الفلسفة والناس… هل حقًّا أن كل إنسان فيلسوف؟

الفلسفة والناس… هل حقًّا أن كل إنسان فيلسوف؟

ترددت في الكتابات الفلسفية الغربية الحديثة، وتابعتها الكتابات العربية، تلك المقولة التي تربط جميع البشر بالفلسفة، وتصور أن كل إنسان هو فيلسوف إما من جهة الطبيعة أو من جهة الدرجة. ومن ثم فإن الفلسفة ليست وقفًا على الفلاسفة، وليس التفلسف حقًّا خاصًّا بهؤلاء الفلاسفة، وإنما هو حق عام للناس كافة، لا يتقيد بفئة، ولا ينحصر بزمن، ولا يتحدد بمكان، ولا يمثل امتيازًا لعرق أو قوم أو سلالة من البشر.

هذه المقولة المقصودة جرت الإشارة إليها، والتعبير عنها، والتأكيد عليها، بصور متعددة من ناحية البيان، جاءت من مفكرين وأدباء ونقاد، مستندين في تحليلاتهم إلى خاصية الفكر والتفكير عند الإنسان، ونظرته إلى ذاته والحياة والعالم.

جذور المقولة

وبيانًا لهذه المقولة وتثبيتًا لها، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال مختارة، انتسبت إلى أشخاص لهم وزنهم الفكري والفلسفي، وهي: القول الأول: أشار إليه الناقد الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891- 1937م)، الذي رأى أن «كل البشر فلاسفة… ولا نستطيع أن نتصور إنسانًا لا يكون فيلسوفًا ولا يفكر؛ لأن التفكير هو بالضبط خاصة الإنسان من حيث هو الإنسان».

القول الثاني: أشار إليه المفكر الألماني كارل ياسبرز (1883 – 1969م) في كتابه: «مدخل إلى الفلسفة»؛ إذ رأى أن كل إنسان فيلسوف، لأن الفلسفة تتناول المطلق الذي يتشخص في الحياة الواقعية، ولكن ليس من اليسير على الإطلاق أن نضع قبضتنا على هذا المعنى بمتابعة التأمل.

القول الثالث: ذكره الكاتب الأميركي فروست في مقدمة كتابه: «التعاليم الأساسية للفلاسفة العظماء»؛ إذ رأى أن كل إنسان فلاحًا كان أم من رجال المال، كاتبًا أم قائدًا، حاكمًا أم محكومًا، هو فيلسوف بمعنى الكلمة؛ لكون الإنسان بما هو إنسان قد وهب دماغًا راقيًا، وجهازًا عصبيًّا، فلا بد له من التفكير، والتفكير مطية الفلسفة.

إلى جانب هذه الأقوال الثلاثة، أشار إلى هذه المقولة أيضًا الكاتب الأميركي رابوبرت في كتابه: «مبادئ الفلسفة»، وكذا الكاتب الأميركي ويل ديورانت في كتابه: «صروح الفلسفة» المترجم إلى العربية بعنوان: «مباهج الفلسفة». وفي الكتابات العربية أشار إليها الكاتب المصري أحمد فؤاد الأهواني في كتابه: «معاني الفلسفة»، إلى جانب آخرين.

فحص المقولة

أمام هذه المقولة فحصًا وتبصرًا، يمكن تسجيل بعض المفارقات المتعاكسة، وهي:

المفارقة الأولى: كان يفترض من هذه المقولة التي ربطت جميع البشر بالفلسفة، وصورت كل إنسان بوصفه فيلسوفًا، أن يكون من أقرب نتائجها وأوضحها ظهورًا، ما يتعلق بهيئة الفلاسفة عددًا ووجودًا؛ لأننا أمام مقدمة ونتيجة، فهل بينهما تطابق وتوافق أم تغاير وتخالف؟ وهل إذا صحّت المقدمةُ في هذه الحالة صحّت معها النتيجةُ، استنادًا إلى القواعد المنطقية؟

المقدمة تقول: إن كل إنسان هو فيلسوف سواء من ناحية الطبيعة أو من ناحية الدرجة أو في بعض لحظات حياته، وبناءً على صحة هذه المقدمة، لا بد أن يكون عدد الفلاسفة من ناحية العدد كبيرًا في جميع الأزمنة، وجميع الأمكنة، وجميع المجتمعات! وذلك بحكم الطبيعة القوية والاستعداد الذاتي الذي يربط الإنسان بالفلسفة.

لكن الذي نراه فعليًّا خلاف ذلك تمامًا، فعدد الفلاسفة ليس قليلًا فحسب وإنما ضئيل جدًّا، ويكاد يكون بحكم النادر، نلمس ذلك في جميع الأزمنة، وجميع الأمكنة، وجميع المجتمعات. الظاهرة التي ترتقي إلى درجة الحقيقة بلا خلاف عليها ولا نزاع، لشدة ظهورها ليس عند الفلاسفة خاصة، وإنما عند الناس عامة.

