«هيئة السياحة».. نحو منتج سياحي يمثل إثراء اقتصاديًّا ومعرفيًّا واجتماعيًّا

«هيئة السياحة».. نحو منتج سياحي يمثل إثراء اقتصاديًّا ومعرفيًّا واجتماعيًّا

قفزات نوعية وكمية تعيشها الفعاليات السياحية في السعودية في السنوات الماضية، وتعد صناعة الفعاليات السياحية نشاطًا اقتصاديًّا جديدًا وواعدًا وينمو بسرعة مع نمو المهرجانات وتزايدها سنويًّا، إذ تشهد نموًّا متزايدًا، وتستقطب الملايين من الزوار من المواطنين أو المقيمين سنويًّا، بتنظيم ورعاية ودعم من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وشركائها في المناطق من القطاعين العام والخاص، وهو ما أسهم في تحقيق عوائد اقتصادية للمحافظات والمناطق، واستفادة شرائح المجتمع كافة من فرص العمل المؤقتة التي توفرها تلك الفعاليات والمهرجانات، إضافة إلى تنشيط الحركة التجارية في المناطق التي تقام فيها، وأيضًا استفادة الأسر والحرفيين والحرفيات من هذه الفعاليات في زيادة دخلهم.. وفي هذا التقرير تفتح «الفيصل» ملف الفعاليات السياحية وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية في المملكة.

وتشهد مناطق المملكة سنويًّا ما يزيد على 100 فعالية ومهرجان سياحي تقام على مدار العام وتتنوع بين فعاليات ثقافية وتسويقية وصحراوية وتراثية، وأخرى خاصة بالمنتجات الزراعية للمناطق، ومهرجانات للرياضات السياحية، إضافة إلى فعاليات المغامرات والشباب والبيئة والتسوق والحرف اليدوية والمنتجات الشعبية. ويتجاوز عدد زوار الفعاليات السياحية بمدن ومناطق المملكة سنويًّا 12 مليون زائر، فيما توفر أكثر من 10 آلاف فرصة عمل مؤقتة للشباب كل عام.

وفي صيف هذا العام 2018م أعلنت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني عن تنظيم أكثر من 120 فعالية ومهرجان سياحي منوع في مناطق المملكة كافة، تتضمن ما يزيد على 1200 نشاط وفعالية بمعدل زيادة 20% مقارنة بالعام الماضي.

وقد رصد تقرير صادر عن هيئة السياحة، أنه أقيم 730 مهرجانًا منوعًا في المدة من 2005م إلى 2016م، استقبل فيها أكثر من 85 مليون زائر، وحققت المهرجانات خلال هذه المدة عوائد اقتصادية تجاوزت 8 مليارات ريال، ووفرت أكثر من 86 ألف فرصة عمل مؤقتة من خلال العمل في الفعاليات والأنشطة المصاحبة للمهرجانات (70%) منها للشباب، إضافة إلى المعارض التي تشارك فيها الأسر ببيع منتجاتها.

تعمل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني من خلال خطتها التطويرية للأنشطة والخدمات السياحية على تطوير (300) فعالية ومهرجان بحلول عام 2020م، ولا سيما أنها قامت بتأسيس صناعة تتضمن أنشطة مختلفة. وأسهم هذا البرنامج في تطوير الفعاليات السياحية بالمملكة، ولا سيما وقد خطط له من قبل عدد من الخبراء الأجانب الذين استعانت بهم الهيئة في بداية البرنامج.

قال عبدالله المرشد نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لقطاع التسويق والبرامج: إن هناك إقبالًا كبيرًا على الفعاليات السياحية لكونها أصبحت من العوامل الاقتصادية التي تستفيد منها المجتمعات المحلية؛ إذ تتسم بتأثيرها المباشر في اقتصاديات المناطق والمواطنين الناتجة عن زيادة الحركة السياحية المحلية والطلب على الخدمات التي تقدم للسياح، إضافة إلى مساهمتها في تسويق المنتجات التراثية والزراعية والترويج للأنشطة والحرف والصناعات اليدوية، وتوفير فرص العمل لقطاع عريض من سكان المناطق التي تقام بها المهرجانات والفعاليات وبخاصة فئة الشباب.

