مسرحي مغربي عابر للثقافات خالد أمين.. من تناسج ثقافات الفرجة إلى فنون طنجة المشهدية

مسرحي مغربي عابر للثقافات خالد أمين.. من تناسج ثقافات الفرجة إلى فنون طنجة المشهدية

كيف يمكن لسؤال مباغت من أستاذ جامعي لطالبه أن يتحول إلى ما يشبه صفعة قوية، ستقلب اهتمامات هذا الطالب الشاب رأسًا على عقب؟ ذلك ما حدث للمسرحي والأكاديمي خالد أمين، الذي أضحى بعد تلك الصفعة، من أهم المشتغلين في المسرح ليس في المنطقة العربية إنما في أوربا أيضًا. يقول خالد أمين، بينما يسرد بداياته مع دراسات المسرح أكاديميًّا: «عندما كنت أدرس لنيل درجة الماجستير من جامعة «إسكس» Essex في إنجلترا، سألني البروفيسور الكبير روجر هاورد، رئيس قسم الدراما بالجامعة، عما أعرفه عن المسرح المغربي. جاء السؤال كالصفعة المفاجئة، فقد كنت سافرت إلى إنجلترا محملًا بالمعلومات حول مسرح شكسبير وبيكيت، أو غيرهما من المؤلفين الغربيين، لكني لم أكن أعلم شيئًا عن المسرح المغربي خارج هذا النطاق». سيعود الباحث الشاب يومها من إنجلترا في عام ١٩٩١م وهو يحمل بداخله السؤال- الصفعة الذي حَوَّل مساره المهني. أصر خالد على التوغل في معرفة مسرح بلده والخروج من عباءة المعارف النظرية الغربية. وهكذا حدث السؤال الذي أدى إلى التحول، وكان مفتاحًا لمسيرة بكاملها.

قضى خالد، الذي يُعد اليوم صاحب تجربة نموذجية من ناحية إسهامه في تطوير الحقل المسرحي سواء أكاديميًّا أو إنتاجيًّا، أعوامًا طويلةً وهو صامت، يقرأ النصوص المسرحية ويشاهد العروض، حتى جاء عام ٢٠٠٠م وناقش رسالة الدكتوراه عن تناولات شكسبير في المسرح المغربي. ومن بعدها تركزت جهوده على الوصل بين المجال الأكاديمي والبحثي ومجال الإنتاج المسرحي، وهو الوصل الذي يراه ضروريًّا كي لا نعيش كجُزر منعزلة بلا رابط بينها؛ لذلك قام بتنظيم عروض عدة داخل الجامعة كي يشاهدها الطلبة ويعيشوا تجربة العرض المسرحي مباشرة وليس فقط من طريق القراءة، كما نظم ندوات وطنية عن المسرح في الوقت نفسه، هكذا حاول أن يخرج بالباحث الأكاديمي إلى الفضاء العمومي وإلى فضاء العرض، وحاول أن يجذب مجال العرض إلى داخل الحرم الجامعي والحيز الأكاديمي.

ترك خالد أمين بصمته في المجال الأكاديمي في المغرب بعد أن حصل على درجة الماجستير في عام ١٩٩١م من جامعة «إسكس» Essex بإنجلترا، ثم على الدكتوراه (بالإشراف المشترك بين إنجلترا والمغرب) في عام ٢٠٠٠م عن تناولات شكسبير في المسرح العربي. ثم التحق بالتدريس بجامعة عبدالمالك السعدي بتطوان وبجامعة نيو إنجلند بطنجة. وسرعان ما تطورت إسهاماته لتخرج من النطاق الأكاديمي إلى فضاء التنشيط المسرحي. أسس أمين، الذي نجح في شكل مبدع في إقامة الجسور بين مجالي التنظير الأكاديمي والفعل المسرحي، بل بين المجتمعين المسرحيين: العربي والغربي، المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي أنتج فيما بعد المهرجان المسرحي الدولي السنوي «فنون طنجة المشهدية»، وتوسع بتعاوناته الدولية وإسهاماته البحثية ليصبح ضمن المجلس الاستشاري لأهم المراكز البحثية المسرحية في ألمانيا «المركز البحثي الدولي لتناسج ثقافات العرض» التابع لجامعة برلين الحرة، الذي أسسته وترأسته -حتى اليوم- رائدة الدراسات المسرحية الألمانية إيريكا فيشر ليشتي.

وفي عام ٢٠٠٤م بدأت سلسلة التعاونات الدولية بالتعاون مع المركز الألماني من خلال المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي يعتبره خالد امتدادًا لـ«مجموعة البحث في المسرح والدراما» التابعة لجامعة عبدالمالك السعدي بتطوان. هكذا خرج خالد بمشروعه من الجامعة مؤسسًا مركزه الخاص لكنه ظل أيضًا محافظًا على ارتباطه بها بسبب الشراكة الممتدة بينهما، التي تلتها شراكات مع المجتمع المدني والفرق المسرحية وصناديق الدعم الثقافية والمؤسسات الأكاديمية الدولية؛ مثل: «المركز البحثي الدولي لتناسج ثقافات العرض»، وجامعة لندن.

