مقارها تشبه بيوتًا مهجورة في وسط المدن..  مجامع اللغة العربية تعيش في غربة على هامش العصر

مقارها تشبه بيوتًا مهجورة في وسط المدن.. مجامع اللغة العربية تعيش في غربة على هامش العصر

هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن العربي؟ سؤال تستدرجه القطيعة بين هذه الكيانات المعنية بحراسة اللغة، والواقع الذي يتجدد في كل لحظة، القطيعة التي يستشعرها على نحو واضح، المثقف والمختص والرجل العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي، بدءًا من مجمع دمشق عام 1916م، ومجمع القاهرة (1932)م، مرورًا بالمجمع العلمي العراقي (1947م)، والمجمع الأردني (1961م)، والمجمع التونسي (1983م)، والمجمع السوداني (1993م)، وأخيرًا مجمع اللغة بالشارقة (2016م)، فضلًا عن كثير من المؤسسات والروابط المعنية باللغة، إلا أن أحدًا لا يشعر بحضور أي من هذه المجامع والروابط والمؤسسات في الحياة الاجتماعية والثقافية، على الرغم من الأدوار الأساسية التي أنشئت من أجلها، وعلى الرغم من أهمية المعاجم والقواميس التي عكف شيوخ اللغة الكبار على إنجازها… فقد ظلت مغلقة على نفسها حتى إن بعض مقارها يكاد يكون أشبه ببيوت مهجورة في وسط المدن، لذلك لا عجب أن تسأل عن مقر مجمع ما للغة في عاصمة عربية ولا تعثر على إجابة شافية، الأمر الذي يعكس حال العزلة الذي أضحت تعيشه هذه المجامع ومن ينتسب إليها، العزلة التي راحت تتفاقم مع تقدم ثقافة العصر وتقنياته، فما تقترحه هذه المجامع من معادل لغوي لكثير من مفردات العصر لا يلقى الاستحسان، إما لوعورة الكلمة المقترحة، أو لعدم تعبيرها عن روح المفردة الجديدة، إضافة إلى التحديات التي تواجهها هذه المجامع، ومنها ضعف التمويل وعدم صدور قرارات سيادية تلزم بتوصياتها.  فهل تجاوز الزمن فكرة مجمع اللغة، أم أن خروج العرب من دائرة الإسهام الحضاري جعل لغتهم ومؤسساتها خارج اهتمام المثقف وليس فقط المواطن العادي؟

محمود فهمي حجازي: التمويل لا يتناسب مع الطموحات

مجمعا اللغة العربية في القاهرة وفي دمشق أُسِّسَا على نمط مجمع اللغة الفرنسية في باريس، ومن ثم فقد أخذ العمل فيهما عمقًا لغويًّا أكثر، ومن ثم تمثل دوره الثقافي في عمل ملتقيات لغوية من حين إلى آخر، وهناك اتجاه قوي الآن لعمل ندوة شهرية بدءًا من أكتوبر المقبل عن موضوعات لغوية أو ثقافية سواء في الإطار المصري أم بالتعاون مع جهات عربية مماثلة. المجمع له دور قومي قديم في تحقيق التراث العربي، وهذا موجه إلى جمهور الباحثين، كما أن له دورًا في صناعة المعاجم المتخصصة في الأنثربولوجيا والهندسة والرياضيات، فضلًا عن معاجم اللغة التي تهم جمهور المثقفين، ومن بينها المعجم الوسيط الذي يعد أهم معجم صُنِّف في العصر الحديث، كما أن المعجم الوجيز كان يُسلَّم لتلاميذ المدارس في دول عربية عدة من بينها مصر وتونس.

وأكبر المعوقات التي تواجه المجمع في أداء دوره المنوط به أنه يعمل وحده، بوصفه مؤسسة متخصصة ووحيدة في هذا المجال، في حين أن الأكاديمية الفرنسية، أو المجمع الفرنسي الذي أُنشِئ المجمع العربي على غراره، تعمل إلى جانب كثير من مراكز البحوث العلمية في الجانب اللغوي، وليس لدينا في بلادنا مراكز حقيقية متخصصة في ذلك، حتى المركز القومي للبحوث لا علاقة له باللغة، والجامعات بها أقسام لغة عربية لكنها ليست متخصصة في دراسات وأبحاث وتاريخ اللغة، وفي الوقت الذي توجد فيه دُور نشر متخصصة في نشر كتب لغوية وتوزيعها مثل دودن في ألمانيا ولاروس في فرنسا، مما يحقق عائد يمكن إنفاقه على الباحثين وأبحاثهم، فإن هذا غير موجود في بلادنا، ومن ثم فالتمويل أغلبه من الحكومة؛ إذ يتبع المركز وزارة التعليم العالي، وإن كان تدخل الوزارة هامشيًّا لدرجة يمكننا القول من خلالها: إن المجمع جهة مستقلة، فوزير التعليم العالي يفتتح المؤتمر السنوي، ويعتمد قرارات المجمع وانتخابات الأعضاء الجدد. ومن المعوقات عدم وجود سياسة لغوية في البلدان العربية، والمقصود هنا تحديد المجالات التي تستخدم فيها لغتنا العربية، وكيف يمكن إبرازها والتأكيد على هويتنا من خلالها، ومن ثم فلا بد من وجود قوانين تنظم وضع اللافتات واللغة المستخدمة فيها، وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في الإعلام والمدارس والتعليم بشكل عام. وفيما يخص التمويل فهو أمر يحتاج إلى تأمل؛ إذ إنه ضئيل ولا يتناسب مع الطموحات الموجودة، لأننا في المجمع نتبع القوانين المصرية، والقوانين تكبله في تعامله مع الجهات الخاصة أو تلقي تبرعات منها.

عضو المجمع المصري

منصف الوهايبي: المجامع تنهض بترتيب العلاقة بين اللغة وتراثها

ينبغي أن نقرّ، ونحن نمهّد السبيل إلى جواب سائغ مقبول، أنّه ليس من حقّ أيّ منّا أن يستصدر حكم قيمة، على مجامع اللغة العربيّة، وبيوت الحكمة، في استجوابات خاطفة  كهذه؛ وهي المؤسّسات التي تؤدّي عملها في ظروف مادّية صعبة. على أنّ ما يعنينا أنّ هذه المؤسّسات تواجه علميًّا قضايا لغويّة شائكة، لعلّ من أظهرها أنّ ضبط حقيقة الكلمة أو ماهيتــها أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى نفس العائلة المفهوميّة الكبرى نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة… وما إلى ذلك، عمل لا يخلو من صعوبة في ثقافة العرب المعاصرين؛ لأسباب: من أبرزها أنّ المصطلح مادّة لغوية بالأساس، وليس بالميسور الإلمام بأطرافها والوقوف على نموّها وتطّورها في معاجم مثل معاجمنا تستدعي الداني والقاصي، وتجمع الشاذة والفاذّة؛ فإذا الكلمة تقفز من عصر إلى عصر، ومن معنى إلى معنى، عبر فجوات فاغرة، ومتاهات لغويّة متشعّبة الأصول والفروع، قد لا يقدر الباحث على تخطي عقباتها ورياضة صعابها. والكلمة شأنها شأن المصطلح، لا تنهض بوظيفتها، إلّا إذا أدّت عن «المفهوم» الذي وضعت له، بدقّة من جهة، واتصلت بأفهام القرّاء من جهة أخرى، ودخلت حيّز الاستعمال. وعلى أساس من هذه الوظيفة المنوطة بها، نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر، كلّما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة وأوفى دلالة.

إذن قد يكون مردّ الإشكال في مستوى أوّل إلى أنّ معاجمنا عامّة تنقلنا من عصر إلى عصر؛ دون أن يعبأ صاحبها بما انسدل بين هذه العصور من كثيفِ حُجُب الزمان والمكان. صحيح أنّنا نكتب بلغة «واحدة» هي الفصحى. ولكنّ الأمر في واقعنا العربي ليس بهذه البساطة، فثمّة مؤثّرات اللغات الأجنبيّة واللهجات المحليّة في كلامنا ونصوصنا. وهذا ممّا لا تتفطّن إليه المؤسّسات المذكورة، أو هي تتحاشاه، لأسباب قد تكون دينيّة «قداسة» اللغة العربيّة، أو سياسيّة. أليس في هذا الاستعمال اللغوي المختلف أو المتنوّع؛ ما يؤكّد أنّ الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد؛ وإنّما تغيّر ما بنفسها توسيعًا أو تقييدًا أو تحويلًا؟
فهذه «العربيّات» يجري أكثرها على أصول العربيّة وقوانينها في اشتقاق الصيغ وتصريفها؛ على نحو يتيح لنا الرجوع إلى صورة الكلمة أو وزنها أو صيغتها أو بنائها، ولكنّ استعمالها «يختلف» من بلد إلى آخر.

وهذه المؤسّسات هي التي تنهض بإعادة ترتيب العلاقة بلغتنا وتراثها؛ بل إعادة وصفها دون تهيّب.

عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)

وفاء كامل: لا يوجد قانون يلزم بالأخذ بتوصيات المجمع

رسالة المجمع تكمن في الحفاظ على اللغة وسلامة نطقها على ألسن الجميع، والوفاء بمتطلباتها من مستلزمات الحضارة والعلم ومصطلحاتهما الحديثة، إضافة إلى دراسة تاريخ اللغة وتطورها عبر مراحلها المختلفة. المشكلات التي يواجهها المجمع أنه لا يوجد قانون ملزم لبقية هيئات المجتمع بالأخذ بتوصيات المجمع، كان الدكتور فتحي سرور قد شرع في إعداد قانون لمجلس الشعب بهذه الصيغة لكن الأمر توقف ولم يكتمل. وضعف التواصل بين المجمع وغيره من مؤسسات المجتمع يعد أكبر المعوقات، فكثير من المحاضرات والأبحاث التي تُنشَر في مجلة المجمع لا تصل إلى الناس، وكم الترجمات عن المنجزات العلمية أو غيرها كثير، وأي دراسة علمية تحتاج إلى وقت وجهد وتأني، وهنا تكمن المشكلة الكبرى، فالمجمع يبدو أداؤه بطيئًا، ويضم مجموعة من كبار السن غير قادرين على ملاحقة ما يحدث، في حين الترجمات المتوالية لا يمكن توقيفها إلى حين الانتهاء من ترجمة المصطلحات، ومن ثم تنتج لدينا مصطلحات عُرِّبت بمعرفة المترجمين على عجل، ورغم أنها لا تحمل الصواب الكافي لدلالتها المعرفية إلا أنها تذيع وتنتشر إعلاميًّا، ويصبح من الصعوبة تغييرها في أذهان الناس، ولا يتقبل أحد ما يقدمه المجمع من تصويبات أو مصطلحات.

أعد المجمع قواميس في الأنثربولوجيا والهندسة والفيزياء والطب وغيرها، لكن أحدًا لا يعود إليها ولا يلتزم بها، وقد طالبت فور انضمامي للمجمع منذ ثماني سنوات بضرورة عمل لجنة لمراجعة ما ينشر في الصحف والمجلات؛ لجنة تجتمع بشكل يومي، وترد على الأخطاء وتصوِّبها، ولا يكون موعد اجتماعها أسبوعيًّا مثل بقية لجان المجلس، لكن هذا الاقتراح ذهب أدراج الرياح، ربما لمعوقات إدارية أو بيروقراطية. أكبر المشروعات التي يعمل عليها المجمع هو المعجم التاريخي للغة العربية، وهذا قام به الألمان والفرنسيون في بلادهم في غضون أربعين سنة، شاركت فيه مجموعات كثيرة وكبيرة، بدءًا من أساتذة الجامعات مرورًا بالباحثين في اللغة وصولًا إلى مدرسي اللغة في المدارس.

هذا المشروع بدأه الألماني فيشر حينما كان مقيمًا في مصر في الأربعينيات، وكان يعمل بطريقة التسجيل على الجذاذات الورقية، وحين سافر إلى بلده قامت الحرب وفقدنا الجذاذات التي جمعها. أنا أول عضو نسائي بالمجمع، وأيضًا أول امرأة عملت على التاريخ اللغوي في رسالتي للماجستير في الوقت من 1970 إلى 1974م عن «كعب بن زهير: دراسة لغوية»، وكانت وقتها جامعة القاهرة قد قررت أن يقوم كل باحث ماجستير على دراسة شاعر أو أديب من القدماء، وقمت بدراسة دلالية للمعاني والأضداد والمترادفات، وسجلت كل المعجم اللغوي لكعب بن زهير في نحو 525 صفحة من أصل الرسالة المكونة من 725. في مطلع الألفية الجديدة، بدأ تعاون بين مجمع اللغة العربية وجامعة القاهرة من خلال مشروع المعجم التاريخي، هذا الذي تبرع حاكم الشارقة ببناء مبنى خاص به هو واتحاد المجامع العربية، وتعهد بأن ينفق على أبحاث المعجم التاريخي، التي تهدف إلى دراسة اللغة في العصور الأولى، ثم تطور صيغها في العصور التالية حتى وقتنا الحالي، وهو أمر يحتاج إلى تمويل كبير لأنه بحاجة إلى تكاتف كثير من الفِرَق البحثية، وإذا كان الألمان والفرنسيون أنجزوا المعجم التاريخي للغاتهم في أربعين عامًا، فأنا متفائلة أننا قادرون على إنجازه في زمن لن يتجاوز عشرين عامًا، وعشرون عامًا في عمر الشعوب رقم ليس بكثير.

أول عضو نسائي في المجمع المصري

علي السامرائي: قضايا لا طائل منها

من وظيفة المجامع اللغوية إنشاء تواصل بين لغات العالم بهدف نقل المنجزات الثقافية والفنية والحضارية والإفادة منها في تلاقح اللغات وتعميق أواصر المنجزات العلمية بين الأمم، لكن يبدو أن المجامع العربية لم تفلح إلى يومنا هذا في فهم واستيعاب هذا الهدف فبقيت تجتر قضايا لا طائل منها ولا أهمية لها.

ترقد الآن على رفوف المجامع العربية مئات الآلاف من المصطلحات في كل العلوم والفنون والآداب والفلسفة ومسميات علمية كثيرة لم يجدوا ما يقابلها في اللغة العربية، ما يعزز الرأي أن العربية قاصرة عن استيعاب هذا الكم من المعارف والواقع أن عدم إيجاد ما يقابل ذلك في اللغة العربية ليس قصورًا بل إن ذلك ربما يضيف إلى لغتنا ثراءً معرفيًّا في إدخال هذه المصطلحات بأسمائها أو الأقرب إليها، لكن المجامع تعد ذلك خطرًا على اللغة، من هنا فدخول أسماء إلى لغتنا ليس لها عهد بها هو أمر حتمي شئنا أم أبينا، والحاضر يقتضي من المجامع العربية أن تنظر الأمر بجدية للحاق بركب المنجزات العلمية التي تخطو سريعًا.

ناقد ولغوي عراقي

أحمد فؤاد باشا: التدريس في الجامعات «سمك لبن تمر هندي»


المجمع كأي شيء في المجتمع يقوى بتقوية إمكاناته، شأنه شأن التعليم والمرافق الثقافية وغيرها، لكن مشكلته في أن توصياته

وقوانيه لا تفعَّل، وهو ليس مسؤولًا عن تفعيلها؛ إذ إنه يخاطب على سبيل المثال التربية والتعليم لتصحيح المناهج وتعديلها، ويخاطب الإعلام لمعالجة أخطاء المذيعين، ويخاطب الجهات القانونية لتعريب المصطلحات القانونية، وقد قام على تعريب مصطلحات كل العلوم في مجلدات، لكن لا الجهات التنفيذية تستجيب لتوصيات المجمع ومخاطباته، ولا أحد يخرج المجلدات ليقرأها.

الأمر يحتاج إلى قرار سيادي لجعل اللغة العربية هي اللغة الأولى بالفعل، ولك أن تنظر إلى حال التعليم وتعدده، وهو ما يوضح أن الأمر أكبر من إمكانيات المجمع، وأننا صرنا على الأقل بحاجة لأن تكون خطابات المسؤولين باللغة العربية، وليس العامية. المدهش أن الأساتذة في الجامعات لا يقومون بالتدريس باللغة العربية، رغم أن اللغة قسمة أساسية في الهوية، والتنازل عنها هو تنازل عن الهوية، وعلى الرغم من كثرة إثارة الموضوع إلا أن أحدًا لا يستجيب، حتى إن قاعات الدرس صارت كما يقولون: «سمك لبن تمر هندي»، كلمة عربية وأخرى إفرنجية، وبينهما كلمات عامية، ومصطلحات علمية تارة، وشعبية تارة أخرى. علينا أن نستفيد من تجربة المأمون في إنشاء دار الحكمة، أليست الدول العربية قادرة على إعادة إحياء هذه التجربة؟ فبيت الحكمة العصري هو المخرج من هذه الأزمة التي تزداد حدة، نظرًا لأن المصطلحات العلمية في تزايد، والأمر يحتاج إلى قرار سيادي قوي.

لغوي وأكاديمي مصري

عبدالله مليطان: مؤسسات منفصلة عن الواقع

يؤسفني القول: إن مجامع اللغة أصبح شأنها شأن ما يجري في الواقع العربي على كل المستويات… بعيدة من الواقع منفصلة عن حياة الناس على الرغم من طبيعة علاقتها بوسيلة التخاطب، وهو اللسان العربي… وإن قال قائل: إن أمرها يتصل بالشأن الأكاديمي والعمل العلمي، فماذا قدمت في هذا الصدد؟ وفي تصوري أن أي مؤسسة لا تتصل مباشرة بالناس لا جدوى من وجودها. ترى ماذا قدمت المجامع العربية من برامج وخطط ومشاريع للارتقاء بلغة التخاطب؟ ماذا قدمت من معاجم لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة في مجالات الإعلام والصحافة والسياسة والعلوم والتقنية؟ أين دورها في ترجمة المصطلحات المستحدثة في عالمنا المعاصر؟ بالطبع هناك من سيتعلل بعدم وجود الإمكانات المادية الداعمة لنشاطه وبالعراقيل التي تواجهه إداريًّا وفنيًّا… وهو أمر واقع لذلك فإن الدول التي لا يعنيها أمر اللغة ومجامعها ما كان عليها أن تنشئ مجمعًا لتتركه يعاني الدعم وقلة الإمكانات ليكون عبئًا عليها وثقلًا يضاف إلى أثقالها. لذلك من الطبيعي ألا تجد لها أثرًا في حياة الناس، وربما لا يعلم كثير من الناس بوجود مجمع للغة لديهم. حتى ما اتفقت المجامع العربية على تعريبه منذ سنوات لا يزال الناس لا يعرفونه إلا بلغته الأصلية، ولا يتداولون ما اتفقت عليه تلك المجامع؛ لأن المجامع العربية لم تحسن الترويج له والتعريف به. وهو تقصير منها بالطبع للدور الذي كان عليها أن تقوم به إزاء دورها في خدمة لغتنا العظيمة.

