معراج نون النسوة  في«الغزلية الكبرى»  لسليم بركات

معراج نون النسوة في«الغزلية الكبرى» لسليم بركات

الغزليةُ الكبرى: عنوانٌ يُفاقمُ مسألة الزمن حضورًا في مواجهة نَفْسهِ ماضيًا، عنوانٌ يبدو ظاهريًّا من الجاهليةِ لكن متّحدًا بغزلٍ أكبر آنًا حاضرًا، هذه ليست إلا وشاية يشي بها سليم بركات نَفسهُ عن كتابهِ هو. لكن ما أن يتم الغوص في بحر ومتن هذه الغزلية، حينها، نُدركُ أيّ فخًّ نصبه سليم لقارئ كتابهِ، حيث الغزلية ليست كما المتداولِ بالغزل المفتون بقامةِ وانسياب الحبيبةِ الأنثى وغُنجها، إنما هنا غزليةُ سليم: سيرةٌ كاملة للأنثى، سيرةٌ لهنَّ في مشاغلِهنَّ ومجالسهنَّ وكلامهنَّ وظرفِهنَّ وأحوالِهنَّ وقيودِهنَّ وقدرهنَّ وزرعِهنَّ وحصادِهنَّ وسيرتهنَّ أمهاتٍ وأخواتٍ وزوجاتٍ وسيداتٍ حاملاتٍ، حضرياتٍ وقروياتٍ، سيرةُ شَغَفِهنَّ وكُرههنَّ وحبِّهنَّ وحرمانِهنَّ وامتلاكهنَّ، وثرثرتهنَّ، وبكائهنَّ، وكلّ الأزمنة التي تدورُ وفق ساعاتِهنَّ أو حتى دونَهُنَّ، هُنَّ وجودُ غيرهنَّ، هُنَّ كلُّ الكلماتِ بمضمونها مختومةً بنون النسوة التي لهُنَّ.

الأنثى بكلِّ تفصيلات كينونتها، بكلِّ الغموضِ فيها، والمجهولِ في تقلبات روحِها، يعجنُ سليم بماء الكلمات، طحين روحها في صحن جسدها، رغيفًا من تنورِ كلمةِ «أُحبُّهُنَّ»: «أُحبُّهُنَّ، هُنَّ تخمينٌ»، ص22.

على الرغمِ من ضآلةِ القوةِ في هيكلهنَّ إذ: «إنهنَّ رضوضٌ/ في/ الهواء،/ وكسورٌ/ في/ الرملِ، بل دُعاءٌ بقشرهِ قشر الكوسا». ص116، إلا أنَّ سليماً يُعيدُ منبتَ الذهولِ في الوجود إليهنَّ: «لقد بذلنَ الوجود بفائضٍ من ثناء الذهولِ» ص9. ويربطُ بين المآزِقِ ومخارجها، وبين الشرِّ المنثورِ في الوجودِ والخير المتمددِ ظلًّا لهُ، وبينهُنَّ كحبلٍ سرِّيٍّ يربطهُنَّ بكلِّ بداية مأزق وشرِّهِ ونهايةِ كلّ مَخرجٍ وخيرهِ، إنهُنَّ صخبُ الوجودِ وعُنفُ المُعضل: «أُحبُّهُنَّ لا يُصالحنَ إذ تنفجِرُ المآزِقُ الخالداتُ بأقاويلها عن حدودٍ للناريِّ» ص94. وكلُّ الكلام الدائرِ في المآزقِ من خيره وشرّهِ يتمُّ على بوابات البيوتِ كطُرقٍ إلى المتعة برضا قلبهنَّ المتأهبِ دومًا للانقلاب: «باستئذانٍ، أو من دونهِ يُكلِّفنَ أنفُسهُنَّ نقلَ الشرِّ إلى أرق الخير جلوسًا قُرب البواباتِ». ص47.

سليم بركات

سليم بركات

لا يقينيات تتملكهُنَّ أو يملكنها، الكلُّ والشيءُ في بحرِ الشكِّ مُستدرج حسب عضلةِ قلبهنَّ الراقصة، لا تخومَ تحدُّ لحظتهنَّ، ولا زمن يستدرجهُنَّ إلى صعودهِ بل يُنزلنهُ إليهنَّ، هُنَّ دائمًا قبل الزمن الحقيقي بكثير: «أُحبُّهُنَّ هُنَّ/ المألوف/ العازمُ/ على /إنكارِ/ كلّ/ يقين» ص66-67. «أُحبُّهُنَّ يتصنعن البكمَ إن خاطبن الأعمارَ، ويتصنعن الصمَّ إن أنشدتهنَّ الأعمدةُ ما رفعت القرونُ/ عليها/ من/ وساوس/ الهياكل». ص61. «عاشقاتٌ هُنّ، بقلوبٍ / أو / من / دونها». ص5.