جسور بين الأنا والآخر

يرى البروفيسور خالد أمين أن مد الجسور بين الأنا والآخر هي مسألة ضرورية لحياة المسرح، فبالانفتاح وحده يحدث التطور والنمو، والانفتاح شيء مفتاحي. وفي رحلته نحو الانفتاح، ومعه، التقى البروفيسورة الألمانية إيريكا فيشر ليشتي عندما كانت رئيسة الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي ورئيسة تحرير مجلة الفيدرالية Theatre Research International، وكانت إيريكا قد قرأت بحثًا لخالد منشورًا بالمجلة واتصلت به من فورها كي يشاركها في تأسيس مركزها البحثي لتناسج فنون العرض ببرلين في عام ٢٠٠٨م. ومنذ ذلك الوقت ظل التعاون بينهما متصلًا. ترجم خالد كتاب إيريكا «من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات العرض» إلى العربية في عام ٢٠١٦م عن المركز الدولي لدراسات الفرجة. ويُعَد الكتاب الثاني من أعمال إيريكا الذي يصدر بالعربية بعد كتابها الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر بترجمة للدكتورة مروة مهدي في عام ٢٠١٠م. يلح خالد على أهمية الترجمة للحركة المسرحية، معطيًا إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي كنموذج لما يمكن الإسهام به من خلال ترجمات مركز اللغات والترجمة بأكاديمية الفنون، التي توقفت للأسف منذ عام ٢٠١١م، ويحاول من خلال التعاون بين مركزه والمجلة العربية لدراسات الفرجة أن يقدم ما يستطيع تسهيله من ترجمات لكنها تظل مجهودات فردية، في حين أن الأمر يحتاج إلى سياسة ثقافية واضحة ونطاق واسع من أجل دعم حركة الترجمة في المسرح.

خالد أمين

«مهرجان طنجة للفنون المشهدية هو تتويج لمسار كامل بدأ في عام ١٩٩٨م، مع الندوة الأولى لمجموعة البحث في المسرح والدراما، ومع فلسفة الانفتاح على عالم المسرح وعلى ثقافة الآخر بكل تجلياتها ومكوناتها»، يقول خالد أمين في سياق حديثه عن المهرجان الذي أسسه، ويضيف: «كان المهرجان ضرورة، لكننا وصلنا إليه بعد محطات عديدة من ندوات وخلافه. ومنذ عام ٢٠٠٤م أصبح المهرجان حاضرًا حتى الآن، أي ثلاث عشرة دورة دون انقطاع». صمم أمين مهرجانه ليتسق مع فلسفته العامة، فالمهرجان يضم ندوة بحثية وورشًا مسرحية وإصدارات للكتب والترجمات، إضافة إلى عروض مسرحية عربية ودولية، وبذلك يدمج بين محاور عمله المختلفة ويربط بينها من خلال ثيمة واحدة تُتناوَل من مختلف الزوايا. يصف خالد المهرجان بأنه حدث مسرحي يؤطره الباحث ويقوده الفنان.

وأضحى مهرجان طنجة للفنون المشهدية يحتل اليوم موقعًا خاصًّا بين المهرجانات المسرحية الدولية، فهو مهرجان مستقل على العكس من معظم المهرجانات المسرحية الدولية التي تنتمي للقطاع الحكومي وتتمتع بالضمانات التمويلية وغطاء الدولة؛ لذلك فهو يتطلب مجهودًا مضاعفًا للحصول على التمويل كل عام لإقامته بالمستوى نفسه. وفي الحقيقة أن هذه المخاطرة وهذا الإصرار لم ينقطعا طوال ثلاثة عشر عامًا هي عمر المهرجان، بل يمكننا اعتبار كل التحديات والعقبات التي واجهها فريق المهرجان بمنزلة تجارب تقوي من أساسه ومن إيمان أصحابه برسالتهم. من هذا المنظور يمكن النظر إلى المحنة بوصفها تجربة نمو وقوة، وهي التجربة التي ربما تُحرَم منها التجارب الحكومية؛ لأنها خارج إطار المخاطرة ومن ثَم فنموها هو دومًا داخل إطار السيطرة.

الاستثناء بين مهرجانات بلا هدف

يختلف مهرجان طنجة للفنون المشهدية عن العدد الرهيب من المهرجانات المسرحية التي تقيمها الفرق بالمغرب، فالمغرب يضم عددًا هائلًا من المهرجانات المسرحية التي تقدمها الفرق المسرحية بدعم من الدولة والمدينة من دون أن يكون لمعظمها توجه خاص أو تميز واضح. ويجعلنا هذا الكم من مهرجانات الفرق نتساءل حول الدور الحقيقي للفرقة المسرحية: هل هو إقامة فعاليات تضم عروضًا لفرق أخرى في شكل مهرجانات؟ أم أن دور الفرقة المسرحية هو إنتاج العروض المسرحية التي تمثل مشروعها الفني؟ في حين ينظر خالد أمين إلى المهرجان المسرحي بوصفه وسيلة لدعم وتطوير المشهد المسرحي، فالمهرجان الصحيح ليس مجرد مكان تتجمع فيه العروض والناس، إنما حدث ممتد على مدار العام، حدث يدرس المشهد المسرحي واحتياجاته وقضاياه وينظر في كيفية دعمه وتطويره من خلال أشكال شتى.

