سعد الله ونوس: الرائي الذي تنبأ بالمقتلة السورية

سعد الله ونوس: الرائي الذي تنبأ بالمقتلة السورية

النص الكبير هو النص الذي كلما عدتَ إلى قراءته نما وانداحت الدوائر حوله، وتعاظم إيحاؤه وقدرته على إضاءة تجربة العيش وأسرار النفس الإنسانية. كذلك هي نصوص الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس (1941 – 1997م) التي تبدو لي الآن، بعد عشرين عامًا على غيابه، في ضوء آخر، كاشفة عن رؤيا كئيبة لحال العرب المعاصرين، لما بدا له، على مدار تجربته الكتابية، بعد نكبة فلسطين وهزيمة يونيو 1967م وجنون الاستبداد في وطنه سوريا، أننا سائرون إلى مقتلة عظيمة وخراب عميم. هكذا، وبعد مرور ما يزيد على ربع قرن من الزمن على اهتمامي وانشغالي بأعمال هذا المسرحي العربي الكبير، الذي يتخذ من المسرح وسيلة للتفكير في الوجود والتاريخ ومعنى الإنسان في زمان الاستبداد والتسلط، يتجلى لي سعد الله من عصبة الشعراء والروائيين والمسرحيين الذين يستشعرون دبيب المستقبل، كاتبًا رائيًا يتنبأ في مسرحه بما يحدث هنا والآن، بالمآل الذي انقلب إليه السوريون في جنون الدكتاتورية الذي قاد إلى تدمير سوريا وحوَّلها نهبًا لكل القوى الطامعة في الأرض، وبؤرة للإرهاب ورعب التطرف والقتل، وجنون المذاهب والطوائف والأيديولوجيات القُصووية، والكراهيات المتناسلة التي لا تبقي ولا تذر. إنه يتنبأ في مسرحياته الأخيرة، التي كتبها تحت وطأة مرض السرطان الذي نهش حنجرته وجسده، وفي الفسحات الزمنية التي أتاحها له العلاج من مرضه الخبيث، بما سيأتي، بما أتى، نتيجة العمل المنظم والحثيث لآلة السلطة الوحشية الرهيبة على جسد المجتمع الذي ازدادت تشوهاته وفقد، مع تسارع عمل هذه الآلة الجهنمية، إنسانيته وكرامته.

لقد سعى سعد الله ونوس، منذ بداياته المسرحية في ستينيات القرن الماضي، إلى التفكير في معنى السلطة من خلال اصطناع مشاهد ومواقف مسرحية، واقتراح أشكال للعرض المسرحي، تفسر رؤيته للسلطة بوصفها أدوارًا ووظائف تتجاوز الأفراد الذين يمثلونها. ما هو مهم هو الوظيفة والدور لا الشخصُ الذي يشغل هذه الوظيفة ويقوم بهذا الدور. ويمكن أن نعثر على هذا الفهم الفلسفي في مسرحياته «الملك هو الملك» و«طقوس الإشارات والتحولات» و«منمنمات تاريخية»، التي تمثل ذروة منجزه المسرحي – الفكري، وعمله الدؤوب على النظر من زوايا مختلفة إلى معنى السلطة، وآليات اشتغالها، وكيفية اندراجها ضمن نسيج المجتمع والثقافة، وإلى وظائفها السياسية والاجتماعية والثقافية التي تجعل عملها يتسم بالمعقولية ويحظى بقبول فئات واسعة من المجتمع، حتى لو كانت هذه السلطة تعمل ضد مصالح بعض هذه الفئات، أو أغلبيتها، على الأرجح. وفي هذا السياق من التحليل البارع لعمل السلطة، في المواقف والمشاهد والحوارات المسرحية التي اصطنعها المسرحي الراحل، تتبدى لنا الرؤية الفكرية الجبرية لمعنى السلطة التي تبدو صلبة، عصيةً على المقاومة، قادرة على اجتياز الأزمات والخروج ظافرة لدى اندلاع أي اعتراض أو تململ أو احتجاج أو مقاومة. ولعل هذه الرؤية الجبرية، التي تقترب من العدمية والنهلستية في بعض مسرحيات سعد الله ونوس، ناشئة من السياق التاريخي الذي كتب فيه سعد الله مسرحه، أي من معايشته لصعود نظام حزب البعث وتأوُّجه بظهور دكتاتور لوياثاني مثل حافظ الأسد ونظامه الذي سحق السوريين واستلب أرواحهم وداس على أجسادهم. فكيف لهذا النوع من الأنظمة الاستبدادية المتوحشة ألّا ينتج مثل هذه الرؤية القاتمة الكئيبة التي لا ترى في المستقبل أي نوع من الخلاص أو فسحة من الأمل؟

