رسائل الشاعرة «أليخاندرا بيثارنيك» و«ليون أوستروف».. العلاقة الأبوية

رسائل الشاعرة «أليخاندرا بيثارنيك» و«ليون أوستروف».. العلاقة الأبوية

يختلطُ حب الشاعرة الأرجنتينية «أليخاندرا» للأدب بحياتها ذاتها، كما جاء في مقدمة الكاتب والأستاذ في علم النفس «إدموند غوميث مانغوا» في الطبعة الفرنسية من هذا الكتاب، 2016م، فقد عانتْ ألمَ الحياةِ الممزق مذ مراهقتها، ولم تعثر على بريق الأمل إلا في الكتابة. إذ كانت ترى في فعل الكتابة خلاصها من كل شيء حتى الحياة نفسها! عاشت حياة جد قصيرة. بَدَتْ كأنها تجسِّد في حياتها بيتَ الشاعر«روبن داريو» (ما من ألمٍ أكبر من ألم الحياة). إذ كانت رغبتها في الموت هي الأقوى: انتحرت وعمرها ستة وثلاثون عامًا، في شقتها الصغيرة في «بيونس آيرس» في سبتمبر من عام «1972م» وكانت قد عادت من مراجعتها لمشفى الأمراض النفسية، بعد أن عبَّرت عن رغبتها بلا لَبْسٍ: «لا أريد أن أذهب إلا إلى أعماق الأشياء، أيتها الحياة، أيتها اللغة، يا (إيسيدورا)». وهذه آخر كلمة خطتها الشاعرة بالطباشير الأسود في غرفتها. لم تطفئ حياتها إلا بعد أن ذكرت اسم الشاعر «إيسيدورا» الذي كان قد سبقها بالانتحار في شقته في باريس المحاصرة عام «1870م».

«ليون أوستروف» من المحللين الأرجنتينيين القلائل الذين لم يكونوا أطباء. درس بكلية الفلسفة والآداب بجامعة «بيونس آيرس» ليعمل في الجمعية الأرجنتينية للتحليل النفسي. في نهاية الخمسينيات عمل مدرسًا بالكلية مع محللين معروفين من الأرجنتين.
نشر مجموعة من المقالات المتعلقة بعلم النفس في مجلة الجامعة. وقد ألف كتاب «الحقيقة والكاريكاتير» للتحليل النفسي عام «1980م»: «انطباعي الأول عنها حين رأيتها هو أنني كنت أمام مراهقة بين ملائكية وغريبة الأطوار. أدهشتني عيناها الواسعتان الشفافتان والمفزوعتان، وصوتها البطيء الذي ترتعش فيه المخاوف كلها» يقول أوستروف عنها، وكانت زيارتها الأولى له وعمرها «18» عامًا وهي لا تزال طالبة. لحظ المحلل النفسي منذ زيارتها الأولى ثنائية متصارعة في صمت تلك المرأة، وشغفًا يوجهها نحو الأعلى، نحو الشعر الكبير، نحو تجليات هذا الفن الأكثر سموًّا، في مقابل ألم نفسي يُخيفها من إقامة علاقة طبيعية مع عالمها المُحيط، وهو الأمر الذي يحدُّ من قدرتها على الاستجابة لمتطلبات حياتها اليومية؛ ليمثلَ لها فيما بعد شخصية أبوية محتوية، حيث كان الملجأ الآمن الذي تؤوب إليه مثل الأب في أوقات الضعف واليأس الأشد قسوة وإيلامًا، حين تلفها أعنف مشاعر الخوف والاضطراب والقلق.

وُلدت الشاعرة في الأرجنتين لعائلة مهاجرة روسية- بولندية من أصل يهودي، وهو ما قرَّبها من المعالج أوستروف ذي الأصول الروسية. كانت مترددة بين دراسة الفلسفة والآداب والصحافة. أحبت الرسم وأخذت تتردد على مشغل رسام معروف هو«خوان باتل» في الأرجنتين. وتابعت دروسها الأدبية بمواظبة الحضور لدروس أستاذ الأدب الحديث «خوان خامويا باخارليا» الذي ساعدها في التعرف إلى أعمال عدد كبير من الكتاب المعاصرين كجيمس جويس، وبروست، وأندريه جيد، وغيرهم.

وصف بأنها قارئة نهمة وذكية تبحث عن لغتها الشعرية الخاصة. نشرت كتابها الأول في سن التاسعة عشرة بعنوان «الأرض الأكثر غرابة» وهو عنوان يحيل إلى تجربتها التحليلية وخضوعها للعلاج النفسي المبكر. أهدت قصيدة من ديوانها الثاني لمعالجها أوستروف بعنوان «البراءة الأخيرة» ومطلعها: «سيدي صار القفصُ عصفورًا وطار. وصار قلبي مجنونًا؛ لأنه يعوي للموت، ويبتسم خلف الريح والأوهام/ ماذا أصنع بالخوف. ماذا أصنع بالخوف؟» أحست أليخاندرا بأنها مستعدة للقفزة الأولى بالابتعاد عن عائلتها، والرحيل عن بلدها الأرجنتين؛ لتكتشف أرضًا جديدة، فسافرت إلى باريس عام «1960م».

أليخاندرا بيثارنيك

في هذه الرسائل وعددها 21 رسالة وخمسة ردود من المعالج النفسي، تعرض الشاعرة بلا مواربة حالاتها النفسية الأدعى للألم، عندما تغرق في أقسى حالات الكآبة. القراءة المنتظمة لمجموع الرسائل تسمح ببناء سرد واضح عن إقامتها في باريس، وعلاقاتها وصداقاتها، ومكان إقامتها، وتفاصيل عملها الإبداعي، وتحولاتها النفسية وتجاربها العاطفية، وتعرفها إلى كتاب وشعراء من أميركا اللاتينية مثل أكتافيو باث، الذي كتب مقدمة ديوانها الثاني، وقيصر باييخو (شاعر من البيرو، يعد من كبار شعراء الإسبانية، أقام في فرنسا وانتحر في شقته الباريسية). وغيرهم، وتعرفها إلى المُنظِّرة النسوية «سيمون دي بوفوار» صديقة سارتر ومارغريت دوراس، وغيرهم من الكتاب والشعراء الذين كانت باريس وجهتهم آنذاك.

من خلال ردود المحلل النفسي على رسائلها تبدو جهوده واضحة بمنح هذه «الأنا» الشاعرة التي كانت على وشك التفكك وحدة وتماسكًا، وحاول بشتى الطرق رفع روحها المعنوية، وتقوية احترامها لذاتها الممزقة، ودعمها في اتخاذ قرارات على المستوى الإنساني والإبداعي، وتشجيعها في مشاريعها المختلفة.