أصدر «طنجة للفنون المشهدية» عشرة كتب حتى الآن واستقدم العديد من العلامات المسرحية إلى طنجة، مثل باتريس بافيس الذي كتب عن المهرجان وعروضه، مقدمًا دعمًا من خلال قلمه واعترافًا دوليًّا بعروض لم يكن من الممكن لها أن تخرج من محليتها سوى بهذه الطريقة. كذلك قام المهرجان بتوثيق جميع فعالياته وعروضه نظرًا لأهمية الحفاظ على الذاكرة المسرحية، ولأن التوثيق هو الوسيلة المثلى لإعادة بث العروض المسرحية لاحقًا في قاعات الدرس وإتاحتها للباحثين، مما يطيل من عمر التجربة الفنية ويعطيها بعدًا آخر. وينفتح المهرجان عامًا تلو الآخر على إسهامات الشباب ومشاركات النساء من الباحثات والفنانات، كما خلق منبرًا خاصًّا للباحثين الجدد والشباب للمشاركة والتبادل مع الأساتذة الأكاديميين داخل المهرجان. وأضحى المهرجان يتمتع، بوصفه جمعية أهلية، بدعم من وزارة الثقافة ومدينة طنجة، وعلى الرغم من تفاوت قيمة الدعم من عام إلى آخر فإن المهرجان يقام دومًا وتسد الإسهامات الشخصية لصناعة أية فجوة قد تنشأ من تراوح الدعم. هذه الإسهامات هي إحدى مصادر قوة واستقلالية مهرجان طنجة للفنون المشهدية.

نقد‭ ‬مسرحي‭ ‬متخلف عن‭ ‬واقع‭ ‬المسرح‭ ‬

يضع البروفيسور أمين يده بكل صراحة على واحدة من أهم قضايا واقعنا المسرحي العربي، وهي الفجوة بين النقد المسرحي والأكاديمي وبين واقع الإنتاج المسرحي؛ إذ يوضح قائلًا: «لقد صار النقد المسرحي متخلفًا عن واقع الحركة المسرحية. أصبحت مصطلحات النقد وموضوعاته غير راهنة، مثل الندوات النقدية التي تطالب بالعودة إلى التراث والتي تمثل تيارات اجتررناها حتى النخاع. هناك دومًا معركة بين الأجيال وبين الحساسيات. ولا بد من الإنصات إلى الحساسيات الجديدة والاقتراب منها، ليس بمنظور التقاليد العتيقة التي ورثناها في التحليل الدرامي وإنما بعيون جديدة تسمح لنا بإعادة النظر في آلية اشتغالنا، فهذا هو دور الملتقيات المسرحية؛ لأنها تجدد من التواصل بين المبدعين المسرحيين والأكاديميين على اعتبار أن الجانبين فاعلان، فالحركة المسرحية لا تستقيم بدون أحدهما».

من هنا، على وسطنا المسرحي العربي أن يتجاوز الطبقية المعرفية، وأن يتخلى عن تصنيفه للأكاديميين بوصفهم أصحاب السلطة المعرفية على الحقل الإبداعي المسرحي، في حين يقبع الفنان المسرحي في قالب زائف بوصفه الحرفي الذي لا يرقى إلى علم الناقد والأستاذ الجامعي، ومن ثم عليه الانصياع لأحكامهما حتى إن لم يتمكنا من خبرته الإبداعية. «تلك سلطة وهمية، وتلك التراتبية وهمية»، يقول خالد أمين حول هذه المسألة، فالعالم، في رأيه، يتجه كله «صوب دمقرطة الممارسة المسرحية وإلغاء التراتبيات بين المؤلف والمخرج، وبين النص والعرض». ويمضي قائلًا: «ربما تسبق صناعة العرض على النص الكلامي، وربما يفقد النص قدسيته المعهودة في ثقافتنا العربية. ولا مجال للذهنية التراتبية بتفكيرها المتحجر داخل المجال الإبداعي المسرحي اليوم، فهذه هي الوسيلة الوحيدة لاستيعاب الحساسيات الجديدة الآن». يؤكد خالد أمين ضرورة أن نتعلم جميعًا من الممارسة الفنية، وأن نتبع تحولاتها كنقاد وكأكاديميين من دون أحكام مسبقة.