المفارقة الثانية: بحسب المقولة المذكورة، لا بد أن يترتب عليها نوع من القرب بين الناس والفلسفة، يصل إلى درجة الألفة والتساكن والتعايش. فما دامت الفلسفة بهذا الالتصاق بالناس، وتعدهم فلاسفة إما من ناحية الطبيعة أو من ناحية الدرجة، وتصور أن كل إنسان فيلسوف بدرجة أو أخرى، الأمر الذي يقتضي قربًا من الناس تجاه الفلسفة، لأن القرب يولد قربًا غالبًا، أو لا أقل يولد استعدادًا قويًّا للقرب. ومن ثم فإن قرب الفلسفة من الناس، يفترض أن يولد قربًا أو استعدادًا للقرب من الناس تجاه الفلسفة.

لكن الذي نراه فعليًّا غير ذلك تمامًا، فلا نلمس قربًا من الناس تجاه الفلسفة، بل نجد ابتعادًا يصل إلى درجة التنافر والنفور، وما زال الناس عمومًا يحملون صورة سلبية أو غير واضحة عن الفلسفة، وهذا ما يعرفه الناس عن أنفسهم، وما يعرفه كذلك أهل الفلسفة عن الناس.

ومثل هذا الانطباع السلبي تجاه الفلسفة، عبر عنه بوضوح كبير سنة 1948م، الكاتب المصري الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1908 – 1970م) في مقدمة كتابه: «معاني الفلسفة»، وأوضحه قائلًا: «كان التفلسف سمة الخارجين عن جادّة الطريق، حتى إذا شذ أحد عن الأفكار الدارجة، أو طلع برأي جديد قيل له: لا تتفلسف، كأن الفلسفة رذيلة من الرذائل، يتهم بها صاحب التفكير المعوج المنحرف، فرهبها الناس، وانصرفوا عنها، وظلت حبيسة الكتب، بعيدة من الأذهان، غريبة عن القلوب».

المفارقة الثالثة: استنادًا إلى المقولة السالفة، لا بد أن تكون الفلسفة واضحة ومفهومة عند الناس أو عند شريحة كبيرة من الناس، ما دامت تصور أن كل الناس فلاسفة، ولا يوجد إنسان يخلو بصورة من الصور من فعل التفلسف. الأمر الذي يعني أن الفلسفة ليست شيئًا غريبًا عن الناس أو منقطعة عنهم أو تنتمي إلى عالم غير عالمهم القريب لهم، وإنما هي متصاحبة معهم، تظهر لهم بلا توقف في حسهم التفكيري، ولا تغيب عن فعلهم التفلسفي الذي لا يفارق الفكر عند كل إنسان.

والسؤال: هل أصبحت الفلسفة بتأثير هذه المقولة، وبعد هذه السنوات الممتدة والطويلة واضحة عند الناس أو مفهومة عند شريحة كبيرة منهم؟ أم إن واقع الحال يخبرنا بغير ذلك وعلى خلافه تمامًا؟ وما نعرفه أن الفلسفة ما زالت في الانطباع العام عند مَنْ يتردد على ألسنتهم بنوع من البساطة والعفوية، أن الفلسفة أشبه بعالم يكتنفه الغموض والإبهام والتعقيد والتعصيب، وبحسب تصوير كارل ياسبرز في كتابه: «مدخل إلى الفلسفة» أن الفلسفة «بلغت من الصعوبة حدًّا يجعل دراستها تبدو مهمة ميؤوسًا منها».

كشفت هذه المفارقات الثلاث عن أن هذه المقولة المذكورة، بحاجة إلى فحص وتدقيق بقصد التثبت منها، خصوصًا بعدما تكررت في الأدب الفلسفي الحديث، بشكل جاز لنا أن نعطيها صفة المقولة، ونتعامل معها بهذا الاعتبار.

وفي تقويم هذه المقولة، يمكن القول: إنها أقرب إلى أن تكون مقولة بيانية أكثر من كونها مقولة برهانية، بمعنى أنها مقولة من صنع اللغة والبيان اللغوي، ولا تستند إلى حقائق فعلية وخارجية تصلح أن تكون براهين عليها. ومن دون هذه البراهين الفعلية تخرج هذه المقولة من نطاق المقولات البرهانية، وتحسب على نطاق المقولات البيانية، والفلسفة قائمة على البرهان وليست على البيان، وأنها نجحت في ناحية البرهان، وفشلت في ناحية البيان، مع ما أصابها من تعقيد وتصعيب على مستوى اللغة والبيان.

النقد الثقافي: تفارق الرؤية بين الغذامي والموسوي

النقد الثقافي: تفارق الرؤية بين الغذامي والموسوي

تبلورت تجاه قضية النقد الثقافي في المشهد النقدي العربي المعاصر محاولتان متفارقتان في ناحية الرؤية ومنقطعتان في ناحية التفاعلية. المحاولة الأولى جاءت من الناقد السعودي الدكتور عبدالله الغذامي متمثلة في كتاب «النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق العربية»، الصادر سنة 2000م، والمحاولة الثانية جاءت من الناقد العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي، متمثلة في كتاب «النظرية والنقد الثقافي.. الكتابة العربية في عالم متغير» الصادر سنة 2005م.