كاتب ليبي

ممدوح فراج النابي: لا يتردد اسم المجمع سوى عند الموت

دور مجمع اللغة العربية في الواقع الثقافي مع الأسف لا يتردد إلا في مناسبات الموت، فلا نسمع اسم المجمع ورئيسه إلا إذا غيّب الموت أحد أعضائه أو استبدال آخر براحل. هكذا اختفى الدور الفاعل لمجمع اللغة العربية على الرغم من الحاجة الماسة له الآن في ظل حالة الخلط اللغوي التي صارت دخيلة على اللغة. لم يأخذ المجمع بالصيحات والدعوات المطالبة بالحفاظ على اللغة العربية، ومقاومة القبح اللغوي الماثل في استخدام الحروف اللاتينية في اللوحات الإعلانية، أو على الأقل لم يسعَ لتنفيذ قراراته، كما أن المجمع صار دائمًا متأخرًا خطوة للخلف في ملاحقة الطفرة التكنولوجية والمتغيرات العالمية التي انتقل تأثيرها إلى اللغة. في ظل كثير من الكوادر العاملة في المجمع التي يعوّل عليها.

ناقد مصري

محمد المغبوب: يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع

لم يعد للدور المناط بمجامع اللغة العربية في الوطن العربي من عمل نراه على الواقع المعيش، حيث نجد لغتنا في ظل لغة الآلة الغربية وقريبًا الصينية وهي تتوسع على حساب لغة القرآن الكريم حيث تأتي بمفردات جديدة تلصق على ألسنتنا وتتسرب حتى إلى الديوان الرسمي وإلى القنوات الإعلامية ووسائل الاتصال المباشر، ناهيك عن زحف اللغة المحكية حيث كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة الضاد، وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحلال عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها الآن قد تقلصت كثيرًا حتى إننا نحتاج إلى ترجمات للمعلقات وإلى الموروث الأدبي العربي كي نفهمه جيدًا. يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع العربية ولا قدر أصحاب اللغة من بحاث وأدباء وأساتذة اللغة على اللحاق به ومعالجته لعدم الوقوف عليه.

إن أهم ما في الأمر كله هو أن المصطلح صار يشكل لنا ربكة في الفهم تفسيرًا وفهمًا، وقد يتلون المصطلح الواحد بعد إيحاءات تجعلنا في لبس وفي حيرة. ويتجلى هذا حتى عند تفسير القرآن الكريم حيث نخلط بين النزول والهبوط والسقوط مثلًا، وبين الكتاب واللوح والذكر والقرآن، وحين عقد المعاهدات الرسمية والعقود مع الآخر على مستوى الترجمة والتأويل.

هذا كله لم يكن وليد اللحظة بل هو تراكم عبر حقب التاريخ، وبخاصة ما بعد القرن التاسع عشر بعد ثورات عالمية في السياسة والحكم وفي العلوم كافة، إذ حين هم يثورون ويغيرون كنا نحن العرب نمارس فعل الفرجة ونتلقى المنجزات ولا نأتي بها، فصار العالم يتحدث بلغته وكذلك نحن فاعلون.

كاتب ليبي

سيد‭ ‬الوكيل‭:‬‭ ‬كيانات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭ ‬للعمل

آخر مرة سمع فيها اسم مجمع اللغة العربية كان منذ خمسة عشر عامًا، عندما أخبرني الأديب محمد مستجاب أنه يعمل هناك. أنا لا أقصد إهانة أحد، لكني أشير إلى أن ثمة كيانات كثيرة فقدت وجودها بالتقادم، مثلًا لو سألت مئة أديب عن دار الأدباء، فإن تسعين منهم لا يعرفون عنها شيئًا. هذه الكيانات: إصدارات قديمة، لم تعد صالحة للعمل وتحتاج «فرمتة» وإعادة «تسطيب». في الماضي، كان لمجمع اللغة العربية وظيفة ثقافية مهمة، مثلًا: عندما دخلت الثلاجة الكهربائية إلى مصر، كانت الأسر الأرستقراطية تسميها «فريجيدير» لكن جهود المجمع جعلت كل الناس تقول «الثلاجة». وأنا أعرف أن دوره كان كبيرًا في مجال تعريب المصطلحات العلمية (الهندسية والطبية والفيزيائية…) ولولا هذا التعريب لما عرفنا شيئًا عن هذه المصطلحات وظللنا جاهلين بها.

ومع ذلك فليس كل ما أطلقه المجمع استخدمه الناس، فلا أحد يقول عن التلفزيون «مرناء»، ولا على التلفون «مسرة». الناس تعلمت تصريف المصطلحات الأجنبية، وهضمها في التكوين الثقافي الذي يلبي حاجاتهم اليومية مثل: تلفزة، تلفنة.. وتدليت وتسطيب وفرمتة وهكذا، وشيئًا فشيئًا حلّت محل هذه الكيانات، وأصبحت تسيطر على الحراك اللغوي في الشارع، وهذا الدور اتسع بشكل كبير مع عصر التكنولوجيا. مثلًا، الناس تقول: اديني ماسيج أو ميسد كول، وتقول فلان «بيشيّت» على طول، أي مدمن على الشات.. أو «نتّاوي» أي مدمن على الإنترنت أو «يدوّن» أي يحمّل أشياء من على الشبكة. وتنتقل هذه اللغة إلى السلوك والصفات، فنقول: فلان «هاكر». أي يسرق أفكارك ويستخدمها لنفسه.

والتوسع في هذه الظاهرة، يشير إلى أمر من الاثنين: إما أن الناس فككت هذه الكيانات وحلت محلها وقامت بدورها، وإما أن هذه الكيانات ماتت إكلينيكيًّا والناس مضطرة لأن تملأ ذلك الفراغ بطريقتها الارتجالية. والسؤال الآن: إلى متى سنتلكأ قبل إعادة النظر في هذه الكيانات، سواء بتحديث دورها أو بإحالتها للتقاعد مع الشكر. لكن المؤكد أنها كثيرة ومعوقة لأي نهوض.

تضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬‮«‬العربية‮»‬

لا يختلف اثنان على ما تشهده مجامع اللغة العربية من عزلةٍ أو غربةٍ عن محيطِها لأسبابٍ متعلقة بها أو خارجةٍ عن إرادتها، وهي «أزمة» تستفحل أو تخْفُت، تبعًا لطبيعة المشروعات وفاعلية البرامج التي تتولى المجامع تنفيذها، أملًا في مدّ الجسور بين الواقع والمأمول في مجال الحفاظ على «العربية» وحمايتها.

«نعم، هناك عزلة تعانيها المجامع لا يمكن إنكارها»، يقول الأمين العام لمجمع اللغة العربية الأردني، الدكتور محمد السعودي، رادًّا ذلك إلى أسباب من أبرزها «غياب التشريع» كما يرى. ولهذا فإنه يؤكد أن مجمع اللغة العربية الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية (فرع المؤسسة العلمية الفائزة عن فرع اللغة العربية والأدب لعام 2016م)، نفضَ كثيرًا من الغبار عن كاهله، وتجاوَز مرحلة «مراوحة مكانه» بعد إقرار تشريعَين مهمَّين مؤخرًا، هما قانون مجمع اللغة العربي، وقانون حماية اللغة العربية.

ويوضح السعودي أن قانون المجمع أعاد تنظيم الأدوار داخل المجمع ببنيتَيه الإدارية والفنية، أما قانون حماية العربية، فهو «إنجاز كبير» على حدّ تعبيره، جاء محصلةَ نضالاتٍ طويلة تواصلت على مدى سنوات. ومن البنود التي تضمّنها القانون ويعوّل عليها القائمون على المجمع وسدَنة «العربية»، عدم تعيين أيٍّ من المشتغلين في مجال اللغة من معلمين وصحافيين وسواهم، إلّا بعد اجتياز «امتحان الكفاية» الذي صدر نظامه مؤخرًا، وحُوِّل إلى الحكومة ليوضَع موضع التنفيذ.

ويؤكد السعودي أنّ هذا الامتحان طُبِّقَ بنجاح في وزارة التربية والتعليم سنة 2016م، وأن استمرار تطبيقه عند ملء الوظائف الشاغرة سيضيّق الخناق على العزلة التي تعانيها «العربية»، وسيخلّصها من «غربتها» إلى حدّ ما. ويضيف أن المجمع يعمل حاليًا على تبسيط امتحان الكفاية بغيةَ إخضاع الطلبة الجامعيين الجدد له، ومَن يجتازه بنجاح سيسقط عنه مساقان دراسيان في اللغة العربية. وبالتالي فإنّ في هذا التوجّه تخفيضًا للنفقات وتوفيرًا للوقت، إلى جانب تشجيع الشباب على إثراء مخزونهم اللغوي.

ويشير الأمين العام للمجمع، إلى مكتبة الأطفال التي دُشِّنت في أواخر يوليو عام 2017م، وهي «مشروع رائد» يغرس حبَّ العربية في نفوس الطلبة، ويعمل على تنمية مهاراتهم اللغوية كتابةً وقراءةً ومحادثةً واستماعًا، وإثراء حصيلتهم اللغوية بمفردات جديدة ومتنوعة، وخلق روح الإبداع اللغوي فيهم، وحفزهم إلى إدراك مفاهيم اللغة هوية الأمة ووعاء حضارتها وحاضنة تراثها.

ولأن التواصل مع الشرائح المستهدفة في المجتمع يتطلب صيغًا متنوعة تواكب المستجدات، جاءت فكرة إذاعة المجمع التي بدأت بثها التجريبي حريصةً على الارتقاء بالذائقة الفنية للمستمعين، وتحبيب الناس بالفصيحة، وتعريفهم بقدرات اللغة وكنوزها ومرونتها وغناها اللفظي والتعبيري.

