هلين سكسو.. أنثى جريحة تهاجم وتدافع بـ«الكتابة الـمتوحّشة»

هلين سكسو.. أنثى جريحة

تهاجم وتدافع بـ«الكتابة الـمتوحّشة»

على الـمرء أن يستعدّ وهو بصدد قراءة نصوص هلين سكسو (Hélène Cixous)، ناقدة وأديبة وشاعرة حصيفة، لها أعمال جليلة في حقول الجماليات والفلسفة والنسوية والتحليل النفسي والأدب واللّغات. أمام قراءاتها الحرجة لنسق الثبات والسلطة تسُوق أفكارًا تثويرية ونقدًا لاذعًا للعقل والذات والجندر. وتُغرق القارئ في صراع مع المصطلحات والمعاني الحرجة والمسترسلة في كتابتها، ويجد نفسه تائهًا بين أروقة شرحها وتشريحها. أمام «ما لا يـملك» مقابلا له أو وسيطًا لبلوغ مراميه. وهنا تكمن معضلة قراءة نصوص هذه السيدة الفذة، صاحبة مشروع كتابة برية وفاتنة زاخرة بالـمجازات والتجليات، لخليطٍ جمالي وأنطولوجي صامدٍ بقوّة في وجه ترسانة الأنظمة والأنساق التقليدية.

تتجاوز الكتابة عند سكسو اقتصاديات المعنى الواحد أو التجسيد الثابت والمستقر للأفكار والمقاصد أو المهادنة في طرح الأفكار والانطباعات. مشاركتها في سؤال الإنسان هي الجنوح بقوّة إلى هذا الفضاء كأنثى، أنثى جريحة تهاجم وتدافع ببسالة، عبر سؤال «الكتابة الـمتوحشة» غير القابلة للكسر، عن حساسياتها وعوالـمها ورؤيتها للذات والآخر، كتابتها هي انتفاضة الليونة الساخطة على الدونية والخطابات الوهمية التي تحوم حول الأنثى. يمكننا القول: إن نصوص هـ. سكسو تمثل منعطفًا جماليًّا بارزًا في النظرية النسوية ما بعد الحداثية في فرنسا، فالمنقلب الذي طرأ على تلك النظرية النسوية بعد نصوصها يستحق الالتفاتة إليه والتوقف عند بيانه، «فالحب من أول نظرة» هو ما يمكن للقارئ أن يحكم به على نصوصها التخييلية والنقدية. كتابة على تخوم الغياب، برونق شعري يعكس ذوقًا رفيعًا ونباهة لا تحاكي التقليد بقدر ما تصرف نظرها عنه، لتفجر كل ما هو مقفل ومـحجور عليه، الكتابة عندها فعل طارئ وهي تسجل تدوينات الغياب والتهميش، كتابة هـمها الوحيد هو الاختلاف وتسجيله كأثر، فكًّا لعقدة الذكورة المهيمنة على الأنـماط الاجتماعية والصور الثقافية، ليس قضيبيًّا فحسب بل فكريًّا وحضاريًّا، تحريرًا لرمز الأنثوي وفكًّا لأسره التمثلي، وفتحًا لفكرة الاختلاف الجنسي، معيدة صياغة أحلام الـمرأة المطمورة في سجن العقل الاجتماعي البائس والمتحجر بين عقدتي: «البظر والقضيب». يعرض هذا المقال تجربة «الكتابة» والولادة الأنطولوجية الجديدة للأنثى وهي تشارك في هندسة متعددة لعوالم الاختلاف. فالكتابة ليست مجرد آلية وصفية أو توضيحية، بل تخييلات أشكال وصور جديدة للحياة والوجود. 