بمعنى آخر، حسب «إيفون بوردوا»، فإن أوستروف كان بمنزلة الأب للشاعرة بيثارنيك. وتُمثل الرسائل المتبادلة بينه وبين أليخاندرا، في مجموعها، سردًا دقيقًا ومفصلًا لحياتها الباريسية المضطربة. إن وصفها للمنازل التي تعاقبت على السكن بها وحياتها البوهيمية الفوضوية، وإشارتها إلى عملها الروتيني في مجلة «دفاتر مؤتمر حرية الثقافة» الذي مكنها من العيش والإقامة في باريس، وحديثها عن صداقاتها الأدبية، وتأمُّلها في المعاناة التي سبَّبها لها بعضٌ من العلاقات، وفي الرابطة العائلية المعقدة ولا سيما مع أمها، وظهور آلامها الجسدية، وسردها لحالات معينة خاصة تعيشها في وحدتها الباريسية، تعطينا صورة واضحة عن سنواتها الأولى في باريس، فالشاعرة لا تبخل بأدنى تفصيل في رسائلها.

في هذه الرسائل ترتسمُ أماكن وأحلامٌ، وعادات وطقوس، وأشخاص وأشياء، وقلق وكآبة، من حياة الشاعرة اليومية لتجعل من هذه النصوص- الرسائل ملمحًا حسيًّا وجسديًّا قويًّا. هنا جسدٌ يعاني ويتألم ويتفكك ويستمتع ويكتب، لكنه حاضرٌ في أسمى تجليات الفكر. «إنها الثامنة صباحًا، تسير الحافلةُ بمحاذاة نهر السين، الغيومُ تغطي مياه النهر، والشمس تنعكس من زجاج كنيسة نوتردام، أرى الضباب وأنا ذاهبة لعملي، مشهدٌ رائع. وما زال المطر وما زالت هذه السماء الخريفية الرمادية التي تنعكس تمامًا ما أحسُّ به- هذه السماء التي أحبها أكثر من الشمس. هذا الحزن الذي يبدو فيما هو خارجي». من الرسالة 9. أو تكتب في واحدة من الرسائل «حالتي الصحية سيئة، تركت القهوة والكحول والتدخين. أعاني دوارًا ووهنًا، يمكنني أن أقول وأنا في الخامسة والعشرين من العمر: إنني متعبة من العمر». من الرسالة «16».

هنا في هذه الرسائل أيضًا، يمكن التعرف إلى كثير من الجوانب والاهتمامات، وحالات من القلق والخوف التي عذبت الشاعرة طوال حياتها. مع ذلك يبدو أن هناك كثافة خاصة، تعريًّا كاملًا، ومجهودًا كبيرًا، ربما نشأ إثر العلاقة العلاجية التي استمرت سنواتٍ مع المعالِج النفسيّ ليون للتعبير عن حالاتها النفسية والبوح بما يرعبها وهو ما يميز هذه الرسائل. «تتطلب مني هذه الرسائل مجهودًا ضخمًا، لقد بلغ جنوني منتهاه، وهلوساتي تضاعفت، مشفوعة بخوف، أشتبك في صراع محتدم مع صمتي وصحرائي، ووعيي المحطم، وذاكرتي المشتتة».

من الواضح أننا أمام كِتابة تتخطى حدود الأنواع الأدبية؛ رسالة، يوميات، نثر، نثر شعري… كِتابة يعاد كتابتها وتعديلها المرة تلو المرة وفي أشكال مختلفة، وطروحات متتالية، وصور متواصلة وبحث دائم. نصٌّ وحيدٌ قابل للتغيير، شارد، مترحل، لا يتوقف أبدًا، يعيدُ بناء نفسه في معركة مستمرة مع اللغة؛ إذ كانت الشاعرة ترى اللغة عائقًا كبيرًا ربما لمعاناتها «التأتأةَ» أو التعلثمَ بالكلمات، وكانت ترى في اللغة حاجزًا أو سدًّا منيعًا. إنها استثمارٌ شعري يتجاوز الحدود بين الكتابة وأنواعها. ثمة تداخل بين العام والخاص، إنه بحث دائم عن الخلاص عبر الكتابة، بحث متواصل عن الجمال، عن الهوية، عن الحب، بحث شعري وبحث حياتي، بحث باللغة وبحث عاطفي، طرد للصمت؛ كي لا تصاب بالجنون. الكتابة هي المرآة ونصوص الشاعرة تفيض بالمرايا وتعكس جوهرها. من قصيدة لها بعنوان العاشق تكتب: «توخزك النهارات/ الليالي تصب لومًا عليك/ فتؤذيك الحياة أكثر وأكثر/ محطمة، أين تذهبين؟ خائبة، خائبة».

شكَّلت هذه الرسائل التي استمرت من عام «1960م» إلى «1964» بين شاعرة غنائية ومعالجها النفسي البروفيسور«ليون»، حدثًا أدبيًّا نادرًا حاز اهتمام عشاق الشعر وعلم النفس والمهتمين.

نُشرت هذه المراسلات في بيونس آيرس عام «2012م»، وقدمت لها «أندريا أوستروف»، ابنة المعالج النفسي، «ليون» في طبعة منقحة وموثقة، وقدمت لها مقدمة مفصلة، ورأت في هذا الإصدار «رد اعتبار» لهذه الشاعرة ومعالجها النفسي الذي صار يشبه الأب لهذه الشاعرة التي عاشت حياة قصيرة. قامت بترجمة هذا الكتاب/ الرسائل/ الشاق والمميز الشاعرة والمترجمة المغربية رجاء الطالبي وراجعه بسام البزاز، وقد بدت جهود المترجمة بديعة ومهنية، في هذه الطبعة المنقحة والموثقة بالهوامش والأحداث. صدرت الطبعة مطلع هذا العام «2019م» عن دار المدى في بغداد.

اسمي

اسمي

عليك أن تعترف يا سليماني بأنها ليست المرة الأولى.

هذه ليست بالمرة الأولى، أجل، اعتَرِفْ وأَقِرَّ؛ فالاعتراف سيد الأدلة، والإقرار بها نصف الطريق لحل المشكلة.

ليست المرة الأولى التي أتهجى بها حروف اسمي كطفل ولا أعرفه، ولا أعرفني! أكتبه حرفًا حرفًا: س ل ي م ا ن ي، أتأمله بعد أن أكتبه، وأتهجاه كطفل يتلعثم بالحروف، أراه كما لو كان لشخص آخر بعيد ومجهول، يا إلهي! هل هذا اسمي؟ وفي اللحظة التي وُلِدتُ بها وُلِدَ معي؟ هل يخصني أنا وحدي دون سواي، أم أنه يعود لآخر لا أعرفه وأجهل من يكون؟

لا أتبين ملامح وتفاصيل وجهي الجديدة، هل هذه تعود لي؟ أعني: لسليماني الذي كنت أعرفه منذ زمن طويل، أم لرجل آخر أراه الآن أمامي لأول مرة؟

الوجه لا يشبه وجهي الذي أعرفه منذ وعيي الأول، لا يشبهني في شيء! ثَمَّةَ تجاعيد واضحة بشكل لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه، وهذه «الصلعة» التي تشبه بطيخة كبيرة، من أين جاءت وظهرت على حين غفلة مني؟ ومتى؟

منذ سنوات قليلة بدأ شعري بالتساقط دون أن أنتبه أو أُعِيرَ الأمر اهتمامًا، حتى اكتملت الدائرة وانغلقت، فبرزت هذه «الصلعة» مرة واحدة بوقاحة سافرة.