ومما يُحسب للمجمع، أنه بدأ يتصدّى لمهمة تعريب المصطلحات الأجنبية ووضعها في السياق العربي، مثل: مصطلحات الطاقة المتجددة، ومصطلحات السياقات السلوكية والطبية والصحية والبيئية والعمرانية. وهذا يتم بالتعاون مع مجموعات طلابية مهتمّة تتفاعل على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك).

من ناحية، للباحث والأكاديمي الدكتور غسان عبدالخالق، رأيٌ آخر في مسألة حضور مجامع اللغة العربية وتأثيرها، وعجزها عن تطبيق مقترحاتها اللغوية؛ إذ يؤكد أن هذه المجامع «تمثل تجسيدًا حقيقيًّا لمدى انفصال مستودعات اللغة عن إيقاع الشارع ومستجدات الحياة»، موضحًا أن هذا الانفصال متفاوتٌ من مجمع لآخر؛ فهناك مبادرات «جديرة بالاحترام» مثل مبادرات مجمع اللغة الأردني، لكن المشهد المجمعي العام «لا يدعو للتفاؤل».

ويضيف عبدالخالق أنه أطلق قبل سنواتٍ دعوةً لرصد ألفاظ ومصطلحات «الربيع العربي» وتوثيقهما وإفرادهما بمعجم خاص، لكن هذه الدعوة التي لا تحتاج لأيّ تبرير فـ«الربيع العربي» يمثل أخطر ما مرت به الأمة العربية في العصر الحديث- ما زالت تصطدم بذهنية «أمين المستودع اللغوي» الذي يفضّل الاستغراق في مفردات القرون الهجرية الأولى بدلًا من الانخراط في مواكبة واستدخال مفردات القرنين العشرين والحادي والعشرين.

ويذكّر عبدالخالق بما ذهب إليه كلّ من هشام شرابي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان قبل عقود بخصوص «أبوية مجامع اللغة وصنميتها»، وهو النهج الذي يرى أنه ما زال ساريَ المفعول. وكان رئيس مجمع اللغة العربية الأردني الدكتور خالد الكركي، أكد خلال تسلّمه جائزة الملك فيصل العالمية التي مُنحت للمجمع في 4 إبريل من العام الحالي، على أهمية إقرار قانون حماية اللغة العربية الذي يركز على العربية السليمة لا الفصحى، ويُلزم المؤسسات الحكومية والخاصة باستخدام اللغة العربية في جميع وثائقها وإعلاناتها. ودعا الكركي الأمانةَ العامة للجائزة، إلى تبني مبادرة توحيد مجامع اللغة العربية تحت لواء مجمع عربي موحّد، يكون مقره الرئيسي في مكة المكرمة، وذلك بهدف صياغة الرسائل الإستراتيجية والعامة التي تخدم لغة الضاد في محيطها وعمقها العربي.

هاني شنودة.. موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس..

هاني شنودة.. موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس..

فرقة المصريين وهاني شنودة

يعدّ واحدة من الظواهر الفنية التي عرفتها مصر منذ مطلع السبعينيات حتى الآن، وُلد عام 1943م بمدينة طنطا في وسط الدلتا، وتخرج عام 1966م من معهد الكونسرفتوار، أدخل على الموسيقا المصرية توزيع الألحان، واعتمد الأدوات الموسيقية الكهربائية، نال كثيرًا من الهجوم، وقدم كثيرًا من النجوم في مقدمتهم محمد منير وعمرو دياب الذي التقاه في حفلة ببورسعيد، فنصحه بنزول القاهرة وتعلم الموسيقا، وقدم له ألبومه الأول «يا طريق». هو الموسيقار هاني شنودة صاحب فرقة المصريين التي قدمت تراثا مهمًّا للموسيقا المصرية والعربية (بحبك لا. ماشية السنيورة. حرية. كتير. بنات كتير. أبدًا من جديد، حظ العدالة)، لحَّن الموسيقا التصويرية لأكثر من خمسين عملًا سينمائيًّا، من بينها: (اللومنجي، ونسيت أني امرأة، ومصيدة الذئاب تعالب وأرانب، وصعيدي في الجيش، وصراع الحسناوات، ومسجل خطر، والعذراء والعقرب، وصديقي الوفي، والمشبوه، والمطربون في الأرض).

«الفيصل» التقته وحاورته حول الموسيقا والفن وقضايا أخرى:

● ما الذي حققته فرقة المصريين للموسيقا العربية وللغناء في مصر؟

فرقة المصريين غيرت «المزيكا» في مصر ودول أخرى كثيرة، وحين تذهب إلى أي فرح تجد الناس يغنون أغانيها، وهذا يعني نجاحها وتحققها وارتباط الناس بها، فضلًا عن أنه لم يكن في الموسيقا المصرية هارموني أو باص غيتار أو كونتر بوينت. «المصريين» هي التي أدخلت العلوم الموسيقية، لم يكن هناك توزيع أو هارموني في الكورال، فالجزء الذي يجيء فيه ربع تون كان يُترَك بلا توزيع. وفي «المصريين» عملنا أول شريط كاسيت لمحمد منير، وعملنا له الموسيقا التي ما زال يغني وفقًا لإيقاعاتها حتى الآن.

● هاني شنودة من أكثر الموسيقيين الذين احتكوا وتعاملوا مع كتاب وشعراء، فما الذي جعلك قريبًا من الوسط الثقافي هكذا؟

أول شيء أنا مدين بكل ما أنا فيه لأستاذ اللغة العربية في مدرستي الإعدادية الذي علمني موضوعات الإنشاء، مؤكدًا أن كل موضوع له مقدمة ثم قمة ثم تذييل، سواء ببيت شعر أو آية قرآنية، كان يكلمنا في كل شيء، وعن كل شيء، فأثار خيالنا وأرواحنا نحو كل ما هو جديد، إضافة إلى ذلك فأنا من بيت جمع بين الثقافة والفن، فوالدي كان صيدلانيًّا لكن كانت لديه مكتبة كبيرة، وكان محبًّا للقراءة والاطلاع، وأمي كانت تجيد العزف على العود، ومن ثم فقد نشأت في بيت جمع بين الثقافة والفن.

نجيب محفوظ وحليم

نجيب محفوظ

● ما الذي غيرك لتنتقل من الأغاني الغربية إلى الأغاني المصرية؟

كنا فرقة غربي، نغني أغاني غربية تتميز بالإيقاعات السريعة والمدد القصيرة، وكنا نقدم موسيقانا في المنتزه بالإسكندرية، وكان يجيئنا نحو ثلاثة آلاف شاب وفتاة يرقصون على موسيقانا وأغنياتنا، فجاءنا نجيب محفوظ لإجراء حوار معنا لـ«آخر ساعة» أو «المصور»، وكان ذلك قبل أن يحصل على نوبل بسنوات طويلة، فقال لي: «أنتم عاملين زوبعة في فنجان، أنتم ما بتعملوش أغاني عربي ليه؟»، فقلت له: إن الأغنية العربية تأخذ وقت ثلاثة أو أربعة أغاني مما نغنيه، كما أنها تبدأ بتانغو وتنتهي بمقسوم «على واحدة ونص»، والشباب يرون أنه من العيب الرقص على إيقاعات شرقية، وظللت أسترسل في ملاحظاتي على الأغنية العربية، فقال لي: «لا تستبدل شهوة العمل بشهوة الكلام». وبدا على ملامحي أنني لم أستوعب ما قال، فأوضح قائلًا: «اللي أنت مؤمن أنه صح اعمله»، ومشى نجيب، لكن البذرة التي بذرها في رأسي لم تمشِ، ظلت باقية، وأثّرت فيّ حين طلبني عبدالحليم حافظ وقال لي: «عايزك تعملي فرقة صغيرة»، وكان عبدالحليم يعمل مع الفرقة الماسية، وهي فرقة كبيرة وشهيرة، فوافقت وأحضرت درامز، وبيست بلارمر، لكن عبدالحليم عاد وقال لي: إن قائد الفرقة الماسية وهو الموسيقار الشهير أحمد فؤاد حسن غاضب، ويردد أن عبدالحليم سيترك الماسية وسينضم إلى فرقة صغيرة، واقترح علي أن نضم ثلاثة عازفين من الماسية إلى فرقتنا، فانضم إلينا عازف الغيتار هاني مهنى، وعازف الأوكرديون مختار السيد، وحسين نور «رق». وبدأنا البروفات، فعملنا حفلة في نادي الجزيرة، كان الجزء الأول بقيادة أحمد فؤاد حسن، والجزء الثاني منها بفرقتي، وبعد الحفلة قال لي عبدالحليم: «إحنا لاقينا نفسنا؛ لأن حجز الأوتيلات هيبقى أقل، وحجز الطيران هيبقى أقل». وحين فكرت في الكلام علمت أن عبدالحليم فهم ما يفهمه كثيرون، فهو بما لديه من قدرة على الاستبصار علم أن المستقبل للآلات العالمية الجديدة، سواء البيست غيتار أو غيره، وبخاصة حين رأى هذا العدد من الشباب الذين يرقصون على الهارموني والعلوم الموسيقية الجديدة التي مكنتنا من تفجير طاقاتهم، حينها قلت: إنه حان الوقت كي أكوِّن فرقة خاصة.

