرفونه إلا بلغته الأصلية، ولا يتداولون ما اتفقت عليه تلك المجامع؛ لأن المجامع العربية لم تحسن الترويج له والتعريف به. وهو تقصير منها بالطبع للدور الذي كان عليها أن تقوم به إزاء دورها في خدمة لغتنا العظيمة.

كاتب ليبي

ممدوح فراج النابي: لا يتردد اسم المجمع سوى عند الموت

دور مجمع اللغة العربية في الواقع الثقافي مع الأسف لا يتردد إلا في مناسبات الموت، فلا نسمع اسم المجمع ورئيسه إلا إذا غيّب الموت أحد أعضائه أو استبدال آخر براحل. هكذا اختفى الدور الفاعل لمجمع اللغة العربية على الرغم من الحاجة الماسة له الآن في ظل حالة الخلط اللغوي التي صارت دخيلة على اللغة. لم يأخذ المجمع بالصيحات والدعوات المطالبة بالحفاظ على اللغة العربية، ومقاومة القبح اللغوي الماثل في استخدام الحروف اللاتينية في اللوحات الإعلانية، أو على الأقل لم يسعَ لتنفيذ قراراته، كما أن المجمع صار دائمًا متأخرًا خطوة للخلف في ملاحقة الطفرة التكنولوجية والمتغيرات العالمية التي انتقل تأثيرها إلى اللغة. في ظل كثير من الكوادر العاملة في المجمع التي يعوّل عليها.

ناقد مصري

محمد المغبوب: يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع

لم يعد للدور المناط بمجامع اللغة العربية في الوطن العربي من عمل نراه على الواقع المعيش، حيث نجد لغتنا في ظل لغة الآلة الغربية وقريبًا الصينية وهي تتوسع على حساب لغة القرآن الكريم حيث تأتي بمفردات جديدة تلصق على ألسنتنا وتتسرب حتى إلى الديوان الرسمي وإلى القنوات الإعلامية ووسائل الاتصال المباشر، ناهيك عن زحف اللغة المحكية حيث كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة الضاد، وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحلال عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها الآن قد تقلصت كثيرًا حتى إننا نحتاج إلى ترجمات للمعلقات وإلى الموروث الأدبي العربي كي نفهمه جيدًا. يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع العربية ولا قدر أصحاب اللغة من بحاث وأدباء وأساتذة اللغة على اللحاق به ومعالجته لعدم الوقوف عليه.

إن أهم ما في الأمر كله هو أن المصطلح صار يشكل لنا ربكة في الفهم تفسيرًا وفهمًا، وقد يتلون المصطلح الواحد بعد إيحاءات تجعلنا في لبس وفي حيرة. ويتجلى هذا حتى عند تفسير القرآن الكريم حيث نخلط بين النزول والهبوط والسقوط مثلًا، وبين الكتاب واللوح والذكر والقرآن، وحين عقد المعاهدات الرسمية والعقود مع الآخر على مستوى الترجمة والتأويل.

هذا كله لم يكن وليد اللحظة بل هو تراكم عبر حقب التاريخ، وبخاصة ما بعد القرن التاسع عشر بعد ثورات عالمية في السياسة والحكم وفي العلوم كافة، إذ حين هم يثورون ويغيرون كنا نحن العرب نمارس فعل الفرجة ونتلقى المنجزات ولا نأتي بها، فصار العالم يتحدث بلغته وكذلك نحن فاعلون.

كاتب ليبي

سيد‭ ‬الوكيل‭:‬‭ ‬كيانات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭ ‬للعمل

آخر مرة سمع فيها اسم مجمع اللغة العربية كان منذ خمسة عشر عامًا، عندما أخبرني الأديب محمد مستجاب أنه يعمل هناك. أنا لا أقصد إهانة أحد، لكني أشير إلى أن ثمة كيانات كثيرة فقدت وجودها بالتقادم، مثلًا لو سألت مئة أديب عن دار الأدباء، فإن تسعين منهم لا يعرفون عنها شيئًا. هذه الكيانات: إصدارات قديمة، لم تعد صالحة للعمل وتحتاج «فرمتة» وإعادة «تسطيب». في الماضي، كان لمجمع اللغة العربية وظيفة ثقافية مهمة، مثلًا: عندما دخلت الثلاجة الكهربائية إلى مصر، كانت الأسر الأرستقراطية تسميها «فريجيدير» لكن جهود المجمع جعلت كل الناس تقول «الثلاجة». وأنا أعرف أن دوره كان كبيرًا في مجال تعريب المصطلحات العلمية (الهندسية والطبية والفيزيائية…) ولولا هذا التعريب لما عرفنا شيئًا عن هذه المصطلحات وظللنا جاهلين بها.