لكن، هل تعود لي أنا؟ هل أنا صاحبها؟ أم هي للرجل الآخر الماثل أمامي الآن؟

الأمر مُربِكٌ وشائك، ويضعني في حالة من الفزع والقلق والضياع؛ أنا لا أعرفني! يا إلهي في علاك!

ها، من أنت؟ من أنا؟ قبل هذا وفي البدء: لمن يعود هذا الاسم؟ ومن هو هذا الرجل بملامحه التي لم أتعرف إليها قط؟!

اسمي الذي ينفرش بأحرفه السبعة فوق هذا الوجه، ويرسم ملامح باهتة وشاحبة لدرجة أني لا أعرفني، ولا أعرف لمن يعود هذا الاسم؟ هل حقًّا هو لي؟

عيناي، عيناي بهذه النظرات الغريبة التي لم تكن لي يومًا، ولم أعتدها قط، أُحدِّق طويلًا بالمرآة كل صباح، أُحدِّقُ وأنا أحلق لحيتي وشاربي، أُحدِّق وأنا أرتدي ملابسي، أُحدِّق بالمرآة سرًّا وعلانية، أُحدِّق وأنا أتحدث معي بصوت خفيض أحيانًا، أو بصوت مرتفع حينًا آخر وأنا غاضب، أُحدِّق بهذه العيون بنظراتها التي لم آلَفْها قط، أُحدِّق بهذا الوجه الذي أراه أمامي، أتأمله بقوة ولا أعرفه، لا أتبين ملامح صاحبه، ومن أين ظهر الآن ووصل مرآتي؟ أين كان يختبئ؟

المرآة، المرآة، أجل المرآة خائنة ومزيفة، من هنا بدأت ولم أعرفني، المرآة تكذب كثيرًا وتخدعني، المرآة تضللني، ألهذا تحبها المرأة كثيرًا؟ لا أعرف، لا أعرف شيئًا، خشيتي من هذا الرجل الغريب الذي يَربِضُ فوق مساحة مرآتي ويحتلني، فيحيلني لشخص لا أعرف اسمه، أو أتعرف إلى ملامحه، ولم يسبق لي أن التقيته أو عرفته!

لا أزال واقفًا أمامها، أمام المرآة وكأني أستنطقها، وأستعطفها، وأتوسلها بأن تكشف لي عن ستارتها الثقيلة لمرة واحدة، فتريحني.

أحدق بها ثانية وثالثة ورابعة برجاء يائس، يا إلهي، يا إله السماوات والأرض وما بينهما، كم هو موجع أن أحدق بالرجل الماثل أمامي ولا أعرفه، لا أعرفني! أحدٌ ما لا أعرفه يدعوني بإلحاح، وأنا لست على أرض أو في فضاء، أحدٌ ما يدعوني بإلحاح لرحلة التيه، وأنا من أنا؟ أنا لا أحد!

المرآة ذاتها تُذكِّرني بي؛ كأنما مسحت الغبش عن زجاجها الصقيل، فصارت أشيائي القديمة مرئية أمامي كشريط سينمائي متتابع، أراني «سليماني» الطفل، وله من العمر سنوات عشر، سليماني الطفل البكر لوالديه بعد احتباس مؤقت لثلاث سنوات لرحم الأم، سليماني الذي كَبِرَ فجأة وصار رجلًا وهو لا يزال طفلًا؛ إذ وُلِد شقيقه الثاني وعمره عام واحد فقط، فتحولتُ لطفل كبير مرة واحدة، بلا ألعاب وبلا لِبَأ أم يقوِّي أسناني وعظامي، ويَشُدُّ بِنْيَتي، فنشأت قصيرًا وهزيلًا!

«أنت كبير لا تشارك الأطفال لعبهم» تلك هي اللازمة التي ترددها أمي وجدتي وأبي كل ساعة، فحفظتها عن ظهر قلب كأنشودة المدرسة في طابور الصباح.

«سليماني، أكمِلْ دروسك سريعًا وتعال ساعد أمك» تنادي جدتي.

أقراني لم أعرفهم سوى بالمدرسة، ولا ألتقيهم خارجها.

سليماني، «اذهب للسوق عند عمو أبو نبيل وأحضر لنا حاجيات البيت التي كتبتها لك على ورقة صغيرة بيضاء، وضعتها فوق طاولة المطبخ، وإذا صادفك أحد من رفاقك بالمدرسة أو أقاربك، إياك أن تتلكأ معه وتحادثه».

سليماني اذهب وساعد أمك في أعمال البيت قبل أن ينهض شقيقك، سليماني، اذهب لبيت جدك وأخبرهم… سليماني انزل إلى البلد، واذهب لمكتب للبريد المركزي، وتفقد صندوق البريد، ربما هناك طرود ورسائل من عمك الذي يدرس في ألمانيا، وفي طريق عودتك اشترِ من مطعم «هاشم» علبة حمص وفول وربطة خبز، لا تنسَ.

سليماني، اكنس باب البيت ورشه برذاذ الماء، واسقِ «الزريعة»، ورتب المقاعد وصُفَّها متقابلة بانتظام، في المساء سيجيء أصحاب والدك؛ فالسهرة الليلة عندنا، ولا تنسَ إعداد القهوة.

سليماني، لا تنس ارتداء سُتْرتك الطويلة، فربما تمطر وأنت عائد من المدرسة وتبتل ثيابك، عليك أن تمر في طريقك بالسوق كي تخبر عمك الفَرّان أننا بحاجة لعشرين رغيف خبز غدًا صباحًا، ثمة مَأدُبة سيقيمها والدك احتفاءً بسلامة شقيقك من «الحصبة*»!

سليماني، قبل ذهابك للمدرسة مبكرًا، اذهب لمنزل عمك المطهر* «أبوعماد»، واطرق بابه ثلاث طرقات متتالية، وحينما يظهر أمامك أخبره بأن والدك يُهْديه السلام، وأننا ننتظره عند الساعة العاشرة كي يجيء «ليطهر» شقيقك». أظن بأن هذا صوت جدتي، صوتها الذي لا يزال يطرق سمعي كمِطْرقة قديمة:

«سليماني، اذهب وانشر «الغسيل» قبل أن تبرد أشعة الشمس؛ كي تجف ملابس شقيقك، سنحتاجها ثانية في المساء، سليماني، ياااااااااا س ل ي م ا ن ي، يا سليماني.