هلين سكسو.. سيرة جريحة

أبصرت هيلين سكسو النور في مدينة وهران الجزائرية يوم 5 يونيو 1937م، وُلِدت لعائلة يهودية من أب يشتغل في مهنة الطب (الدكتور جورج) وأمّ لا تبتعد عن ذلك كثيرًا وهي قابلة (آف كلاين). وقضت مراحل طفولتها ومراهقتها في الجزائر بين مدينتي وهران والجزائر العاصمة (حي كلو- صالومبيي، الـمدينة حاليًّا)، وهي لا تزال تعبر في كتاباتها عن الحنين الجزائري وملامسة جروح الذاكرة. هلين سكسو، تلك اليهودية المجرية التشيكوسلوفاكية الألمانية التي احتكت عبر حب الطفولة والمراهقة بالآخر: «العرب»، عاشت أثناء تعليمها الثانوي بالجزائر تجربة الغربة الوجودية؛ إذ كانت اليهودية الوحيدة في الصف لتعيش شكلًا آخر من العنصرية في باريس أثناء السنة التحضيرية الثانية لامتحانات دخول الجامعة؛ حيث كانت الطالبة الوحيدة من الشمال الإفريقي. جعلتها هذه الفضاءات تحس بالغربة والإقصاء على أساس اختلاف جنسي، أو إثني أو ثقافي، وهو ما جعل ذاتها ترتحل من منطق صوب آخر ومن طبقة نحو أخرى، متحسسة الخدوش التي تتركها معايير التفرقة وسياسات الاستلاب. عادت سكسو للتدريس في إحدى ثانويات الجزائر عندما تأهب زوجها بيرغر لتأدية الخدمة العسكرية سنة 1959م. هناك التقت جان جاك مايو؛ إذ اشتغلت تحت إشرافه على أطروحة جامعية حول جيمس جويس وجماليات الـمنفى. سافرت سنة 1962م إلى بوردو حيث تحصلت على منصب أستاذة مساعدة في الجامعة. في باريس جمعتها الأقدار بصديق يشترك معها في الهم الفكري والجرح الغائر للتمزق الهوياتي والأصل الـمبعثر، جاك دريدا، فيلسوف التفكيك الشهير، وهو أيضًا مفكر من مواليد الجزائر كان له شأن مهم في خلق حراك فلسفي في فرنسا وأوربا وأميركا فيما بعد. 

الأدب والـمنفى

اهتمت هيلين سكسو بشكل استثنائي بأدب جيمس جويس، فخلقت لنا عالـمًا هجينًا بين الأدب والفلسفة. باشرت سكسو بكتابةٍ ذاتِ عطرٍ نسوي خالص، وولجت عالم الكتابة الإبداعية بما يشبه أسلوب السير الذاتية الممزوجة بالخيال، ألهمت الكُتّاب والنقاد بمسرحياتها ورواياتها وخواطرها، إذ برزت بقوة عبر أعمال أدبية وتخييلية مثل: «اسم الإله» (1967م)، أو «الجسد الثالث» (1970م)، أو مع «أحلام امرأة متوحشة» (2000م) وصولًا إلى «هوميروس ميت» (2014م). وقد تـميزت بأسلوب جديد في الكتابة، يندرج في مصاف تيار ما بعد البنيوية، فناقشت المباحث الأخلاقية ومزجتها بالآفاق الأنثوية. وهي تُعد سبّاقة إلى عرض أول مشروع دكتوراه حول الدراسات النسوية في أوربا، لتقدم مَفهَمة نسوية مستوحاة من تفكيكات جاك دريدا، سواء عبر «الـمولودة الجديدة» (1975م)، أو في «ضحكة ميدوسا» (1975م)؛ واصلت في الثمانينيات مضاعفة الاهتمام بحقل الاختلاف الجنسي في السرديات الثقافية محيطةً نصوصَها النظرية والفلسفية بشعرية خاصة توفر لها رؤى جمالية وانصهارًا في آفاق السياسة والأخلاق. وقد استعارت في محاولاتها النقدية المثيرة للجدل شتى الوسائل ومختلف الكنايات والاستعارات لتحافظ على كتابة تواقة إلى اللانهائي واللامحدود، بأسلوب مختلف في زفراته الـمرجئة وصمته الصبور.

لذلك كانت كتاباتها فلسفية متشظية محمومة بقلق السؤال النسوي وهاجس الهوية الأنثوية كما نجده في «كتاب بروميثيا» (1983م)، أو «خطيبة الإغراء اليهودية» (1995م)، مركّـزة على ربط الصلة بشكل حيوي وإستراتيجي بين الخيالي والشعري والرمزي والمبهم مولدة عملًا مركبًا يأخذ بحسبان كل هذه الحقول الـمتقدة بنيران الحيرة والشك والجمال والصوفية. قراءات يصطدم بعضها مع بعض، في محاولة مستحيلة ومـمكنة للقبض على الـمعنى الهارب من قيود الحدود، مفككة الاعتراضات الـميتافيزيقية التي تسيج الاختلاف الجنسي، إعلانًا منها عن الانفلات من كل محاولة للتقييد أو التحديد النظري جاعلةً من التفكيك إستراتيجية أو مهارة تعبث بالنص وتفجّر طاقات الخيال وفانتازيا الحكي، بحكم أن طبيعة أعمالها لا تتحيز للمؤسس والثابت ولا تشتغل على تأكيده، كتابتها عولت دومًا على نطاق الدخيل أو حقل الغريب.