ومع ذلك فليس كل ما أطلقه المجمع استخدمه الناس، فلا أحد يقول عن التلفزيون «مرناء»، ولا على التلفون «مسرة». الناس تعلمت تصريف المصطلحات الأجنبية، وهضمها في التكوين الثقافي الذي يلبي حاجاتهم اليومية مثل: تلفزة، تلفنة.. وتدليت وتسطيب وفرمتة وهكذا، وشيئًا فشيئًا حلّت محل هذه الكيانات، وأصبحت تسيطر على الحراك اللغوي في الشارع، وهذا الدور اتسع بشكل كبير مع عصر التكنولوجيا. مثلًا، الناس تقول: اديني ماسيج أو ميسد كول، وتقول فلان «بيشيّت» على طول، أي مدمن على الشات.. أو «نتّاوي» أي مدمن على الإنترنت أو «يدوّن» أي يحمّل أشياء من على الشبكة. وتنتقل هذه اللغة إلى السلوك والصفات، فنقول: فلان «هاكر». أي يسرق أفكارك ويستخدمها لنفسه.

والتوسع في هذه الظاهرة، يشير إلى أمر من الاثنين: إما أن الناس فككت هذه الكيانات وحلت محلها وقامت بدورها، وإما أن هذه الكيانات ماتت إكلينيكيًّا والناس مضطرة لأن تملأ ذلك الفراغ بطريقتها الارتجالية. والسؤال الآن: إلى متى سنتلكأ قبل إعادة النظر في هذه الكيانات، سواء بتحديث دورها أو بإحالتها للتقاعد مع الشكر. لكن المؤكد أنها كثيرة ومعوقة لأي نهوض.

تضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬‮«‬العربية‮»‬

لا يختلف اثنان على ما تشهده مجامع اللغة العربية من عزلةٍ أو غربةٍ عن محيطِها لأسبابٍ متعلقة بها أو خارجةٍ عن إرادتها، وهي «أزمة» تستفحل أو تخْفُت، تبعًا لطبيعة المشروعات وفاعلية البرامج التي تتولى المجامع تنفيذها، أملًا في مدّ الجسور بين الواقع والمأمول في مجال الحفاظ على «العربية» وحمايتها.

«نعم، هناك عزلة تعانيها المجامع لا يمكن إنكارها»، يقول الأمين العام لمجمع اللغة العربية الأردني، الدكتور محمد السعودي، رادًّا ذلك إلى أسباب من أبرزها «غياب التشريع» كما يرى. ولهذا فإنه يؤكد أن مجمع اللغة العربية الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية (فرع المؤسسة العلمية الفائزة عن فرع اللغة العربية والأدب لعام 2016م)، نفضَ كثيرًا من الغبار عن كاهله، وتجاوَز مرحلة «مراوحة مكانه» بعد إقرار تشريعَين مهمَّين مؤخرًا، هما قانون مجمع اللغة العربي، وقانون حماية اللغة العربية.

ويوضح السعودي أن قانون المجمع أعاد تنظيم الأدوار داخل المجمع ببنيتَيه الإدارية والفنية، أما قانون حماية العربية، فهو «إنجاز كبير» على حدّ تعبيره، جاء محصلةَ نضالاتٍ طويلة تواصلت على مدى سنوات. ومن البنود التي تضمّنها القانون ويعوّل عليها القائمون على المجمع وسدَنة «العربية»، عدم تعيين أيٍّ من المشتغلين في مجال اللغة من معلمين وصحافيين وسواهم، إلّا بعد اجتياز «امتحان الكفاية» الذي صدر نظامه مؤخرًا، وحُوِّل إلى الحكومة ليوضَع موضع التنفيذ.