من أنت؟ أنا سليماني محمود توفيق سليماني، الذي استطاع النجاح في كل عام بمعدل جيد، وتمكن في السنة الأخيرة من الالتحاق بكلية التدريب المهني في «وادي السير» بمنحةٍ، وتخرج منها بدبلوم صناعي بتفوق على أقرانه جميعًا دون أن يكلف والديه شيئًا! أنا سليماني محمود توفيق سليماني، الذي عمل موظفًا صغيرًا بمعمل نسيج وأقمشة، أتذكر أول راتب تسلَّمْتُه بقيمة خمسة وثلاثين دينارًا فقط، أضعه في جيبي حتى وصولي البيت فأناوله لأبي كاملًا غير منقوص، فيمنحني خمسة دنانير هي مقدار أجرة الذهاب والإياب للمصنع الذي يقع في مدينة «سحاب» شرق العاصمة، خمسة دنانير طوال الشهر حتى تسلُّم الراتب التالي.

بقيت في المعمل مواظبًا ونشيطًا حتى تمت ترقيتي لمدير مسؤول أول عن خط الإنتاج، حتى تقاعدي قبل خمس سنوات ونصف السنة.

أنا سليماني الذي استجاب لرغبة والده وتزوج قريبته دون أن يراها لمرة واحدة قبل الزفاف، فأنجب بنتًا، كَبِرت وحيدة حتى التحقت بالمدرسة بالصف الأول دون أن أتمكن من إنجاب سواها حتى ذلك الوقت!

تصدت «جدتي» قبل والدي للموضوع؛ أعني: المشكلة، وأخبرتني بأنني إن لم أنجب «ولدًا» فهذا يعني: أنني لم أنجب قط!

أمي أكدت هذا الكلام ورددته على مسامعي كل صباح ومساء بقلق وخوف كبيرَينِ.

وابنتي هذه، من أنجبها يا أمي؟ من؟

هذه ليست بخِلفةٍ تحسب لنا يا سليماني، خلفة لا يُعتَد بها، فهي لن تتمكن من البقاء بجانبك طويلًا، تذكَّرْ هذا جيدًا. «بكرة رح يجي ابن الحلال ويخطفها على سنة الله ورسوله يا سليماني»، ثم إنها لن تحمل اسمك، اسمك يا بني، ستبقى سليماني، وسنبقى نناديك بهذا الاسم حتى مجيء «الصبي»، «الصبي» الذي سيحمل اسمك ويشد من أَزْرِك، وترفع رأسك عاليًا به أمام الجميع، «فالصبي عزوة يا بُنيّ»، وهو فقط من سيرثك بعد عمر طويل.

أنا سليماني الذي رزقه الله واستجاب لدعواتهم، فأنجب ولدَينِ اثنَينِ ليرفع رأسه «رأسكم أنتم»، أحسب أن رأسي مرفوع من دونهما عاليًا كما قالت أمي وأبي وجدتي، والحارة برجالها ونسائها وقاطنيها.

أنا سليماني الذي صار الناس ينادونه فجأة بـ«أبو غالب»، ولا غالب إلا الله، أيها الناس لو تفكرون، غالب أين هو؟ منذ سنة تخرجه التحق بإحدى الشركات الهندسية في أميركا وبقي هناك بعد أن أخبرنا بزواجه من زميلته، ولم يحدث سوى أن زارنا مرة يتيمة!

أما شقيقه فمنذ أن وصل في إجازة قصيرة من عمله في الخليج، وصادف عيد ميلادي الأخير أثناء وجوده، فأحضر لي هدية زعم أنها ثمينة، وكانت هاتفًا جوّالًا يُدعَى بالهاتف الذكي، أخبرني أنه سيدربني على طريقة استعماله بعد أن وضع صورتي على شاشته الكبيرة وغاب.

انا سليماني الذي لم يعرف الحب قط برغم زواجه وإنجابه البنين والبنات، في الواقع ابنة وولدَينِ.

مر الحب من جانبي كسيل من علٍ ذات صباح، وكنت غافيًا وغافلًا عنه، فلم يتوقف، أو يلتفت نحوي، أو ينادي باسمي، أو يرمي بإشاراته القوية في طريقي فأنهض لأحدق به وأستوقفه؛ لأحتفي به كما لو كان صديقًا وصل بعد غياب طويل، أستوقفه وأسقيه ماء القلب؛ كأنما يعرف أن هذا ليس من شأني، فتابع طريقه بلا تلكؤ ولم ينظر ناحيتي قط.

أنا الذي عشت لكم، ومن أجلكم، وبين أيديكم، أنا الحاضر دائمًا، وطوع أمركم.

أنا سليماني الرجل الذي يوصف بـ«المُعقَّد» والذي «لا يضحك للرغيف السخن» كما يقول الجميع.

أعرف هذا جيدًا، لطالما ردده أمامي كثيرون بالمنزل والعمل والحي الذي سكنته منذ أن كَبِرت وتزوجت، لكني لا آبَهُ بما يقولونه، ربما لأنني لا آخذه على محمل الجد.

أنا هو الرجل الذي قال عنه الشاعر:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليومِ كريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ

أنا هو ذاك.

والآن، ما يهمني هو الآن، الآن في هذه اللحظات التي سار بها الزمن وخلفني وراءه كجيفة، من أنا؟ ومن هذا الذي يحدق بي بكل صلافة ولا يمل؟!

قبل قليل، أعني.. أعني قبل سنوات قليلة مرت، قبل عام، قبل هذا اليوم، قبل الما قبل.. كنت أعرفني، أعرفني باسمي ووجهي وملامحي وعينيَّ.

الآن من أنا؟ ومن أكون؟ كيف أعرفني وأنا لا أشبهني؟! لا أُشْبِهُني باسمي الذي كَبِرْت معه وعشت عمري كله به رغم العواصف والمفاجآت، رغم عبثية الأقدار، رغم ضيق ذات اليد والصعاب التي مررت بها ومرت بي، وكادت أن تُطيحَ بي أكثر من مرة، أنا الذي اختبرتني الحياة كثيرًا ولم آبَهْ بها، بل بقيت واقفًا باسمي الذي كنت أعرفني به.

ما الذي حدث في غفلة عن كل شيء؟ ومن سرقني مني؟

أكرر الاسم أكثر من مرة، فيمر من سمعي، ويسيل كدمعة معترضة دون أن يتوقف أو يتمهل متعثرًا بي ليوقظ فيَّ شيئًا ما، موقفًا ما، كلمةً ما، دون جدوى!

أنا الرجل الحائر المرتبك الضائع التائه، الذي يقف على الحافة من كل شيء:

الحافة من اسمي، الحافة من ملامحي الباهتة، الحافة مما حولي ومما يحيط بي ويطوقني كقيد من الجهات كلها، الحافة بين حياتَينِ: سليماني الذي كنت أعرفه من قبل، وهذا الرجل الماثل أمامي بصلعته التي تشبه البطيخة، الذي أجهل من يكون؟! هذه حياة لا تشبه حياتي بشيء، حياة يجيدها الآخرون ببراعة.