مسرح المقهورين.. أفق متعدد ولا نهائي لمقترحات جديدة – نورا أمين

مسرح المقهورين.. أفق متعدد ولا نهائي لمقترحات جديدة – نورا أمين

مسرح-المقهورين-٢في عام 1997م قابلتُ المسرحي والبطل الشعبي البرازيلي أوغستو بوال للمرة الأولى في مصر. كنتُ قد انتهيت لتوّي من ترجمة كتابه «قوس قزح الرغبة» الذي نُشر في إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي تحت عنوان: «منهج أوغستو بوال المسرحي» (تفاديًا طبعًا لكلمة «الرغبة»). كنت أعمل وقتها معيدة بأكاديمية الفنون بالقاهرة، ومترجمة، وكذلك كاتبة وممثلة ومخرجة مسرحية. تفتحت عيناي على عالم مختلف من المسرح عندما قمت بترجمة إحدى تقنيات منهج مسرح المقهورين، ثم تفتح ذهني على عالم كامل من الفعل المسرحي في علاقته بالتغيير عندما تحدثت إلى بوال وجهًا لوجه.

كنت وقتها غارقة في المسرح الجمالي الذي كنت أتمنى تدريجيًّا أن أفتتح فيه فصلًا جديدًا من التجريب على التعبير الجسدي، ومن ثم دمج خبراتي كراقصة ومصممة رقص مع خبراتي كممثلة وكاتبة من أجل الوصول إلى لغة تعبيرية قادرة على فضح المسكوت عنه من قهر وقمع وحرمان. كنت على دراية كاملة بأنني أريد أن أغوص في حقل ألغام القهر، وأنني أسعى لخلق منظومة جمالية ومعرفية جديدة قادرة على مواكبة جيل التسعينيات وفكره المستقل ومنتجه الثقافي المتمرد. لكنني لم أدرك بتاتًا أن هناك مجالًا كاملًا مرتبطًا بذلك السعي إلا أنه خارج العالم الجمالي والمعرفي للمسرح المغلق، وقد كان مسرح المقهورين الذي أكمل دائرة مسعاي من خلال تعريفي بالبعد السياسي والتفاعلي والتربوي للمسرح من أجل التغيير.

دمج المسرح في عمليات التغيير

نشأت بيننا صداقة رائعة. سافرت في عام 2003م إلى البرازيل، بمنحة من اليونسكو لشباب الفنانين للتدرب في مركز مسرح المقهورين بريو دي جانيرو، وعلى يد المعلم أوغستو بوال شخصيًّا وفريقه. كنت حينئذ قد أسست فرقتي «لاموزيكا المسرحية المستقلة» وقدمت عدة عروض وسافرت إلى مختلف أنحاء العالم، لكن زيارة البرازيل بالنسبة لي كانت نقلة كيفية في نظرتي للعالم ولمصر ولكيفية دمج المسرح في عمليات التغيير الاجتماعي والسياسي. لقد رأيت البرازيل قرينة لمصر، رأيت تاريخًا من القهر والحكم الدكتاتوري الشمولي، ومن التمرد والثورة والنصر. رأيت «بوال» البطل الشعبي الذي ناضل واعتُقِلَ وعُذِّب في السبعينيات، ثم نُفِيَ عوضًا عن الإعدام؛ كي يعود ويساهم مع باولو فريري في تحرير ذهنية المواطن المقهور وإعادة تدريبه وتأهيله تربويًّا من خلال المسرح، ليتحرر من ذهنية القهر ومنظومته، فلا يعيد إنتاج النظام نفسه مرة ثانية.

يقوم منهج مسرح المقهورين على خمس تقنيات أساسية: مسرح الصورة، ومسرح الجريدة، والمسرح الخفي، ومسرح المنتدى، والمسرح التشريعي. وكلها تقنيات تعمل على دمج المُتفرِّج ليصبح فاعلًا بدرجة أو بأخرى، ولكي يتحول العرض المسرحي إلى فعل قابل للتحول كل مرة حسب تدخلات المُتفرج، حيث يصبح المنبر المسرحي ساحة للنقد، ومساحة للتفاعل الحي مع المتفرج. وبهذا المعنى تُعَدّ التقنيتان الأخيرتان أكثرها تفاعلية. في تجربة أوغستو بوال المُنظِّر المسرحي والناشط السياسي، نجد أن المواطن المقهور، الذي عاش طويلًا في منظومة القهر الفكرية، لا يكفيه أن يتحرر بعزل النظام الدكتاتوري أو بتبديل رأسه؛ لأن هذا المواطن نفسه كفيل بإعادة إنتاج هذه المنظومة حيث إنه لا يعرف غيرها، ولأنها قد تحولت إلى نمط فكري تلقائي لديه. لذلك ينبغي مد الثورة ليس من خلال الفعل السياسي وحسب، إنما من خلال الفعل الثقافي والتعليمي والاجتماعي، أي من خلال ابتكار منظومة تربوية متكاملة تستطيع إنتاج ذهنية جديدة للمواطن، تضمن المشاركة الديمقراطية والعدل والمساواة والحرية.