أيًّا كانت نوع الأقفال الموصدةِ لقلوبهم، وإن لم تكن أقفالًا في الطليق من المكان والظرف، تبقى قلوبهُنَّ مداخنَ للبوح بوجعِهنَّ، يبقيهنَّ عاشقاتٍ أو تصبحنَ عاشقاتٍ أو تعودنَ عاشقاتٍ: «تعوّدنَ السكنى في المنازلِ بلا أبوابٍ/ بلا نوافذ/ بلا جدرانٍ/ لكن لمداخنها حمل البوح/ الذي/ تعرفُ/ كلُّ/ عاشقةٍ أنّهُ/ بوحُ/ قلبها المدخنة». ص48. لا إيمان يُجزى ولا إيمان خوفٍ يُربكُ حِسابات قناعاتهنَّ وتدرُّج ظنونهنَّ، إنهنَّ البراهينُ والظنونُ حين تتآلفُ في القبضِ على المُعضلةِ أو في خلقها لتكنَّ ظلال الأثر في وجودهنَّ: «البراهينُ أضرَّت بأنفُسها في عِناقِهنَّ، والظنونُ، اشتكت الظنونَ»، ص101.

لا يسعينَ إلى آخرِ الشيء أو الحدث لربحٍ أو خسارة، هُنَّ أخطأنَ حين جعلنَ من أنفُسهنَّ مصبًّا لشبقِ اللّذةِ وتركنَ حبل قدُّومها بيد الرجلِ، أخطأنَ خطأ العمر في بقائهنَّ تَحتَهُ، تتلقينَ ضربات الغضبِ والتعبِ بأنفاسِ لذةٍ، هُنَّ الرحمُ في ولادتِها:

“لم يُجازِفنَ بشيءٍ قبلًا، إلا حين أنَّثنَ اللذاذةَ، وذكَّرنَ مشيئتها». ص24.

هُنَّ، تتبرجنَ، لا لتغدونَ جميلاتٍ فقط، بل لإساءة وتعنيف الموت، بتبرج أمام مرآةٍ تنكرُ الموت، في بقاء الخلودِ لحظةَ التبَرُّجِ، بدءًا من أظافرهنَّ طلاءً إلى خيوط شعرهنَّ صبغًا: «بالغن في الإساءة إلى الموت بإنصافهِ مَدحًا أقلقَ الموتَ:

شبهنَهُ بأقدامهنَّ في الخفافِ، بأنفاسِهنَّ في العِناق، بخزائنِهنَّ مفتوحةً، بالبخارِ صباحًا من ماء استحمامهنَّ الدافئ، بخفقِ مناماتهنَّ الواسعةِ قبل أن يندسسنَ في الفُرشِ، بربط شعورِهُنَّ أضاميمَ قبل النوم، بالنظرةِ مُختَلسةً إلى المرآة عن بعدٍ، بمراهم الماء الملينة على جلود أيديهنَّ، بالجلوس مُمداتٍ أرجلَهُنَّ على مساند عالية». ص69-70

ما يَقُلنهُ هو الصواب، لا يُصدِّقْنَ إلا أنفُسهنَّ، وكلُّ الأحوال بجمادها وناسها، حياةً، وقتًا، خيرًا، مآزق، خيرًا، شرًّا، جثثٌ مُلقاةٌ على قارعةِ رعشة قهقهتهنَّ: «الوقتُ مُنطرحٌ/ أرضًا/ على/ مرمى/ قبلةٍ/ من أسرَّتهنَّ/ والسماءُ منطرحةٌ أرضًا/ والحياةُ منطرحةٌ أرضًا، والغدُ منطرحٌ على أرض البارحةِ، أرضهُنَّ الأساطيرُ الجواري بقياثر في أيديهنّ يُطربنَ الأهوالَ، غرقًا، ويُشجينَ الملاحمَ». ص135-136.

هي هكذا غزليةُ سليم بركات، ليست ولهًا بالمحبوب وانغماسًا فيهِ، إنما هي الأنثى بكلِّ الحالات التي توجدُ فيها، مع الدجاج، وعلى الأرصفةِ أمام البوابات وهُنَّ يُقشرنَ البزر، سبقهُنَّ الديكُ فقط في الصباح، غزليةٌ عن وفي الأنثى، الشجرةِ، متمايلةً تهزُّها الريحُ حين الإدلاء بأيِّ شيءٍ حين المُعضِلِ.