عِبَر ثقافية من عطلة صيفية

عِبَر ثقافية من عطلة صيفية

عاد طالب من طلابي لتوّه من السفر إلى فرنسا التي زارها للمرة الأولى. وهو أصلًا قد سافر لأول مرة إلى أوربا. فزارني وكانت مناسبة لي كي أقيّم معه الدروس المستفادة من سفره.

سألته: ما الذي أعجبك في رحلتك هذه؟ أجاب: كل شيء. قلت: كل شيء؟

صحّح عندها قائلًا: معظم الأشياء في الحقيقة… تشعر أن تنظيم أمور الحياة عملي جدًّا وأن الناس يحترم بعضهم بعضًا كثيرًا. وهذا أمر لسنا معتادين عليه كثيرًا في بلدنا. سألت: كيف لاحظت ذلك؟ قال: في الشارع وأينما كان. تتوقّف السيارات للمشاة مثلًا، وما من أحد يتزاحم مع الآخر في صفوف الانتظار… قلت: هذا جميل ولكنك كنت في مدينة ثانوية. لو كنت في العاصمة باريس لاختلف الأمر…

أضاف: لكن لديهم فسحات كثيرة للتنزّه وممرّات خاصة للدرّاجات الهوائية.

سلوك عمراني خلدوني

من الواضح أن صديقي كان مأخوذًا بسلوك عمراني، بالمعنى الخلدوني للكلمة، شأنه شأن كل طالب يكتشف عالمًا جديدًا ومختلفًا عن عالمه. لذلك وضعت بعض النقاط على الحروف.

قلت له: هل تعلم أن في المدن الصينية الحالية فسحات عديدة للتنزّه وممرات خاصة للدرّاجات الهوائية وأيضًا أخرى للعميان؟

علّق متفاجئًا: كلّا، لم أكن أعلم.

سألته: ما الذي أعجبك أيضًا؟

أجاب: يحبّون الطبيعة كثيرًا ويعتنون بها في الأماكن العامة وفي بيوتهم على السواء. لذلك هناك فسحة جمالية دائمة من حولك. وتشعر أنها حقيقية وليست مصطنعة… وهناك المتاحف. لديهم متاحف قديمة ورائعة وفي كل المجالات. قلت: هذا صحيح. لا تنسَ أن الثورة الصناعية قد أبصرت النور عندهم منذ زمن بعيد. كما أن اختراعاتهم واكتشافاتهم الأولى تعود إلى خمسة قرون راكموا خلالها الكثير الكثير.

أضاف طالبي: تقدّموا كثيرًا وعلومهم وثقافاتهم متقدمة جدًّا.

في الحقيقة لم أرد قمع حماسه وكبح مشاعره الإيجابية والمحقّة، لكني كنت أرغب في طرح سؤال نوعي يسمح بالذهاب أبعد من الانطباعات العامة. سألته: هل ترغب في الاستقرار والعيش في فرنسا… أو في أي بلد أوربي آخر؟

أجاب: كلّا.

قلت: لماذا؟

قال: أحب أن أزور البلدان الأوربية كلها، ربما تباعًا إن استطعت ولكن لن أعيش في إحداها على نحو دائم. فلو استقررت في أوربا سيكون عملي أفضل وكذلك ظروفي المهنية لكني سأكون بعيدًا من أهلي.

قلت: وماذا؟ أضاف: سأكون مضطرًّا لزيارتهم باستمرار، وسأشعر بأني لمدّة أحد عشر شهرًا في السنة أنا مقطوع عنهم… وهم مقطوعون عنّي. لن أعيش بهذا الشكل حياتي: أنا في قارة وأهلي في قارة أخرى. شو صاير علينا أنا وإياهم؟ فالحياة ليست لي فقط، بل لي ولهم على السواء.