أيتها المرآة، من أنا؟ من هذا الرجل الماثل أمامك بصلعة تشبه البطيخة، وبملامح مجهولة، كأنها ملامح شخص جاء من زمن قديم وسحيق؟ هل ستَدُلِّينني عليَّ، أنا الرجل الذي نسي أن يعيش ففقدتُنِي بالزحام؟

من أنا؟ وكيف لي أن أهتدي لاسمي ووجهي؟ من أنت يا هذا؟!

المرآة صامتة جامدة كحجر صلد لا يلين، مرت عليه شتاءات كثيرة وهو راسخ لا يتحول أو يتبدل في مكانه.

«ليت الفتى حجر» ليتني كنت أنا ذاك الفتى الحجر!

ولأول مرة طَفَرتِ الدموع من عينَيْ سليماني بجزع، وأخذ ينتحب بصوت مرتفع!

***

رن هاتفه الجوال وهو لا يزال يحدِّق بالمرآة، رن رنينًا متواصلًا ملحًّا أكثر من مرة، رن كما لو كان أحد يتوسله أن يرد، لكنه لم يتمكن من الرد، وأخذ يحدق في الهاتف وهو يرى صورة رجل لم يتمكن من التعرف إليه، تَنفَرِش صورته على شاشة الهاتف وتحدِّق به بعينَينِ جاحظتَينِ وباردتَينِ.

قهوة باردة

قهوة باردة

انسحبت الشمس من كبد السماء. انسحبت ببطء متوارية خلف الشفق الأحمر، إثر نهار قائظ وطويل. تنفست المدينة بعمق وارتياح، كأنما انزاحت عن سكانها أثقال حجرية. كان يومًا حارًّا واستثنائيًّا. يومًا لم يعتادوه من قبل. حتى إن مندوب دائرة الأرصاد الجوية خرج على الناس، من داخل شاشات تلفازاتهم، مصرِّحًا بأن هذه الموجة الحارة، التي اجتاحت البلاد، في الأيام الأخيرة، لم يسبق لها مثيل، منذ أكثر من عشرين عامًا.

٭٭٭

الجميع سيخرجون، وسأكون وحيدة. وأمامي فرصة كبيرة لأن أدعه يجيء. يكفيني هذا. أن يجيء. زعمت لأمي أنني لا أطيق هذا الحر اللاهب، وأنني لن أذهب للعمل، فوافقت بامتعاض. يكئبني الآن فشلي، ولأعترف بكل الألم: لا أستطيع إلا أن أجابه الحقيقة، وإن بدت مُرّة وموجعة. كنتُ أخطط منذ أمس، وأرسم وحدي، دون علمه، تفاصيل مجيئه للمنزل هذا الصباح. نشرب قهوتنا معًا. أدعه يرى غرفتي. أدخله عالمي الصغير. مكتبتي وسريري. أن نكون معًا لمرة واحدة في بيتي. يوقظني، يوقظ رغبتي المتأهبة له. أُخطّط، بفشلٍ لحلم أعرف أنني أتوحَّدُ معه وهو قاتلي. أجترُّ خسارتي، وأتشرّب مرارتها وحيدة وقلبي الطيب.

٭٭٭

بقيت مسترخية طوال الصباح، لا أفعلُ شيئًا سوى أن أحدّق في سقف الغرفة بصمتٍ أبله.  تناولت رواية وبدأت أقرأ: ما يزيد على الأربع سنوات وهو يكتبها. لديه مبرراته ربما في  أن يخلق صعوبة في قراءتها! فجأة، ألقيتُ بالرواية على الأرض. أحسستُ الراحةَ وأنا أراها ملقاة على البلاط العاري. بدت أمامي مثل كومة ورق متساقطة في مهب الريح.  لم أجد طريقة أكثر تعبيرًا عن غيظي سوى هذه؛ أن أرى الرواية بصفحاتها، خاصة تلك الملتهبة بفصولها القصيرة، تستقرُّ باستكانة مهزومة، وترقد على البلاط الذي لم ينظف منذ أسبوع! نظرت إليها بشماتة زادت من راحتي. ولم أتساءَل. لم أفكرـ أعني بالتغيّر الذي تولّد داخلي. أعرف أن لا أحد في المنزل سواي. لن يراني أحد. لن يسمعني أحد وأنا أشتمها. لقد شتمتها وكأنها شخص حقيقي وحيّ. لن أقول: إنه فعلٌ مجنون. كما لن يشاهد فعلتي متطفل لا أراه إلا في الوقت الخاطئ.

٭٭٭

أتوق إلى فنجان من القهوة. أنهض وأذهب للمطبخ. هدوءٌ رتيب مقيت يخترق المنزل من مداخله الثلاثة: المدخل الرئيس، والمدخل الموارب ناحية المطبخ، والخلفي المؤدي للطابق الثاني. يتسرّب الهدوء المقيت من النوافذ العديدة، ومن الساحة الواسعة المبلطة. يتجوّل في حديقته بأشجارها الساكنة التي لا تتحرّك. مقيتةٌ حقًّا هذه الحرارة المتساقطة من جوف السماء، وكذلك السكون الذي ترسخه خطوات المتبعّدِين والقادمين عبر الطريق المحاذية للمنزل.

بصعوبة اهتديت إلى ركوة القهوة. وجدتها بين الصحون. الصحون التي ما زالت مثقلة ببقايا عشاء البارحة. قالت أمي: إن عليّ ترتيب المطبخ وغسل  الصحون.

حائرة أمام غليان القهوة. رائحتها تنفذُ إلى المكان، رائحة قوية كرائحة زنبق مجفف. أحضرت فنجانين معًا (عادة أتبعها منذ أن عرفته) لأحتسي قهوتنا معًا. خرجت للشرفة. تذكرت كتابي. دخلت لإحضارها. هالني ما رأيت: الرواية المفضّلة لديَّ ملقاة على البلاط! ذابت الشماتةُ فيَّ وبرزت دهشتي مني. لم أستطع أن أقاوم لهفتي دون فعل يريحني: وجدتني بخفة هائلة أرفع الرواية برفق. أحتضنها باعتذار. برعونة طفل يبرر انفعاله في ساعة نزق طائش. بقبلة طبعتها على غلافها. هل هذا كافٍ؟ ألقي بها في الصباح، ثم أعود وأجدني أعتذر أمامي، أعتذر له، للكاتب الذي خلخل عوالم كنت أظنها قوية، وأعاد تركيبها من جديد. أسألُ. أسألُني أولًا.

وضعتها على الرف العلوي لمكتبتي مع كتبه الأخرى. هناك في الأعلى تنأى بمجدها بفخر وتميّز!