وذكر أن برنامج الهيئة للتطوير الشامل للفعاليات السياحية في المملكة يواكب إقبال المواطنين على الفعاليات وتطلعهم لتطويرها، ويتزامن مع اكتمال مرحلة بناء مفهوم الفعاليات السياحية في البرنامج السياحي في المملكة؛ إذ تحول تنظيم الفعاليات السياحية إلى عمل احترافي تديره شركات متخصصة. وأوضح المرشد أن الفعاليات السياحية شهدت في السنوات الأخيرة نموًّا كبيرًا، من خلال التعاون والشراكات البناءة بين الهيئة والقطاعات الحكومية، وأيضًا من خلال تعزيز التواصل مع مؤسسات وشركات القطاع الخاص العاملة في المجال السياحي، مؤكدا سعي الهيئة للارتقاء بمستويات قطاع الفعاليات والمهرجانات بالمملكة، بالتوازي مع الخدمات المكملة لها وتهيئة القطاع الخاص المحلي، من أجل تقديم منتج سياحي متكامل يحقق رضا السائح ويمثل إثراء اقتصاديًّا ومعرفيًّا واجتماعيًّا. وأعلن أن جديد الفعاليات السياحية هذا العام سيكون تنظيم فعاليات أكثر للشباب وأخرى للنساء والأطفال، مع وجود فعاليات جاذبة ومفيدة ومتنوعة في الأنشطة كافة.

عوائد اقتصادية

قدر اقتصاديون حجم صناعة الفعاليات السياحية في المملكة بأكثر من 100 مليون ريال سنويًّا من خلال عمل واستثمار أكثر من 200 شركة ومؤسسة تنظيم فعاليات سياحية في المملكة؛ إذ تحقق هذه الشركات مداخيل مالية من خلال ما تتقاضاه من الجهات الحكومية المنظمة للفعاليات، إضافة إلى المبيعات والرسوم داخل مواقع المهرجانات. كما قدروا العوائد الاقتصادية التي تحققها الفعاليات السياحية سنويًّا بأكثر من 11 مليار ريال، من خلال ما تجذبه تلك الفعاليات والمهرجانات.

وحول العوائد الاقتصادية لتنظيم الفعاليات قال عبدالعزيز المهوس منظم الفعاليات: «العوائد الاقتصادية لتنظيم الفعاليات كبيرة جدًّا، وهو ما يدفعنا لتطوير وتنمية عملنا في هذا المجال؛ إذ يتمثل هذا الأثر في العديد من الجوانب، ومنها توفير الفرص الوظيفية المؤقتة للشباب السعودي في المناطق التي تقام فيها الفعاليات والمهرجانات، وتشغيل الفرق المشاركة بتلك الفعاليات، وإيجاد مكان مناسب للأسر المنتجة لتسويق منتجاتهم، بما يشكل حراكًا اقتصاديًّا وينعش الاقتصاد المحلي وينعكس ذلك قطعًا على الاقتصاد الوطني». فيما اعتبر الدكتور مقبل المقبل منظم الفعاليات السياحية، أن الاستثمار في الفعاليات أحد أهم مجالات الاستثمار السياحي من ناحية اقتصادية مستقبلية في المملكة، مبينًا أن هذه الصناعة ما زالت تواجه بعض التحديات، من أبرزها ارتباط إقامة المهرجانات السياحية بالإجازات، وهو ما يشكل ضغطًا كبيرًا على المنظمين، وبالتالي تكون المهرجانات ليست بالمستوى المقبول.

جوانب اجتماعية وثقافية

تسهم الفعاليات السياحية المنتشرة في مختلف مناطق المملكة في دعم صناعة السياحة وتنميتها، وإبراز التنوع الذي تتميز به السعودية كبلد يمتلك العديد من المقومات السياحية، إضافة إلى تعريف المواطنين والمقيمين والزوار بتاريخ المملكة وتراثها وحضارتها وحاضرها الثقافي. وأكد خالد الهبدان منظم الفعاليات السياحية أهمية الفعاليات في التعريف بتراث المملكة، موضحًا أنه تم تنظيم العديد من الفعاليات في محافظة الدرعية بجانب ترتيب رحلات سياحية على ظهور الإبل للتعرف على الموروث الشعبي والحرف والمنتجات اليدوية في مناطق المملكة، مشيرًا إلى أن غالبية السياح والزوار يهتمون بالفعاليات التراثية والشعبية وزيارة المواقع الأثرية والتاريخية.

