فالح عبدالجبار.. المقاتل على جبهة الحياة

فالح عبدالجبار.. المقاتل على جبهة الحياة

للراحل عالم الاجتماع العراقي الكبير فالح عبدالجبار سيرورة واحدة بدأت في بغداد الولادة عام 1946م، ثم تواصلت عبر كردستان العراق فلبنان فسوريا فلندن، ثم انتشرت عبر العواصم العربيّة والعالمية… ثم العودة إلى بغداد عام 2003م بعد 23 عامًا من التطواف في المنافي واللغات والثقافات… هي سيرورة المناضل المكتشف الباحث العاشق الكريم الطفل… تتقاطع هذه الصور كلها كمنشور في بورتريه فالح عبدالجبار الذي يتجدّد باستمرار ولم يهدأ حتى آخر لحظة على خشبة قناة تلفزيونية وهو يتحدث عن العراق عندما انطفأ وهو على الأضواء وما زالت صورته شاخصةً….

فالح عبدالجبار بدأ حياته مناضلًا في الحزب الشيوعي العراقي واكب مسيرة نضاله وهو في منتصف العشرينيات من العمر لكنه اختار -وبسبب ميوله الثقافية- العمل في صحيفة الحزب «طريق الشعب» وأصبح بسرعة واحدًا من كوادرها وبخاصة في أثناء مرحلة الجبهة الوطنية في مطلع سبعينيّات القرن المنصرم عندما كانت تصدر علانيةً وكان لها مقر في بغداد… لكن فالح عبدالجبار لم يكن ظلًّا حزبيًّا ساكنًا مؤمنًا بكل ما يقوم به الحزب من مواقف وسياسات وكان لعمقه الثقافي وهمه في البحث الفكري والتنظير يواجه كثيرًا من مواقف الحزب التي تتسم بـ«الواقعيّة» والضرورة وما إلى ذلك من مبررات لاتخاذ سياسات أثبتت فشلها وقادت الحزب الذي ولد كبيرًا إلى متاهات وعقبات يدفع ثمنها إلى اليوم…

عاش، بالرغم من اعتراضاته الكثيرة على الحزب، معه تجربة النضال المسلح في كردستان في أواخر سبعينيّات القرن الماضي عندما لجأ الشيوعيون بعد التصفيات الجسدية الكبيرة التي تعرضوا لها بعد نهاية «الجبهة» مع حزب البعث بقيادة صدام حسين، إلى كردستان العراق ليحاربوا النظام مع المقاتلين الأكراد «البيشمركة» وعانى رفاقه سنواتٍ طويلةً أقسى مرارات النضال والمكابدة وهو لم يكن رجل سلاح ومحاربًا بل كان رجل فكر وتنظير ومعرفة… لكنه استجاب لنداء النضال، ولأن الجبهة كانت عسكرية قبل كل شيء فقد صعد مع رفاقه المقاتلين جبال كردستان ونام في كهوفها وعاش معهم واحدًا منهم… لم تتوقف مشاركة فالح عبدالجبار حزبَهُ في جبهة كردستان فقد التجأ مع الحزب إلى بيروت عندما اندحرت الجبهة الكردية بعد الاتفاق التاريخي بين شاه إيران وصدام حسين يومذاك ١٩٧٨م واضطرار المقاتلين الشيوعيين إلى البحث عن ملجأ آخر… ولم يكن هناك غير لبنان الذي كان يعيش في غمار الحرب الأهليّة.

وهكذا التجأ الحزب إلى الجبهة الفلسطينيّة وتحالف معها وانتشر الشيوعيون في لبنان في المواقع التي يسيطر عليها الفلسطينيّون وحلفاؤهم من اللبنانيين سواء في بيروت الغربية أم في جنوب لبنان… وما كان من فالح عبدالجبار إلّا الذهاب إلى الجبهة الجنوبيّة هناك في معسكرات الفلسطينيين لمواجهة العدو الإسرائيلي… عاش فالح عبدالجبار تجربة النضال الفلسطينيّة بكل حذافيرها وأذكر أننا في زيارة لجنوب لبنان بعد تحريره من الاحتلال الإسرائيلي كان الراحل يحدثني عن مواقع حياته في الجنوب وعلاقاته ومفارقات الحياة اليومية مع المقاومين هناك، حتى إنني قلت له: إن عليه أن يكتب كل هذا لأهميته كشهادة من مفكّر حمل السلاح في تجربة مهمة للعرب أجمعين؛ لأنها تمثل المقاومة ضد إسرائيل ومع رفاق سلاح ليسوا عراقيين كما كانت الحال في كردستان.. وعدني أنه سيفعل ذلك لكن…