شعرية الكتابة وصدى الصوت النسوي

تكتب سكسو بشكل شاعري وشعري عن أعماق الوجود الإنساني، لترسم بتجريد فسيفسائي أفكارها التي تنضح بالاهتزازات والاختلافات لبلورة هموم الـمؤنث والإصغاء إلى شجيب الصوت الـمطموس. تقتنص سكسو فرصة ترجمة النوازع الإنسانية المختلجة بالحزن والفجيعة والفقدان إلى طاقات لسانية متفجرة ومكثفة دلاليًّا بلهجات عميقة تختلط فيها الحياة بالأدب والفلسفة كما نراه جليًّا في كتابها «آه! صرخة الأدب» (2013م). إذْ أعربت مرارًا عن كفاحها للنقاش حول المنفى أو السجن الذي تقاومه عبر الكتابة سعيًا للتحرير، وهو ما دعاها مثلًا إلى اقتحام مواطن جيمس جويس واختراق حدوده بحكمة وفنية عالية قصد التحليل والتقصي. فمنذ اشتغالها على فكرة المنفى عند جويس في أحد أهم أعمالها النقدية سنة 1968م، وهي تكتب عن أناها الضائعة بين ضفاف الـمتوسط. سكسو ابنة مدينة وهران الجزائرية، تصغي في حروفها ونصياتها إلى ذلك الشرخ الهوياتي الذي يفصلها عن الجزائر، «مُخلِصة لِذَاتِــــها قبل لَذَّاتِــــها»: ذاتُها التي تستوطن تحت مسامات الجلد، بحثًا عن أنطولوجيا ضائعة في شسوع الذاكرة الطفولية، لتنسج من السرد والحكايات عالـمًا آخر يمكن العيش فيه، صالحًا للأحلام ومعبرًا لتجاوز الآلام، جاعلة من جسر اللغات وسيلتها لحوار الألسن وبلبلتها وتفاهمها. سكسو التي حظيت بخليط مهم من اللغات، جَعَلها وريثة محظوظة تتقن أكثر من لسان لتكتب بأكثر من يدٍ، لذلك كان قَدَرُهَا الانتقال من لغة إلى أخرى ومن عالم إلى ثانٍ، وهو ما جعلها لاعبة حاذقة تتلذّذ بتغيير الكلمات وبعثرة الأصوات خلقًا للدهشة التي أخذت تواجهها وتكتب عنها بعمق، عبر لغة موليير، لغة الثورة، بلغة واحدة، بعنف ولطف، بقسوة ولين.

هي تلك هلين سكسو، الـمصابة بلعنة اللعب أو حيوية الـمرح بالأساليب والـمزج بالكلمات لتخلق لنا أنـماطًا منزاحة لا تؤمن بمجانية الأداء، وهو ما صدّر لنا شاعرة وجودية غير عادية تنحت أشعارًا ومسرحيات تستحق الإعجاب مثل «التلميذة» (1971م) أو «بورتريه دورا» (1975م)، في أعمال تتجرأ على قول ما لا يجرؤ عليه القول، هي جرأة الصراخ داخل الأدب، لتعكس الكتابة الأنثوية لديها معاناة الـمرأة في صمت وكبت واضحين، لتعكس مدى الإقصاء الذي تتعرض له في الحياة وتفرغه في شكل صراخ ثم بكاء فكتابة.