مسرح-المقهورين-٤

أحد العروض المسرحية للمعلم أوغستو بوال

حاولتُ مرارًا وتكرارًا أن أنفّذ ما تعلمته في مصر، فقمت بالتدريب في ورش عدة ناجحة جدًّا بالتعاون مع جمعيات أهلية فاعلة، إلا أن حلمي بالنزول للشارع ولقاء الجماهير بحرية وتلقائية لم يتحقق على مدار ثلاث سنوات من 2008م إلى 2010م. كنت أرى أن مسرح المنتدى لا يكفيه مطلقًا الوجود داخل الأبنية، بل يجب تحريره ليتخذ موقعه في الشوارع، والميادين، والحدائق، وأفنية المدارس، ومراكز الشباب، والنوادي الرياضية والاجتماعية. كنت أرى أننا هكذا سوف ندخل فعليًّا في إطار المسرح من أجل التغيير، حيث المنبر المسرحي يتخذ موقعه في الحقل العام، ويتحول منتدى للفعل الديمقراطي وللمشاركة. وكان مهمًّا جدًّا بالنسبة لي أن يتم الفعل المسرحي كإعلان وشهادة عن أحقية المواطن في التعبير والمشاركة الفعالة في التعامل مع قهره، ولو كانت تلك المشاركة بمنزلة تدريب عملي على التغيير الحقيقي، فقد قال بوال: إن المسرح ليس هو الثورة الحقيقية مهما اقترحنا من تغييرات ثورية، إنه فقط بروفة على الثورة. كان المسرح المصري لعقود عديدة، وقبل مبادرات المسرح المستقل والشبابي، مسرحًا قائمًا على المنظومة المعرفية والفكرية ذاتها التي يتبناها النظام الحاكم والمجتمع التقليدي. لقد كان مسرحًا متبنيًّا في معظم الأحوال لأفكار الطبقية المعرفية حيث المعرفة تأتي من خشبة المسرح وترسل إلى الجمهور، وحيث القسمة والفصل واضحان جغرافيًّا ومعرفيًّا بين خشبة المسرح ومقاعد المتفرجين، وحيث يجب الحفاظ على جميع وجوه النفاق الاجتماعي من خلال إعادة إنتاجه داخل المنظومة المسرحية والأداء المسرحي. ظهر المسرح كثيرًا كبوق للسلطة ولأيديولوجية النظام الحاكم ولتمجيد الحاكم الفرد البطل على غرار ثقافتنا الفرعونية. وظهرت مواضعاته الجمالية والفنية لتُرسي التمييز في المواطنين بين منتج للثقافة وصاحب الكلمة العليا وبين القطيع المتلقي السلبي الصامت. في هذا السياق كانت «المشاركة» تُعَدّ كسرًا للتقاليد البرجوازية العتيقة وخروجًا عن شفرة الاتفاق الجمعي والمجتمعي.

ممارسات مستبدة

مع إسهامات جيل التسعينيات في الثقافة والتغيير، ومع نشوء العديد من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والهادفة، وبسبب تراكم الممارسات المستبدة وتحولات الفكر الفردي الشبابي بالتزامن مع أحداث مجتمعية وسياسية فادحة، دخلت مصر الألفية الثالثة وهي مستعدة للتغيير. بيد أن النظام السياسي القامع كان المعطِّل الأول وليس الشعب ذاته. كانت مصر محكومة بقانون الطوارئ، وكانت عروض الشارع ممنوعة أمنيًّا ومجرد سراب. وكان ذلك تحديدًا هو السراب الذي عِشتُه مع حلمي بمسرح المقهورين المصري وصولًا إلى ثورة 25 يناير عام 2011م. كان على «المشروع المصري لمسرح المقهورين» (الذي يتكون اليوم من ست مئة ناشط، ينتمون لنحو ثلاثين مدينة مصرية تغطي معظم محافظات مصر) أن ينتظر أعوامًا كي يولد في خضم الثورة المصرية. حقًّا لم يكن من المعقول تحت النظام المستبد أن يولد وأن يجوب الشوارع والميادين والمحافظات والمدن بطول مصر وعرضها. وكانت فكرة المشاركة التفاعلية ووضع المسرح داخل المجال العام المفتوح في حد ذاتها فكرة ثورية معارضة، تفتقد إلى لحظة سياسية وثورية ووطنية كي تحتضنها وتُيسِّر لها طريقها، وقد كان.