وهذا يعني، استنادًا إلى هاتين المحاولتين، أن الاهتمام بقضية النقد الثقافي عربيًّا قد تأخر على مستوى التأليف إلى ما بعد نهاية القرن العشرين. ولعل قبل ذلك كانت هناك بعض الإشارات العابرة. ودل على ذلك بوضوح كبير أن مفهوم النقد الثقافي لم يدرج في كتاب «دليل الناقد الأدبي» إلا في الطبعة الثالثة الصادرة سنة 2002م، وجاء فيه عند الإشارة إلى النقد الثقافي في العالم العربي، اعتبار أن كتاب الغذامي «النقد الثقافي» يمثل المحاولة الوحيدة المعروفة حتى ذلك الوقت في تبني النقد الثقافي بمفهومه الغربي.

بين النقد الأدبي والنقد الثقافي

تفارقت الرؤية بين الغذامي والموسوي، في أن الغذامي أقام رؤيته على أساس القطع بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، داعيًا إلى التحول النظري والإجرائي من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، معلنًا صراحة عن موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه، معتبرًا أن النقد الأدبي، بمدارسه القديمة والحديثة، قد بلغ حد النضج أو سن اليأس ولم يعد قادرًا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده عالميًّا وعربيًّا، وقد أوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام، مستوثقًا بمقولة الشيخ أمين الخولي (1895–1966م) عن البلاغة العربية بأنها نضجت حتى احترقت، مقدرًا أن هذا الرأي فيه صدق وبصيرة.

بخلاف هذه الرؤية تمسك الموسوي بوصل العلاقة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، مستبعدًا القطع بينهما، معتبرًا أن النقد الثقافي لا يمكن أن يتخلى عن النقد الأدبي لا بصفة الملازمة وإنما بصفة التمهر في قراءة النصوص، مقدرًا أن فائدة نظرية الأدب بالنسبة إلى النقد الثقافي لا تتوقف عند حد معين، وأخص فائدة لها تكمن في القدرة على تملِّي النص بأدوات متقصية، منتهيًا إلى أن النقد الثقافي لا يستقيم مفهومًا بدون فهم لمعنى النظرية.

هذا التمسك من الموسوي بوصل العلاقة بين النقدين الأدبي والثقافي، جاء مستندًا إلى ما تقرر عند النقاد الثقافيين الذين ينظرون إلى النقد الثقافي لا بصفته فرعًا من فروع المعرفة، وإنما بصفته فعالية تستعين بالنظريات والمفاهيم والنظم المعرفية لبلوغ ما تأنف المناهج الأدبية من الخوض فيه.

وبحسب هذا الرأي فإن النقد الثقافي ما زال في وضعية لم يستقل بذاته متفردًا بنوع معرفي يتمايز به بين فروع المعرفة من النواحي المنهجية والإجرائية والنظرية، ومن ثم فهو بحاجة إلى فروع المعرفة الأخرى، ومنها النقد الأدبي الذي تربطه به وشائج وطيدة.

وتفارق الغذامي عن الموسوي في ناحية التفريق بين ثلاثة مصطلحات هي: (نقد الثقافة والنقد الثقافي والدراسات الثقافية). فالغذامي يرى أن من الضروري التمييز بين هذه المصطلحات الثلاثة التي التبست، في نظره، على كثير من الناس فخلطوا بينها، واضعًا حدودًا تفصل بينها، معتبرًا أن «نقد الثقافة» يصدق على تلك المشروعات البحثية التي عرضت لقضايا الفكر والمجتمع والسياسة في ثقافتنا العربية، ويصدق مفهوم «الدراسات الثقافية» على عمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها، أما ما هو بصدده فيتحدد بتخصيص مصطلح «النقد الثقافي» ليكون مصطلحًا قائمًا على منهجية أدواتية وإجرائية تخصه.

هذا التفريق بهذه الحدود الفاصلة بين المصطلحات الثلاثة المذكورة لا نراه عند الموسوي، فمن جهة يرى الموسوي أن النقد الثقافي ظهر بعد الاهتمام بالدراسات الثقافية، واعتبر من جهة أخرى أن في تراث القدامى وفي كتابات بعض المعاصرين ما يمكن أن يندرج ضمن نقد ثقافي، متحدثًا عن هذا الأمر بطريقة تساؤلية قائلًا: ما المانع من العودة إلى تراث القدامى وقراءة متونه على أنها نقد ثقافي؟ وما الضير في قراءة رد محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس على كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين على أنه نقد ثقافي؟ ولماذا لا تبدو كتابة طه حسين كذلك؟ مقدرًا أن النقد الثقافي يمثل وعيًا واسعًا يتجاوز الحدود التي تعارف عليها نقاد الأدب سابقًا.

ويتفارق الغذامي عن الموسوي كذلك في ناحية النظر إلى النقد الأدبي والنظرية النقدية سعة وضيقًا. فالغذامي ناظرًا إلى المجال العربي فإنه يرى أن النقد الأدبي أصبح محدودًا وضيقًا، يتعامل مع المجاز والخيال وليس مع الحقيقة والواقع، وليس له دخل في أي حقيقة أخرى دينية أو سياسية أو تاريخية، ولم يعد قادرًا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم عالميًّا وعربيًّا.