٭٭٭

كنتُ قد نسيت القهوة تمامًا. عدتُ للشرفة. تربضُ قهوتي بفنجانين ممتلئين وحيدين بالقرب من نباتات الزينة. جلستُ على الكنبة القديمة. بدأت أرتشفُ قهوتنا معًا. كانت باردة ورديئة. رديئة جدًّا. على مشارف الثلاثين ولا أُجيد صنع القهوة! لكن لمن أُعدُّ قهوة هذا الصباح؟ لمن أُعدها برائحةِ الهيل المميزة؟ لمن؟ ليجيء، ليجيئني ونحتفي معًا هذا الصباح؟

اجتاحتني رغبة قوية بأن ألقي بالركوة، والفنجانين، من فوق الشرفة، في الطابق الثاني. أسمع ارتطامها القوي وهي تصطدم بحجارة الحديقة المدبّبة. ينكسرُ الفنجانان، يُحدثُ ارتطامهما القوي وتكسُّرهما صوتًا يحرِّك هذا السكون المميت. أشهق حينها بغيظ طفلة بعد أن اكتشفت أن دميتها لا تتحدّث، فقامت بتقطيعها.

أقف على شرفة خاوية. تحت سماء ثقيلة تكاد تزهق الروح. معلقة في هاوية الكآبة أحتسي قهوتي الرديئة باردة، وأقطف الثمار المرّة من وجوه العابرين.

أرتمي فوق سريري، فيسقطُ رأسي المثقل. أذكر أن الحر كاد يخنقني، ثم أحسستُ بعينيَّ تنغلقان، تنوسان قليلًا قليلًا وتنطفئان.

٭٭٭

فيما بعد، رأيتني وأنا نائمة، أركض إلى الباب بعد أن سمعتُ جرسه القوي.

خيبتي ترتسم على وجهي. خيبة غير متوقعة: رفض أن يدخل. رفض بإصرار.

لماذا؟ كان صوتي واهنًا، متقطّعًا، مختنقًا، متحشرجًا، متوسلًا، متسولًا لحظات الفرح به. أن يكون في بيت. أن نكون معًا، ولو لمرة  واحدة، لا أحد غيري هنا، لا أحد سوانا… لماذا؟ أذكر أنه أجاب بتأثر باد على وجهه: لهذا لا أستطيع. أنت وحيدة الآن، وأنا أحبك. أضاف. كانت الروح قد عادت إليَّ ثانية بعد أن خلتها قد فرَّت. وكان أن اختفى. أفقت. جسدي مبلل بعرق يرشح من مساماته المكشوفة. لا أحد سواي. لا أحد حضر. هدوء كئيب كتيم ورتيب يسكنُ المنزل بظلاله الكامدة. أتطلّع في المرآة المعلّقة على الجدار. لا أراني. لا أرى شيئًا متعينًا. ثم أرى صورة امرأة تدخل فيها لتظهر بجسد ليس جسدي! ما أفزعني أنها ليست صورتي.

هي ليست بصورة جسدي. ليس هذا وجهي ما أراه.

هو وجه امرأة أكاد لا أعرفها. أبتعدُ وأُحدّق جيدًا. أُحدّقُ مليًّا. أُحدّق بفزع وبغير تصديق. بدأت ملامحها تتضحُ حينما بدأتُ أبتعدُ أكثر. إنه جسدها هي. جسدها المختلف. إنها ملامحها. الوجه، والعينان، و…

كانت هي.

أجل، كانت زوجته، التي لا يرفض الدخول

لأنها وحيدة… كما أنا الآن.

حين تكتب المرأة.. عن الكتابة وإشكالاتها

حين تكتب المرأة.. عن الكتابة وإشكالاتها

تشبه الكتابة حروبًا صغيرة يخوضها المرء، حروبًا مع – وعلى أكثر من جبهة، وبهذا «مياه كثيرة جرت تحت الجسر» من دون أن يشعر بها كثيرون، وفي كل مرة كنت أعود بخسائر أكثر أو بربح أقل، لكن من دون أن أعود كما كنت في السابق، أنت لست نفسك قبل قليل، ولن تملك القدرة على استردادها بلا زيادة أو نقصان، قبل أن يحدث ما حدث!

على مستوى الفكرة، اللغة، القص بمفهومه الحديث ليس من شيء أمام الكاتب سوى الفكرة، فالحب فكرة والحرب فكرة والوطن فكرة، مشكلة الكاتب الأولى هي مع الفكرة والفكرة هي التي تقود للإنتاج، إنتاج الأفكار، بمعنى أن أفكارنا ليست سوى القدرة على تنشئة علاقات مع الأشياء وبما نشكله عن هذه الأشياء من تداخلات وعلائق وأضداد وتصورات تقود للوهم والشك أو العزلة أو الأمل أو اليقين وصولًا للكتابة عبر اللغة.

أما عن المعارك الأخرى التي أسميها «الداخلية»، سأتحدث عن تجربة وعمر وخيبات، عن حروب وقعت، وعن حروب ستقع، وعن هزائم صغيرة وأخرى كبيرة لا تغتفر، عن الحب والخذلان في الحب والحرب أو الثورات بمعنى أدق، نحن الذين خذلنا بالثورات وبالحب، وعن حيوات كثيرة مرت بي ومررت بها، بعضها غادر إلى غير رجعة وبعضها لا يزال يطبع آثاره فوق روحي، عن حيواتي أنا المرأة التي لا تزال تعيش الحلم وترنو لأفق آخر لا تغيب شمسه إلا لتطلع صباح اليوم التالي أكثر إشراقًا.

توقفت متشككة ومراجعة ومتسائلة لعل أبرز هذه المحطات هي محطة الذات، وهي من أصعب المحطات! ذات المرأة الكاتبة، علاقة الذات بذاتها، علاقتها مع الآخر، ومع العالم، علاقتها مع الكتابة، أسئلة الكتابة وما هي الجدوى المتأتية من ورائها؟ ومن هو الكاتب أو المثقف؟ أسئلة كهذه، وغيرها كثير، استوقفتني كثيرًا، متسائلة متشككة ومتفحصة، إلى أن غيرت لديّ كثيرًا من اتجاهاتي بالقراءة والكتابة وبالدور المنوط بي، ففي الوقت الذي كنت أراني فوق الآخرين، والناس العاديين كذات حتى بين أسرتي الصغيرة، وهذا التفكير المتأتي من كوني كاتبة، وأتميز منهم ولا أشبههم، اكتشفت أنني بهذا التفكير الساذج والمتوارث عن مفهوم الكاتب والشائع عند الكتاب والكاتبات بالعموم، في الحقيقية لا أختلف عنهم بشيء فأن تكون كاتبًا هذا ليس امتيازًا بشيء، فالكتابة مهنة أو حرفة لا تختلف عن أي حرفة أخرى كالزراعة أو الهندسة أو بائع الخضار، إلا بمقدار ما تقدمه من طرائق تفكير مختلفة، وما تقترحه من جماليات! قناعات عديدة أزحتها من رأسي لعل أهمها: إعادة تشكيل ذاتي ككاتبة عبر تغيير كثير من التصورات والقناعات الجديدة في ضوء الراهن المعيش من دون إغفال للمتغيرات والأحداث التي تجري أمامي. وما هي مكانتي، ومهمتي ومفاهيمي للحرية والعدالة والحقيقة.