في خريف عام 2011م قمتُ بإطلاق «المشروع المصري لمسرح المقهورين» بعد أكثر من عامين على وفاة معلمي أوغستو بوال ودفعه لي كي لا أستريح قبل تحقيق الحلم، ذلك الحلم الذي استوحيته من تجربة البرازيل، وكان بوال نفسه مُلهِمًا لي كي أقتفي خطواته. بدأت بتدريب مجموعة من الناشطين في مدينة الإسكندرية كي يتحوّلوا بدورهم تدريجيًّا إلى مساعدين لي في التدريب، ثم مدربين. كانت خطتي أن أخلق شبكة وطنية كاملة من ممارسي مسرح المنتدى بحيث تكون كل مدينة أو محافظة لديها مجموعة محلية قادرة على تقديم عروض لمسرح المنتدى بل تدريب أفراد إضافيين للانضمام لها، ومن ثم التواصل مع بقية الوحدات والمجموعات والتجوال بالداخل. هكذا رأيت أنه يمكن خلق حركة مسرحية من أجل التغيير وخارج مركزية القاهرة. كان الشعب المصري قد خرج بكامله وثار وقام بالتغيير. كانت الشوارع والميادين قد عادت إلى المواطنين المصريين بعد أن كانت حكرًا على الدولة والحكومة. كانت جموع المصريين كتلة واحدة منسجمة ومدركة لقوتها. كانت لحظة المواطنة والديمقراطية بامتياز. وكان المواطنون قد استعدوا لجميع أنواع المشاركة، ولكسر أنماط الفصل والتمييز والقهر. أصبح المجال العام مفتوحًا للفن وللممارسات التفاعلية من مسرح وغناء وموسيقا وغرافيتي. وكان ذلك هو الميلاد الذي يليق بالحلم. يتميز مسرح المنتدى عن غيره من أنماط المسرح الشعبي ومسرح الشارع، بأنه يتعامل مباشرة وتحديدًا مع قضايا القهر، وبأنه مُعَدّ خِصِّيصى ليس للفرجة ولا للترفيه والتسلية، إنما للتأثير في حياتنا وقضايانا اليومية ووعينا وفكرنا بحيث نعيش واقعًا أفضل. هو مسرح يعرض مشاهد بسيطة جدًّا عن قهر ما، لكنه قهر حقيقي ملموس من واقع المتفرجين، إلا أنه لا يتوقف عند ذلك، فهو يفتح المنبر للمتفرج – الفاعل كي يسهم ويشارك في العرض من خلال اقتراح تصرفات لمواجهة القهر الحادث بتغييره أو تفاديه أو تحجيمه. هكذا يقود «الجوكر» (مُيَسِّر الأمسية المسرحية) إلى حوار ونقاش مع الجمهور حتى يظهر متفرج متطوع بفكرة، وهنا يصر الجوكر على أنه لا يمكن اختبار الفكرة بسردها، بل ينبغي اختبارها بتطبيقها عمليًّا أي بالصعود بين الممثلين، وتجريب الفكرة محلّ الاقتراح داخل المشهد. ثم يختار المتفرج إحدى الشخصيات المقهورة أو الحليفة للمقهور كي يحل محلها حيث يرى أنها أنسب الشخصيات للقيام بتلك الفكرة، ويختار لحظة محددة من الموقف المسرحي. وبالفعل يرتدي أحد إكسسوارات الشخصية، ويترك الممثلُ مكانَه لهذا المتفرج. ولا مجال بالطبع لأن يحل المتفرج محل القاهر لأنه من غير المنطقي أن يقوم القاهر بالحل وهو صاحب المصلحة الأولى في القهر، كما يتعين على جميع المشاركين احترام أساسيات المنهج بعدم اقتراح حلول غيبية أو خرافية، أو حلول فاسدة قائمة على التحايل والكذب والرشوة بجميع أنواعها، أو حلول عنيفة عدوانية تستخدم العدوان الجسدي الذي يزيد من دائرة القهر ويحيل حتى المقهور إلى قاهر.

الارتجال الفوري

مسرح-المقهورين-٣

أوغستو بوال

بينما يحاول المتفرج الارتجال الفوري يكون بالفعل قد بدأ تدريبه الذهني على التغيير، فقد كسر نمط اللامبالاة والسلبية والاقتناع باستحالة التغيير؛ كي يتبنى ذهنية الإيجابية والتفكير الحر، والنقد الذاتي، والإيمان بالإرادة وبالكرامة الإنسانية. وفوق هذا وذاك، أصبح هذا المتفرج فاعلًا، ولو فعلًا رمزيًّا مؤقتًا، بحيث أنه عندما يواجه موقفًا مماثلًا في المستقبل سوف يتمكن من تبني ذهنية الفعل مرة أخرى. ولا ينبغي أن ننسى أن كل ذلك يتم في العلن وأمام الجمهور وفي المجال العام المفتوح، ومن ثم يصبح المتفرج ذاته مساهمًا في المجال العام بأفكاره الخاصة، ويشهد على ذلك أقرانه من المتفرجين الذين يدركون تدريجيًّا تحول الأمسية المسرحية إلى تدريب مفتوح ومشاركة ديمقراطية تعيد لهم أصواتهم، وتبني من جديد الحيز العام وعلاقات المواطنة.

ربما ما يقترحه المتفرج لا يؤدي إلى الخروج، ولو قليلًا، من موقف القهر، إلا أن المحاولة هي الهدف، ليس الهدف هو حل القهر وإلا لانتهى العرض سريعًا، وذهبنا جميعنا إلى بيوتنا. بل الهدف هو الوصول إلى تلك المحاولة مرارًا وتكرارًا، وفتح أفق متعدد ولا نهائي لمقترحات جديدة. وفي هذا الصدد ينبغي أن نعرف أن ممثلي أو ممارسي مسرح المنتدى يتدربون جيدًا على تقنيات منهجية محددة وضعها أوغستو بوال كي يتمكنوا من الارتجال الفوري مع المتفرج حال اقتراحه سيناريو مختلفًا لمسار الأحداث. هي تقنيات ممنهجة جميعها تساعد الممثل على فهم فلسفة القهر ومبادئ منهج مسرح المقهورين بحرفية عالية؛ كي يرتجل من هذا الإطار فلا يكسر المنهج، وبالتالي يدفع بالمتفرج إلى عكس الهدف من الحلم.