في المقابل فإن الموسوي ناظرًا إلى المجال العالمي ومستندًا إلى الأدب الغربي نراه يصور النظرية الأدبية بالاتساع الذي لا حد له وكأنها من شدة سعتها تتميز بعدم الانتظام، معتبرًا أن النظرية سلكت مجموعة من المسارات والسياقات دون التوقف عندها، عائدًا إلى رأي للناقد الأميركي فنسنت ليتش، مؤرخ بسنة 2003م، يرى فيه أن النظرية في سياقها المعاصر تحيل إلى كيان من النصوص قديمة وحديثة معنية بالشعرية ونماذجه الثقافية، مضيفًا إليها السيميائيات ووسائل الاتصال والخطاب والشفرات الخاصة بالعنصر والطبقة والجنوسة وبالثقافة المرئية والشعبية، كما أنها تعني ضربًا من التساؤل المعني بالحكم والريبة والمنطق متأثرة بالتحليل النفسي وما بعد البنيوية والدراسات الثقافية. وبناء على ذلك صور الموسوي مستحسنًا أن النقد الثقافي يؤول إلى فعالية نشيطة.

أثر المحاولتين

أما الانقطاع من الناحية التفاعلية بين هاتين المحاولتين، فقد كشف عنه الموسوي الذي جاءت محاولته متأخرة بما يقارب خمس سنوات على تاريخ محاولة الغذامي، مع ذلك قدم كتابه مصورًا أن لا وجود لكتاب باللغة العربية يعنى بهذا الشأن، مبرزًا هذه الملحوظة، ومفتتحًا بها السطر الأول من توطئة كتابه قائلًا: «لم يظهر من قبل كتاب باللغة العربية يعنى تفصيلًا بالمكونات النظرية ولا بالنقد الثقافي».

وتأكيدًا لرأيه وجزمًا به يرى الموسوي أن القارئ العربي لم يزل، وكذلك المؤسسات الأكاديمية، بعيدين كثيرًا مما يجري اليوم من نقاش مطول حول النظرية الثقافية والأدبية بين صفوف المثقفين والأكاديميين وفي داخل مجموعة المنظرين، وتحديدًا منذ التغيرات المنهجية والفلسفية. وطالب في نهاية الكتاب بأهمية تفعيل الوعي على أصعدة الأفراد والجماعات لإدراك أن قضية النقد الثقافي عربيًّا هي مهمة كبيرة وشائكة، وليست ثانوية شأن الاختصاصات والممارسات الاعتيادية التي درج عليها الدرس الأكاديمي والصحافة الأدبية.

الأمر الذي يعني أن الموسوي لم يكن على دراية بمحاولة الغذامي، مع أنها عدت من أبرز المحاولات العربية التي أثارت جدلًا، وحركت نقاشًا في النطاق العربي ممتدًّا، مشرقًا ومغربًا. ويبدو أن متابعة الموسوي لهذه القضية في المجال الغربي كانت أوسع من متابعته لها في المجال العربي، وظهر ذلك متجليًا في كتابه الذي حضرت فيه بشكل واضح أسماء الغربيين أدباء ونقاد ومفكرين، وتكثفت نصوصهم، والإشارة إلى تأليفاتهم؛ لكونهم المؤسسين لهذه القضية مبنى ومعنى، بنية وتكوينًا في هذه الأزمنة المعاصرة.

بهذا الغياب انقطعت إمكانية التفاعل النقدي التزامني بين أهم محاولتين ظهرتا في وقتهما خلال مطلع العقد الأول من القرن العشرين. وتميزت هاتان المحاولتان في أنهما جمعتا بين الخبرة النقدية من جهة وبين الدراية الأكاديمية من جهة أخرى، وقاربت كلتاهما بين المجالين الغربي والعربي لتقريب قضية النقد الثقافي ونقلها من المجال الغربي الذي تنتسب إليه إلى المجال العربي الذي ينتسب إليه الناقدان.

أمام هاتين المحاولتين، تفريقًا وتمييزًا، يمكن القول: إن الغذامي أراد تقديم أطروحة تمثلت في الإعلان عن موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه، بينما أراد الموسوي تقديم معرفة عن النقد الثقافي مطالبًا الوعي بهذه القضية عربيًّا، ظنًّا منه أن القارئ العربي ما زال آنذاك بعيدًا مما يدور حول هذه القضية من نقاش في ساحة الغربيين: مثقفين وأكاديميين ومنظرين. لذا جاز القول: إن الوعي بفكرة الأطروحة وتقديم أطروحة هو أوضح عند الغذامي مقارنة بالموسوي.

من جانب آخر، تميزت محاولة الغذامي في أنها أثارت جدلًا وحركت نقاشًا، وعرفت على نطاق عربي واسع ممتدًّا مشرقًا ومغربًا مسجلة امتيازًا من هذه الناحية، بينما محاولة الموسوي جاءت هادئة، وغلب عليها الطابع البحثي والأكاديمي، ولم تتسم لا بالإثارة ولا بالدهشة، ولم تعرف على نطاق عربي واسع مسجلة ضعفًا من هذه الناحية.

لكن ما أثار الاستغراب في محاولة الغذامي، أنه أعطى نفسه الحق في الإعلان عن موت النقد الأدبي، وكأن لا حياة للنقد الثقافي ولا قيام له إلا بهذا الموت، بالشكل الذي أثار عليه حفيظة النقاد والأدباء في مشرق العالم العربي ومغربه، مختلفين معه ومعترضين. وكان بإمكانه الدفاع عن النقد الثقافي، والنهوض به، والانتصار له، بعيدًا من هذه الدعوة المثيرة للجدل.