هنا ابتسمت وقلت له وهو الحامل لشهادة جامعية عليا بتميّز: يا عيني عليك، أكسبتك هذه السفرة حكمة تضاف اليوم إلى علمك. ولكن ما الذي أدى بك إلى هذا الاستنتاج؟

أجاب باختصار: ما لاحظته هناك. فالعائلة لم تعد موجودة في هذه البلدان… لماذا يا ترى يا أستاذي؟

هنا أوضحت له الآتي: القصة طويلة ومتشعبة. وسأتناول بالشرح بعض جوانبها. بدأ التفكك العائلي في أوربا منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث انطلقت بقوة الثورة الصناعية؛ إذ حصل تهافت كثيف للعمال القادمين من الأرياف الفقيرة باتجاه المدن الصناعية الكبرى. فحضرت أعداد كبيرة إلى مدن واعدة تاركين أريافهم الأصلية والعائلات الممتدة التي كانوا ينتمون إليها. ثم بعد فترة اختار كل عامل شريكة حياة له وتزوجها وسكن معها في المدينة الكبيرة. غير أنه رضخ هنا لأمرين أدَّيا لاحقًا إلى تغيير نمط حياته الاجتماعية وتركيب أسرته: كانت زوجة العامل هذا تعمل مثله عملًا مأجورًا كي يتمكنا من تأمين متطلبات الحياة المدينية، حيث لكل شيء ثمن وحيث يغيب تعاضد الأسرة الممتدة الريفية التي أضحت أثرًا بعد عين بالنسبة للعامل وزوجته. فنشأت وانتشرت العائلة النواتية المؤلفة من الأب والأم والأولاد.

أسر نواتية صغيرة

وبما أن حال الأهل كان ضيقًا ماديًّا على الدوام، ارتأى الولدان أن يقلّصوا عدد الأولاد لديهم، بحيث زمّت هذه الأسرة المدينية النواتية إلى ولد أو ولدين فقط. وبما أن الأولاد كانوا يشكلون عبئًا معيشيًّا حقيقيًّا تعوَّد الأهل على الطلب منهم مغادرة المنزل بعد سن الثامنة عشرة وتأمين معاشهم واستقلاليتهم المادية تجاههم.

لكن ما حصل هو أن هؤلاء الأولاد عادوا وأنشؤوا أُسرًا نواتية صغيرة على القاعدة نفسها مع عنصر إضافي تمثّل بالاستقلال العاطفي. بحيث أضحى بعد حين التباعد العائلي مكرّسًا ومعممًا. فالتفكك الأول أدى إلى تفكك ثانٍ. ثم كرّت السبحة.

قاطعني هنا طالبي قائلًا: هذا أمر خطير… ولكن لماذا لا يعودون إلى الوراء اليوم ويصححون مسيرتهم؟ أجبته: بات الأمر مستحيلًا اليوم، بعد مُضي أكثر من قرن ونصف على هذا المنعطف حيث إن كل الأمور باتت مفصّلة على هذه القاعدة الجديدة. خذ مثلًا المسكن الحالي في الغرب عمومًا. أين كان يسكن الفرنسيون والألمان والسويسريون الذين تعرّفت عليهم؟

قال: في شقق… قلت: وماذا تعني الشقة؟ قال: لا أعلم. قلت: تعني غياب البيت. تعني غياب الأهل. تعني غياب العائلة بشكلها القديم. علّق قائلًا: لكن ذلك يعدّ خسارة.

قلت: تمامًا. هذا أهمّ ما خسرته الحضارة الغربية، وهذا ما لمسته وشاهدته بأم العين أثناء سفرك الذي كان بمثابة رحلة ثقافية. تقدّموا كثيرًا على المستوى العلمي كما العمراني لكنهم خرجوا خاسرين على المستوى الاجتماعي. وها هم اليوم قد أوغلوا في الفردانية لدرجة أنهم يعجزون عن العودة إلى الوراء. فكل ما ينتمي إلى الماضي ليس بالضرورة سيئًا، وبخاصة عندما يتعلّق الأمر بأساسيّات الحياة. فالعائلة ليست مجرد قيمة اجتماعية قابلة للاجتهاد والتفسير الظرفي والاستنسابي. العائلة مبدأ من مبادئ الحياة الإنسانية. والمبدأ نتمسّك به ولا نفرّط به. هل أنت معي؟

فكّر قليلًا وهو ينظر إلى البعيد، ثم قال: هل هناك بلدان متقدّمة لم تتخلَّ عن العائلة على وجه الأرض؟ أجبته: طبعًا. هناك الصين مثلًا، واليابان. وهي تقع شرقًا.

فختم قائلًا: في سفرتي المقبلة أنا ذاهب إلى الصين…وضحكنا معًا.