حضور إنساني شفيف

هكذا إذًا كان فالح عبدالجبار هذا المفكر والمثقف الكبير قد عاش تجربة النضال المسلح على أكبر جبهتين عراقية في كردستان وعربيّة في لبنان لكنه ظل صوت المفكر الباحث أولًا وكان يتحدث عن هذه التجارب كأنها فصل في كتاب مذكرات لم يكتبه ولن يكتبه للأسف… فالح عبدالجبار حضورٌ إنساني شفيف يتدفقُ حياةً وذكاءً ومعرفةً ونبلًا.. وقبل أن تنتهي الحرب الأهلية اللبنانية قضى سنوات طويلة بين حمل السلاح في العمل النظري الفكري حيث شارك في أغلب إصدارات جبهة التحرير الفلسطينية في بيروت الغربيّة وكذلك في مجلات ومطبوعات الحزب الشيوعي العراقي وأهمها مجلة «النهج» التي كانت تصدر بمشاركة عدد من المثقفين اليساريين العرب وقد لعب فالح عبدالجبار دورًا مهمًّا فيها…

وفي نهاية الحرب خرج من جديد شأنه شأن رفاقه الشيوعيين بحثًا عن ملجأ آخر… عن جبهة أخرى ربما، لكنهم لم يجدوا غير دمشق التي آوت المعارضة العراقية بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عندما جرى ترحيل الفلسطينيين إلى تونس وعدن وغيرهما من الدول العربيّة… في دمشق لم تكن هناك جبهة عسكرية ولم يكن نظام حافظ الأسد يسمح بأي سلاح غير سلاح الدولة السوريّة لهذا انكفأ اللاجئون اليساريوّن وسواهم على العمل النظري والتفّوا حول دار «المدى» التي كانت تركز على النشر الأدبي والفكري بشكل أكبر من الجانب السياسي… وهنا لعب فالح عبدالجبار دور الباحث والمُنظر والمترجم اليساري الماركسي حيث انكب على إنجاز كتاب العُمر في الترجمة وهو «رأس المال» لكارل ماركس الكتاب الأم والمرجع الأعلى في الفلسفة الماركسية ويقع في ستة مجلدات في أكثر من أربعة آلاف صفحة قام بترجمتها من الإنجليزية التي كان يتقنها كثيرًا، لكن ولأهمية المشروع، اضطرّ إلى دراسة الألمانيّة وهي لغة كارل ماركس ليقوم بالمقارنة مع النص الأصلي توخيًا لعمل ترجمة ترقى إلى مستوى الكتاب والتحدّي الفكري الذي كان يتطلبه…

أنجز فالح عبدالجبار ترجمة «رأس المال» بنجاح كبير وصار الكتاب المرجع الأول للفكر الماركسي في اللغة العربيّة…لم يكتفِ الراحل الكبير بذلك وقد ضاقت عليه حدود دمشق فرحل إلى لندن مع رفاق آخرين وطلبوا اللجوء السياسي هناك وقد نجحوا في ذلك وانتقلوا للإقامة فيها والعمل والدراسة كلٌّ في ميدانه، وهنا تركز دور الباحث والمنظر والمفكر في شخصية فالح عبدالجبار؛ فبعد أن أنجز شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية «بيركبيرك» عمل أستاذًا في الجامعة نفسها وقاد في عام 1994م مجموعة بحث «المنتدى الثقافي» في الكلية نفسها كما كان قد عمل مديرًا للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي في نيقوسيا في المدة بين 1983 و 1990م.

تعاظم الاعتراف العلمي

هنا في هذه المرحلة ابتداءً من عام 1990م إلى رحيله عام 2018م أي فيما يربو على ربع قرن تركزت شخصيّة العالم الاجتماعي والمفكر لديه وتعاظم الاعتراف العلمي بدوره، وصار يشارك في كثير من الندوات والمؤتمرات العالمية التي تعنى بالشرق الأوسط والعراق خاصة… كما أنه بدأ ينشط في الكتابة الصحافيّة في أهم الصحف البريطانية وأوربا… أصدر الراحل كثيرًا من الدراسات الاجتماعية الخاصة بالمجتمع العراقي والفكر الماركسي ومن أهمها: «العمامة والأفندي»، و«الدولة والمجتمع المدني في العراق»، و«معالم العقلانية والخرافة والمادية»، و«الفكر الديني المعاصر»، و«بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي»، و«فرضيات حول الإستراتيجيّة»، و«المقدمات الكلاسيكيّة لنظرية الاغتراب» إضافة إلى كتاب سمّاه «الديمقراطية المستحيلة» ودراسة عن أسباب العنف قدمها إلى منظمة اليونسكو ونشرتها في «كتاب في جريدة» الذي كان يصدر عن المنظمة وعنوانها: «في الأحوال والأهوال»… مؤلفات عدة ودراسات وبحوث كلها قادته بعد سقوط نظام صدام حسين إلى أن يؤسس عام 2004م «مركز دراسات عراقية» في بيروت وهي مؤسسة مجتمع مدني أقامها الراحل في بيروت ودعمتها أهم جامعات أوربا وأميركا ذلك لأنهم كانوا يقيّمون دور ومساهمة باحث بمستوى فالح عبدالجبار. وبالفعل ظل، بالرغم من المصاعب الجمّة، يقود مشروعه هذا في بيروت وقدم طيلة السنوات العشر من حياة المركز عددًا من الدراسات والترجمات والندوات وكذلك برامج الأعداد للطلاب والمتدربين العراقيين والعرب ومن جميع أنحاء العالم…