وبدلًا من هذه الدعوة التي فيها ما فيها، وعليها ما عليها، كان من الأسلم للغذامي إعادة ترتيب العلاقة بين النقدين الأدبي والثقافي، بإعطاء الأفضلية في هذه الأزمنة المعاصرة إلى النقد الثقافي، وترتيب العلاقة بينهما بطريقة يتقدم فيها النقد الثقافي على النقد الأدبي، استنادًا إلى خلفية ترى أن النقد الأدبي أصبح نقدًا مستهلكًا ولم يعد بتلك الفاعلية المفترضة. ومن ثم فإن من الضروري الالتفات إلى النقد الثقافي بوصفه نقدًا ناهضًا ومتجددًا ومتسمًا بالفاعلية المؤثرة؛ لذا فإن الحاجة إليه تتقدم على النقد الأدبي بعيدًا من الدعوة إلى موته.

الإسلام والتحديث.. مقاربة بين إقبال وفضل الرحمن

الإسلام والتحديث.. مقاربة بين إقبال وفضل الرحمن

ظهرت في المجال الفكري الباكستاني الحديث محاولتان مهمتان لهما علاقة بقضية الدين والتجديد أو الدين والتحديث؛ المحاولة الأولى جاءت من الدكتور محمد إقبال (1877- 1938م)، وتمثلت في كتابه الذي عُرف في ترجمته العربية بعنوان: «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، والمحاولة الثانية جاءت من الدكتور فضل الرحمن (1919- 1988م)، وتمثلت في كتابه الذي عرف في ترجمته العربية بعنوان: «الإسلام وضرورة التحديث.. نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية».

محاولة إقبال اكتسبت أهميتها من ثلاث جهات هي: جهة الشخص، وجهة الزمن، وجهة المضمون. فمن جهة الشخص، يُعَدّ إقبال، من الناحية الفكرية، أحد أبرز المفكرين المسلمين في العصر الحديث وتحديدًا خلال النصف الأول من القرن العشرين. ومن الناحية الأدبية يُعَدّ واحدًا من كبار الشعراء الموهوبين والمؤثرين في العصر الحديث وقد عبر بشعره إلى العالم مسجلًا أثرًا على مستوى الأدب الإنساني الحديث. ومن الناحية السياسية يعد إقبال في نظر الباكستانيين -أدباء وسياسيين- الأب الروحي لنشأة باكستان. ومن الناحية الإصلاحية يعد واحدًا من المصلحين البارزين في عصره. فقد عده الباحث المصري الدكتور عثمان أمين (1905- 1987م) من أبرز شخصيات التاريخ الإسلامي الحديث إلى جانب جمال الدين الأفغاني (1838- 1897م)، ومحمد عبده المصري (1849- 1905م)، وعبدالرحمن الكواكبي السوري (1854- 1902م).

ومن جهة الزمن، فإن محاولة إقبال تعد من أسبق محاولات المسلمين الفكرية في القرن العشرين إلى طرح قضية تجديد الفكر الديني الإسلامي. فقد بدأ إقبال بطرح هذه القضية من خلال محاضرات ألقاها بين سنتي (1928- 1929م)، وصل مجموعها إلى سبع محاضرات، جُمعت لاحقًا وصدرت في كتاب باللغة الإنجليزية مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وتُرجمت إلى العربية وصدرت في القاهرة سنة 1955م.

ومن جهة المضمون، فإن محاولة إقبال تعد من أنضج المحاولات الفكرية المعاصرة وأكثرها عمقًا في موضوعها. وتأكيدًا لهذا المعنى رأى الدكتور عثمان أمين تشابهًا بين إقبال وفيلسوف ألمانيا العظيم إيمانويل كانت (1724- 1804م)، عادًّا ما حاول إقبال القيام به في تاريخ الفكر الإسلامي شبيهًا من بعض الوجوه بما حاول القيام به «كانت» في تاريخ الفكر الغربي. ومن جهته رأى الباحث اللبناني الدكتور ماجد فخري (1923- 2021م) في كتابه «تاريخ الفلسفة الإسلامية» أن محاولة إقبال لم يبلغ شأوها أي مفكر في القرن العشرين.

أما محاولة فضل الرحمن فقد اكتسبت أهميتها كذلك من ثلاث جهات هي: جهة الشخص، وجهة الموضوع، وجهة المضمون. فمن جهة الشخص فإن فضل الرحمن يعد من الأكاديميين المسلمين اللامعين في المجال الأكاديمي الغربي بحثًا وتدريسًا، وكسب شهرة في تدريس حقل الإسلاميات في بعض جامعات الولايات المتحدة الأميركية، أبرزها جامعة شيكاغو، وقد اعترف له الغربيون بهذه المنزلة الأكاديمية المميزة.