ولما جاءني عبدالرحيم منصور قائلًا: إن عنده مغنيًا شابًّا صوته مميز لكن حظه يعانده، وإنه يريده أن يغني معي، كان هذا الشاب هو محمد منير الذي وزعت له ألبومه الأول، ولحَّنت له فيه أربع أغنيات، وفي أثناء تسجيلنا شريط منير وجدت أن من يلعب الدرامز والغيتار لديهما صوت جيد، فأضفت إليهما إيمان يونس أخت الممثلة إسعاد يونس، وكوَّنت منهم فرقة المصريين، وكان النجاح حليفنا في كثير من الأغاني، وعملنا لمنير شريطه الأول والثاني، ولنجاة «باعشق البحر»، ولعدوية «زحمة يا دنيا زحمة»، وآخرين من بينهم: فايزة أحمد، وعلي الحجار، ومحمد الحلو، لكن بالأسلوب الجديد.

هجوم كاسح

نجاة الصغيرة

● اتُّهمت بأنك أدخلت الموسيقا الغربية إلى الغناء المصري؟

هوجمنا هجومًا لا أستطيع وصفه، سواء من الصحافة أو التلفزيون أو غيرهما، لكن «بيني وبينك» أمام النجاح الكاسح يهون أي هجوم، فضلًا عن أن الكاسيت أعطى هامشًا كبيرًا من الحرية في السماع، فقبله كان ذوق لجنة الإذاعة المصرية هو الذي يتحكم في ذوق الناس، ثم جاء الكاسيت الذي خلق الحرية، فكل من لديه (135 قرشًا) يستطيع أن يشتري ما يحب، فلما شعروا أن السجادة تنسحب من تحت أقدامهم توقفوا عن مهاجمتنا. في هذا الوقت قدمنا ألبومات «بنات كتير» و«بتتولد» لمحمد منير، وغيرهما، الآن تقلصت مساحة الحرية، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه، فأنت تسمع ما هو متاح على اليوتيوب، فللأسف السوشيال ميديا ضيقت حرية السماع، ربما تكون وسعت الحرية في إبداء الرأي أو غيره، لكن في الأغنية الأمر مختلف، فالأغنية كلفتها مثلًا نحو مئة ألف جنيه، ثم تُصوَّر بنحو مئة ألف أخرى، ثم تعرضها على اليوتيوب من دون مقابل، ومن ثم فلا أحد سيقدم على إهدار نحو مئتي ألف جنيه في أغنية كي يسمعها الناس على اليوتيوب، فعدنا من جديد إلى ذوق لجنة الإذاعة.

● ما الاتجاهات السائدة في الموسيقا بمصر الآن؟

الطاغي الآن هو أغاني المهرجانات، وأنا لست ضدها، لكني سأقول لك قبل أن تسأل: نحن في الموسيقا ليس لدينا نوت مؤدبة أو «قبيحة»، مؤمنة أو كافرة، لكن هناك توليفة من الإيقاعات، أما الكلام فله طريقتان، وكلمات أغاني المهرجانات «لمؤخذة سيئة ورديئة»، ولو كانوا عرضوها على المصنفات الفنية وسمحت لهم بغنائها فلا بد من جزاء الموظف الذي وافق عليها، أما إن كانوا غنوها من دون تصريح من المصنفات التي عليها أن تعطي تصريحًا لكل ما ينشر: رواية أو ديوان شعري أو أغنية، ومن ينشر شيئًا بلا تصريح منها يواجه عقوبات كبيرة، وإذا كانوا غنوها من دون تصريح ولم تقم المصنفات بمحاسبتهم فهناك مشكلة وتساؤل كبير.

● هل يدين هاني شنودة بالفضل لعصر شريط الكاسيت؟

أدين بالفضل لعنادي، فقد كنت أعرف أن هذا هو الاتجاه الصحيح؛ لأن بلدي والبلاد المجاورة تأخرت، وأنا ابن هرمس، أنا مولود مميز، ولا أستطيع أن أكون أقل من أجدادي الذين عملوا بالعلم، وأن أقول: إن الموهبة وحدها تكفي.

● ماذا تقول للموسيقيين الشباب؟

أسمع موسيقا تصويرية في المسلسلات، مستوى الصوت بها أعلى وأفضل مما كان متاحًا في الماضي لدينا، وهي موسيقا جميلة، لكن ينقصها الشخصية، ففي الماضي لو أخذت موسيقا فلم «شمس الزناتي» ووضعتها لفلم «المشبوه» فإنك لا تستطيع، ولا تستطيع أن تضع موسيقا أي منهما لفلم «لا عزاء للسيدات» أو العكس، لكن الآن يمكنك أن تضع موسيقا أي مسلسل لمسلسل آخر من دون أن تشعر بأدني خلل، ففكرة الشخصية في موسيقا المسلسلات وغيرها لم تعد موجودة، رغم أنها موسيقا حلوة، وأصحابها موسيقيون محترفون وموهوبون. ومن ناحية الأغنية فأريد أن أقول: إن الناس يرحِّبون بالأغنية الرومانسية والدينية والفكاهية، حتى أغنية الكلام الفارغ أو التي بلا رسالة كـ«يلا حالًا بالًا حيُّوا أبو الفصاد»، المهم أن تكون أغنية وليس إساءة للناس.

الصحافة المصرية تواجه «الأزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء

الصحافة المصرية تواجه «الأزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء

لم يكن يحلو لكثير من الناس أن يتحرك إلا والجريدة مطوية تحت إبطه، كأنه يحمل رسالة من الوالي إلى أبنائه المنتظرين عودته في البيت. لم تكن الجريدة مجرد حصول على خبر، لكنها كانت انتماء، وكل حزب بما لديه سعيد، ولا يصدق الخبر إلا إذا كتب في جريدته المفضلة، وكانت أشهر اللقطات التي أبرزتها السينما للمخبر في أثناء عمله وهو جالس خلف الجريدة يتابع تحركات المجرم، في حين كان فلم «بياعة الجرائد» من أشهر كلاسيكيات السينما المصرية، وفيه غنت ماجدة الصباحي ليوسف شعبان أغنيتها الشهيرة «أهرام، أخبار، جمهورية».

كانت الصحف الورقية هي القوت اليومي للمواطن، ولا يمكن تصور رجل ينتمي للطبقة الوسطى لا يجلس على المقهى مطالعًا جريدته المفضلة. وكان نجيب محفوظ قبل الاعتداء عليه من متطرف ديني عام 1994م يذهب إلى مقهى «علي بابا» في ميدان التحرير في تمام السابعة صباحًا ليتناول فنجانه من البن ويطالع جرائد الصباح.

لكن هذا كله أصبح شيئًا من الماضي، فمع مطلع الألفية الجديدة تراجع دور الصحافة الورقية، ولم تعد مصدرًا لتقديم الخبر إلى القارئ، فقد سبقتها إليه القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية على النت، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بمنزلة نبض الشارع والحياة، هكذا حرمت الصحافة الورقية من ملايين الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من الإعلانات، وتوقف قطاع كبير من القراء عن التعامل معها، وهو قطاع الشباب أو من هم دون الأربعين، هؤلاء الذين لم يدمنوا ملمس الورق ورائحة الحبر ومطالعة الجريدة الصباحية، هؤلاء الذين نشؤوا في عصر الستالايت والشبكة العنكبوتية والسمارت فون، فصرنا نسمع عن توقف جرائد عريقة كالسفير اللبنانية، والبديل المصرية، ونسمع عن توقف إصدارات في مؤسسات أكبر وأكثر عراقة مثل الأهرام والأخبار المصريتين، فما مستقبل الصحف الورقية؟ وهل هناك حلول لبقائها في المنافسة؟ أم أننا قد نستيقظ يومًا لنجد العالم وقد أصبح بغير جريدة الصباح وفنجان البن اللذين طالما تغنى بهما شعراء وكتاب ينتمون إلى بلدان ومدن عربية؟

عدد من رؤساء تحرير الصحف المصرية ومسؤولي الإعلام لم يقطع في الحديث حول نهاية قريبة محتملة للصحافة الورقية. وأدلى هؤلاء لـ«الفيصل» بشهادات مختلفة حول واقع الصحافة في مصر وفي الوطن العربي، وفقًا لعدد من المعطيات، ومع ذلك فإنهم أكدوا على أزمة كأداء تمرّ بها الصحافة العربية:

فهمي عنبة:

الصحافة الورقية مريضة لكن لن تموت

فهمي عنبة

بلا شك تواجه الصحافة الورقية تحديات في العالم كله بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ووصول النت إلى معظم البيوت، فقد أصبحت المعلومات متاحة للجميع، والخبر يرد إليهم في وقته وربما آن حدوثه. لكن الصحافة الورقية تمرض ولا تموت، ولو تذكرنا ظهور الراديو، وما تردد وقيل وقتها عن موت الصحافة الورقية، وتكرار هذا الأمر مع ظهور التليفزيون ثم الفيديو، نتأكد أن الصحافة الورقية تمرض، أو تمر بأوقات ضعف مع ظهور أي تقنية أو وسيلة إعلامية جديدة، لكنها لا تموت، وإن كان مرضها هذه المرة قد يستغرق مدة أطول، أو أكثر قوة وشدة من أوقات مرضها مع ظهور الراديو والتليفزيون والفيديو. لكننا نراهن على أن متعة القراءة لا يساويها متعة، ومن ثم فعلى الصحافة أن تركز ليس على الخبر لكن على ما وراء الخبر، والنزول إلى الشارع حيث العمل الميداني، وإبراز الرأي أو ما يعرف بصحافة الرأي، وتقديم خدمات جديدة للقراء.

