قطاع صناعة الموسيقا في العالم العربي نحو إعادة التفكير في العلاقة بين الاقتصادي والفني

قطاع صناعة الموسيقا في العالم العربي

نحو إعادة التفكير في العلاقة بين الاقتصادي والفني

انخرطت المجتمعات العربية منذ تسعينيات القرن الماضي في خضم «تحول» كبير في شروط تَمَثُّل، ممارسة، إنتاج واستهلاك الإبداعات الموسيقية، اقترن باستدماج الشباب للمقومات الثقافية والفنية لـ«الحركات الموسيقية الجديدة» ضمن سيرورة الإبداع المحلي. ترافق هذا التحول مع تطور سيرورة مَهْنَنَةِ قطاع الإنتاج الموسيقي في اتجاه تأسيس «اقتصاد للموسيقا»، قادر على تجاوز تراجع قطاع التسجيلات الموسيقية المادية، والرهان على الشباب والأشكال الموسيقية الجديدة لقيادة المرحلة وتشكيل الذوق الموسيقي العام. مع ذلك، لم ينجح كثير من المحاولات الرامية إلى تطوير القطاع في اتجاه قطري وإقليمي (المغرب، تونس، مصر…) بفعل ضعف الإقبال الجماهيري على الأنماط الموسيقية الشبابية الجديدة من جهة، وهيمنة شبح القرصنة من جهة ثانية، وغياب المدخل الموسيقيّ ضمن السجالات الفكرية حول المشروعات التنموية والثقافية المحلية من ناحية ثالثة.

في الواقع، كان علينا انتظار بدايات الألفية الجديدة من أجل الحديث عن إمكانية المَأْسَسَة الفعلية لقطاع الموسيقا العربية، وبخاصة الشبابية منها، التي تربط الإبداع الفني المحلي بالكوني وتعيد الاعتبار لوضيعة الفنانين وصُنّاع الموسيقا في التمثُّلات والأذهان. يمكن أن نحدد ثلاثة أسباب رئيسة كان لها دور حاسم في قيادة الموسيقا الشبابية (وبخاصة موسيقا البوب والهيب هوب) للتحولات الفنية العربية وتطوير القطاع في أفق كوني.

أولًا– تأثير تحولات قطاع صناعة الموسيقا العالمية، والنمو الكبير لرقم معاملات اقتصاد الموسيقا (الشبابية أساسًا) في الدول الغربية، في التوجهات والإستراتيجيات العامة لصناع الموسيقا في العالم العربي.

ثانيًا– تركيز الشباب على هموم المواطن العربي ويومياته من أجل استمالة قاعدة جماهيرية أوسع، وإعطاء شرعية اجتماعية للإبداع الموسيقي المحلي.

ثالثًا– بدايات عصر الإنفوسفير الرقمي، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، والمدونات والمنصات الشبابية وإسهامها الكبير في الترويج للإبداعات الموسيقية الشبابية على نطاق قطري وإقليمي أوسع. بطبيعة الحال، نلمس جهودًا حقيقية لِمَهْنَنَة القطاع والبحث عن الشرعية الاجتماعية والثقافية للإبداع الموسيقي، واستمالة صُنّاع القرار نحو مَأْسَسَة الشروط الموضوعية لإنتاج «اقتصاد الموسيقا» بالمنطقة العربية، إلا أن الأمر ارتبط من جديد بجهود فردية وجماعات محدودة الإمكانيات المادية واللوجستية، سرعان ما انسحبت من الساحة بعد سنوات قليلة من ظهورها.

لقد تركزت جهود صناع المحتوى الموسيقي العربي في هذه المرحلة على إقناع الجمهور بمنتوجهم الإبداعي الجديد وتَبْيِئَتِهِ في مجال تداوُليّ لا يعترف بالشباب كصُنّاع للذوق الفني العام، في تعارُض أو اختلاف مع جيل الرواد ومؤسسي كلاسيكيات الموسيقا العربية. كما لا ننسى أن القرصنة ظلَّت إلى وقت قصير العدوّ الأول والأخير للفنانين وصُناع الموسيقا في ظل ضعف حماية الملكية الفنية والموسيقية. لهذا، ستمر سنوات يعيش فيها القطاع سباتًا نسبيًّا (وبخاصة خلال أواخر العشرية الأولى من القرن الحالي) فيما يتعلق برقم المعاملات الاقتصادية، مهننة «حرف الموسيقا» وتطوير تقاليد وأنماط موسيقية تتماشى مع الخصوصيات العربية… وسيقتصر تنشيط الساحة الفنية على «كبار» الفنانين والمخضرمين ممن استثمروا في صناعة أسمائهم الرمزية بالمنطقة.

أنماط موسيقية جديدة

تزامن تطور الموسيقا الشبابية في العالم العربي مع ظهور أنماط موسيقية جديدة بمنطقة الكاريبي وأميركا اللاتينية، سيكون له دور كبير في قلب موازين المركزيات الموسيقية العالمية، وتكسير هيمنة أنموذج المركزية الغربية في مجال الصناعات الموسيقية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. تعود جذور حركة الموسيقا الحضرية إلى منتصف العشرية الأولى من القرن الحالي… صحيح أن الإبداعات الشبابية العربية أضحت اليوم أكثر انفتاحًا على هذه التجارب الرائدة، إلا أنها ظلت متشبثة برهان الكونية عبر التماهي مع اللغات والثقافات الأجنبية أكثر من ربط الثقافة والهوية العربية بالاقتصاد العالمي للموسيقا.

يمكن القول: إن اللحظة الحاسمة ضمن مسار تطور صناعة الموسيقا العربية قد اقترنت بالانخراط في خضم الاقتصاد الرقمي للموسيقا. شكلت منصات يوتيوب والستريمنغ الموسيقي (دايزر، وسبوتيفاي…) فرصة أمام الشباب لتحقيق النجاح خارج الدوائر الفنية التقليدية (دور الإنتاج والصناعات الموسيقية) والاستثمار في النجاح الفردي مدخلًا نحو صناعة النجومية الإقليمية والدولية. أمام هيمنة القرصنة، وغياب الحماية القانونية للإنتاجات الفنية وضعف عائدات الإنتاج الموسيقي التقليدي، سيُلْجَأ إلى المنصات الرقمية من أجل تحقيق عائد مادي لا بأس به، وصناعة نجومية محلية تقاس بعدد المشاهدات، والإعجاب والتعليقات؛ إلى درجة أن شركات الإنتاج الموسيقي المحلية أضحت تنفتح على نجوم الموسيقا الشبابية بمنصات يوتيوب وسبوتيفاي، وتشترط القاعدة الجماهيرية ونسب المشاهدات لتوقيع عقود عمل أكثر مهنية واحترافية.