تشظيات الـهوية.. النص والـجُرح

يبدو أن الخلفية الثقافية والفلسفية والشعرية عند هلين سكسو تلتحم بالقبلي، بسيرتها الحياتية كيهودية وُلدت في الجزائر (المستعمرة الفرنسية)، والاطلاع على تلك الكليشيهات يوثق جيدًا لفهم طروحاتها حول «الكتابة والحياة»، التي تراها بعيون «أنثى»، لتكون بؤرة محورية لمشروعها الخيالي الحاد والحرج في حقول النسوية والمسرح والشعر والنظرية الأدبية والفلسفة. لهذا اختطّت عبر أساليب كتابتها نوعًا من الدقة والحذر، لتلعب بـمهارة عالية فوق الحبال موظفة لغةً تشتعل بالتناقضات وعواقبها التي لا تعد ولا تحصى في الجمع بين كينونة «الـمرأة» وكينونة أن تكون «يهودية». فمن التحريف واللعب بالحروف، تباشر سكسو استجواباتها لجذور التصنيف الثنائي لطبيعة الذات، لتعمل على تفكيك الحدود التي رسمتها تلك الطبيعة سياسيًّا وأخلاقيًّا، معالجةً قلق الأنثوي وقضاياه الحاسمة إنسانيًّا، بكثير من الشاعرية التي تشع بريقًا في أسلوبها، أو بأيادٍ مرتعشة ودماء تتدفق بسرعة إلى أوردة النص. 

خاتــمة

تبنّت سكسو الكتابة النسوية باحثة عن جدواها، وهي تسكن الـممارسة التي لا مكان لها؛ فكلما غرقت في الكتابة عن «الأنثى» تجاوزت بشعرية وحميمية حدود المكان أو اخترقت قيود الزمان. الكتابة أنثويًّا عن الأنثى لا تتم إلا والرعشة تتحسّس أعضاءها كما قالت سكسو. فالكتابة الأنثوية تجري في مكان آخر، مؤجّل ومرجأ دومًا. إن اللانهائية هي طموح الكتابة الأنثوية عبر خطاب لا يمكن تصنيفه، متعذر توصيفه، يتغير مرات عدة في اللهجة واللغة والنوع. 

الـمرأة، لِـمَ تكتب؟ وأين تكتب؟ وإلى أين؟ هي لا تعرف، لَـم تكن لتعرف أيّ شيء، «في منطقة ما من الجسم أنا لا أعرف أين هي»، كما قالت هلين سكسو. في أهبة وتسارع لتكون الـمرأة مكتوبةً الآن وبشكل مستعجل، كأنها حاجة ملحّة لا يمكن الاستغناء عنها.

مصادر‭ ‬الـمقال‭:‬

Hélène Cixous:

– L’Exil de James Joyce ou l’art du remplacement (Grasset, 1968).

– La Jeune Née, en collaboration avec Catherine Clément, (U.G.E., 1975).

Le Rire de la Méduse (L’Arc, 1975 – rééd. Galilée, 2010).

– La Venue à l’écriture (U.G.E., 1977).

– Entre l’écriture (Des femmes, 1986).

موريس بلانشو: فلسفة الكتابة وقلق اللانهائي

موريس بلانشو: فلسفة الكتابة وقلق اللانهائي

«أشعر بالحاجة إلى اللانهاية… لا أستطيع..لا أستطيع أن أشبع هذه الحاجة»

لوتريامون، أناشيد مالدورور.

موريس بلانشو

يُعدّ موريس بلانشو منظِّرًا أدبيًّا وناقدًا أكثر منه مبدعًا روائيًّا، رغم أن شعريته في عمله الروائي توماس الغامض (1932م) تُظهر سردية مثيرة للاهتمام بشكل قوي. ومنذ نصّه الأوّل لم يتوقّف الكاتب عن الاندفاع الخلاق صوب توتّرات والتواءات الفضاء السّردي، وكان من منظِّري الفكر الأدبي الباحث عن الـمتغير وغير الـمؤكَّد والصعب داخل الواقع الثقافي والاجتماعي وصهره في الـمجتمعات النصية أدبًا ونقدًا. وهذا النوع الجديد من الكتابة جعل له أتباعًا يحذون حذوه مثل جورج باتاي أو جاك دريدا من خلال تخريب وتفكيك الثنائيات الـميتافيزيقية الثابتة التي تحتكم إليها الـمؤسّسات والتّمثلات العقلية والاجتماعية (عقل – جنون، جسد – روح، طبيعة – ثقافة، ذكر – أنثى…) التي تعمل على صوغ الأدب في أحلام شـمولية أو تـخييلات تسطّر لنفسها خطًّا أحاديًّا متّزنًا غير قابل للرفض.