وقال عبدالله الوثلان قائد مجموعة دراجتي السعودية لتقديم الفعاليات: «تشارك المجموعة في تنظيم الفعاليات المرتبطة برياضة قيادة الدراجات ومسابقاتها الترفيهية، وذلك في العديد من المهرجانات السياحية والمناسبات المختلفة في المملكة، وننفذ رحلات رياضية وتثقيفية عن كيفية التعامل مع الدراجة في الأماكن العامة وأسلوب القيادة الصحيح».

في ندوة نظمها المركز «الإدارة الأميركية الجديدة والشرق الأوسط» جوزيف كشيشيان: اختيار ترمب يعكس رفض الأميركيين لإرث أوباما

في ندوة نظمها المركز «الإدارة الأميركية الجديدة والشرق الأوسط» جوزيف كشيشيان: اختيار ترمب يعكس رفض الأميركيين لإرث أوباما

وصف الأكاديمي والباحث جوزيف كشيشيان فوز ترمب في الانتخابات الأميركية بـ«النصر الصادم» قائلًا إنه: «نصرٌ للعنصرية والجهالة بصنوفها كافة». وأوضح أن غالبية المتابعين لا تعرف ما الذي حدث وكيف حصل ما هو خلاف المتوقع؟ مستدركًا أن على الجميع القبول بالحقيقة. وقال في ندوة عنوانها «الإدارة الأميركية الجديدة والشرق الأوسط» نظمها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في نوفمبر الماضي، وأدارها الأمين العام المساعد للمركز الأمير فيصل بن سعود بن عبدالمحسن: إن انتخاب ترمب رئيسًا يعكس رفض الشعب الأميركي لإرث «أوباما» الديمقراطي، الذي قدم نفسه بوصفه المنقذ لجميع العالم. فأوباما، كما يقول كشيشيان، كان مثاليًّا في خطاباته التي ألقاها في بداية توليه للرئاسة، «لذلك أخفق وبشكل مزعج للشعب الأميركي وللجميع حول العالم».

إهمال الاقتصاد الأميركي

k2

جوزيف كشيشيان في الندوة

وتحدث المحاضر عن الإدارة الأميركية السابقة «وكيف أهملت وربما بشكل متعمد الاقتصاد الأميركي، فلم يستفد من الفقراء سوى ما نسبته 1% من قيمة الضرائب التي لم تكن تقسم بشكل عادل»، هذا كله دفع، كما قال المحاضر، إلى اختيار ترمب، «كردة فعل صريحة وواضحة من المواطنين الأميركيين، جراء خذلان طموحاتهم وآمالهم في أوباما، ليس في مدة معينة من رئاسته بل في كل المدد، خصوصًا عندما ألقى باراك أوباما خطابه المهم أثناء زيارته القاهرة الذي قال فيه بالنص: «إنني أتطلع وبشكل جادّ إلى أن يعيش هذا العالم في ظل السلام والأمن والحصول على التعليم والعمل بكرامة، والتعبير عن المحبة التي نكنّها لعائلاتنا ومجتمعاتنا وكذلك لربنا؛ إذ إن هذه هي قواسمنا المشتركة وهي تمثل أيضًا آمال البشرية جمعاء، كما حصلنا بفضل الثقافة الإسلامية على أروقة عظيمة وقمم مستدقة عالية الارتفاع، وكذلك على أشعار وموسيقا خالدة الذكر، وفن الخط الراقي وأماكن التأمل السلمي، وأظهر الإسلام على مدى التاريخ قلبًا وقالبًا الفرص الكامنة في التسامح الديني والمساواة بين الأعراق».