في الواقع، وحينما نربط مَهْنَنَة قطاع الإنتاج الموسيقي العربي بتطور إمكانيات الاقتصاد الرقمي للموسيقا، تطرح مجموعة من الأسئلة المقترنة بالعلاقة بين الإبداع الفني وقوانين السوق ووضع التهميش الذي لا يزال يعيشه الفنان، كما الكاتب العربي، في ظل مسلسل تسليع وتسويق المنتج الإبداعي. فرض الانتقال من الحرفية إلى المَهْنَنة والانخراط في سيرورات صناعة النجومية الفنية وما يرافق ذلك من تنميط للإبداعات الموسيقية وربطها بالتوجهات العامة للسوق الفنية الكونية. لهذا، يمكن عدّ هذا الانتقال مَهْنَنة للقطاع ولشروط الممارسة الفنية على حساب الفعاليات الإبداعية والفنية للمنتوج الموسيقي من جهة، وتحولًا انعكس إيجابًا على وضع المنتجين على حساب الفنانين والمبدعين من جهة أخرى.

تأخذ مهننة صناعة الموسيقا اليوم في المنطقة العربية بُعْدينِ اثنين:

أولًا– الصناعة الفردية للموسيقا. ينفتح هذا الأنموذج على منصات الستريمنغ الموسيقي ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لتحقيق نجاح جزئي وضمان عائد مادي لا يتجاوز مئات إلى آلاف الدولارات… يلجأ كثير من الشباب إلى هذه الإستراتيجية من أجل «التغلب» على شبح القرصنة و«الهروب» من «قبضة» بعض المنتجين وصناع الموسيقا الذين يحتكرون العائدات المادية للألبومات والعروض الموسيقية، ويهمشون صغار الفنانين، تحت ذريعة الدعاية والترويج وصناعة الاسم التجاري. مع ذلك، يراهن الجميع على هذه الطريقة كجزء من «مَهْنَنة مُقَنَّعة» للإبداع الموسيقي تروم تحسين شروط ممارسة الحرفة، وتهدف إلى البناء الفردي للاسم الفني من أجل استمالة كبريات شركات الإنتاج بالمنطقة.

ثانيًا– الإنتاج المؤسساتي للموسيقا. تقدم شركات التسجيل والإنتاج الموسيقي المحلية نسب أرباح تُراوِح بين 8% و11% من حجم مبيعات الألبومات والأغاني المنفردة، المادية منها والرقمية، للفنانين والمغنين. لا يحصل سوى كبار الفنانين على عقود خاصة بنسب أرباح تصل إلى 20% أو 30%، وقد لا يحصل صغار الفنانين والمبتدئين على أي تعويض أو ضمان لحقوق الملكية الفنية الفردية، ويُتَغاضَى عن الأمر في إطار رهان صناعة الاسم والنجومية المؤسساتية. أما الشباب، فليجأ إلى صغار المنتجين وصناع الموسيقا الشباب [الخواص والمتعاقدين]؛ من أجل تقليل التكاليف، وضمان التحكم الكامل في العائدات والأرباح، وفي الأغلب ينخرطون في عقود عمل قصيرة وذات عائدات مادية ضعيفة.

اقتصاد وثقافة موسيقية بطيئة النمو

وفيما يتعلق بمنطق التعاون الفني، سواء المحلي والإقليمي، فما زال ضعيفًا ولا يستثمر فيه بالشكل الكافي لبناء القاعدة الجماهيرية والتعريف بالمنتوج الموسيقي على المستوى الإقليمي والدولي، وتحقيق العائد المادي؛ نظرًا للشروط المادية التي يثيرها الاستثمار في هذه الأنماط الفنية في ظل اقتصاد وثقافة موسيقية بطيئة النمو بالمنطقة العربية. ينطبق الأمر نفسه على مجال الإشهار، والمنتجات الاستهلاكية وبيع حقوق الملكية الفنية، التي تنحصر ضمن فئة خاصة من الفنانين الكبار والمخضرمين. مع ذلك، تعد العروض والجولات الموسيقية والمهرجانات الفنية نقطة الضوء الوحيدة ضمن سيرورة تطور اقتصاد الموسيقا في المنطقة التي تصبّ في مصلحة الفنان وتنمي شرط المَهْنَنة…

يحصل الفنان على نسبة تُراوِح بين 70% و80% من عائدات الجولات الفنية (وفقًا لمعايير خاصة بموقع الفنان، وطبيعة قاعدته الجماهيرية، ونسب الاستماع، والإعجاب، والمتابعين على منصات الستريمنغ، ومواقع التواصل الاجتماعي) التي تشكل عَصَبَ حياته الفنية رغم نُدرتها وضعف عائداتها، مقارنة بالفنانين الأجانب الذين يقدمون جولات فنية في المنطقة العربية (قد تتجاوز عائداتهم ملايين الدولارات).

إذا ما استثنينا عائدات الجولات الفنية، يمكن المجازفة بتأكيدِ تَشابُهِ الشرط الأنطولوجي لممارسة الحرفة، فيما يتعلق بالتهميش والخضوع لقوانين السوق، بين الفنان والكاتب العربي. يكافح هذا الأخير للحد من سَلْعَنة وتسويق الإنتاجات الأدبية والإبداعية، كما يصارع الأول شركات الإنتاج من أجل الحفاظ على الطابع الإنساني للإبداع الفني المفرغ من الرهانات الاقتصادية؛ من أجل عائد ماديّ لا يتجاوز عُشْرَ إجمالي المبيعات في أحسن الأحوال.

بين ضغط المنتجين ودُورِ النشر وضعف إقبال الجمهور على الإنتاج والإبداع الفردي، لا يستطيع آلاف الفنانين والكتاب العرب «العيش» بالكتابة أو جعلها مهنةً قارّة، وهو الأمر الذي يجعل من مقولات المَهْنَنة آليةً لتحقيق التفاوتات المختلفة بين شروط الممارسة الفنية بدول الشمال والجنوب من ناحية، وبين صناع الموسيقا والكِتاب والفنانين والكُتاب من ناحية أخرى. يفسر هذا الوضع انتقال بعض الفنانين من مجال الكتابة والإبداع نحو عالم النشر والإنتاج الموسيقي!