مثالية مفرطة

انزياح فكرة أن الكاتب حارس للأفكار وللقيم وللحرية وهو صوت الضمير، أو المثالية المفرطة بمثاليتها، وهو الناطق الوحيد باسم الحقيقة أو مناوأة السلطة، أية سلطة كانت! وهنا بماذا يختلف الكاتب عن الواعظ أو إمام الجامع أو كاهن الكنيسة؟ الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له ألّا يتوقف عن طرح الأسئلة على نفسه أولًا: لماذا تزداد الأمور سوءًا أمام التحولات التي تحدث في عالمنا العربي تحديدًا؟ وما الذي يحدث أصلًا؟ ولماذا لا دور لي أو تساؤلات أو نقاشات فيما يحدث من متغيرات تكاد تعصف بكل ما في طريقها؟! لا بد لي ككاتبة من التوقف طويلًا أمام المقولات المتحجرة والجاهزة، والمناهج التعليمية القاصرة عن مواكبة هذا العصر ومتغيراته، وأمام الثنائيات العقيمة التي تقسم المقسوم إلى أجزاء صغيرة متناثرة أمام أعيننا؛ لأننا إذا لم نفهم ما يحدث فلن يكون لنا من دور بصناعة الحدث وبالتالي المشاركة في نتائجة!

على المثقف الكاتب إعادة ترتيب «علاقته بالأفكار لنسج علاقات جديدة مع الواقع» الواقع المتغير بكل شيء من خلال شبكة جديدة من المفاهيم، وعليه صياغة أفكاره ثانية في ضوء ما يحدث وفي خضم التجربة، هذا هو التحدي الذي على الكاتب أن يتوقف أمامه طويلًا.

هنا فقط يستطيع أن ينتج نصًّا مغايرًا، يملك وقائعيته وامتداده؛ إذ إن الأفكار ليست سوى علاقته بالواقع والحقيقة، حينها سيكون فاعلًا في مجتمعه تمامًا مثل أية فعالية أخرى يمتهنها رجال الأعمال والمهندسين والمزارعين وغيرهم، وسيكون ابن عصره وزمنه عند توقفه عن تلقي الأحداث بمنطق الصدمة والمؤامرة، وسيكون فاعلًا واعيًا بدوره في المدى الإنساني برمته. فأنت لا تذهب للمعركة من دون استعداد!

الكتابة هي ميدان الكاتب وهي تجربة تشتبك بها المعرفة والسلطة، سلطة المعرفة، والعشق والمحبة، والأمل والصراع، والتواصل والقطيعة، والتعمية والاستنارة أو الرؤية. هذا باعتقادي هو الدور المنوط بالكاتب وإلا سيكون مثل كاتب تقرير أو مؤرخ أو مدوِّن اجتماعي أو أي مهنة أخرى غير مهنة الكاتب!

والكاتب بطبعة كائن متيقظ، بعينين متفتحتين على الأشياء، المرئية وغير المرئية وبما يحيط به، وما يمر من أحداث ووقائع حوله وبالعالم، وهو بطبعه شخص يتمتع بذكاء حاد وبمكر فائق، ويقتنص كثيرًا من الأحداث الكبيرة أو الصغيرة من أجل كتابة نص، في الوقت الذي يبحث فيه عن غيره.

كثيرًا ما أجدني ومن غير تخطيط وبلا قصد أو سابق إصرار أمام ما يستفزني للكتابة، وأكاد أصرخ: أجل، وجدتها، غير أني ألوذ بالصمت بمكر ودهاء كبيرين، وأستدرج من حولي وأوقعه بشباكي اللغوية ببطء، لأكتبه فيما بعد، وأنا أبتسم في سري، وأحيانًا كثيرة أضبط «الضحية» على غير توقعه، وأقوده من يده نحو ما أعتقد أنه سينقاد إليه معي أو من دوني لكن ظهوري المفاجئ ساعده من حيث لا يدري للوقوع بسهولة متناهية بما أدركت أنه واقع به لا محالة.

وليس مهمًّا أن يكون رجلًا أو امرأة، قد يكون شيئًا، أو حدثًا، أو حالة أو رائحة، هذا كله يقودني لتتبع الأثر وسبر أغواره والكتابة عنه لاحقًا. وكثيرًا ما تجيء أحداث قصصي ومجرياتها من هناك، من ذلك الركن المعتم، من ملامح ذاك الرجل التي تنطق بما هو مخبوء ولا يجرؤ على البوح به لأحد، من هذا الرجل الذي يكتنفه الغموض، من تلك المرأة التي وهي ترسم ابتسامة عريضة على وجهها فتتكشف هذه الابتسامة عن حزن يطلع بالرغم من هذا كله. لكن لا أعرف ما الذي يحدث أثناء الكتابة، بمعنى لا بد لي من إدخال تغيرات طفيفة أو كبيرة على المشهد أو الحالة بوعي أو من دون وعي، أي الحالة التي قادتني للكتابة، لا أستطيع أن أكتب من دون أن أكذب، ثمة انزياحات تحدث على المتن، بمعنى اختلافات جرت على المشهد أثناء كتابته أي أنني أستند لحدث جوهره حقيقي، لكن ما يحدث بعد ذلك هو ما تأخذني الكتابة أو الحالة إليه من تأويلات أو انزياحات أو أحداث جديدة طرأت على الشخصية، الشخوص، أثناء عملية الكتابة من دون أن يكون الأمر بيدي، وكثيرًا ما توقفت أمام نصي عند اكتماله وأتفاجأ تمامًا كقارئة أن الشخصية خرجت على ما كنت أودّ لها أن تذهب إليه، ولا أعرف كيف حدث هذا أو متى خرجت الأمور عن سيطرتي كذات كاتبة!

عن مفهوم الحرية لدى الكاتب الكاتبة

لا تقتصر الحرية بمفهومها الواسع على حرية الرأي والتعبير عنه، أو مناوأة السلطة بغض النظر عن مدى شرعية هذه السلطة أو طغيانها، أو التآلف معها.. أنت لا تستطيع أن تقدم مفهومًا حديثًا للحرية من دون أن يكون لديك كذات موقف ورؤية لهذه الحرية، ومن دون أن تكون حرًّا من الداخل، وأن تكون حرًّا من الداخل يعني أن تمتلك مفهومًا لهذه الحرية وعلاقتك بها وتصورك لهذه الحرية المنشودة أو التي تحلم بها.

