النموذج الصيني… زلزال الدولة المتحضرة

النموذج الصيني… زلزال الدولة المتحضرة

ذهب المفكر الصيني «تشانغ وي وي» إلى أن النهضة الكبرى التي قامت بها الصين منذ منتصف السبعينيات حتى الآن تعد زلزالًا بكل المقاييس، ولا ترجع أهمية هذا الزلزال إلى ما تحقق من تقدم على مستوى الناتج القومي أو إنجاز طفرات واضحة في الصناعات العملاقة، إنما لأن التقدم السريع والمتلاحق تم في دولة حضارية بكل هذا الاتساع الجغرافي والعمق التاريخي والتنوع الثقافي والثروة البشرية. جاء ذلك في كتابه «الزلزال الصيني: نهضة دولة متحضرة» الصادر مؤخرًا بالقاهرة عن المجموعة الدولية للنشر والتوزيع «سما» (ترجمه عن الإنجليزية كل من محمود مكاوي وماجد شبانة، وراجعه على النسخة الصينية أحمد سعيد).

«وي وي» يؤكد في هذا الكتاب أن الصين استطاعت أن تتخطى العملاق الياباني عام 2010م في سباق الناتج القومي المحلي، وأن نصيب الناتج المحلي الأميركي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سوف يبلغ بحلول أغسطس 2016م نحو 18.3%، بينما سيبلغ نصيب الصين من الناتج المحلي العالمي نحو 16.9%، وأنه حسبما قدر الرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي «كلاوس شوب» سوف يتجاوز النصيب الأميركي بحلول عام 2018م، ليصبح أكبر اقتصاد في العالم.

وتحدث البروفيسور «تشانغ» بحماس عن النهضة الاقتصادية الصينية، موضحًا أنها نهضة دولة متحضرة، وأن الدولة الحضارية هي بمثابة مئات الدول التي اندمج بعضها مع بعض على مدار التاريخ، معتبرًا الصين نموذجًا فريدًا في هذا الشأن؛ لأنها تاريخيًّا أقدم دولة حضارية مستمرة منذ القرن الثاني قبل الميلاد حتى الآن، وأنها على المستوى الجغرافي أكبر من عشرين دولة أوربية، بينما على المستوى السكاني فإنها تشتمل على خُمس سكان العالم، ومن ثم فكل هذا الثقل يجعل من الصعوبة المغامرة بتطورات سريعة، ولأنه لا بد من اتخاذ خطوات تدريجية بسيطة ومحسوبة، فلا يمكن السير في ركاب كل ما ينصح به الغرب، كما فعل «غورباتشوف»؛ مما أدى إلى تفكك الاتحاد الروسي.

ويذهب «وي وي» إلى أن الصين حققت الآن ما يعرف بالنموذج الصيني في التنمية، هذا النموذج القائم على إتاحة رأسمالية السوق إلى جانب رأسمالية الدولة، ووضع خطط تنموية تستهدف بؤرًا ومدنًا متقدمة بدرجة تتفوق على النموذج الغربي، مع السعي لتحديث وتمدين الولايات الفقيرة في الصين عبر تدوير رأسمالي من الولايات الأغنى إلى الولايات الأفقر.

وشن «وي وي» هجومًا على الغرب، رافضًا المقاييس الغربية للبلدان المتقدمة؛ إذ إن بعضها تم احتسابه على أساس الدخل الفردي الذي يزيد على 20 دولارًا يوميًّا، وقد لا يتوافر هذا المبلغ لدى المواطن الصيني، لكن هذا المواطن، كما يقول، يمتلك ما لا يمتلكه المواطن الأوربي صاحب الـ20 دولارًا، فهو يمتلك منزلًا أو قطعة أرض، مشيرًا إلى أن هذا المقياس لا تعرفه الأمم المتحدة، فضلًا عن أن فارق الغلاء المعيشي يكون في الغرب أعلى.

وقال المؤلف: إن تطور الغرب جاء بعد احتلاله إفريقيا، ونهب ثروات بلدانها، كما أن نهضة اليابان لم تحدث إلا بعد احتلالها الصين، ونهب الذهب الصيني. كما شن هجومه على بريطانيا التي اجتاحت الصين مرتين من أجل الحفاظ على تجارة الأفيون؛ مما عطل لسنوات مسيرة الصين للدخول في منظومة الدول الحضارية.