نورا أمين: المسرح الوثائقي في أوربا فضاء لعلاقة جديدة بين السياسي والفني

نورا أمين: المسرح الوثائقي في أوربا فضاء لعلاقة جديدة بين السياسي والفني

%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%b1%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ab%d8%a7%d9%8a%d9%94%d9%82%d9%8a-2عندما قدم المخرج المسرحي السويسري ميلو راو عمله الأشهر «محاكمات موسكو» في عام 2013م، كان يفتتح بذلك موجة جديدة من الشهية الأوربية للمسرح التوثيقي. فعلى الرغم من امتداد نزعة المسرح التوثيقي بمختلف أساليبه في أوربا منذ قرابة منتصف القرن العشرين حتى الآن، فإن تلك الشهية الجديدة قد وضعت هذا التيار في قلب الاهتمام المسرحي، وربطته بدينامية جديدة في العلاقة بين ما هو سياسي وما هو فني.

«محاكمات موسكو» هي تجربة فريدة في مسرحة حدث كان قد وقع بالفعل في موسكو، وإعادة تجسيده مسرحيًّا، مع الاحتفاظ بمساحات كبيرة من حرية الحدث الفوري، ومن استجابات المشاركين وتفاعلاتهم. أما الحدث الأصلي الذي كان قد وقع بالفعل فقد كان في عام 2003م، عندما تعرض المعرض الفني Caution! Religion إلى المنع، حوكم فنانوه، وما لبث أن حل عام 2006م، حتى تعرض معرض فني آخر بعنوان  Forbidden Art إلى مصير مماثل لسابقه، وفي الحالتين صادرت الدولة محتويات المعرض، أو دُمِّرت، ثم أخلي سبيل الفنانين بكفالة بعدها. أما الحدث الأقرب زمنيًّا فهو الدقيقة التي قضتها ثلاث فتيات من النشء في الغناء وعزف الموسيقا داخل كاتدرائية المسيح المخلص بموسكو، وهو ما أدى إلى القبض عليهن ومحاكمتهن وترحيل اثنتين منهن إلى معسكر تأديبي، وأُخلي سبيل واحدة فقط، وذلك في عام 2012م.

وأما تجربة المسرحة فهي مغامرة ميلو راو التي خاضها على مدار ثلاثة أيام متتالية في متحف ساخاروف بموسكو في عام 2013م بعقد محاكمة افتراضية لمصير تلك الأعمال الفنية، وضمت تلك المحاكمة الافتراضية كل أعضاء الهيئة الطبيعية للمحكمة من قاضٍ ومحامٍ ومدعي الحق العام وهيئة المحلفين، وكانوا كلهم يؤدون أدوارهم الحقيقية، فهم ليسوا ممثلين، بل هم فعلًا من أصحاب تلك المهن القانونية والقضائية في الواقع. كذلك اختيرت هيئة المحلفين بدقة بالغة، وبتنوع لا يقل عما يجري في المحاكمات الحقيقية. كان هناك شهود استُدعوا للشهادة، وكان هناك فنانون وشخصيات عامة من اليمين ومن اليسار. قام ميلو راو بتجميع تلك الشخصيات وبوضع المبادئ العامة للحدث المسرحي على مدار ثلاثة الأيام، فكان ذلك هو بمنزلة إخراجه للحدث، أو وضعه لدراماتورجيته.

حالة وثائقية بامتياز

لقد قدم ميلو راو أسلوبًا جديدًا للمسرح التوثيقي يتعدى المفهوم التقليدي للوثيقة المسرحية، أو لإعادة تجسيد الحدث ومسرحته، أو عرض لقطات أرشيفية وشهادات من الحدث نفسه، فقد أسس لحالة وثائقية بامتياز بمجرد اختياره مشاركة أشخاص بصفتهم المهنية الحقيقية، أو بهوياتهم الأصلية، فهذا المبدأ في حد ذاته هو بوابة خاصة جدًّا لطابع وثائقي جديد. وإلى جانب هذا المبدأ الأساس نجد الاختيار الثاني الشائك أكثر، ألا وهو ترك الحرية لهؤلاء كي يقولوا ما يريدونه، ويتفاعلوا معًا دون سيناريو سابق، ولهذا الاختيار مترتبات في غاية الثراء تقوم في معظمها على فكرة الأصالة في الفعل وفورية الحدث.