عبر هذا الـمقال، ومن خلال قراءة بلانشو، سنحاول تطويق بعض الـمقترحات التساؤلية عن ماهية الكتابة لديه؟ وملامح هذا الفضاء الإشكاليّ، «الفضاء الأدبي»، الذي أغرقه بحثًا؟ ولماذا وقعت اختياراته في الفضاء الأدبي على تشكيلة خاصّة من الأدباء (فلوبير، كافكا، بروست، مالارميه، ريلكه، ساد، أو لوتريامون). إنّ نصيّات بلانشو، كتابة معتمة، غامضة، تشتغل كلغز أو أسئلة مفتوحة من دون هدنة. هذه الصورة التي يمكن لنا رسمها عن هذا الفضاء الذي يغالي في الأسئلة أكثر من أن يصل إلى أجوبة مهدّئة، استنفار لاضطرابات وانفعالات في الفهم الأنطولوجي أو الإدراك الوجودي لدى الـمبدع، أو هي تساؤلات ملحّة تقترب من الروابط الحسّاسة بين النص والحدث، بين الأدب والأنطولوجيا، أو بين تفاعل الـمرئي واللامرئي (الواقعي والتخييلي) داخل الـممارسة النقدية. فبين الفكر والخطاب الأدبي والذات تتأرجح مواضيع هذا الـمقال قيد البحث عن حقائق سِرية ومتعذّر لـمسها توجّه أو تسيطر على نوعٍ من الصوفية الأدبية التي وجب أن تُستمدّ من العتمة المتواطئة قبل الدنوّ منها.

طيّات النصي ودوائر السردي

السرد سواء كان قصة أو كلمة أو صورة يحمل معكوسه في داخله، لتكتمل الصورة أو الرسم، تجاوز فريد من نوعه يجعل من السرد خيالًا جذابًا وخطابًا غير واقعي ومستحيل، ومن ثم سيحرمنا الخطاب السردي حسب تصوُّر بلانشو من النهاية الـمثالية من دون أن يحرمنا من الوهم. تشكيل فانتازي يهيمن عليه احتشاد الأضداد وتعايشها في اقتراب هارموني يـمثّل الفكرة الـمهمّة عند بلانشو حول الكتابة، وهي أن الـموت يسيطر علينا، لكنّ هيمنته تتأتّى من خلال استحالته، يرى بلانشو أنّ الكتابة حرفة مهولة، محفوفة بالألم، فهي تنتجه وتتعلّق بالـموت تعلُّقًا كبيرًا، الذي يتجلّى فيها بشكلٍ حادّ وطارئ، وهو ما دفع بلانشو للحديث عن فنّ للموت، حيث تتوقّف الحياة مع الـموت، ويُعَلَّق الحلم ليبزغ كلّ الألـم، ليكون في انتظارك.

تتدحرج الكتابة إلى أقاصي المحن الوجودية بكشف التباسات الحياة وتقنّعات الموت الذي يُعَدّ ظلًّا للحياة في لوحة يكتمل فيها التمثل، يشبّه كينونتنا بوجود الليل والنهار وأنها تكمن فقط في ذلك الشفق الغامض، الوهمي والهارب بين ذكرى النهار وتوق الظلام، نهاية الشمس واقتراب الشمس من النهاية. اكتشاف متعة اللانهائي في حلقة حلزونية تستبعد فكرة التحديد أو النهاية، ومن ثم فالسارد يحلم دومًا بالحصول على موطئ قدم، شيء ثابت وأزليّ، تنتابه كلّ تلك الكرب عندما يعي سجنه في الحياة، بؤس الـمنفى في أسوأ معنى مـمكن له. هو ما يدعو السارد إلى ألَّا يتوقّف أبدًا في أن يكون هناك حيث لا يتحقّق وجوده في مكان محدَّد أو في أماكن أخرى، نوع من الطوباوية في سعيه إلى التهرب من منفى العيش وقلق الحياة، لذلك تستتبّ فكرة الـموت عند بلانشو لتكتمل الصورة الناقصة للوجود.