ولفت كشيشيان إلى أن أوباما بعد هذا الخطاب عقد تحالفاته السرية مع إيران، ما ساهم في زيادة مظاهر العنف في الشرق الأوسط، «فأين هو سلامه المنشود الذي تحدث عنه في خطابه الشهير خلال زيارته لمصر؟»، مؤكدًا أن العالم فقد ثقته في إدارة أوباما، خصوصًا في الموقف مما يحدث في سوريا، وأن أقوال أوباما في عام 2011م لم تكن متوافقة مع أفعاله، مضيفًا أنه ربما لم يكن يملك خيارًا لحل المشكلة السورية «سوى باعتماد المعادلة التالية: القضاء على داعش وتحديدًا الرأس الهرمي لهذا التنظيم وهو أبو بكر البغدادي، وحل المسألة الطائفية في العراق لأنها تشترك وبشكل أساسي في القضية السورية وتمثل أرضًا للقيام بالحرب بالوكالة التي تقوم بها إيران هناك. ومن خلال ذلك يمكن دمج التيار السني في مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية لصد التحالفات الشعبية التي قد يتحصلها رأس التنظيم، وللسبب نفسه أيضًا أُزيح نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق؛ كي تصبح منطقة الشرق الأوسط وبما في ذلك سوريا والعراق متصفة بالمدنية وتتجنب البعد الطائفي الإقصائي، الذي يعد من أهم المآزق في الشرق الأوسط وسلامه».

العلاقة مع العالم الإسلامي

وأورد كشيشيان جملة من المعطيات التي من الممكن أن تساعد الرئيس الجديد في الإدارة الأميركية، في استعادة ثقة الشعب والعالم، ومن أبرز هذه المعطيات: سد باب الهجرة التي بدأ الأميركيون يعانونها خصوصًا أنها تسهم في الحد من خلق وظائف شاغرة، وتجاوز المشاكل الاقتصادية، ومن أبرزها تقسيم الضرائب بشكل عادل يخدم الطبقة المتوسطة على وجه التحديد التي للأسف ازدادت فقرًا وهبوطًا نحو الأسفل، إضافة إلى أنه على ترمب أن يعيد علاقته مع العالم الإسلامي والصين وعدم الانجراف وراء روسيا، مشيرًا إلى أن المخيف هو حب ترمب لبوتين؛ «إذ إن روسيا ستصبح أكثر شراسة في العالم وستنازع أميركا بشكل أساسي ما يسمى بالهيمنة، ولهذا السبب ربما زادت من إنفاقها العسكري حتى وصل حاليًا إلى ما يقارب 950 بليون دولار سنويًّا».

وأكد المحاضر في ختام الندوة أن من الصعب جدًّا أن يتنبأ أي شخص بما سيحدث مستقبلًا أو ما سيقوم به دونالد ترمب؛ «لأنه رجل لا يؤمن سوى بعقد الصفقات التجارية بحكم أنه أساسًا رجل أعمال وثري وصاحب شركات ذات نفوذ حول العالم، إضافة إلى مزاجيته المتغيرة والمتجددة وخطاباته التي تتبدل على مستوى المفاهيم في كل لحظة؛ لذلك لا نملك إلا الانتظار، الانتظار الذي من الممكن أن يقود العالم إلى الجحيم أو إلى النعيم».

تهميش التعليم الابتدائي

تهميش التعليم الابتدائي

تمهد الطفرة الثالثة في دول الخليج، الناتجة من تصاعد أسعار النفط، الطريق أمام إنشاء المدن الجامعية الجديدة؛ إذ شرعت بعض دول الخليج في افتتاح فروع لجامعات عالمية عريقة فيها، بينما بادر بعضها الآخر -بعد شيء من التريث- إلى تخطيط مدن جامعية، وكلّ ذلك يشير إلى تنافس حاد على رأس الهرم التعليمي (التعليم الجامعي) لمعالجة التخلف، وخوض غمار المنافسة العالمية التي فرضتها العولمة.