تبقى الصحافة الورقية الأرشيف القومي للشعوب، في حين المواقع الإلكترونية أو وسائل التواصل الاجتماعي نجد جانبًا منها يقوم على الإشاعة أكثر من الحقيقة، وفكرة إثارة القراء وجذبهم، ثم العودة بعد دقائق لبثّ أخبار جديدة، من دون التأكد من صحة الخبر أو حقيقته، ومن ثم فالصحافة الرصينة سواء قومية أو حزبية أو خاصة، ستجد نفسها خارج الصندوق في وقت ما، لكنها سرعان ما ستعود بقوة حين يكتشف القارئ أن المواقع الإلكترونية لا تقدم له سوى هوس المتابعة الدائم، وعدم تقديم معرفة حقيقية في شيء. علينا أن نعترف أن خريطة الإعلانات تذهب في الدرجة الأولى الآن لبرامج «التوك شو» التي تستحوذ على ثلاثة أرباع المتاح من الإعلانات، يأتي بعدها المواقع الإلكترونية وهي متعددة وكثيرة، ثم إعلانات الشوارع التي أصبحت تغطي كل مكان، ثم الصحافة الورقية، ويمكننا الرهان في الحقبة المقبلة على أفكار مثل الصحافة الإقليمية أو المحلية أو ما يعرف بصحافة الكومباوند أو الأحياء المجاورة، هذا النوع يمكنه الاعتماد على إعلانات بسيطة وبأثمان زهيدة لكنها تغطي تكاليفه وتكفل له الاستمرار. وهناك نوع من الجرائد الخدمية حقق انتشارًا وتوزيعًا عاليًا كالوسيط القائم على الإعلانات فقط، إضافة إلى أننا في «الجمهورية» قدمنا تجديدًا في أبوابنا، فلدينا باب خاص بالمعاشات، وباب للعمال، ولدينا صفحات الفن والمسرح، ونقوم على العمل الميداني بالدرجة الأساسية حيث الجمهور وتحليل الخبر.

رئيس تحرير جريدة الجمهورية

محمد السيد صالح:

البحث عن دخل إضافي

محمد السيد صالح

توزيع الجرائد الورقية في مصر مُتَدَنٍّ جدًّا، وبعض الجرائد أغلق، كالتحرير والبديل وغيرهما، لكن الجرائد القومية لن تغلق، والجرائد الخاصة كالمصري اليوم تبحث عن بدائل جديدة، فهي تسعى لعمل معادلة في السعر والورق والبحث عن دخل إضافي من خلال الموقع، واستغلال إعلانات على النت والبحث عن مصادر للورق أرخص من المتاح. وهناك نوع ثالث من الجرائد، لا هو جرائد قومية مملوكة للدولة، ولا جرائد خاصة مملوكة لرجال أعمال، لكنها جرائد مموَّلة من جهات سيادية أو غير سيادية، هذا النوع في ظننا سيتحكم في مستقبل الصحافة الورقية، وهو نوع ليس موجودًا لا في الشرق ولا في الغرب، فالخليج به جرائد مملوكة للأمراء والأثرياء، وفي مصر أو غيرها جرائد خاصة أو قومية، الجرائد الخاصة إما أن تغلق أو أن تبحث عن عمل معادلة في الورق والإعلانات والثمن.

ثمة حلول أخرى على هامش هذه المعادلة، وهي اللجوء إلى نوع جديد من التوزيع الورقي، عبر إقامة شركات توزيع جديدة بديلة عن شركات التوزيع الحكومية التي تسيطر على السوق، والتفكير في صحافة الكومباوند أو المحيط السكني الصغير، هذه التجربة ليست موجودة لدينا، لكنها في أميركا والغرب ويمكن التفكير في إصدارها هنا. من المعروف أن الصحافة نوعان: صحافة خاصة يمتلكها أمراء أو رجال أعمال، وهذه تبحث عن مصادر أخرى للدخل وإقامة معادلة فيما يخص الإنفاق والعائد من التوزيع والإعلانات، وبعضها أمام الضغوط الاقتصادية أو السياسية يغلق، النوع الثاني هو الجرائد القومية التي لو رفعت الدولة يدها عنها فإنها ستغلق، لكنّ ثمة نوعًا ثالثًا ظهر في السوق مموَّل من جهات بعينها، لا يعنيه التوزيع ولا غيره، ولا تشغله الضغوط السياسية ولا الاقتصادية. هذا النوع نعتقد أن مستقبل الصحافة سيكون لصالحة، لأن تمويله قويّ، وأهدافه أن يكون موجودًا بغض النظر عن الضغوط السياسية التي قد تكون لصالح بعض وضد بعض، أو الضغوط الاقتصادية التي يعانيها الجميع الآن، بما فيها الجرائد القومية التي اضطرت إلى تخفيض بعض إصداراتها.

ما زال القارئ التقليدي الذي لم يرتبط بالسوشيال ميديا ومواقع النت مرتبطًا بالإصدارات الورقية من الجرائد، هذه التي يذهب إليها نحو 80% من الإعلانات. بعض الجرائد قامت بإنشاء مواقع إلكترونية أنفقت عليها الكثير؛ كي يعود البريق إلى الجريدة الورقية نفسها، وتستطيع المنافسة في سوق الإعلانات.

رئيس تحرير المصري اليوم.

عماد الدين حسين:

الحاجة إلى تحرير جديد وكُتاب جدد

عماد الدين حسين

هناك تحديات حقيقية تواجه الصحافة الورقية، السبب الأساس هو منافسة وسائل الاتصال وارتفاع أسعار الورق واستيراده، وتعويم الجنيه، وارتفاع سعر الدولار، إضافة إلى غياب أي تصور حقيقي للتطوير. والنتيجة أن عددًا من الصحف التي كانت توزع في السبعينيات بأعداد هائلة اختفت.

توجد أزمة حقيقية في المحتوى، وبخاصة مع ظهور الفضائيات والمواقع الإلكترونية، والصحف التي لن تستطيع في المستقبل أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها، لن يكون لها فائدة. فلا بد من وجود حلول، والحلول الجوهرية تكمن في تقديم محتوى مختلف، فلم يعد مهمًّا أن تهتمّ بالخبر اليومي، فلا بد من تقديم محتوى مختلف يشتمل على حوارات وقصص وأمور ليست متاحة للـ«توك شو» على الفضائيات، وهذا بدوره يحتاج إلى نوعية جديدة من المحرِّرين والكُتاب والمفكِّرين، كما يحتاج إلى تدريب وإعادة تأهيل واكتساب لغات ومعارف جديدة.

رئيس تحرير الشروق

سامي حامد:

ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج

سامي حامد

مجدي شندي

الصحافة الورقية تواجه في الوقت الحالي الكثير من التحديات، وبالتأكيد تأثرت سلبًا بعد انتشار المواقع الإخبارية الإلكترونية لكنها لم تمت ولن تموت، فالصحافة الورقية لها مذاق خاص ونكهة مختلفة عما تبثه المواقع الإلكترونية من أخبار وموضوعات. الصحافة الورقية في اختبار حقيقي اليوم؛ فإما أن تكون أو ﻻ تكون، وأرى أن الصحافة الورقية لكي تنجح في اﻻستمرارية عليها اﻻبتعاد بقدر الإمكان من العنصر الخبري، فالمواطن يحصل على الخبر في الحال سواء على الموبايل أو شاشات التلفاز وأجهزة الحاسب الآلي. عليها التركيز على ما بعد الخبر واﻻهتمام بالرأي والتقارير والتحليلات والقضايا سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهناك تحدٍّ آخر يواجه الصحافة الورقية هو ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من ورق وأحبار وزنكات، وهو ما يستلزم في كثير من الأحيان خفض الكمية المطبوعة سواء كانت صحفًا أو مجلات.

رئيس تحرير جريدة المساء المصرية.

مجدي شندي:

وداعًا للتوزيع «المليوني»

اقتصاديات الصحافة الورقية تضررت كثيرًا؛ لأن هذه الصحافة فقدت وظيفتها وهي الإخبار، فقد أصبحت لدينا بدائل أكثر سرعة في نقل الخبر وتقديمه للمتلقي، كما أن أنماط القراءة وعاداتها اختلفت من القراءة الورقية إلى القراء على اللوح الضوئي، هذا هدَّد مستقبل الصحافة الورقية، وبخاصة من قطاعات الشباب؛ لأنه لا أحد منهم يُقبل على شراء الصحف الورقية، فأغلبهم يعتمد على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل انتظار خروج الصحف الورقية من المطابع، والسير مسافات لشرائها من بائعي الجرائد، عملًا من الماضي، نظرًا لوجود بدائل قوية تبث الخبر في آن حدوثه.

تضررت الصحافة الورقية، وهو أمر ليس خاصًّا بمصر وحدها، فهو متعلق بالثورة التكنولوجية التي أنتجت الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وأصبح التوزيع المليوني للصحف الورقية جزءًا من الماضي؛ لأن قُرَّاء الصحف فيما فوق الأربعين وحدهم هم الذين اعتادوا على ملمس الورق ورائحة الحبر، كل الأجيال الجديدة الآن لم تَعتَدْ على ذلك، وليس لديها أدنى ارتباط نفسي مع الجريدة الورقية، وهذا ترك آثاره على الصحف الورقية في العالم كله. صحف عريقة في أوربا والولايات المتحدة تحوَّلت إلى الواقع الافتراضي، أما في مصر فربما يتأخر ذلك التحول قليلًا، وقد تأتي مجلات متخصصة في تفسير وتحليل الأحداث، ما يمكنها من التعايش مع الواقع الجديد، كي نشهد دورًا جديدًا للإعلام الورقي.