ومع ذلك كله كان الجميع يسير وفقًا لمبادئ وضعها أيضًا ميلو راو، سواء من ناحية ترتيب المداخلات، أو مدة كل مداخلة، أو البنية العامة للحدث التي تحاكي البنية الحقيقية للمحاكمة. وقد قدم ميلو راو أعمالًا تالية في هذا الأسلوب نفسه، وبما يثبت أنه قد أصبح صاحب أسلوب خاص في المسرح التوثيقي الأوربي، إنه الأسلوب الذي يعيد المسرح إلى وضعه كفضاء مواجهة وتفاوض وتفويض، من داخل البنية الدرامية الطبيعية للمحاكمة، أما فورية الحدث وراهنيته وتفاعليته فتضفي على ذلك الفضاء طابع الوثيقة الحية المتولدة من جميع المشاركين، التي يؤدي فيها المخرج دور القابلة.

على الجانب الآخر من أسلوب ميلو راو في المسرح التوثيقي، ظهرت مبادرات مؤخرًا تقوم على دمج الثقافات ومقارباتها المختلفة لما هو توثيقي أو سيري. من تلك المبادرات مشروع المسرح الألماني Ballhaus Naunystrasse  في برلين عام 2016م للتعاون مع المخرج النيجيري ومصمم الرقص عبدالقدوس أونيكوكو، لتقديم عرضه عن الإبادة الجماعية كجريمة متعددة الوجوه، وليست خاصة بثقافة بعينها. واللافت للنظر هنا أن المؤسسات المسرحية الأوربية تتمكن من الاحتفاء بالتجارب الأوربية الطليعية الخالصة، مثل تجربة السويسري ميلو راو، لكنها لا تجعل الاحتفاء حكرًا على فنان أو حتى على ثقافة، حيث يتسع أفق الإنتاج والعرض الأوربي لتقدير المبادرات الأخرى، حتى إن كانت على طرف النقيض فنيًّا من التجربة الأوربية.

كي لا ننسى

%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%b1%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ab%d8%a7%d9%8a%d9%94%d9%82%d9%8aفي هذا السياق يبدو العرض الراقص لعبدالقدوس «كي لا ننسى» كوثيقة حية من نوع خاص جدًّا، فهي من ناحية وثيقة جسدية لأن عرضه راقص، ومن ناحية أخرى هي وثيقة مصممة بالكامل لا تدع أي مجال للارتجال أو التفاعل الحي، أو تدخل المتفرجين. إنها إذن وثيقة جسدية راقصة، يقدمها الراقصون في حالة مسرحية مكتملة بمصاحبة شهادات حقيقية تُسَرد من جانب ممثلة تقوم أحيانًا بالغناء وبالصوتيات. تصاحبنا تلك الشهادات لضحايا الإبادات الجماعية كصوت شاهد حي، شاهد عيان هو ضحية وبطل، أما أجساد الراقصين فتنتفض لتقبض على الألم والعذاب والتعذيب، فنرى أمامنا شهادة الأجساد التي تصدم وعينا بقسوة نادرة، فتقدم جوهر تلك الوثيقة، أي العذاب والفجيعة والهول، وهو الجوهر الذي لا يمكن أن تنقله اللغة الكلامية فحسب، ولا تكتمل الوثيقة بدونه.

المقارنة السريعة بين «محاكمات موسكو» و«كي لا ننسى» تفيد بعدة ملحوظات حيوية، أولها هو غياب جانب العاطفة أو التأثير الشعوري أو الوثاق -الذي عادة ما يحدث بين المتفرج والعرض أو الحدث المسرحي- في تجربة ميلو راو، فالتجربة تركيبة ذهنية بالدرجة الأولى، أما عرض عبدالقدوس فيثمن التأثير العاطفي، بل يسعى بأدواته لإحداث ذلك الوثاق الذي يشعر المتفرج من خلاله بأن الواقعة الأصلية تمر من خلال حواسه، ويتوحد مع أبطالها ولو كانوا مجهولين له.  أما الملحوظة الثانية فتكمن في الهوة الكبيرة بين الموضوعين؛ موضوع حرية التعبير ومحاكمته قانونيًّا، وموضوع الإبادة الجماعية التي تهدد الإنسانية، وتتأسس على محو لقيمة الإنسان، وعلى هيمنة الوحش البشري.

في ظني أن كلًّا من الموضوعين في غاية الأهمية لصانعه، لكن الصانع الأوربي يجد همه الفني السياسي في الدفاع عن حرية التعبير، أما الصانع الإفريقي فيجده في الدفاع عن الحق في الحياة. ثم يوضع العملان في السوق المسرحي الأوربي، ويخلفان تساؤلًا جوهريًّا حول التصنيف الذي يناله كل من العملين، فهل تتبع أوربا التصنيف السياسي فتعد عمل عبدالقدوس صرخة ضد أنظمة القهر في العالم؟ أم تصنفه في خانة كفاح إفريقيا العجوز من أجل مداواة مصائبها التي لا تمت بصلة لأوربا، وليس للغرب أي يد فيها؟ وهل تصنف عرض ميلو راو بوصفه نقدًا للمجتمع الروسي وحسب، أم بوصفه نقدًا لليمين الأوربي الصاعد؟ تلك تساؤلات تؤكد الدينامية الجديدة بين ما هو سياسي وما هو مسرحي، وهي الدينامية التي يحتل محورها المسرح الوثائقي الآن.