ويذهب «وي وي»، الذي يعمل أستاذًا في جامعة شنغهاي فضلًا عن تأسيسه مركز دراسات النموذج الصيني، إلى أن الأعمدة الأساسية التي قامت عليها النهضة الصينية هي الممارسة كمنهج فكري، وإعطاء الأولوية للاستقرار، والاهتمام بمستوى المعيشة، والإصلاح التدريجي، والتمييز الصحيح للأولويات، واعتماد الاقتصاد المختلط، والانفتاح على العالم الخارجي، وصياغة معايير صينية لكل الأمور.

رؤية ثقافية لمجابهة التطرف

رؤية ثقافية لمجابهة التطرف

يذهب مدير مكتبة الدكتور إسماعيل سراج الدين في كتابه الصادر حديثًا عن مكتبة الإسكندرية، وعنوانه: «التحدي: رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف»، إلى أن ظهور التيارات الدينية المتطرفة في العالم العربيّ؛ جاء نتيجة مجموعة من التراكمات الثقافية، في مقدمتها الإفلاس الفكريّ لدى كثير من الأنظمة العربية مدة زمنية طويلة، سبقت ثورات الربيع العربيّ، فقد عجزت تلك الأنظمة عن تجديد العقد الاجتماعيّ بشكل حقيقيّ، إضافة إلى الاحتكار المستمرّ للسلطة من نخبة متواضعة الفكر؛ نخبة كبحت مواهب الشباب، وفرضت نظامًا من الهيمنة على الترقِّي السياسيّ والاجتماعيّ، إضافة إلى عودة الإسلام السياسيّ بعد أن استمر قمعه زمنًا من جانب الخطاب السياسيّ القوميّ والعلمانيّ، لكنه اكتسب زخمًا جديدًا من خلال الثورة الإيرانية، والتمويل من بعض الدول النفطية وأثرياء العرب، وظهور حزب الله في لبنان في أثناء الحرب الأهلية الطويلة الدائرة هناك، ودوره في المقاومة في أثناء الحرب الإسرائيلية في لبنان. ولقد «تفاقمت» تلك الأوضاع وغيرها بعد عودة «العرب الأفغان» الذين تحالفوا مع المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان؛ مما أدَّى إلى اعتلاء طالبان سُدَّة الحكم هناك.

ومن الأسباب أيضًا، الغزو الأميركي للعراق عام 2003م، وما تبعه من إخفاق في إدارة الانقسامات العرقية والدينية الشديدة في ذلك المجتمع، إضافة إلى الحرب الطويلة التي شنَّتها أميركا وحلفاؤها على أفغانستان، وبعدها أعمال القتل الممنهجة للمدنيين باستخدام الطائرات من دون طيار في باكستان وأفغانستان واليمن وغيرها؛ كل ذلك ساهم في تأجيج مشاعر الظلم التي غذَّت الاستعداد النفسيّ لدى الأغلبية المسلمة لقَبول مواقف أكثر تطرفًا من شأنها استعادة القليل من احترام الذات والكرامة، في مواجهة ما يرونه إهانة متواصلة لكرامتهم.

ويشير سراج الدين إلى إن مصر التي كانت تسيطر على السوق الثقافيّة في العالم العربيّ أصبحت اليوم واحدة من كثير من منتجي الفن والثقافة، بعد أن أصبح الإنتاج أكثر تنوعًا من قبل، لافتًا إلى انفتاح دول الخليج، بما تملكه من مصادر ثروة هائلة أمام الأفكار الجديدة؛ لتصبح مراكز عالمية للإنتاج الإعلاميّ والمؤسسات الثقافية. وعلى الرغم من تدهور الحال اجتماعيًّا واقتصاديًّا في العالم العربيّ، فإن المؤلف يجد ارتفاعًا ملحوظًا في النشاط الثقافيّ، فالأدب والسينما والمسرح والموسيقا تشهد ازدهارًا عجيبًا يشير إلى حال فصامية.

وفي أغلبية البلدان ترفض النخبة القديمة المسيطرة على المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية إفساح المجال لازدهار المواهب الشابة؛ مما أدَّى إلى مناخ لم يشجع إلا المواهب المتواضعة، وكبح قدرة الشباب على المبادرة، وخلق فجوة واضحة بين الأجيال؛ تفصل بين النظام من جهة وجيل الشباب من الفنانين والمثقفين والقادة السياسيين المحتملين من جهة أخرى؛ مما زاد من الانفصام الذي حدث نتيجة لتبنِّي جيل الشباب التقنيات الحديثة المتصلة بثورة المعلومات والاتصالات، التي صيرت شكل الحياة جذريًّا، تلك الثورة التي لا يكاد آباؤهم يفهمونها، ناهيك عن أن يتمكنوا من أدواتها.