عبدالرحمن ألفت

لكن حينما تعاني هذه الدول كارثةً تعليميةً في المراحل الابتدائية -حسب تقرير من إحدى الشركات الاستشارية لكبار المسؤولين في حقل التعليم في الخليج في أواخر عام 2007م- فهل التنافس والتسابق على رأس الهرم التعليمي سيكون مجدياً؟! وفي الوقت نفسه الذي يتم فيه تهميش التعليم الابتدائي هل التوسع في التعليم الجامعي سيؤدي إلى إنهاء التخلف، ويضمن خوض المنافسة العالمية، أو أن الشغف نحو تأسيس الجامعات نوع آخر من التقليد الذي دام أكثر من قرن، وبقي عديم الجدوى؛ بسبب عدم الارتباط بالواقع ومعالجته؟!.

يعدّ السعي وراء التعليم الجامعي لمعالجة التخلف المسار الناجح المؤدي إلى (المجتمع العلمي)، وهو الهدف الذي سعى من أجله نحو مئة من أعلام مثقفي العرب الذين أعدوا تقرير (التنمية الإنسانية العربية 2003م) تحت مظلة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، وخصّص لموضوع (إنشاء المجتمع العلمي) لمواكبة النهضة Renaissance على النمط الغربي. وتسير مؤسسة بروكينجز Brookings في الاتجاه نفسه؛ فهي تقوم على مشروع (التعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي في العلوم والتقنية). ومن خلال هالة إعلامية كبيرة تمكّن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن يُحلّ التقرير مقاماً مرموقاً، بوصفه إستراتيجية للتعليم في العالم العربي على الرغم من عدم تناوله التعليم الابتدائي الذي يعدّ بوضعه الحالي من أسس التخلف في العالم العربي(1).

00000000000019

سبب الانزلاق إلى التخلف

التخلف الذي يحيط بالعالم الإسلامي، والعربي خاصةً، غير مسبوق؛ فقد أصبح أمراً من الأمن أو الخوف أذاعوا به كثيراً حسبما عبّر عنه القرآن الكريم قائلاً: }وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً{ (النساء: 83). فلا مناص من أن نستنبط معنى التخلف من خلال سرد تاريخي حول توظيف الإنسان، وتسخير قدراته لمصلحة المجتمع؛ لبيان الفرق بين ممارسة الأمر في الماضي، الذي كان بمنأى عن تأثيرات دخيلة، والحاضر تحت السيطرة الفكرية الغربية المعتمة كما يمثّله التقرير الذي دعمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لغرض لا يستنبطه المنطق.

ترتبط التنمية في صميمها بالإنسان، ونمط تعامله مع البيئة المحيطة به؛ فالإنسان يوظّف قدراته لخدمة المجتمع بقدر مراعاة كرامته في
المجتمع الذي يعيش فيه، وبعبارة أخرى: الإنسان مسخّر لغيره ولخدمة ذوي نوعه بقدر احترام كرامته التي ترافقه منذ خلقته: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{ (الإسراء: 70). ويُلحظ في الآية الكريمة التلازم بين التكريم والحرية؛ لضمان صيرورة الإنسان في البر والبحر والجو لينال رزقه من الطيبات. ويأتي هذا الإكرام تقديراً للطاقات الكامنة في الإنسان وهي تنمو وتتكاثر وتتضافر كلما اتجه الإنسان نحو تسخير ما في الكون: }وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ (الجاثية: 13). وإنما التفكر في الأمر يؤدي إلى نتيجة أن سلب التكريم من الإنسان في الحاضر هو سبب الانزلاق إلى التخلف، وبذلك يأتي القرآن بتفسير موضوعي للتخلف. ومما يؤيد هذا الاستنباط الاهتمام بالإنسان مع بداية فجر الإسلام، ومن أولى بوادر ذلك كان تحديد ثلاثين شهراً لحمله وفصاله؛ فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً جديداً لتربيته وتثقيفه ورعايته، وحرص القرآن الكريم على إرساء العدل ورعاية الأسرة، وكلّ ذلك تجمّع وتضافر بصورة متكاملة لتكوّن البيئة التي صانت كرامة الإنسان وحسّنت رعايته، وبذلك غرست الجذور لحضارة عالمية جديدة.