ومن جهة الموضوع، فلعل فضل الرحمن يعد من أسبق المسلمين المعاصرين طرحًا لقضية الإسلام والحداثة، الثنائية التي جاءت عنوانًا لكتابه في نسخته الإنجليزية الصادرة سنة 1982م، متحدثًا فيه عن الحداثة الإسلامية، دامجًا بين الحداثة والإسلام بلا هواجس ولا مخاوف، معترفًا بوجود حداثة إسلامية عند المسلمين في الأزمنة الحديثة، ناظرًا لهذه الحداثة، ومتعقبًا أثرها، ومتفحصًا دروبها الفكرية، ومناقشًا مقولاتها، ومقدمًا مطالعة جادة في هذا الشأن.

ومن جهة المضمون، فقد اتسمت محاولة فضل الرحمن بالبحث الفكري الجاد، عاكسًا فيها خبرته الأكاديمية العريقة، وتضلعه في حقل الإسلاميات، ودرايته الناضجة بالمنهجيات الحديثة.

من هنا تتأكد أهمية المقاربة بين محاولتي إقبال وفضل الرحمن، وبخاصة أنها من المقاربات الفكرية التي لم تُطرَقْ كثيرًا في النطاق العربي، ولم تستكشف معرفيًّا بنحو وافٍ. وعند النظر في هاتين المحاولتين يمكن الكشف عن بعض الفوارق المهمة التي تفارق بينهما من جهة، وتساعد في تكوين المعرفة بهما من جهة أخرى.

الفوارق بين المحاولتين

من هذه الفوارق ما يتعلق بفارق الزمن، فقد جاءت محاولة إقبال قبل قيام باكستان سنة 1947م، الدولة التي سعى إليها إقبال جاهدًا، وأراد منها أن تصبح تجسيدًا لذاتية المسلمين في شبه القارة الهندية، لتحميهم من خطري الذوبان والتحلل، الذوبان بتأثير قوة الأغلبية غير المسلمة، والتحلل بتأثير قوة المستعمر الإنجليزي. ولو جاءت هذه المحاولة بعد قيام باكستان لكان لها بالتأكيد سياق فكري مختلف.

في الطرف الآخر فإن محاولة فضل الرحمن جاءت متأخرة عن محاولة إقبال بما يقارب نصف قرن ممتدة ما بين (1928- 1978م)، وجاءت بعد قيام باكستان بفاصل زمني يزيد على ثلاثة عقود. وقد تأثرت هذه المحاولة بما أصاب باكستان من تعثرات سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية، أخّرت نهوضها وعاقت تقدمها، وأحبطت آمال إقبال نفسه الذي تطلع إلى أن تمثل فرصة مواتية لتقديم الإسلام إلى العالم على حقيقته الكاملة في أسلوب يطابق روح العصر الجديد. ولا شك أنها وبصورة أكبر أحبطت آمال فضل الرحمن الذي وجد نفسه في وضع اضطره لمغادرة بلده مبكرًا سنة 1968م، بعدما تعرض لمضايقات وقوبلت أفكاره بالرفض والاتهام، وأمضى بقية حياته خارج موطنه مهاجرًا في الولايات المتحدة الأميركية.

ومن هذه الفوارق ما يتعلق بفارق المكان، فقد ارتبطت محاولة إقبال من ناحية المكان بالهند، وتحددت في ثلاث مدن، هي: مدراس وحيدر أباد وعليكره، وجاءت بطلب من الجمعية الإسلامية بمدراس. بينما محاولة فضل الرحمن ارتبطت من ناحية المكان بضفة أخرى بعيدة من الهند وشبه القارة الهندية، هي الولايات المتحدة الأميركية، وتحديدًا مدينة شيكاغو، واتصلت بمشروع بحثي موّلته مؤسسة فورد للتربية الإسلامية، حمل المشروع عنوان: «الإسلام والتغيير الاجتماعي»، اشترك فيه بشكل مباشر اثنا عشر باحثًا شابًّا، إلى جانب مديرَيْهِ فضل الرحمن والبروفيسور ليونارد بندر.

ومن هذه الفوارق كذلك ما يتعلق بفارق الخطاب، فقد اتجه إقبال في محاولته مخاطبًا الجيل المسلم الحديث، متوسعًا في مناقشة العديد من المفكرين والفلاسفة الأوربيين البارزين -فرنسيين وألمانيين وإنجليزيين- الذين تزايدت أسماؤهم في كتاب إقبال، وتكاثرت بطريقة تلفت الانتباه بشدة، مستندًا إليهم تارة، ومتوافقًا معهم تارة أخرى، وناقدًا لهم تارة ثالثة. بخلاف فضل الرحمن الذي اتجهت محاولته إلى الوسط الأكاديمي الغربي، متوسعًا في مناقشة العديد من العلماء والمفكرين والمصلحين المسلمين أتراكًا وهنودًا وإيرانيين ومصريين، عارضًا محاولاتهم الإصلاحية والتحديثية، مناقشًا لهم، متوافقًا معهم تارة ومختلفًا تارة أخرى.

يضاف إلى هذه الفوارق ما يتعلق بفارق المقصد، فقد وضع إقبال لمحاولته مقصدًا فلسفيًّا طموحًا وكبيرًا، ساعيًا لإعادة بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناءً جديدًا، آخذًا في الحسبان المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة، مقدرًا أن لحظته الراهنة آنذاك كانت مناسبة لإنجاز هذا العمل، وليس بعيدًا في نظره ذلك اليوم الذي يكشف فيه كل من الدين والعلم اتفاقًا متبادلًا بينهما لم يكن حتى ذلك الوقت منتظرًا.