تشريح السلطة

لقد أفضت هذه الأعمال التي أنجزها سعد الله في ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته، إلى كتابة مسرحية من نوع آخر، أكثرَ قتامة، وأبعَد من التاريخ الذي نهلت منه مسرحياته المهمومة بتقديم تشريح للسلطة وأشكال تمظهرها؛ كتابة مسرحية تنهل من لحم الحاضر الحي وتشوهاته وعجزه عن مقاومة جنون السلطة المستبدة التي قهرت روح المجتمع قبل أن تكبل جسده، وتمومسه (وأنا لا أكتب هذه الكلمة الأخيرة كتعبير استعاري فيه نوع من المبالغة والولع بالغرابة اللغوية، بل لأن هذه الكلمة تعبر تعبيرًا صارخًا عما فعلته السلطة بجسد الإنسان السوري). ويمكن أن نعثر في مسرح سعد الله، بدءًا من «طقوس الإشارات والتحولات» وانتهاءً بمسرحيات «ملحمة السراب» و«يوم من زماننا» و«أحلام شقية»، على تحول ملحوظ إلى شكل من أشكال المسرح السياسي – الاجتماعي الذي يسعى إلى تشريح ما حل بالمجتمع في زمن الدكتاتورية المديد الذي خيَّم عقودًا كئيبة على أجيال من السوريين. ويمكن أن نلحظ في هذا المسرح السياسي – الاجتماعي، الذي يختلف عما ألفناه في مسرحيات سعد الله ذات التأثيرات البريختية مثل «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، تخليًا عن الطابع الملحمي، أو حتى التعليمي، لصالح حوارات محمومة عن رائحة تفسخ جسد المجتمع وانحطاطه بفعل الآلة الرهيبة للسلطة المستبدة التي اعتقدت أنها تملك أجساد الناس وأرواحهم، وأنها قادرة حتى على النفاذ إلى غائلة نفوسهم ورصد أحلامهم واستئصالها. لقد استخدم المسرحي الموهوب استعمال جسد المرأة وتحويله إلى سلعة، وانتشار البغاء، المعلن وغير المعلن، كتعبير عن ذروة التحلل السياسي والاجتماعي، والقيمي والثقافي، وغياب أدنى قيم الحرية في سلطة الاستبداد التي أنشأت جمهورية خوف مرعبة دنست أجساد النساء، وداست على كرامة الرجال والنساء على السواء.

تحلل المجتمع وتفككه

في مسرحياته الأخيرة، كما في نصوصه «عن الذاكرة والموت» التي كتب بعضها بعد انقشاع لحظات الغيبوبة في غرفة العناية المركزة أثناء علاجه من سرطان الحنجرة، يتنبأ سعد الله ونوس بالانفجار الكبير، بثورة تؤدي إلى تحلل المجتمع وتفككه وانقسامه على نفسه، وتآكله وتفتته، وانتقامه من ذاته، بصورة تشبه ما نرى عليه سوريا اليوم. لقد رأى الكاتب بعين الرائي موت الاجتماع والسياسة، ثم موت الإنسان، لا لكونه قادرًا على كشف حجب المستقبل، بل لأنه رأى أن جنون الاستبداد يقود إلى تفكك البلدان، وتحلل المجتمعات، وخراب الأوطان، وتداعي الأمم على قصعة هذه الأمة المأزومة الهوية والوجود، و«فساد العمران» بتعبير مؤسس علم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن خلدون، الذي رسم له سعد الله صورة سلبية قاتمة في مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي بدت إدانة مباشرة لـ«خيانة المثقفين» واعتصامهم بحيادية العلم الذي يكتفي بالوصف والمراقبة والتحليل. فهل يكون المسرحي السوري الراحل قد سعى، من خلال إدانة دور عبدالرحمن بن خلدون في التخلي عن أهل دمشق في محنتهم أثناء حصارهم من قبل تيمورلنك والتحاقه بركب الطاغية المغولي، إلى الإشارة بإصبع الاتهام إلى مثقفي سوريا المعاصرين، وكذلك مثقفي العرب عامة، لمهادنتهم الأنظمة القمعية، أو رحيلهم وهروبهم إلى بلاد الآخرين، أو صمتهم، الذي أفضى إلى هذه الكارثة التي نشهد توالي فصولها أمام أعيننا، ونسمع قصصها الرهيبة المزلزلة كل يوم؟ لعله أراد ذلك من رسمه لمشهد التحلل والخراب الذي تنبأ به في مسرح انتقل من التجريب، وتحليل كيف تعمل السلطة، إلى رؤيا قيامية، كابوسية، تصور الانهيار الذي يعقب توحش السلطة وجنونها الذي أفلت من عقاله. كان ينبغي أن نسمع ما تقوله شخصيات سعد الله ونوس، أن نصغي إلى هواجسها الظاهرة والخفية، أن يسمعه بعض العقلاء في السلطة، إن وُجد هؤلاء حقًّا. لكن آذان السلطة صماء وهي لا تسمع إلا صوتها فقط، ولذلك وصلنا إلى ما وصلنا إليه: العدم والخراب.