أخيرًا، يظل الهدف الرئيس لهذا التقرير إثارة الانتباه إلى طبيعة الشروط الذاتية والموضوعية المتحكمة في إنتاج قطاع الإنتاج الموسيقي في العالم العربي، وإسهام الاقتران الحاصل بين صناعة الموسيقا وقوانين السوق، خلال العصر الرقمي، في تهميش الفنانين وكبح إمكانيات الانتقال نحو المَهْنَنة الشاملة؛ مثلما أدّى تسليع الكتاب من جانب دُور النشر إلى تهميش الشرط الأنطولوجي للكتّاب وابتعاد القراء نحو إغراءات عالم الإنفوسفير. لهذا، ما من حل لربط تطور قطاع الإنتاج الموسيقي، الشبابي أساسًا، بتحقيق التنمية الشاملة -كما هو عليه الحال في دول الكاريبي وأميركا الشمالية- سوى إعادة التفكير في العلاقة بين الاقتصادي والفني من جهة، والاستثمار في الخصوصيات المحلية أفقًا للكونية من جهة ثانية، والاهتمام بالإبداع الشبابي في تعدديته من ناحية ثالثة، وربط الموسيقا بالمجتمع من جهة رابعة. فكما يمكن للموسيقا أن تُهذِّب الأذواق، يمكنها كذلك أن تنجح في تحقيق التنمية الشاملة التي عجز عنها السياسي والاقتصادي في العصر الرقمي.

كيف صنع «يوتيوب» ثورة الموسيقا الكاريبية؟ انتقال المركزيات الفنية والموسيقية العالمية إلى الأطراف

كيف صنع «يوتيوب» ثورة الموسيقا الكاريبية؟

انتقال المركزيات الفنية والموسيقية العالمية إلى الأطراف

انتبه الأكاديمي الأميركي ماثيو كريك في كتابه الصادر حديثًا «السلطة، والمراقبة والثقافة في الفضاء الرقمي ليوتيوب» (جامعة وليام باترسون، أميركا) إلى أن المنصة التواصلية لموقع يوتيوب قد أصبحت أداة فعالة لقياس إمكانات «السلطة والتأثير التي تحكم المخيال الكوني لبناء القوة السوسيو-اقتصادية، السياسية والثقافية انطلاقًا من مجتمع «مشاركة الفيديوهات المختلفة»، وأضحت مكونًا رئيسًا من مكونات حقل «الدراسات الثقافية». تبعًا لذلك، سنعمل على مساءلة مختلف الإمكانات التي أتاحها موقع يوتيوب للفنانين والمغنين الشباب، والكيفية التي بموجبها أسهم في إعادة تعريف تصوراتنا للشهرة، وبناء ثورة الموسيقا الكاريبية والبورتوريكية خلال السنتين الماضيتين.

أسهم النجاح العالمي الذي حققته أغنية «ديسباسيتو»، للمغنيين البورتوريكيين «لويس فونسي» و«دادي يانكي» في إماطة اللثام عن الدور الكبير الذي أصبح يلعبه موقع يوتيوب في صناعة الشهرة وإعادة تحديد معايير النجاح والذوق الموسيقي العالمي. بعدد مشاهدات يقارب 6 مليارات (أي ما يزيد عن ثلثي سكان الكوكب قد شاهد الأغنية)، يُنقَل مركز الثقل الفني والموسيقي العالمي من الولايات المتحدة الأميركية («البوب» (Pop)، و«آر إن بي»، و«الراب».)، نحو منطقة الكاريبي عامة، وبورتوريكو خاصة («البوب اللاتيني»، و«التراب»، و«الريغيتون»).

لويس فونسي – دادي يانكي

يتخذ نجوم الموسيقا البورتوريكية والكاريبية من البسيط واليومي والمهمش منطلقًا لتحقيق نجاحهم الموسيقي المحليّ والعالميّ. غالبًا ما رُفِضَ احتضان كثير منهم من جانب منتجين وموزعين موسيقيين معروفين، فتوجهوا صوب منصات اليوتيوب وأطلقوا على أنفسهم أسماء بسيطة وغير مألوفة تستهدف استمالة أذواق الفئات الشابة واختاروا كلمات وأغاني و«كليبات» ورسائل تكشف عن عمق البؤس والأزمة التي يعيشها شباب المجتمعات الثالثية اليوم في إطار المرحلة الثالثة من سوقنة وسلعنة العالم: «لويس فونسي» 22 مليون مشترك و9 مليارات مشاهدة، «أوزنا» نحو 20 مليون مشترك بقناة اليوتيوب وما يزيد على 7 مليارات مشاهدة في أقل من سنتين؛ «نيكي جام» [قَيْدُوم الريغيتون الكاريبي] [18 مليون مشترك و9 مليارات مشاهدة]، و«مالوما» [18 مليون مشترك و6 ملايين مشاهدة]، و«جي بالفين» [17 مليون مشترك و8 ملايين مشاهدة]؛ و«دادي يانكي» [16 مليون مشترك وما مجموعه 9 مليارات مشاهدة]، والظاهرة «باد باني» [13 مليون مشترك ومليارا مشاهدة في أقل من سنتين]؛ و«فاروكو» [7 ملايين مشترك و3 ملايين مشاهدة]؛ و«أركانخيل» [3 ملايين مشترك ومليار مشاهدة]، «ويسن ويانديل»، و«كارول جي» (Karol G)، و«أنويل»، و«دون عمر». 

الاشتراكات والإعجابات ومنطق المليار مشاهدة

على خلاف المنطق الإستراتيجي لبناء الشهرة في عالم الموسيقا الأميركية، وما يرافقه من بحث عن «البوز» وإحداث «الضجة» من خلال اللعب على وتر الصراع والعداء بين الفنانين في المجال الموسيقيّ نفسه (الصراع المستمر بين كاتي بيري وتايلور سويفت ضمن موسيقا البوب الأميركي، و«كاردي بي» و«نيكي ميناج» في الراب) وتنمية ثقافة «الديوتو» و«التريو» بين المغنين من أنواع وأصناف موسيقية مختلفة، يميل مغنو «الريغيتون» و«التراب» الكاريبي واللاتيني إلى دعم بعضهم بعضًا بشكل مستمر وعلى المستويات كافة (بين الفنانين «الكبار» و«الصغار»، من حيث الغناء الجماعي واحتضان الأصوات الجديدة). 