في حين أن فضل الرحمن وضع لمحاولته مقصدًا تربويًّا، ساعيًا لدراسة النظام التربوي الإسلامي في العصر الوسيط كاشفًا عن سماته ونواقصه، ومتوقفًا عند جهود التحديث التي بذلت طوال قرن أو نحوه، راسمًا في الأخير بعض الخطوط العامة التي يتعين السير وفقها، مبينًا أن ما يعنيه بالتربية الإسلامية هي النزعة العقلية الإسلامية التي تشكل بالنسبة إليه جوهر التربية الإسلامية العالية.

لعل هذه أهم الفوارق العامة بين محاولتي إقبال وفضل الرحمن، وما يعمق هذه المقاربة أن محاولة إقبال حضرت عند فضل الرحمن وكانت له وجهة نظر فيها، والسؤال: كيف وجدها؟ وما تقويمه لها وانطباعاته عنها؟

الافتراق المنهجي بين فضل الرحمن وإقبال

لم يخصص فضل الرحمن فقرة في كتابه المذكور أو زاوية يعرض فيها كامل رؤيته حول إقبال، وقد جاءت متناثرة ومتفرقة، مصعبًا على الآخرين التعرف إلى هذه الرؤية، والإحاطة بها بنحو منظم. وبعد الفحص والنظر يمكن الكشف عن هذه الرؤية متحددة ضبطًا في جانبين: الجانب الأول له طابع مدحي، والجانب الثاني له طابع نقدي.

الجانب المدحي أشار إليه فضل الرحمن بنوع من الحذر مرتين في كتابه: «الإسلام وضرورة التحديث»، مرة حين رأى أن ليس من قبيل الصدفة على حد قوله، ألا تعرف الحداثة الإسلامية أي طالب جاد للفلسفة في طول العالم الإسلامي وعرضه يمكن الافتخار به سوى محمد إقبال. ومرة حين رأى على منوال المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب (1895– 1971م)، أن محمد إقبال قام بالمحاولة المنهجية الوحيدة في العصور الحديثة في ميدان المعرفة الإسلامية الميتافيزيقية في كتابه: «تجديد التفكير الديني في الإسلام».

أما الجانب النقدي فيمكن ضبطه متحددًا في أربع نقاط هي:

أولًا– رأى فضل الرحمن أن هدف إقبال في محاولته الفكرية، لم يكن هدفًا دراسيًّا علميًّا، بل كان هدفه يقظة المسلمين كأمة وجماعة؛ لذا لم يقم بصياغة فلسفة تربوية، ولم يضع أي برنامج لتربية المسلمين، كما لم يقدم أي شيء من شأنه أن يمثل صياغة لسياسات تربوية إسلامية، ليس فقط في المجال التربوي، بل في غيره من حقول المسعى البشري، ولم يترك إقبال أي تراث وضعي أو إيجابي باستثناء رغبته التي أبداها في أن يكون لمسلمي الهند وطنهم الذي يمكنهم أن ينظموا ويوجهوا حياتهم تبعًا لما تحثهم عليه تعاليم الإسلام. وفي هذه النقطة تحديدًا يظهر الافتراق المنهجي بين فضل الرحمن وإقبال؛ فإقبال كانت تُحَرِّكُه نزعةُ الإحياءِ ونهضةُ المسلمين ويقظتهم، بينما فضل الرحمن كانت تحركه النزعة العلمية والأكاديمية، وبحكم هذه النزعة كان من السهل على فضل الرحمن أن يلتفت لمثل هذه النقطة، ويعيرها هذه الأهمية.

ثانيًا– قدر فضل الرحمن أن إقبالًا لم يأتِ بأي إضافة منهجية في مجال تعليم القرآن، وإنما اختار واستعار من بين آياته لكي يبرهن على أطروحات من المؤكد أن بعضها كان حقًّا من نتاج تمعنه العام في القرآن، لكنها تبدت له على أنها ملائمة بشكل جيد للاحتياجات الراهنة لمجتمع إسلامي جامد، وقد عبر عن تلك الأطروحات انطلاقًا من نظريات معاصرة مثل نظرية برجسون ووايتهد.

ولعل تفسير هذه النقطة يتصل بالنقطة السابقة، في أن هدف إقبال لم يكن هدفًا دراسيًّا، ومن ثم فإنه لم يكن بصدد بلورة نظرية منهجية في فهم القرآن، ولم يكن هذا قصده على الإطلاق، لكنه جعل من القرآن الكريم منبعًا لفلسفته ليكون مستقلًّا عن الفلسفة الأوربية، وعن الفلاسفة الأوربيين، وليقول لهؤلاء: إنه لا يأخذ فلسفته منهم وإن رجع إليهم، وإنما يأخذها من القرآن الكريم، وعلى ضوء هذا الكتاب يحاكم فلسفاتهم ومقولاتهم الفلسفية، ليكشف لهم عظمة القرآن، وكيف أنه يمثل منبعًا صافيًا وأصيلًا ومتجددًا في اكتشاف الأفكار الحية والمعاصرة وتوليدها واستنباطها.