ويؤكد السعودي أنّ هذا الامتحان طُبِّقَ بنجاح في وزارة التربية والتعليم سنة 2016م، وأن استمرار تطبيقه عند ملء الوظائف الشاغرة سيضيّق الخناق على العزلة التي تعانيها «العربية»، وسيخلّصها من «غربتها» إلى حدّ ما. ويضيف أن المجمع يعمل حاليًا على تبسيط امتحان الكفاية بغيةَ إخضاع الطلبة الجامعيين الجدد له، ومَن يجتازه بنجاح سيسقط عنه مساقان دراسيان في اللغة العربية. وبالتالي فإنّ في هذا التوجّه تخفيضًا للنفقات وتوفيرًا للوقت، إلى جانب تشجيع الشباب على إثراء مخزونهم اللغوي.

ويشير الأمين العام للمجمع، إلى مكتبة الأطفال التي دُشِّنت في أواخر يوليو عام 2017م، وهي «مشروع رائد» يغرس حبَّ العربية في نفوس الطلبة، ويعمل على تنمية مهاراتهم اللغوية كتابةً وقراءةً ومحادثةً واستماعًا، وإثراء حصيلتهم اللغوية بمفردات جديدة ومتنوعة، وخلق روح الإبداع اللغوي فيهم، وحفزهم إلى إدراك مفاهيم اللغة هوية الأمة ووعاء حضارتها وحاضنة تراثها.

ولأن التواصل مع الشرائح المستهدفة في المجتمع يتطلب صيغًا متنوعة تواكب المستجدات، جاءت فكرة إذاعة المجمع التي بدأت بثها التجريبي حريصةً على الارتقاء بالذائقة الفنية للمستمعين، وتحبيب الناس بالفصيحة، وتعريفهم بقدرات اللغة وكنوزها ومرونتها وغناها اللفظي والتعبيري.

ومما يُحسب للمجمع، أنه بدأ يتصدّى لمهمة تعريب المصطلحات الأجنبية ووضعها في السياق العربي، مثل: مصطلحات الطاقة المتجددة، ومصطلحات السياقات السلوكية والطبية والصحية والبيئية والعمرانية. وهذا يتم بالتعاون مع مجموعات طلابية مهتمّة تتفاعل على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك).

من ناحية، للباحث والأكاديمي الدكتور غسان عبدالخالق، رأيٌ آخر في مسألة حضور مجامع اللغة العربية وتأثيرها، وعجزها عن تطبيق مقترحاتها اللغوية؛ إذ يؤكد أن هذه المجامع «تمثل تجسيدًا حقيقيًّا لمدى انفصال مستودعات اللغة عن إيقاع الشارع ومستجدات الحياة»، موضحًا أن هذا الانفصال متفاوتٌ من مجمع لآخر؛ فهناك مبادرات «جديرة بالاحترام» مثل مبادرات مجمع اللغة الأردني، لكن المشهد المجمعي العام «لا يدعو للتفاؤل».

ويضيف عبدالخالق أنه أطلق قبل سنواتٍ دعوةً لرصد ألفاظ ومصطلحات «الربيع العربي» وتوثيقهما وإفرادهما بمعجم خاص، لكن هذه الدعوة التي لا تحتاج لأيّ تبرير فـ«الربيع العربي» يمثل أخطر ما مرت به الأمة العربية في العصر الحديث- ما زالت تصطدم بذهنية «أمين المستودع اللغوي» الذي يفضّل الاستغراق في مفردات القرون الهجرية الأولى بدلًا من الانخراط في مواكبة واستدخال مفردات القرنين العشرين والحادي والعشرين.

ويذكّر عبدالخالق بما ذهب إليه كلّ من هشام شرابي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان قبل عقود بخصوص «أبوية مجامع اللغة وصنميتها»، وهو النهج الذي يرى أنه ما زال ساريَ المفعول. وكان رئيس مجمع اللغة العربية الأردني الدكتور خالد الكركي، أكد خلال تسلّمه جائزة الملك فيصل العالمية التي مُنحت للمجمع في 4 إبريل من العام الحالي، على أهمية إقرار قانون حماية اللغة العربية الذي يركز على العربية السليمة لا الفصحى، ويُلزم المؤسسات الحكومية والخاصة باستخدام اللغة العربية في جميع وثائقها وإعلاناتها. ودعا الكركي الأمانةَ العامة للجائزة، إلى تبني مبادرة توحيد مجامع اللغة العربية تحت لواء مجمع عربي موحّد، يكون مقره الرئيسي في مكة المكرمة، وذلك بهدف صياغة الرسائل الإستراتيجية والعامة التي تخدم لغة الضاد في محيطها وعمقها العربي.