لا وجود لمنطق المنافسة والعداء ضمن هذا المجال الموسيقي الجديد؛ على الأقل في سياق البحث عن تجويد الأداء الموسيقي. يميل المغنون إلى الاستثمار في نشر الفيديو كليبات على منصة اليوتيوب أكثر من إصدار الألبومات التي تفترض وجود شهرة مدعومة جماهيريًّا من جهة، ومن جهة أخرى لضعف الإقبال الجماهيري على هذه الأشرطة، أو الأقراص أو حتى التحميل عبر الإنترنت في عصر الإنفوسفير وثورة الوسائط الاجتماعية (بمنطقة الكاريبي، والمنطقة العربية، وجُلّ دول العالم الثالث). تبعًا لذلك، وبما أن قوانين الشهرة على اليوتيوب (انبثاق الشهرة) تقوض المعايير التي طرحها إدغار موران خلال خمسينيات القرن الماضي «منطق صناعة النجوم»، يؤمن فنانو الريغيتون والتراب خاصة، وباقي الأنماط الموسيقية الكاريبية عامة، بمقولة أن النجاح من حق الجميع وليس حكرًا على أحد. وبالتالي لا فرق بين مغنٍّ مشهور وآخر مبتدئ؛ بل أكثر من ذلك، نصادف أغاني مشتركة بين فنانين من أصحاب المليار مشاهدة وآخرين غير معروفين بالمرة.

نيكي جام

يتخذ هذا التعاون المشترك في بناء الشهرة على يوتيوب نمطين أساسين: 

أولًا- إصدار أغانٍ مشتركة بين فنانيْنِ إلى خمسة من النمط الموسيقي نفسه أو من أنماط مجاورة ناطقة بالإسبانية مع مزيج من اللغة الإنجليزية. 

ثانيًا- إصدار أغانٍ مشتركة مع كبار نجوم الموسيقا الأميركية والعالمية («جاستن بيبر»، و«نيكي ميناج»، و«دريك»، و«سيلينا غوميز»…). يظل الرهان قائمًا على توسيع القاعدة الجماهيرية للأنماط الموسيقية الكاريبية (الريغيتون، والتراب، والراب، والبوب) والحصول على الشرعية الفنية من خارج الدوائر الفنية (النقاد وشركات الإنتاج)؛ أي بالاعتماد على يوتيوب والتعاون الفني بين المغنين والفنانين المحليين والعالميين.

تجدر الإشارة إلى أن نجاح قنوات هؤلاء الفنانين، سواء المشاهير منهم أو المبتدئون، وحصولهم على الشرعية الفنية والاجتماعية لممارسة هذا النمط الموسيقيّ أو ذاك رهين بأن تحقق أغانيهم أو قنواتهم نسب مشاهدة تفوق نصف المليار إلى مليار مشاهدة –مع ارتفاع أعداد المتتبعين إلى ملايين المشتركين- خلال مدة زمنية قصيرة. إذا كانت شهرة الفنان في الماضي تقاس بعدد الأشرطة التي تباع، فإنها اليوم تقترن بمدى حصول أغانيه في منصة يوتيوب على أكثر من مليار مشاهدة، وملايين المتتبعين وملايين الإعجابات؛ أي أننا أمام منطق جديد للشرعية الفنية والموسيقية يجمع بين التأثير الاجتماعي ورهان الكونية والعالمية.

الريغيتون والتراب أو موسيقا الغيتوهات

تعود الجذور التاريخية لميلاد موسيقا «الريغيتون» إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بمنطقة الكاريبي، وتعد رمزًا للثقافة والهوية اللاتينية المعاصرة (ما زال «نيكي جام» من الفنانين المخضرمين في المجال). يقوم هذا النمط من الموسيقا على استدماج موسيقا «الريغي» الجمايكية والهيب هوب والبوب والدانسهول في قالب راقص مقارب لموسيقا الراب. في حين أن «التراب» أميركي النشأة وارتبط بشكل كبير بموسيقا «الراب» و«الهيب هوب» منذ تسعينيات القرن الماضي واستدمج حديثًا مع مطلع الألفية الثالثة في الثقافة اللاتينية بفعل تأثير المهاجرين والفنانين ذوي الوصول اللاتينية (ليعرف شهرته العالمية). اليوم عمل الجيل الجديد من الفنانين الشباب على خلق نمط موسيقي جديد قائم على التمازج بين التراب والريغيتون في ثوب يجمع بين الإيقاعات الأميركية والعالمية والهوية الإسبانية واللاتينية للإلقاء.

رافائيل كاستيلو

يُفسر الإقبال العالمي على هذا النمط الموسيقي الجديدة وفقًا لمستويين اثنين: 

أولًا- التزام موسيقا الريغيتون بكلمات وإلقاء وأداء يستهدف جميع الفئات الاجتماعية، ويحترم المرجعيات الفنية لمختلف الفئات العمرية والثقافية. 

ثانيًا- ميلاد التراب من رحم المعاناة وحالة البؤس التي يتخبط فيها السود والمهاجرون بالولايات المتحدة الأميركية، كما بضواحي المدن اللاتينية «أغلب المغنين من أصول فقيرة ومهمشة».

تقترن البدايات الفعلية لما يصطلح عليه اليوم بـ«حركة التراب اللاتيني الجديدة» بسنوات 2005- 2006م. عمل «رافائيل كاستيلو» (المعروف ب «De La Ghetto»)، رفقة مجموعة من الشباب المقيمين بالولايات المتحدة والمتأثرين بموجة البوب والراب الأميركي (Arcangel, De La Ghetto, Yaga & Mackie and Jowell & Randy)، على تحديث الأنماط الموسيقية الكاريبية وإصباغها بأنغام عالمية من أجل مواكبة تطلعات الأجيال الجديدة، والتعبير عن همومها، وأحلامها وبؤسها الاجتماعي. «لقد بدأ كل واحد يصنع موسيقا خاصة به»، ويؤكد «بينيتو أوكاسيو» (المعروف بـ«باد بوني») في حوار له مع موقع «بيلبوارد» في معرض حديثه عن كون «التراب» قد انطلق بفكرة الجمع بين أنماط موسيقية مختلفة لكن في ثوب لاتيني ناطق بالإسبانية. ويضيف «خوان كارلوس روزادو» (المعروف بـ«أوزونا»)، أن التراب اليوم قد عرف طريقه إلى العالمية بفضل أغاني «Anuel AA»؛ الذي أضحى رمزًا للموسيقا البورتوريكية عقب دخوله السجن مؤخرًا، وستعرف نجاحًا كبيرًا بفعل ظهور أصوات شبابية جديدة مثل «باد بوني». 