رحل فالح عبدالجبار وهو على شاشة الحوار يتحدث إلى العالم عن بلده العراق الذي أحبّه ومنحه ثمرة فكرهِ وبحثه وعبقرية عطائه.. كان فالح إضافة إلى كل هذا إنسانًا يتسم بأعظم درجات النبل والكرم والوفاء… فالح عبدالجبار رحل مبكرًا وبشكل مباغت… هكذا من دون سابق إنذار.. رحل المؤسس الثاني للشخصيّة الاجتماعية العراقية بعد علي الوردي.. رحل عبدالجبار ولم يودّع.. لم يكن يفكر لحظة في هذا الرحيل…

قبل يومين (من رحيله) كان على التليفون :

شوقي… سنلتقي قريبًا في بغداد

انتظرني…………………

الحجارةُ‭ ‬التي‭ ‬تراكمت‭ ‬في‭ ‬فمي
منذ‭ ‬أربعين‭ ‬عامًا‭ ‬وراء‭ ‬الحدود
لا‭ ‬تصلحُ‭ ‬شاهدةً‭ ‬لقبرِ
فالح‭ ‬عبدالجبار

الأصداف‭ ‬البحريةُ‭ ‬التي‭ ‬كنّا‭ ‬نجمعها‭ ‬
من‭ ‬شواطئ‭ ‬البحار‭ ‬الشرقية‭ ‬الدافئة‭ ‬
يُؤذّنُ‭ ‬رنينُها‭ ‬
بصلاةِ‭ ‬الميت‭ ‬فوق‭ ‬جثة

‭ ‬فالح‭ ‬عبدالجبار

ليالٍ‭ ‬سكرى،
أقداح‭ ‬حزن‭ ‬عراقيّ‭ ‬مهشّمة‭ ‬كفخار‭ ‬قديم،
سنواتٌ‭ ‬شاخت‭ ‬في‭ ‬موتها‭ ‬ولَم‭ ‬تُدفنْ
تُحملُ‭ ‬كلُّها‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬نعش

‭ ‬فالح‭ ‬عبدالجبار

قلادةٌ‭ ‬فيروزية
من‭ ‬صدر‭ ‬زيوس‭/. ‬الجبل
يُقلّدُها‭ ‬كآخر‭ ‬وعدٍ‭ ‬لبيروت
قبل‭ ‬رحيله

‭ ‬فالح‭ ‬عبدالجبار

أعناقٌ‭ ‬ممشوقةٌ‭ ‬لحوريات‭ ‬في‭ ‬عربة‭ ‬سبي‭ ‬حديثة
يقودها‭ ‬حوذيٌّ‭ ‬نخّاسٌ
‭ ‬يندبنَ‭ ‬الشرقَ‭ ‬المدنّسَ
وينثرنَ‭ ‬فوق‭ ‬شعورهنَّ‭ ‬المبعثرة
ترابَ‭ ‬القصائد‭ ‬والأغاني‭ ‬والصبوات
في‭ ‬موكب‭ ‬جنازة

‭ ‬فالح‭ ‬عبدالجبار

غيمةٌ‭ ‬عربيةٌ
من‭ ‬سماوات‭ ‬صحاري‭ ‬القحط‭ ‬الوطين
تبكي‭ ‬فوق‭ ‬رمال‭ ‬الصقيع‭ ‬اللندني
الذي‭ ‬يؤوي‭ ‬الآن

‭ ‬فالح‭ ‬عبدالجبار

الرافدان‭ ‬العكّازان‭ ‬اللذان‭ ‬تتكئ‭ ‬عليهما‭ ‬المصائر
الذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬مصبات‭ ‬الجنون‭ ‬والجحيم‭ ‬العراقي
ينتظران‭ ‬الجثة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تطفو‭ ‬
فوق‭ ‬أمواههما‭ ‬والتي‭ ‬تحمل‭ ‬جواز

فالح‭ ‬عبدالجبار