رئيس تحرير المشهد

أحمد الجنايني: مهمتنا ألا يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي

أحمد الجنايني: مهمتنا ألا يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي

لا تكاد تشعر به، لكن أثره موجود في كل مكان، تراه في مقدمة صفوف الفنانين التشكيليين، حيث يشغل منصب رئيس مجلس إدار أتيليه القاهرة للفنانين والأدباء، هذا المكان الذي أسسه المصور المصري الكبير محمد ناجي عام 1953م، ليصبح منارة ثقافية تدافع عن التشكيل والأدب معًا، إنه الفنان المصري أحمد الجنايني (1954م) الذي تتلمذ على يد الفنان المصري الكبير حامد عويس عام 1978 – 1979م، وبعدها درس الفن في ألمانيا في المدة 1980 : 1981م، وكتب الشعر والرواية، وصمَّم أغلفة العديد من سلاسل الكتب، وأنشأ دار نشر، ورأس تحرير مجلة «الخيال» المعنيَّة بالفنون البصرية، وهو القائل: إن تاريخ مصر التشكيلي في خطر. «الفيصل» حاورته حول تجربته إضافة إلى قضايا أخرى.

مارسْتَ الفن التشكيلي والشعر والكتابة الروائية؛ فما رؤيتك الأساسية للفن؟

كنتُ واضحًا منذ البداية مع نفسي في أنه لا يوجد غرف مغلقة للصنوف الإبداعية، لكن كل الإبداعات تشكيلية أو موسيقية أو شعرية أو مسرحية،… جميعها يشتبك معًا، كان هذا عمود أستند إليه في رؤيتي لمشروعي الإبداعي، كما أن مثلث الإبداع لا بد أن يكون موهبة – خبرة – ثقافة، وأنه لا يمكن حذف أو إلغاء أي من العناصر الثلاثة، ولا يمكن أن يقدَّم عمل إبداعي بضلعين من دون الثالث.

لا تنتمي اللوحة لديك إلى سياق مدرسة فنية بعينها، وربما تكون مزيجًا من مدارس مختلفة، فما المؤثرات التي تدفعك لذلك؟

ممارسة العمل الإبداعي تشكيليًّا تعتمد على ماهية اللغة البطل، وماهية لغة التشكيل هي اللون – الخط – الكتلة – الفراغ – المساحة. أي جميع العناصر المرئية بصريًّا، لذا سيكون البطل دائمًا بصرِيًّا، رغم إمكانية اشتباكه مع الموسيقا أو الشعر. وبالنسبة لي فإنني أعتمد الجسد الإنساني، أو بمعنى أدق، الإنسانَ بطلًا للغتي التشكيلية، أحمله بكل المضامين التشكيلية سواء أكانت لونًا أو خطًّا أو مسافةً أو كتلةً أو فراغًا، لكن الهم الإنساني يكون حافزًا لطاقتي التشكيلية، وأنا ممن يؤمنون بموسيقا اللون، وبالتالي فإن لغة اللون عندي تعتمد كلية على فهمي الواعي للعلاقات اللونية سواء أكانت التضاد أو الهارموني أو غيرهما، المهم عندي أن أرى الموسيقا من خلال اللون، وهذا يمنح العمل جاذبية للتلقي، ويأخذ المشاهد إلى أبعاد أخرى ترتبط جميعها رغم مضامينها المختلفة بجماليات المشهد، ولكي أحقق هذا كان لا بد لي أن أمارس التشكيل بعيدًا من صناديق المدارس التشكيلية الجاهزة، فأنا أومن بحرية التعبير وحرية استخدام الفنان للغته الخاصة؛ إذ ليس من الضروري أن يكون واقفًا داخل صندوق مدرسة معينة، ويغلق على نفسه هذا الصندوق، من هنا كانت تجاربي مزجًا بين مدارس تشكيلية مختلفة، فالتجريد امتزج بسوريالية اللون، والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد، وهكذا.

كيف تشكلت الذاكرة البصرية لدى أحمد الجنايني؟

أنا ابن قرية تنام في حضن النيل، حيث فرع دمياط؛ لذا فمنذ طفولتي كنت أشكل الطمي وأتعامل مع مفردات النهر ومفردات الطبيعة بوصفها المخزون الوجداني والثقافي والبصري، ورغمًا عني مارست ذلك من دون أن أفهم ذلك بوعي، ابن القرية الذي رسم بالطبشور على جدران المنزل وأبواب الغرف، وتعامل في «حصة» التربية الفنية في المرحلة الإعدادية مع الطبيعة، حيث كان يطلب منا مدرس الرسم على السبورة أمام الزملاء، وهذا ما شجعني على ممارسة التشكيل.

هناك جانب آخر مهم وهو مكتبة أخي الأكبر التي كانت تضم كتبًا مهمة منها كتاب التشريح للفنانين -مؤلفه يوجن وولف- الذي استفدت منه كثيرًا في المراحل الأولى من تكويني، فإذا أضفنا ذلك إلى حكايات القرية وألعاب الأولاد والبنات الشعبية التي كنا نمارسها بحب وفرح رغم ظلمة الشوارع التي لم تكن تعتمد إلا على المصابيح النفطية في ذلك الوقت، كل هذا شكَّل جزءًا كبيرًا من ذاكرتي البصرية.

مارستَ فن تصميم الأغلفة لعدد من سلاسل الكتب، فإلى أي مدى أسهم الكمبيوتر وما أتاحه من خيال جديد وبرامج عديدة في تشكيلك اللوحة وعالمها؟

لا تربطني أي علاقة بما نسميه فن الكمبيوتر أو العمل الفني من خلال الكمبيوتر، أنا أمارس الفن التشكيلي بأطراف أصابعي معتمدًا اللون بمختلف خاماته، سواء أكانت زيتية أو أكريلِك أو ألوانًا مائية، وأنا من الفنانين الذين لا يؤمنون بتحضير اللوحة من خلال رسم إسكتشات ثم بعد ذلك نقل الإسكتش ليكون لوحة، أنا أومن منذ بداياتي بأن الشخصية الأولى هي اللوحة؛ لذلك تكون علاقتي مباشرة مع سطح اللوحة، من دون الاتكاء على عمل إسكتشات، ضربة الفرشة الأولى في اللوحة هي بمنزلة الطلقة الأولى التي تفتح لي سردابًا لا أعرف ما الذي يسكنه، لكنني أعرف تمامًا أنني لا بد أن أعبُر من هذا السرداب، هذه هي علاقتي الحقيقية بالعمل التشكيلي.

كيف ترى واقع الحركة التشكيلية في مصر الآن؟

الحركة التشكيلية يشوبها الكثير من العلاقات التي غيَّبت المفهوم الحقيقي للإبداع، وأقصد بها علاقة وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام بمفهوم التشكيل والثقافة البصرية وأهميتهما، لقد اختلطت هذه المفاهيم عند القنوات الثلاث، فغابت المفاهيم الحقيقية في المراحل التعليمية، وهمشت في الثقافة، وتكاد تكون ألغيت في الإعلام، وبالتالي فهذه الجزر المنعزلة والمنوط بها رفع مستوى الثقافة البصرية لا تقدم شيئًا حقيقيًّا لتنمية الثقافة البصرية، ولم يعد بالإمكان القبض على مفاهيم جمالية تقدم على أرضية حقيقية للمواطن العادي، ومن ثم انفصل المجتمع بكليته عما يسمى الفن التشكيلي، وبالتالي فالفنان التشكيلي الحقيقي لا يستطيع في المجتمع المصري بل العربي ككل أن يمارس حياته بصفته فنانًا، ممارسة الفن لن تكون داعمة له لممارسة حياته بشكل طبيعي، من ناحية أخرى، وهي الأهم، إنه لكي تُقدِّم عملًا إبداعيًّا من خلال كونك فنانًا لا بد أن تمتلك رؤية لهذا العمل، وهذا ما نفتقده في كثير من الأحوال، نحن في حاجة ماسّة إلى الثقافة الإبداعية سواء أكانت إبداعًا أو ممارسة.

قلتَ في مقال: إن تاريخ التشكيل المصري في خطر؛ فكيف ذلك؟

التاريخ المصري يضع مصر رغمًا عن أي شيء في مقدمة الدول التي تمتلك تاريخًا إبداعيًّا حقيقيًّا، لكن ما يحدث الآن ربما يؤثر بشكل كبير في هذا التاريخ، حيث إن هناك «لوبي» -وأعني بها معناها الحقيقي- يعمل ضد الفن بتبنِّيه أعمالًا لا قيمة لها؛ كي تكون في سوق المزادات رهانًا على تشويه وتشويش الإبداع. ويتواصل مع ذلك الترويج للأعمال الفنية المزيفة التي شاع التسويق لها، مما أفقد المتاحف الفنية الكثير من هيبتها، فأعمال مزيفة لرموز فنية كبيرة من رواد الفن في مصر منهم: محمود سعيد، وسيف وانلي، والجزار، وحامد ندا وغيرهم، يفقد الفن التشكيلي في مصر مصداقيته وجلاله، وهذه مشكلة كبيرة طرحت وفاحت رائحتها في معرض السورياليين الذي أقيم في قصر الفنون بدار الأوبرا بالتعاون بين وزارة الثقافة وجهات خاصة أتت بكم هائل من اللوحات المزيفة، وحشرتها داخل المعرض فقط لتأخذ مشروعيتها في المزادات التي يقوم بها هذا اللوبي.