حينما تسهم الموسيقا في تنمية المجتمع

إذا كان العديد من نجوم الموسيقا العالمية ينحدرون من أسر ثرية أو على الأقل يعتنقون عقيدة «سلعنة الفعل الفني» والبحث عن الثراء وتعزيز النفوذ الاجتماعي والسياسي، فإن فناني التراب والريغيتون الكاريبي هم بالأساس مهاجرون، تربوا أو هاجروا صوب بلاد العم سام من أجل البحث عن حياة أفضل؛ لذلك نجدهم أكثر ارتباطًا بهموم ومشاكل وبؤس بلدانهم الأصلية؛ يشكل التعاون بين الفنانين المهاجرين والفنانين الوطنيين بالكاريبي علامة واضحة على عمق الارتباط بالوطن والوعي بهموم الإنسان الكاريبي عمومًا (أشبه بما قام به كبار الكتاب والروائيين الكاريبيين).

خوان كارلوس روزادو

يؤمن هؤلاء بأن الفن أداة أساس لإحداث التغيير (على نهج إرث مغني الراب الأميركي توباك شاكور)، لهذا فهم واعون بأن فضح البؤس وإيصال صوت المقهورين إلى العالمية ليس شرطًا كافيًا من أجل تنمية بلدانهم؛ لذلك اتخذوا من التغني بجمال بلدهم السياحي والتراث البسيط سبيلًا صوب العالمية والشهرة من دون أن تخطفهم الأضواء عن عالم «الغيتوهات». على سبيل المثال، أسهمت أغنية «ديسباسيتو» في تعزيز الحركية الاقتصادية والسياحية ببورتوريكو خلال السنة الماضية إلى أرقام لم تصلها الحكومة نفسها منذ سنوات. والسر في ذلك، وفقًا لمغنيها، هو البسيط والتغني باليومي والمعيش: «بورتوريكو هي البطلة الحقيقية لقصة الأغنية» كما يضيف لويس فونسي في تعليقه على الحدث في صفحته على تويتر. 

تجاوزنا إذن مقولات الفن كأداة للشهرة والنجاح وأضحينا نتحدث عن الفن كقاطرة للتنمية البشرية والمستديمة. كسر ظهور وتطور اليوتيوب مفاهيمنا وتصوراتنا حول النجاح؛ انتقلنا من صناعة النجومية إلى بناء وانبثاق الشهرة، وأسهم في تزايد تأثير العموم في صناعة النجوم واقتراب هؤلاء من معيشهم وتعبيرهم عن همومهم اليومية والاعتيادية، في مواجهة بؤس السلعنة والسوقنة المستمرة للفعاليات العالمية. كما أن ثورة الموسيقا البورتوريكية قد جعلتنا نتحدث عن انتقال عالمي في المركزيات الفنية والموسيقية من منطقة أوربا وأميركا الشمالية نحو الكاريبي والمنطقة اللاتينية. كل هذه المتغيرات تدفعنا نحو التفكير في ضرورة الدفع بالفن والموسيقا العربية صوب انتهاج مقاربة الانطلاق من المعيش والبحث عن المساهمة في التنمية، وإحداث التغيير وضمان المستقبلات التنموية التي تسعى إليها مجتمعاتنا.

حازت جائزة الغونكور .. ليلى سليماني: مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتملات (محمد الإدريسي)

حازت جائزة الغونكور .. ليلى سليماني: مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتملات (محمد الإدريسي)

كتاب-ليليمع صدور روايتها الطويلة الثانية المستوحاة من الأحداث المأساوية لمدينة نيويورك، تشرح الكاتبة المغربية ليلى سليماني للقراء النسق الشرطي لعلاقات الأبوة- المربية. في هذا الحوار الذي أجراه معها موقع «هفنغتون بوست» قبل تتويجها بجائزة الغونكور بأيام قليلة ونشر يوم التتويج، تتحدث عن روايتها «المخيفة» أحيانًا و«المثيرة» أحيانًا أخرى «أغنية هادئة» التي حازت الجائزة.

• كيف استطعت الدخول إلى رأس مربية قاتلة وأم في الوقت نفسه؟ أليس الأمر أشبه بحالة فصامية؟

– عندما نكتب، فإننا نحاول استثمار ما نملك وما يرتبط بخبراتنا، وفي الوقت نفسه نستدعي مخيالنا واستيهاماتنا؛ لذلك لا أعتقد أن الأمر يتعلق بفصام، بل مجرد تماهٍ مع شخصية معينة حينما نقرأ رواية أو نشاهد فلمًا. أود أن أقول بأن سحر الخيال هو ما يسمح لنا بالخروج من ذواتنا واستثمار حقائق أخرى، وسبر أغوار نفوس أخرى غير أنفسنا.

• أليست هناك مفارقة في أن نأتمن ما هو غالٍ بالنسبة لنا إلى شخص غريب كلية؟


– بدلًا من القول بالتناقض، أعدّ الأمر شكلًا من أشكال اللاوعي، والجنون. حينما نفكر في الأمر، نجده يبعث على الدوار! وفي الوقت نفسه، نجده قائمًا منذ قرون خلت. لقد وقفت منظماتنا الاجتماعية، منذ مئات السنين، على حقيقة أن النساء البورجوازيات يأتمن نساء أخريات، أقل فضلًا، على أبنائهن، من أجل تكريس أنفسهن لشيء أخر غير الأمومة. أضحت العلاقة مع المربية، أكثر تنظيمًا، وأكثر برودة، وأكثر رأسمالية وأقل حميمية. لذلك، قد يبدو ضربًا من الجنون أن يتركن طفلهن لشخص بالكاد يعرفنه. إن هذا «الإرهاب» وهذه اللاعقلانية هي ما يعطي الإثارة للرواية.