أنت لن تكون حرًّا بفكر أيديولوجي مهما كان هذا الفكر الذي يقف وراءه. الإيمان بحرية الآخر – وكل ما عداي هو آخر – حرية نزع الرقيب الذي يسكن داخلك منذ الطفولة، قبل ذاك الذي يقف بانتظارك خارجًا. مدى تقبلك للاختلاف والتمايز، والجهر بالحقيقة، حتى الحقيقة من يمتلك جوهرها الخالص؟

الحرية تعني أن تقف أمام المقولات والأفكار والقيم الجديدة موقفًا نقديًّا متسائلًا عن مدى الضرر الذي تلحقه بنا أفرادًا وجماعات، ذكورًا وإناثًا. وصولًا لمجتمعات إنسانية معاصرة تجهد أن يكون لها موقع بين الأمم، ومن دون هذا ستكون حريتنا – أو تصورنا عن الحرية- ناقصة وفي حاجة لدرس طويل من تغيير بالسلوك والمفاهيم المكرسة والعادات المكتسبة، والقيم الهجينة.

أكنت أنا؟

أكنت أنا؟

جميلة عمايرة قاصة أردنية

جميلة عمايرة

الرجل الذي سمي باسمين اثنين بالمجاز، لم يكن باستطاعته أن يكون أحدهما كاملًا! فبقي موزعًا بين «الهُنا» و«الهُناك»، وواقع سوريالي يجري على مبعدة خطوات قصيرة منه، في المدينة التي علّمت العالم الأبجدية.

ينبت له شاربان خفيفان بخطين صغيرين ناعمين كزغب طيور وُلدت للتو، بلون أشقر أو أصفر يشبه رأس سنبلة قمح متوهجة بفعلِ أشعةِ شمسِ آب.. وجهه طولاني، أنف صغير مدبّب، بعينين حالمتين ناعستين ترنوان نحو أفق بعيد تطوقه أسلاك حديدية شائكة غليظة، لن يتمكن حتى الطير في سمائه السابعة أو الثامنة، من التوقف فوقها ذات فجر.

«إلهي: ارفع عني هذه الكأس!».. سيقول ذات صباح أحمر نهض فيه متأخرًا على غير ما اعتاده في سابق أيامه ولياليه، ولم يجد مدينته.. مدينة إقامته هذه المؤقتة، في انتظارٍ لحلمِ عودةٍ مباغتة طال سرابها. يتذكر توسل «السيد» ورجاءَه لربه «له المجد في علاه» في وقت يشبه وقته هذا تمامًا! ينظر إلى المدينة، صباحها المعتم بسواده..

على مبعدة يرى موقع «المعمداني» الذي ضمت رفاتَه المدينةُ بعد أن بشّر بـ«سيده» وآمن به ولم يره قط. المدينة نفسها التي لم يتعرف إلى وجهها في هذا الصباح، فلم يجد ما يسند قامته النحيلة سوى رجاء «السيد» لربه وتوسله في محنته.. المدينة نفسها وفي حدثٍ مباغت وللمرة الأولى منذ خمسين عامًا أو أكثر أو أقل، ستقذفه! يتذكر الأمر الآن في هذه الساعة بمدينته التي لا تشبه ساعات غيرها.. ستقذفه نحو الأفق المسيج بالأسلاك الشائكة، نحو حلمه الذي يرنو إليه القلب قبل العين طويلًا، ذلك أنه لم يتوقع أنه سيعود خطفًا سريعًا ومرغمًا نحو المدينة نفسها، كخروجه تمامًا.. سيعود، إلا أنه في هذه المرة سيخلف قلبه وراءه. ستقابله المدينة ثانيةً باسمه الذي يحب، والذي يحاول أن يكونه عبثًا. ستأخذه من يده، ستأخذه هذه المرة وتصفعه على وجهه صفعات لم يعد يتذكرها لقسوتها، وتعيده ثانية تحت سمائه المقيمة هذه.

سيبكي. سيبكي كثيرًا تحت سماء مدينته التي لم يتعرف إلى ملامحها هذا الصباح، في ساعاتٍ لا تشبه غيرها من ساعاتٍ مرت عليه، تحت سمائها المختنقة بـ«طائرات الميغ» محاولًا أن يحتفظ بسماء المدينة الذي اعتاده، عاريًا مشلوحًا متوسلًا لرب السماء «له المجد في علاه». في هروبه أو لجوئه نحو اسمه الثاني، يحاول التذكر ليكتب عن هول ما جرى منذ عام -أقل أو أكثر قليلًا- لم يعد يتذكر، ثمة شقوق في الذاكرة وفيما يجري الآن من عام 2012م. سيكتب عن هول ما جرى، وما يجري. عن مدن يحنّ إلى رؤيتها في الحب أو الحرب. الحرب التي يحاول تأجيلها على طريقته هو: «أيها الجندي تمهل قليلًا، تمهل كثيرًا، دع المطر يتساقط من سماء ضاحكة ليبلل روحي، دع نظرة عينَيّ تقف على بيت صغير يغفو أسفل بطن الجبل، وعلى ياسمين لم يتفتح بعد. عندها فقط ربما عليك أن تطلق رصاصتك!». «لستُ بجندي»، يقول: «ظننتُ أن شغفي بالسهول، وبالياسمين، والنارنج ويوسف أفندي، والبحرة عند مدخل بيتنا القديم، سينقذني مني ومنك». لكن طواحين هواء خيالها ذاكرة لا تقيم، وفي ليلة عاصفة ومعتمة محته «أثرًا بعد عين»، فاشتهى الطحان الغافي قمحًا من غير زؤان لطحنه! لكنه لم يجد غير حبات سوداء صغيرة برؤوس فارغة! عندها أصبح قلبي بئرًا أصابه حجر في عمقه، فظن أنه أمل تناثر ماؤه وتوزع ليحضن الياسمين والبيت أسفل الجبل، أو ذاك البيت الصغير الذي ملّ انتظاره في «جادة العائدين»، بالقرب من ثانوية البنات، في المدينة التي تقتلني وتقتلك، إلا أن الظن خاب واندثر. هي عاطفة لم أتبين آثارها بعد. ذلك أنني ربطت قلبي من وسطه بحجر (يجيبه بأحد اسميه) كي ينسى حنينه أو لا يتذكر. تجاهلت الأمر بزراعة الصبار في طريق عودة مرتقبة، إلا أنني أضعت طريقي بين أشجار كثيفة ويابسة قرب نبع جف ماؤه فنشف، ليبقى الحصى في مكانه كشاهد فزاعة! منذ ذلك الوقت استوقفتني الأحلام واعترضتْ طريقي في حقول العودة المليئة بالأشباح والعتمة، لأرى بعينيّ المغمضتين الرجل ميتًا وسط الأعشاب الضارة وقد دخل عامه الألف أو يزيد، وما يزال يحتفظ بخاتم فضّي حال لونه واصْفَرّ، ومفتاح قديم أسود. هل كنت أنا؟ أم كان هو؟ أم كنا الاثنين معًا؟ أم أنا باسمَيّ الاثنين؟ بتُّ لا أعرف شيئًا ولا أتذكّر.