إنّ الحسّ الغريب بعوالم السرد ومواطن السواد، بالانفعال السلبي والتخريبي الذي تُمثِّله كتابة الكارثة كما يُسميها موريس بلانشو، تتأتّى باحتكاكه بنصوص سردية شاذَّة ومنحرفة عن المألوف الإبداعي، عندما يفاجئنا بقراءات عن عالم العذاب البارد والواقع الليلي لكافكا، عالم معتم يخلو من الطبيعي والمعنوي ليحتلّ اليأس والكرب جُلَّ الفضاء السردي في نصوصه، ومن هنا تشكَّلت بؤرة اهتمام بلانشو بموضوعية السرد لدى كافكا بالعودة إلى حميمية يومياته، لياليه القاتـمة التي لا تُسمع فيها إلا صرخات رجل مفقود. فعلى أيّ قارئ لهذا النمط من السرد أن يجنِّد قلبه وعقله داخل التواءات النص ويحترس من ألغامه، ويتأمَّل جماليات الثقوب التي تـملأ شبكاته، النص السردي حينها يتَّخذ صفة الانفجارية، فهو على أُهْبة الفيض ألـمًا وفرحًا في الآن معًا، «إنّ من أعياه الألم أحياه الألم» كما قال لاوتسي، الألم والقسوة بوصفهما نبعًا فوارًا للإبداع السردي ومصدر طاقة للاستثناء الأدبي. وكما قال بلانشو من حُقَّ له الكلام عن نصوص كافكا، عليه أن يسمع إلى كلامه الـملغز، ببساطته وتعقيداته.

الكتابة: الأثر وأساليب الكتابة

جورج باتاي

فرادة الرؤية الأنطولوجية عند بلانشو تكاد تتحرَّر من قيد الشرطية الـمعرفية التي تلهث وراء رسم دقيق للماهيات والتصورات، بل تخلق حرجًا للكشف عن المفارقة التي تُعشِّش بداخلها. يتخذ من موضوع «الـموت» تمثيلًا لهذا التمدّد الانعكاسي للآلام، وذلك لا ينبع إلا من فراغ أو خواء سحيق ليتم الانغماس في الواقع الإنساني وطبقاته العميقة. وهذا الالتفات هو التفاف لانـهائي، لينكر أن يكون هناك أي ملجأ نلوذ إليه، وأيّ مـحاولة لذلك ستبوء بالفشل؛ لأن بلانشو يرى أنه لا يوجد شيء وهذا «اللاشيء» يحمل في عدميته وجودًا أكثر. مفاد هذا أننا لا نستطيع العيش على أكمل وجه أو التفكير باستكانة، نضالنا من أجل الحياة هو حقيقة عمياء أو كفاح من أجل الـموت، فالفخاخ التي تربطنا بالوعي وبالظاهريّ والـمرئيّ لا جدوى لها عندما تتضاءل أمام الشقّ اللامرئي للواقع والحياة. لهذا يرى بلانشو أنه إذا كان الـعيش أملنا فالـموت خلاصنا، فاليأس يلفُّنا والأمل يدمِّرنا، أملٌ نأمل أنْ يكون علامة على اليأس، الإنصات إلى اليأس بما لديه من قيمة تحرُّرية تدفعنا إلى المضيّ قدمًا حيث ما لا نأسف عليه هو بالضبط ما نسمّيه عيشًا.

تُسائِل الكتابة عند بلانشو فضاءً وجوديًّا مقلقًا في هدوئه، متأمِّلة بجمود هَسْهَسَة الـمحو الذي يكون الأثرَ الخفي لصفائح الـمكتوب. لماذا يكون المضي قُدمًا في مغامرة الكتابة؟ لماذا نتحرَّك إلى الأمام عبر الحبر من دون أن نخلِّف آثارًا وعلاماتٍ؟ الـمحو في الكتابة يجعلك تتحرّك بكلّ حرية، تتحرّك داخل الفراغ، لتتحرّى مكان البداية ولحظة الـمآل. هل الدائرة السردية أو كتابة الكتابة هي كشف لما يعرفه الإنسان من سرائر أنه لا يعرفها؟ هل الكتابة هي محاولة كتابة ما يتعذَّر كتابته؟ هنا يجد الكاتب نفسه عبر سلسلة الإرجاءات الـممدودة حائرًا مُدانًا أمام ما لا يمكن محوه.