• أن تصبحي ربة بيت هي غاية غير مدركة؟

– لا، أبدًا! لن أكون قادرة على ذلك، لن أستطيع الصبر أو المخاطرة بأن أتحول إلى «وحش»، لا بد لي أن أقول بأنني سأشعر بملل فضيع جدًّا. أحب العمل، وأحب أن أكون مستقلة، وألتقي الناس، وأحتفظ بلحظات خاصة. إنه أمر ضروري، ولا مفرّ منه، لعيشي الكريم، كما هو بالنسبة للعديد من النساء الأخريات. لكن، لماذا لا نطرح هذا السؤال على الرجال؟

• بشكل عام، ما هي وجهة نظرك حول دور الأمهات العاملات في المجتمع الحديث؟

– أجد أن المجتمع ما زال محكًّا صعبًا وغير متكيف بشكل كبير مع عمل المرأة. أنا أفكر في النساء اللواتي تمكّن من الاشتغال على مختلف الجبهات. أجد أن الأمر لافت للنظر، وأعرف إلى أي حد هن مرهقات! لأنه، شئنا أم أبينا، لا تزال الأحكام المسبقة منتشرة والمرأة وحدها من يتحمل مزيدًا من الأعباء؛ لكونها أول من يُستدعى في حالة مرض طفل ما، وأكثر من يلجأ إلى التقليل من زمن العمل لرعايته.

• نجد في روايتك سردًا لحياة عائلة نيويوركية تعيش في الجانب الغربي، في حين أن المربية ذات أصول دومينيكانية. يبدو أن الأمر يتعلق أيضًا برواية عن الصراع الطبقي؟

ليلى-سليماني-و-أغنية-هادئة– هنا ألمس إحالة إلى الأخبار (المنوعات) التي أعطتني الفكرة الأولى حول الرواية، لكنني مع ذلك لم أستلهم منها أي شيء على الإطلاق أثناء عملية بناء شخصياتي. ومع ذلك، بالطبع، تظل مسألة الصراع الطبقي حاضرة بقوة في الكتاب. سيجد هذين الزوجين، بشكل بوهيمي قليلًا، أنفسهم لأول مرة وجهًا لوجه إزاء قيم التسامح، والانفتاح… على الواقع. إنهم عينة من أناس لا يعيشون ضمن مزيج اجتماعي، ولم يعيشوا أي نوع من الهرمية. للمرة الأولى في حياتهم سيصبحون زعماء، وسينقلب البؤس عليهم. وهذا كله بسبب الاحتكاك الاجتماعي الرهيب. 

• كيف سينظر إلى هذه المأساة إذا وقعت في المغرب؟

– في المغرب، يحدث أن نصادف كون «المربيات» يعشن وينمن في بيوت رؤسائهن في العمل وليس لديهن حياة أخرى إلى جانب هذه الحياة. إضافة إلى ذلك، ما زالت اللامساواة الاجتماعية والثقافية واضحة بشكل كبير مقارنة بباريس. أعتقد أن هذه الدراما مبالغ فيها، وأكثر عنفًا، ربما. لكن من المؤكد أنه سيكون من المفيد جدًّا حدوث تغير في الواقع المغربي.

• ستصدرين في مطلع عام 2017م دراسة حول «الجنس والأكاذيب المرتبطة به» في المغرب، وفي روايتك الأولى «حديقة الغول» وقفت عند صورة امرأة شابة مدمنة على الجنس. نجدك لا تترددين في مناقشة المواضيع الحساسة على ضفتي المتوسط، لماذا؟

– عندما أكتب، لا أفكر في مثل هذه الشروط. أكتب حول ما يهمني، كل شيء في الحقيقة. وحقيقة أن تكون موضوعات كتبي حساسة أو لا، هي بالأساس محط تأويل وتفسير من قبل العموم أو وسائل الإعلام. إنني أنقاد وراء أمنياتي أو التزاماتي.

• هل تعترفين بأنك نسوية؟

– نعم، بطبيعة الحال، كليًّا وبشكل غريزي. إن مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتملات للاعتداءات الجنسية، والتحرش والعنف. النساء هن الأقل أجرًا، والأقل اعترافًا، والأقل تمثيلًا في المجالات السياسية أو الاقتصادية العليا. في معظم دول العالم، تنتهك حقوقهن بشكل كبير! إنهن ضحايا للفصل والعزل في العديد من الدول: في أفغانستان… وغيرها. إذًا نعم، أنا نسوية وسأظل دومًا معارضة لاستمرار هذا الوضع.

• هل تفكرين في العودة للاستقرار في المغرب؟

– أنا أعيش في باريس منذ 17 سنة. هذا هو المكان الذي بنيت فيه عائلتي، حيث يعيش أصدقائي وحيث أعمل. أنا متعلقة جدًّا بباريس ولا أستطيع أن أتخيل نفسي خارج هذه المدينة. ولكنني لم أقل إنني لا أفكر أبدًا في المغرب!

• ما الرسالة التي تريدين تمريرها للمغاربة؟

– آه، سيكون ضربًا من الغرور، من جانبي، إذا أردت أن أمرر رسالة إلى المغاربة! الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقوله، وكان دومًا شعاري الأساس: كونوا أحرارًا.

روايتها‭ ‬الأولى‭ ‬رفضتها‭ ‬‮«‬سوي‮»‬‭ ‬وقبلتها‭ ‬‮«‬غاليمار‮»‬‭.. ‬وفوزها‭ ‬يواجه‭ ‬بالانتقاد

الطاهر بن جلول

الطاهر بن جلون

أمين معلوف

أمين معلوف

ولدت ليلى سليماني بمدينة الرباط سنة 1981م من أب مغربي وأم فرنسية- جزائرية، وتعد ثالث روائية عربية تحصل على جائزة غونكور، بعد الروائي المغربي الطاهر بن جلون (1987م) واللبناني أمين معلوف (1993م). لم تكن الطريق نحو الغونكور مفروشة بالورد؛ إذ سبق لـ«دار سوي» الشهيرة أن رفضت مخطوطة عملها الأول «في حديقة الغول»، وهو ما جعلها تحبط إلى حد كبير، قبل أن تقبل «دار غاليمار» نشرها فيما بعد. أسهمت الأحداث العنيفة التي عرفتها فرنسا خلال السنتين الماضيتين بشكل كبير في التعريف بالشخصية الصحفية والمناضلة والحقوقية لليلى سليماني في المشهد الإعلامي الباريسي خاصة، والفرنسي عامة؛ مما جعلها تمهد الطريق لروايتها الثانية «أغنية هادئة» المستقاة من قصة شائعة حول جريمة قتل مربية لطفلين بمدينة نيويورك.