بوصفك رئيس أتيليه القاهرة، ما حقيقة الصراع الدائر على المقرّ منذ سنوات؟

بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ مجلس إدارة الأتيليه الأسبق عام 2008م مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة، وهم ورثة ليندا كوهينكا اليهودية، وذلك بعدم دفعهم إيجار المقرّ مدة أربع أو خمس سنوات، على أن يقاضي الورثة مجلس الإدارة ويُستَصدَر قرار من المحكمة بطرد جمعية الأتيليه، وتسليم العقار للورثة، كان هذا أساس المشكلة، وأُوقِفت هذه الإجراءات وعُزل هذا المجلس بقرار من وزارة التضامن الاجتماعي، ثم فصلهم من الأتيليه بقرار من الجمعية العمومية، لكن بعد خمس سنوات تغيرت الخريطة، وفوجئ مجلس الإدارة الحالي بخطابات تَرِدُ إليه من مدير التضامن الاجتماعي تُطالِب المجلس بإعادة الأعضاء المفصولين بوصفهم لم يفصلوا، وبدا المشهد مأساويًّا حين تَكشَّفت خيوط التعاون بين إدارة التضامن وعناصر من المجلس المفصول، لنكتشف أن كل ما تسعى له وزارة التضامن هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه، بحيث يتمكَّن المجلس المعزول من تسليم المقرّ إلى الورثة، وهذا ما وقفنا ضده، وقاضينا وزيرة التضامن ومحافظ القاهرة السابق، ونحن في انتظار حكم القضاء، ولا يهمّنا إلا أن نحافظ على كيان أتيليه القاهرة من أيدي العابثين الذين يسعون لتحويله إلى مركز ثقافي إسرائيلي، أو على أقل تقدير إطفاء شعلته الثقافية التي أسسها المصوِّر المصري الكبير محمد ناجي في مارس 1953م، ولا يؤسفني في نضالنا هذا إلا تخاذل الكثير من المثقفين عن الدفاع عن هذا الصرح وتاريخه، وعلى رأسهم وزير الثقافة الذي لم يحرِّك ساكنًا رغم أنني وضعت الملف كاملًا على مكتبه، لكنه آثر الصمت البليغ.

المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث

المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث

لا تكاد الديانات السماوية الثلاث يختلف بعضها عن بعض في الأطر الأساسية لجميع المؤمنين بها، فجميعها تعامل مع أتباعه بالمنهج نفسه؛ أنهم خير الأمم، وأنها خير الرسالات، وهو ما منحهم نوعًا من التميز عن التابعين لأي من هذه الرسالات الأخرى، لكنه أيضًا وضعهم على طريق التصادم الحتمي مع الآخرين، كما جعلهم يبدون للمتابع من الخارج كما لو أن بعضهم تأثَّر ببعض في حركات الإحياء والعودة إلى الأصول، وفي مقدمتها الحركات السياسية التي قامت على مبادئ دينية.

هذا ما انتهى إليه الباحثان هدى الفيتوري وعبدالرحمن فرحات في كتابهما المهم «التأثير اليهودي على الحركات الإسلامية – الإخوان المسلمون والسلفية الجهادية نموذجان» الصادر حديثًا عن دار أروقة للنشر بالقاهرة.

في هذا الكتاب استعرض الباحثان تاريخ الحركات الإسلامية السياسية، مؤكدين أن التاريخ الإسلامي مليء بالعديد من الحركات السياسية التي قامت على أسس دينية، في مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج في العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة ظهرت الوهابية في الجزيرة العربية، والسنوسية في شمال إفريقيا، والمهدية في السودان، والدهلوية في الهند، لكن هذه الحركات لم تكن الأساس الذي قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات، فقد كان التعانق بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية أساس ظهور جماعات الخروج المتوالية في العصر الحديث، بداية من الجهاد والتكفير والهجرة وصولًا إلى القاعدة وداعش وجيش النصرة، فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت منها هذه الجماعات التكفيرية في سبعينيات القرن الماضي، وما زالت تؤتي أكلها حتى الآن في الجسد العربي الذي تحلل من كثرة الخروق فيه.

الجماعات الأكثر تشددًا

قسم الباحثان كتابيهما ثلاثة فصول: درسا في الفصل الأول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات «الدين» و«الأصولية» و«السلفية» و«الإصلاح»، مقارنين بينها من المنظورين العربي والغربي، ففي الوقت الذي تعارف فيه الغرب أن كلمة أصولية تعود إلى المتمسكين بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، سواء لدى البروتستانت أو الكاثوليك، وهو المفهوم الذي تحول إلى مذهب باسم الأصولية المسيحية في بداية القرن العشرين، وأخذ على عاتقه معاداة المجتمعات العلمانية، فإن المنظور العربي لا يكاد يوجد في معاجمه اللغوية مقابل واضح لكلمة أصولية، وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»، وقد اختلف العلماء في تفسير المصطلح؛ إذ ربط بعضهم دلالته بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي، لكنهم في العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه على الجماعات الأكثر تشددًا.

أما مصطلح السلف فقد قصروه على القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، ومنه جاء مصطلح السلفية التي عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى منابعها الأولى)، ومن ثم فكل ما يعود إلى هذه القرون هو من قبيل السلف، لكن هذا المصطلح لم تظهر بوادره إلا في القرن الرابع الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص على التأويل والقياس والرأي، وكان أولهم الإمام أحمد بن حنبل الذي يُعَد حجر الأساس فيما عرف بالسلفية النصوصية، تلك التي تطورت مع ابن تيمية إلى السلفية العقلانية، ثم جاءت السلفية النجدية على يد محمد بن عبدالوهاب، التي رفضت البدع والخرافات التي طرأت على الإسلام، لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت نوعًا من الحذر الشديد من المدنية ومفرداتها.

في الفصل الثاني رصد الباحثان تطور فكر الإسلام السياسي وجماعاته، بداية من جمال الدين الأفغاني الذي سعى إلى إنجاز عمل سياسي عبر الإصلاح الديني، وقد تأثر به مفكرون كثر في مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بين عباءة الأزهر من جانب وعباءة الفكر الأوربي الذي عايشه مع أستاذه الأفغاني، فقدّم رؤية خرج منها من أراد التقدم على أساس الشك والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسين وعلي عبدالرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم، كما خرج أيضًا المتشددون الذين رأوا في منهج السلف طريقهم القويم، في مقدمتهم الشيخ رشيد رضا الذي فتن به حسن البنا، فظهرت على يديه جماعة الإخوان المسلمين في ظل سقوط الخلافة في تركيا، فغازل البنا الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق الأول بأن يكون خليفة المسلمين، لكن ثورة يوليو التي قامت على أكتاف الشيوعيين والإسلاميين معًا سرعان ما انقلبت على الجميع، فدخل الإخوان السجون وكتب سيد قطب كتابة «معالم في الطريق» الذي استقاه من أفكار أبي الأعلى المودودي في باكستان، هذا الكتاب الذي آمن بأفكاره الكثيرون، فظهرت في مصر جماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والفنية العسكرية وغيرها من الجماعات التي رأت في السبعينيات ضرورة الخروج المسلّح على المجتمع، وانتهى الأمر بظهور جماعة القاعدة في الثمانينيات، ثم وصول الإخوان إلى الحكم في مصر عقب ثورة 25 يناير، لكنهم سرعان ما فقدوه لأخطاء عديدة في التجربة وعدم التماسّ مع أرض الواقع.

في الفصل الثالث سعى المؤلفان إلى إيجاد تماسات بين الديانات الثلاث وأتباعها فيما يخص العمل السياسي القائم على أساس ديني، وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه الحركات، فقد نشأت في البدء كحركة علمانية تسعى إلى إقامة وطن لليهود، وهو الأمر الذي يناقض المعتقد اليهودي بأن الشتات سيستمر إلى أن يظهر المسيح اليهودي ويطهر الأرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأتي القيامة، لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم من الحاخامات والمفكرين اليهود المرتبطين بما جاء في التوراة والتلمود، وساعدت الهولوكوست الصهاينة في التفوق على خصومهم الذين أضعفتهم المحرقة، فتحول المعارضون إلى موالين متشددين، ثم إلى حركات متشددة داخل الإطار الصهيوني، هكذا قامت الدولة الصهيونية، وهكذا تحول الجدل بين العلمانيين والدينيين إلى إقامة دولة تمزج ما بين العلمانية والدين المتشدد في إطار واحد.

الغرب ليس بعيدًا من الأصولية

لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية والأصولية، فقد نشأت البروتستانتية على أساس العودة إلى النص الإنجيلي فقط، ولا حاجة إلى تفسيرات وتأويلات البابوات والكهنة، وانتصر البروتستانت نظرًا لرغبة الأمراء والملوك في تقليص سلطات الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت الثوريين تحولت رؤاهم فيما بعد إلى تكلس حرفي في شرح النصوص والتعامل معها، وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إلى التمسك الحرفي بالنص، وكان الطرح المشترك لدى المتشددين في الديانات الثلاث هو الإيمان بأنهم خير أمة، وأن فكرتهم هي الفكرة الجامعة المانعة، وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات، وأن ما سيأتي هو المهدي أو المسيح الذي سينتصر على الظلم ويقيم العدل، وأن النص ليس بحاجة إلى تأويل أو قياس.

هكذا تشابهت اليهودية مع المسيحية مع الإسلام في البنيات الأساسية المنتجة للمتشددين الراغبين في إحياء أصول الدين، والعودة إلى السلف الصالح، لإقامة دولة العدل القوية، وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد، والرغبة في بعث السلف الصالح من مرقدهم عبر تمثل أقوالهم وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة، لكن ذلك كله لا يقول بأن ثمة تأثيرًا واضحًا من اليهودية والمسيحية في حركات الإسلام السياسي، وإن كان ثمة تشابه في المقدمات والنتائج التي ظهرت مع أتباع كل ديانة.