ويتأمل سراج الدين ما حدث من تحول واضح في الفن والأدب الغربيّ في المدة بين نهاية القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية، فقد تهاوت في تلك المدة الإمبراطوريات، وحدثت ثورات، وتركت حقبة الركود الاقتصاديّ الكبرى أثرًا لا يمحى في أجيال في أميركا، وشهدت ألمانيا تضخمًا شديدًا، وولدت أنظمة فاشية ونازية وشيوعية. وقلما عانى المشهد السياسيّ من ظروف أسوأ، لكن التحولات الثقافية التي طرأت على الغرب لم تدفعها قدمًا النخب والمؤسسات الثقافية، بل الشباب المتمرّد والحركات الثقافية المضادة.

ويؤكد سراج الدين أن هناك نموًّا قويًّا في كثير من الصناعات الثقافية، ولقد تسارع هذا النمو بفضل جيل الشباب من الفنانين، وبخاصة عقب الربيع العربيّ، لكن تلك الجوانب تتوازى مع تنامي التعصب الذي تظهره الأنظمة الشمولية، وتصاعد التشدّد من جانب مجموعات تستخدم السلاح لتحقيق أشكال متطرفة من الإسلام السياسيّ؛ حتى إن بعضها قد تخطى حدود السلوك الإنسانيّ المتحضر؛ مثل: داعش، ولم يتبقَ سوى جزر متفرقة من الانفتاح منثورة داخل الأراضي الشاسعة في العالم العربيّ الممتد من المحيط الأطلنطيّ إلى الخليج. ومن ثم فإنه يشدد على حتمية مواجهة التطرف.

مقيمون لا لاجئون سوريون ويمنيون يفضلون القاهرة على أوربا

مقيمون لا لاجئون سوريون ويمنيون يفضلون القاهرة على أوربا

«لا يوجد في مصر لاجئون سوريون» هكذا قالت الشاعرة السورية رشا عمران وهي تحدثنا عن أوضاع السوريين في مصر، موضحة أن مصر البلد الوحيد الذي لم ينشئ معسكرات للسوريين على أرضه، ولم يعزلهم عن أبنائه، «نحن جميعًا نعيش معًا، ولا أشعر أنني غريبة عن وطني، حتى إنني فضلت البقاء في مصر على الذهاب إلى أوربا، فمن الصعوبة الاندماج مع أبناء وطن ليس لهم نفس اللغة والتاريخ والقيم، وكل ذلك متحقق بالنسبة لي في مصر، ولا أعاني أي مشكلات سوى ما يعانيه المصريون جميعًا في حياتهم اليومية».

رشا-عمران

رشا عمران

القاهرة

لا يختلف وضع اليمنيين العالقين في مصر عن ذلك؛ إذ إنهم لا يعانون سوى غلاء المعيشة وكثرة الإجراءات الحكومية، فضلًا عن ازدحام القاهرة وضجيجها، بحسب ما أوضح ناصر الأرياني. الأرياني وهو أحد الدارسين في جامعة القاهرة، يرى أن المركز الرئيسي لليمنيين هو حي الدقي بالقاهرة، ففيه العديد من فنادق الدرجة الثالثة التي ينزلون بها في البداية، وسرعان ما يحصلون على شقة أو ما شابه عبر مساعدة أصدقائهم وذويهم الذين سبقوهم في المجيء، لكن اليمنيين لا يعملون في مهن كثيرة، وأغلبهم جاء للتجارة أو التعليم أو العمل مع أحد أقاربه في القاهرة. ومن ثم فجميعهم مرتبط بالدقي بشكل رئيسي.

سوريون يفضلون المدن الأقل ضجيجًا

على النقيض من ذلك يذهب زياد الصالحي، وهو شاب سوري في الخامسة والثلاثين من عمره، ويعمل سائقًا لتاكسي، إلى أن السوريين ينتشرون في أغلب المدن المصرية الآن، فهم يبتعدون عن زحام القاهرة وغلائها باحثين عن عمل في المدن الأقل سرعة وضجيجًا.

كان زياد قد جاء إلى القاهرة ليقيم مع بعض من أهله وجيرانه الذين سبقوه إليها، في البدء كانت القاهرة محطتهم الأولى، لكن غلاء السكن وقلة العمل المتوافر بها دفعهم للذهاب إلى طنطا، وهي مدينة إقليمية تتوسط المسافة بين القاهرة والإسكندرية، هناك عمل زياد سائقًا لتاكسي. ويقول زياد: إنه يقيم في مصر منذ عامين ولا يعرف حتى الآن عن مفوضية حقوق اللاجئين شيئًا، ولا يرى أحدًا ممن ذهبوا إليها، موضحًا أنها لا تفيد إلا في الحصول على إقامة.