ولم يمر فوز سليماني بجائزة الغونكور بسلام؛ إذ انتقد بعض المنابر الإعلامية الفرنسية حصول ليلى سليماني على الجائزة، أولًا، لأنها «ولدت خارج فرنسا»، الأمر الذي يحيل إلى الحضور الدائم للإرث الكولونيالي في المشهد الأدبي والفني الفرنسي. ثانيًا، لكونها «كاتبة شابة» ولا تحمل في رصيد أعمالها السابقة سوى رواية واحدة، في حين أن «أكاديمية غونكور» اعتادت منح الجائزة للكتاب المتقدمين في السن، أو بلغة أخرى للكتاب الذين ينتمون إلى الماضي، وليس إلى الحاضر، ويكتبون عنه. لكنّ عددًا من النقاد يرى أن السر وراء فوز الروائية الشابة بجائزة غونكور يكمن في استلهامها شخصيات الرواية –وكذلك روايتها الأولى- من الفضاء «الغربي» وليس العربي أو المغاربي، كما هو شأن جُلّ الكتاب المغاربيين الذين يكتبون باللغة الفرنسية، إضافة إلى جعلها من المشكلات المعيشة وإيقاع الحياة اليومية ميكانيزمًا أساسيًّا لبناء حبكتها الدرامية، وهو الأمر الذي «سيجعل القارئ يطالع ذاته ويتعرف إليها من خلال هذه الرواية» بحسب تصريح رئيس أكاديمية غونكور بعد الإعلان عن فوز الروائية المغربية الشابة.

حظيت رواية «أغنية هادئة» بعد صدورها بإقبال كبير من القراء واستحسنها النقاد، نظرًا للانطباع الجيد الذي خلفه صدور روايتها الأولى لدى الجمهور الفرنسي. طبعًا، هنا لا نتحدث عن الشروط الموضوعية المتحكمة في استحسان المقومات الفنية والأدبية للعمل الروائي، بقدر ما نتحدث عن الأثر الذي تركته شخصية «أديل» (الشخصية الرئيسة في رواية «في حديقة الغول») لدى القراء الفرنسيين، وعموم النقاد، وجعلها تحصل على جائزة المامونية الفرانكفونية المغربية. ولقد أسهمت الموهبة الفنية للروائية، وقدرتها على الوصف وربط خيوط الحبكة الدرامية لروايتها –بشكل يقارب الروايات البوليسية- وزجها بالقارئ داخل الرواية وجعله يتذوق بؤس الحياة ورعب الرواية، على اختراق الروح الإنسانية بـ«قسوة» و«برود» شديدين. 

فحمة تييري: اكتشاف مخطوطة حنا دياب أثر كثيرًا في مجال دراسة ألف ليلة وليلة

فحمة تييري: اكتشاف مخطوطة حنا دياب أثر كثيرًا في مجال دراسة ألف ليلة وليلة

يعد حنا دياب راويًا صانعًا للتاريخ؛ إذ إنه لا يمثل فقط نظرة شرقية حول العالم المتوسطي وفرنسا خلال مدة حكم الملك لويس الرابع عشر فقط، إنما نجد أن هذا الرجل «العادي» يمثل حكواتيًّا منقطع النظير، إذ ساعد «أنطوان غالان» بشكل كبير في تحرير كتاب «ألف ليلة وليلة» خلال مطلع القرن الثامن عشر، لكنه ظل منسيًّا. يروي دياب أكثر من ست عشرة حكاية. اثنتان منها حظيتا بشهرة كبيرة وأصبحتا الأكثر مبيعًا في العالم، وهما حكاية «علاء الدين» و«علي بابا». تظل هذه الحكايات «يتيمة» نظرًا لفقدان مصدرها العربي، الذي يعود لحنا دياب. كان هذا الشاب الحلبي غريب المصير، سعى في المقام الأول للهروب ورسم «طريقه الخاص»، وانخرط في أحد الأديرة. لتحقيق ذلك وضع نفسه في خدمة أحد التجار: لقد وقع طي النسيان على حين أن اسم أنطوان غالان – الذي نقل مذكراته وحرص على الخوض في كل ما يحتاج إليه- ظل براقًا.

تحيلنا هذه الترجمة، ضمن حيوية أسلوبها، إلى دقة ملحوظات دياب والمعنى الذي يضفيه عليها، إضافة إلى إتقانه المنابع السردية. إن هذه الصفات الرائعة تعود إلى رجل بدأ رحلته في العشرين من عمره، لكنه لم يعكف على كتابتها إلا بعد أربع وخمسين سنة من عودته إلى بلاده. يشكل الكتاب أيضًا تأملًا حول الحياة، ويظهر حرية أكبر مقارنة بالعديد من كتاب الرحلة، ويتجنب الأماكن المشتركة، وإرباك المعرفة الواسعة التي تساعد في التفاخر. يجب أن تحظى قصته باهتمام القراء لأصالة أدلتها التاريخية، ونظرها الثاقب، ومرونة لغتها التي تبحر بين أشكالها الشفهية والكتابية.

فحمة تييري

فحمة تييري

هذا الحوار مع بول فحمة – تييري التي ترجمت نص حنا دياب، ووجدت في لغة حلب، وبشكل سردي، طفولته الماضية.

• كيف كان لقاؤك مع هذا المخطوط المدهش؟

– يندرج هذا العمل في إطار أبحاثي حول أدب الرحلات ضمن المخطوطات العربية للقرنين السابع عشر والثامن عشر، التي عثرت فيها على نص حنا دياب. سبق لي أن عملت على مخطوطة مشهورة للبطريرك مكاريوس في روسيا سنة 1653م. مكنتني بعض المخطوطات الشرقية من التعمق في هذا النوع من الأدب في إطار سلسلة ندوات المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بفرنسا. في سنة 2009م، عرض عليَّ برنار هيبرغي هذا المخطوط الطويل، الذي كتب بلهجة مسقط رأسي وظل غير منشور. في البداية كنت أريد أن «ألقي نظرة» فقط. وبالفعل، ألقيت نظرة وعكفت أربع سنوات على ترجمة هذا المتن الرائع.