الإنقاذ من الظلام السرمدي

لم يكن ليتم إنقاذ البشرية من ظلام القرون السوداء إلا بتسخير القلوب؛ تمهيداً لتفجير الطاقات المكنونة لدى الإنسان لمواجهة ذلك الظلام الذي كان يزداد يوماً بعد يوم، وتدهور الوضع إلى أن وصل إلى درجة عرض لحم البشر للبيع في استاد روما الذي انهار مع انهيار الإمبراطورية الرومانية. وفي ذلك الظلام السرمدي ظهر الإسلام الذي ينادي بكرامة الإنسان؛ لكي يقبل أعلى المفاهيم (توحيد الخالق)، ثم يتأهل لتسخير الكون بقدراته المكنونة بعون الله تعالى، والإنسان كادح نحو ذلك إلى حينه ولو أن سُنّة (مداولة الأيام) حالت دون أن يبقى المسلمون في مقدمة الأمم.

لكن في بادئ الأمر، حينما أعاد الإسلام إلى الإنسان كرامته، ومهّد للإنسانية مجال المشاركة في حضارة جديدة، كان ذلك من خلال ممارسات مبدعة في ميادين شتى:

–  الكتابة التي أصبحت تاجاً للحضارة الإسلامية، وأهم أدوات تكوينها، وكوّنت (الصفحة المسطرة) مرآةً للذهن لكشف الاعوجاج في الفكر وإزالته، ورفع (القلم) من قدرات الإنسان، وترجم كلّ ما خطر في مخيلته، وبذلك بنى جسراً للاستفادة من القدرات المكنونة. والإنسان تعلّم من نفسه أكثر مما تعلّم من غيره؛ فالكتابة راعية ومفتاح للعقل في آنٍ واحد، وحينما اهتم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بالكتابة كان السبب واضحاً منذ بداية الوحي؛ إذ جاء قائلاً: }الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ (العلق: 4، 5)، ثم رُفعت تلك المنزلة بالآية الكريمة: }ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ{ (القلم: 1)؛ إذ شمل ذلك توظيف القلم في جميع الحقول.

–    ومع إرساء الكتابة بوصفها مفتاحاً وراعيةً للعقل قام الإسلام بتحرير العقل من التلبس بالشعوذة والسحر الذي كان سائداً قبل الإسلام؛ فكان ذلك التجريد ومنع الاختلاط بالسحر والشعوذة ضماناً للعلم ليعتمد على العقل فقط، ويجد مجالاً للنمو والتقدم لمصلحة البشرية؛ ليستمر في سيره إلى يومنا هذا.

–    ووصل الإبداع إلى ذروته مع إعطاء النمط المؤسسي للترجمة؛ لترجمة ما تمّ اختياره من ثقافات أخرى لتكوين عرضية لجولان الفكر وتحليقه، وتعويضاً لما لم يُورث من الماضي.

– ومن الإبداعات كان ترسيخ المشاهدة والتجربة أساساً لكشف قوانين الطبيعة؛ اتباعاً لمنهج القرآن الكريم الذي جعل مشاهدة الكون تمجيداً للخالق، وعبادةً له سبحانه وتعالى.

بهذه الأركان ازدهرت حضارة جديدة انبثقت من الصحراء لم تكن في الحسبان، كانت هذه الحضارة مبنيةً على الكتابة؛ ذلك الكنز الذي عرف قدره ابن خلدون، واهتم به في مقدمته، لكن لم يهتم به مثقفو العرب في التقرير المشار إليه سابقاً.

إن مصدر الإبداع كان في اللقاء بين الإرشاد السماوي والعقول المؤمنة بقدرات الإنسانية الفائقة؛ إذ تم تكوين الإنسانية من جديد، وأنقذها الإسلام بعد أن عجزت اليهودية والمسيحية والفلسفة الإغريقية عن فعل ذلك. ولأنه تم كتمان هذا الفصل من تاريخ الإنسانية، وعدم الاعتراف به أصبح شبه متعمد، قام الكاتب روبرت بريفلت Robert Briffault بإصدار كتابه (تكوين الإنسانية The Making of Humanity)، الذي شكّل شيئاً من الاستفزاز للغربيين.