وأكد زياد أن المصريين يرون أن السوريين في بعض الأحيان يزاحمونهم في فرص العمل، لكنهم لا يقدرون الظروف السيئة التي يعيشونها.

وفي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه الأرقام عن اليمنيين المقيمين في مصر؛ بسبب توتر الأوضاع في اليمن، ورغم صدور بيان من السفارة اليمنية في القاهرة عقب بدء العمليات العسكرية في شهر مايو الماضي يوضح أن عدد اليمنيين الذين لم يستطيعوا العودة إلى بلادهم يقدر بنحو خمسة آلاف مواطن، لكن هذا الرقم لا يمكن التأكد منه بشكل واضح، ولم تعمل الجمعيات الأهلية ولا المؤسسات الرسمية على التحقق منه، إلا أن ذلك لا يدعونا إلى المبالغة؛ إذ إن المعاناة التي يلاقيها أي من اليمنيين حال تفكيره في المجيء من اليمن إلى مصر لا تجعل القاهرة وجهته الأولى.

من ناحية أخرى، تتوافر الكثير من الأرقام عن السوريين، ففي الوقت الذي قالت فيه رئيس مجلس إدارة مؤسسة «فرد» الأهلية رشا أبو المعاطي: إن ستين ألف طالب سوري مسجّلون في المفوضية، من بينهم أربعون ألفًا يذهبون إلى المدارس، وعشرون ألفًا يجلسون في المنازل بلا تعليم، فإن رئيسة إدارة المرأة والأسرة والطفولة بجامعة الدول العربية السفيرة إيناس مكاوي أكدت أن ما يقارب 350 ألف سوري يعيشون بمصر غير مسجَّلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وأن عدد من يستفيد من المعونة المالية الشهرية الخاصة بالمفوضية هم واحد وثلاثون ألفًا فقط، يتقاضى كل منهم مبلغًا ماليًّا قيمته تراوح بين أربع مئة جنيه، وألف وخمس مئة جنيه مصري، وذلك حسب عدد أفراد العائلة التي يعولها.

انفو-لاجئون

يحرص اليمنيون ذوو الوجود الأقدم في القاهرة على التجمع بمطاعم خاصة بهم، وما أكثر المطاعم التي تحمل اسم حضرموت، مثلما تنتشر سلسلة مطاعم ياقوت الحموي السورية في القاهرة والمدن الإقليمية، لكننا في بعض المطاعم اليمنية سنجد الأواني القديمة وأنوعًا من الأطعمة الجبلية الحريفة، سنجد مناخًا يشعرنا أننا انتقلنا إلى اليمن بهضابها وجبالها، أو أن الهضاب والجبال بمأكولاتها قد هبطت إلينا.

لكننا مع السوريين الوافدين حديثًا على القاهرة، سنلحظ أنهم جميعًا في حالة انتظار للعودة، فعلى الرغم من توزعهم على العديد من الحرف والأعمال إلا أنهم لم يشعروا بعد بالاندماج الكامل في المجتمع على نحو ما حدث لليمنيين، وما زالت الغربة بادية على وجوههم، رغم أن القاهرة تبدو كما لو أنها تعيش عصرها الإمبراطوري، حيث الحضور القوي لغير المصريين، وحيث يعيش الجميع كمواطنين من دون حضور لثقل كلمة لاجئ، أو فكرة معسكر يحول بينهم وبين اندماجهم في المكان.

علي-المقري

علي المقري

يوم واحد – صالح للحياة

علي المقري

يقول الشاعر والكاتب اليمني علي المقري، الذي تمكن من الوصول إلى القاهرة قبل سفره إلى فرنسا ليتسلم جائزة هناك: إنه خرج بمعاناة شديدة من صنعاء إلى عدن، ومنها إلى جيبوتي عبر البحر، ليمر من أمام سفن القراصنة ويقيم بين جماعات متشددة في جيبوتي لمدة شهرين، شاعرًا بأن الخطر مُحدق به كل لحظة، وهو لا يستطيع الاتصال بأهله في اليمن ولا العودة إليهم، ولا حتى الخروج من جيبوتي؛ لأنه ليس معروفًا متى ستتوافر الطائرة التي ستقله إلى القاهرة. علي الذي حصل أخيرًا على إقامة تؤهله للجوء كامل إلى باريس، يحصل على دولارات عدة في الشهر من مفوضية اللاجئين هناك، ويتمنى العودة إلى القاهرة؛ ليقيم بين أصدقائه بها، لكنه يتمنى أكثر أن توقف آلة الحرب عملها في بلده؛ كي يتمكن من رؤية يوم واحد صالح للحياة.

شاورما