• من هو إذًا حنا دياب؟ وما الذي يمكن أن تقوله لنا حول أسلوب كتابته وحوله كرجل وراوٍ؟

– بداية، أود أن أعبر عن سروري الكبير لسماعي واستماعي لهذا الرجل الذي يتجول في العشرين من عمره، ويحكي مغامراته التي دامت أكثر من ثمانين سنة. إن قصة هذا المستأجر الشاب لدى أحد التجار الكبار والمستقر في مدينة حلب السورية غير عادية. يحظى بتجربة رهبانية بلبنان، ويستأجره أحد الرحالة الفرنسيين – بول لوكاس – سرًّا، ويتعرف في زيارته إلى الخازن، جامع الضرائب من المسيحيين والموالي للعثمانيين، ويتوجه نحو الصعيد المصري، ثم ليبيا، وتونس، وإيطاليا، مواجهًا العواصف ومتحديًا القراصنة وصولًا إلى مرسيليا الفرنسية. ويتوجه نحو مدينة باريس، ويقدم إلى الملك لويس الرابع عشر أحد اليربوعيات غير المعروفة لدى هواة العلوم في ذلك العصر، ويظل سنة قبالة جسر سان ميشيل، ويلتقي أنطوان غالان الذي كتب له ألف ليلة وليلة. لم تكن في جعبة غالان في تلك المدة أي حكايات، لذلك طلب من دياب أن يزوده بها. لم يتردد حنا في ذلك، ونقل له من المشرق الشهير بعض الحكايات المشهورة منها «علي بابا» و«علاء الدين»، التي ستعرف نجاحًا باهرًا. كتب حنا دياب بلغة مألوفة واعتيادية، تشبه إلى حد كبير لغة طفولتي، منذ أكثر من ثلاثة قرون. استثمر مرونة اللهجة العامية لاستعادة الأوضاع، وبشكل عنيد أحيانًا. ابتكر طرائق الملاحق وصيغًا جديدة من الكلمات التي عبرت عن مشاعره بشكل ممتاز. فيما وراء مهاراته الروائية، تظل كتابته فريدة من نوعها: يتحدث عن مخاوفه، وملذاته واندهاشاته.

  يمكن أن نقول: إن حنا دياب رجل «عادي». ما دوافع رحلته العجيبة؟ ولماذا قرر أن يحكيها بعد سنوات من عودته؟

hbook001– إنه بالتأكيد «رجل عادي»، وخادم، وطباخ وعامل تنظيف، تعلم القراءة والكتابة بالفرنسية، لدى تجار حلب، لكنه اكتسب بعض المواهب. إنه أصغر أشقائه المسيحيين الذي بنى شبكات ارتقائه الاجتماعي. لم تحد خياراته الحياتية عن المعايير ولم تعقد عملية ارتقائه الاجتماعي. لكن، وبفضل جرعة من العصيان، بحث عن طريقه الخاص: غادر حلب سرًّا؛ لأن إخوته «لم يكونوا ليسمحوا له بالذهاب» كما يقول. وفي الصعيد، رد على رسول أبلغه برسالة تهديد تدعوه إلى العودة إلى حلب قائلًا: «أنا الآن رجل يحدد مساره بيده». عندما سأله رئيسه المستقبلي حول رحلته، رد بنبرة قوية، بأنه يريد «استكشاف العالم». صحيح أن الكتابة المتأخرة لهذه الرحلة، بعد خمسين سنة من وقوع الحدث، مدهشة للغاية، لكنني أتفق من جهتي مع مسار فكري دشنه أحد الجامعيين الألمان الشباب الذي يميز بين شخصين لدى حنا دياب: الراوي والمسافر. ترتبط قصة المسافر بالمغامرات والتقلبات، على حين أن كتابة الراوي هي انعكاس ذاتي: «وثيقة أنوية». بهذا المعنى يصبح المؤلف مدخلًا نحو الحداثة.

• ما الاكتشافات التي نتحصل عليها من خلال قراءة هذا النص؟ ما الذي يخبرنا به حول العالم والمجتمع وزمن كتابة النص؟

– يعد هذا النص فخر الوصف الكلاسيكي، حيث يركز على ما يفاجئ عادة المسافرين الشرقيين إلى الغرب: الآلات المنظفة لميناء مرسيليا، أو الساعة الفلكية بكاتدرائية سان جان في ليون على سبيل المثال لا الحصر. كما يروي حنا اكتشافه لاستخدام الأواني في الغرف، واعتياده على استعمال مراحيض مجهزة بالماء الجاري، وأعجب بتنظيم الإنارة بباريس، ويعلمنا التحضر. كما نشير أيضًا إلى ثابت آخر لهذه القصة، والمرتبط بلقاء حنا بالشرقيين في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.

• ما الذي نتعلمه حول ألف ليلة وليلة؟

2%d8%b4%d8%b1%d9%82%d9%8a-%d8%a7%d9%95%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8– لقد أثر اكتشاف مخطوطة حنا دياب بشكل كبير في مجال دراسة ألف ليلة وليلة. سمحت هذه القصة واليوميات الباريسية لغالان بالتحقق من أصل هذه الحكايات، التي أعاد كتابتها بنفسه، وربط هويتها بـ«حنا الماروني» كما تظهر في يوميات غالان. ظل نص حنا هنا مجهولًا لوقت طويل. يتعلق الأمر إذًا بأصل شفهي للقصص المكتشفة كما وردت لدى حنا دياب، ويمكننا أن نتحدث عن «عنصر فرنسي- سوري» لحكايات ألف ليلة وليلة. هناك طريقة أخرى للربط بين حنا دياب والقصص، وتكمن في إتقانه فن الحكي، وبخاصة قدرته على تضمين السرد خصائص ألف ليلة وليلة.

• ما التحديات التي واجهت عملك، وما أعظم سعادة لك؟

  تكمن الصعوبات التي واجهتني في عملية الترجمة فيما يأتي: نص طويل، 174 ورقة، وربما يكون واحدًا من أطول النصوص ضمن هذا الجنس الأدبي، والحذف والإضافات الهامشية، التي تظل داعمة لفرضية كون المخطوطة موقعة بيد الكاتب. لكن السعادة الحقيقية تكمن في اكتشاف حلبي يؤكد على فرادته خلال القرن الثامن عشر ويشيدها بين اقتراض واختراع، وبين امتثال للقيم وعصيان لها، وبين خطاب متفق عليه، وخطاب أحكام شخصية… إنه مسيحي يقلد الغرب، هنا «الفرنجي» هو بول لوكاس، ويعتمد على طرائقه تارة ويخفيها تارة أخرى، لكن هذا التقليد يعطيه فرصة للابتكار، كما يشهد على ذلك بنفسه. إن هذا الاستكشاف لـ«الذات» وهذه الكتابة المتأخرة لحكاية رحلته يمكن أن يرسم لنا ما يسميه غوتيه بـ«البطل الذي يصنع مصيره بيديه».