هل يمكن تفجير الطاقات من جديد؟

على الرغم من تلك الصلة الوثيقة بين الإسلام والعلم والإنسانية في البداية إلا أن الموازين انقلبت على رأسها في النهاية مع الغياب من السباق الحضاري المعاصر؛ فحينما نتلقّى دروساً في الديمقراطية والإنسانية باستمرار فهذا مجال للتأمل، وكأن الحصان العربي الأصيل هو المرشح الوحيد للمسابقات في الميادين الدولية؛ وذلك لكونه -فقط- محظوظاً بمربٍّ ماهر أينما كان، والفتيان محرومون إلا قليلاً.

00000000000019المُربِّي والمُربَّى هما الأساس الذي يتمحور حوله الكيان التعليمي كله وما يقوم عليه من بنايات، وتجهيزات، ومختبرات، وأهداف، ومناهج، وتقويم، وغيرها، ولهما إسهام كبير في التكوين الفكري الذي يكتمل مع سنّ البلوغ؛ إذ يظهر حصاد الجهود التربوية. إن المُربِّي إذا سعى إلى إبراز الطاقات الإبداعية، والوصول إلى السمو؛ فالمردود يكون ذلك، أما إذا كان الأمر غير ذلك فليس ثَمَّ إلا التقهقر والتطفّل؛ لأن التعليم بعد البلوغ رهن بمدى الاندفاع إلى المجد والتميز بكلّ ما كسبه الطالب في مدة التكوين. وكذلك دور المعلم رهن بمدى الإقبال والاستعداد المكتسب لدى الطالب؛ لذلك فإن الأولى والأجدر هو الاهتمام بالتربية قبل البلوغ؛ أي: في أثناء التعليم الابتدائي، وإلا سيبقى التخلف داءً عضالاً.

لن نجد علاجاً للتخلف، ولن نسلك الطريق إلى الإصلاح المنشود، ما لم نهتم بالإنسان حينما يكون بحاجة إلى تلك الرعاية خلال سني التكوين الأولى قبل البلوغ، وترسيخ ذلك بوصفه عنصراً أصيلاً في سياسة التعليم. وبكل أسفٍ، فإن العكس هو الذي يحدث، ومن أدلة ذلك بقاء المربّين والمدرسين في مرتبة دونية في المجتمع، مع عدم الاهتمام بمستواهم وتأهيلهم، وبقاء المربين بنفوس منغلقة في الهم والغم الشخصيين داخل كهوفهم، لا يتحلّون بالاندفاع والحماس، وغير مؤهلين لفتح آفاق جديدة في التفكير، فضلاً عن فتح مجالات للتخيّل والإبداع عند التلاميذ.

بأيّ منطق نتوقع أن يصبح خريجو المدارس مؤهلين لاستيعاب ما توفره الجامعات بعد وضع الأقفال على عقولهم، أو نتوقع أن الميزانيات المعدة للتدريب -ولو ضُخِّمت- ستكون وسيلةً لإصلاح ما فات في مراحل التعليم شتى، أو أن التربية ستأخذ منحنى آخر بينما نرى أن الشكوى بلغت ذروتها من سوء الخلق فضلاً عن ارتكاب الجرائم في مجتمعاتنا؟!.

إن الإهمال إذا حصل في السنن التكوينية فليس له تعويض البتة، وسيكون السعي إلى التقدم والتطور عديم الجدوى، والنتيجة كما نراها الإخفاق في التوظيف المستمر للخريجين، وعدم التمكّن من التنمية الذاتية.

إن التقويم للوضع الراهن خير وسيلة لتحديد المسار للمستقبل، وكان أولى ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP أن يقوّم المؤسسات البحثية، التي حدّدها التقرير بخمسمئة مؤسسة، ومدى إسهامها في النمو الذاتي بوصفه مؤشراً حقيقياً مسبقاً لأداء المجتمعات العلمية، قبل السعي إلى إنشاء تلك المجتمعات، والمساهمة في التقويم، وترسيخ القاعدة التنموية، وأنها ستكون خير بداية لالتزام المؤسسة تجاه التنمية المستديمة في العالم العربي.

(1) لمزيد من الاطلاع يُراجع المقال: A Critique of Arab Human Development Report 2003, Jan. 19, 2005، على الرابط: www.axisoflogic.com/artman/publish/article-15193.shtml