إنّ الكلام الأدبي احتواء عدميّ؛ فاللغة تنبع فقط من الفراغ وليس من الامتلاء، فالسارد لا يتكلّم من أجل قول شيء بل «لا شيء» يتطلَّب الكلام، فاللاشيئية النصية تكمن في كونها كلامًا أو كتابة أصلية كون الكلام لا شيء. العدمية أو السلب أو اللايقين يمكن أن يتكلَّم أكثر من أيّ وقت مضى، عندما ننظر إلى ذلك الشيء الأساسي الذي يفتقر إليه أي شخص في أثناء التعبير عنه. عبر ذلك الفقدان اللامـحدود، أمام العوز والافتقار للصبر والانتظار، في نهاية الـمطاف كان يتصوَّر قدرته على اشتقاق قوة؛ من دون الصبر أو من دون نفاده بين اللاموافقة واللارفض، حيث يكون التخلي من دون التخلي، وهو ما يجعلها تتربع في منطقة من دون ألوان، وتتحرَّك داخل جمود وحزن مع اليقين الهادئ في شعوره أنه لن يكون قادرًا مرَّة أخرى على قول «أنا». كما يجد الكاتب نفسه في حالة سخيفة متزايدة من عدم وجود أيِّ شيء للكتابة، من عدم وجود وسيلة للكتابة، وكونها مقيّدة من جانب الضرورة المطلقة للكتابة دائمًا. يجب عدم اتخاذ أي شيء للتعبير عنه في أكثر الطرائق الحرفية. وأيًّا كان ما يودُّ أن يقوله، فإنه لا شيء. العالم، والأشياء، والمعرفة لها معالم عبر الفراغ فقط. هنالك تُلغَى الصُّور وتُبدَّد الاستعارات. تُكسَر الكلمات الـمفتوحة. من الآن فصاعدًا، ليس هناك سوى عُمق في العقل، أو قصيدة غير قابلة للتنفيذ، نص مفتوح على غياهب الوجود، في نوعٍ من الاعتراف بالطاعة الـمطلقة لهذا الغياب.

يصف بلانشو بانتظام تخريبي كبير فضاء «الأدب» كنَفْيٍ أو مَنْفى، مثل توبوس الصحراء أين يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف والشطحات، لهذا تُعد الصحراء هندسة متميزة للحرية والعزلة واللاانتماء، هناك يُنفَى الأدب من العالم ومن إنجازاته القيمية، لتعفيه من مطالبه ومطالباته. الصحراء كمكان آمن يتنصّل من كل مسؤولية، ملجأ صامت ينتقل فيه المرء من العزلة إلى الخلوة، بساطة لا مبرّر لها أو خور يمكن للمرء عبرها أن يصل إلى أعماقه المنفية حتمًا. ومن ثم، تتجلّى الكتابة عبر اللحظة أو الخطفة أو وَمَضَات الحاضر، أين يلجأ الكاتب إلى عزلته، ليُلامس قلقه بنعومة ويُحدّث أطيافه بوقار. عندما يتسلّل إلى الزمن الـميّت الذي ليس بوقته أو وقت الآخر أو أيّ وقت مشترك بين أناه وهواه ولكن زمن شخص ما. استقلالية منزوعة أنطولوجيًّا لشخص موجود عندما لا يوجد أحد هناك. تبتغي الكتابة الوقوف عند تلك الظلال الـمعتمة، في ذلك الخارج الذي ينتمي إلى بُعدٍ لا يمكن إلقاء الضوء عليه، مكان خفي، خبيء، سرّ لا يمكن الكشف عنه. الكتابة تلتزم الصمت أمام ذلك الفضاء الذي لا بُعْدَ له لأنه غامض أساسًا، وكلّ ما يدخل إلى فوهته يصبح مجهول الهوية وغير صحيح وغير واقعي حتى لو كان نورًا، في تلك الخطفات أو الومضات نكون أقرب إلى مشهدية موتنا. هل ذلك الشخص يـمثل جزءًا منا؟ أم أننا ننتمي إليه؟ هل يقوم بانتحال شخصية هناك، حيث لا يوجد أحد، هناك ذلك الخارج الذي يمنع بطريقة أو بأخرى أي إمكانية لأي اتصال شخصيّ.

مارسيل بروست

لوتريامون

كافكا

مـصادر الـمقال:

1) Maurice Blanchot, Faux pas, Gallimard, 1943.
2) Maurice Blanchot, La part du feu, Gallimard, 1949.
3) Maurice Blanchot, Lautréamont et Sade, éditions Minuit, 1949.
4) Maurice Blanchot, L’espace littéraire, Gallimard, 1955.
5) Maurice Blanchot, L’entretient infini, Gallimard, 1969.
6) Maurice Blanchot, L’écriture du désastre, Gallimard,1980.