ثالثًا– صور فضل الرحمن أن محاولة إقبال صارت اليوم قديمة جدًّا، طالما أنه كان يأخذ مأخذ الجدية معاصريه من العلماء الذين كانوا يحاولون أن يبرهنوا على إرادة الإنسان الدينامية الحرة بالاستناد إلى قاعدة المعطيات العلمية الجديدة. والنقاش الذي يوجه لهذا الكلام، هل هناك محاولة لا ينبغي لها أن تأخذ مأخذ الجد آراء المعاصرين من العلماء ومقولاتهم وأفكارهم! وإذا كانت محاولة إقبال أصبحت اليوم قديمة، فهي قديمة من ناحية زمنية، لا من ناحية معرفية، فهي لم تُقرأ بصورة معمقة إلى هذا اليوم، ولم تُتجاوَز هذه المحاولة معرفيًّا؛ لأنها محاولة لم تتمم من جهة، إلى جانب أن هناك انقطاعًا معرفيًّا عنها من جهة أخرى.

رابعًا– لاحظ فضل الرحمن في كتابه «الإسلام»، الصادر سنة 1965م، أن تعاليم إقبال بقدر ما كانت مؤثرة بصورة عميقة وبعيدة المدى، ومثلت القوة الرئيسة وراء نشأة باكستان، بقدر ما كانت ترمي بكامل ثقلها على الجانب الإحيائي بشكل تؤول على أنها تمثل الاتجاه المضاد للنزعة العقلانية.

هذه النقاط الأربع تكشف أن فضل الرحمن أراد أن يكون إقبال على صورته، متطابقًا مع مسلكه الأكاديمي، ومتناغمًا مع تصوراته التخصصية الباردة، وقوَّمه على هذا الأساس. ولو كان إقبال في عصره على هذه الصورة التي أرادها فضل الرحمن لوجدناه في منزلة أخرى لا تقارن بالمنزلة العالية التي وصل إليها إقبال، ولأصبح إقبال غير إقبال الذي نعرفه اليوم. وما نخلص إليه أنني ما زلت أرى أن محاولة إقبال، التي سبقت بنصف قرن محاولة فضل الرحمن، هي أكثر نضجًا منها، وأعمق مضمونًا، وأصلب اجتهادًا.

رؤيتان متصادمتان تجاه الغرب  بين طه حسين وجلال آل أحمد

رؤيتان متصادمتان تجاه الغرب بين طه حسين وجلال آل أحمد

حدثت في سيرة الأدبين المصري والإيراني المعاصرين ظاهرتان متشابهتان في الشكل، ومتغايرتان في المضمون، ومتصلتان في النطاق. ظهر التشابه بين هاتين الظاهرتين في ناحية جنس الكتابة متمثلًا في نمط التقرير، وظهر التغاير في ناحية الموقف متجسدًا تجاه الغرب والثقافة الغربية، أما الاتصال فظهر في ناحية نطاق التعليم في البلدين مصر وإيران. وتعلقت هاتان الظاهرتان في مناسبتين مختلفتين بأديبين شهيرين هما: طه حسين (1306-1393هـ/1889-1973م) في مصر، وجلال آل أحمد (1923-1969م) في إيران.

الظاهرة الأولى بدأت سيرتها حين انتدبت وزارة المعارف المصرية طه حسين لتمثيلها في مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري المنعقد في باريس صيف 1937م، وانتدبته أيضًا في المدة نفسها وفي المكان نفسه الجامعة المصرية لتمثيلها في مؤتمر التعليم العالي.

في هذه الرحلة قضى طه حسين في باريس شهرًا أو نحو شهر، شهد فيها مؤتمرات وأنشطة أخرى، واصفًا حاله في هذه المؤتمرات بالطالب الذي يختلف إلى الدروس والمحاضرات في مواظبة ونظام، سمع فيها آراء، وشهد فيها أشياء، أثارا في نفسه خواطر وأمالًا لم يَرَ بدًّا من تسجيلها.

بعد عودته إلى مصر كان على طه حسين أن يرفع تقريرين إلى الجهتين اللتين انتدبتاه: الوزارة والجامعة، يعرض فيهما ما رأى في المؤتمرين المذكورين، مستسهلًا هذه المهمة، لكنه لم يرفع شيئًا من هذا القبيل، معتبرًا أن ظروف الحياة السياسية في مصر آنذاك قد صرفت الوزارة والجامعة عن قراءة التقارير وحفظها، وصرفته هو كذلك عن تنميقها وتدبيجها، مقدرًا أن هناك شيئًا أكثر خيرًا من كتابة تقرير قد يقرأ ويؤخذ به أو لا يلتفت إليه، قاصدًا إنجاز ذلك الوعد الذي قدمه إلى الشباب الجامعيين ولم يظهرهم عليه، مصورًا أن إنجاز هذا الوعد سيكلفه من الوقت والجهد أكثر مما يكلفه كتابة تقرير أو تقريرين، لكنه سيكون أكثر فائدة وأعم نفعًا.

قد وفى طه حسين بوعده وأنجز بدل التقريرين كتابًا مستفيضًا ومثيرًا متشبهًا بهيئة التقرير، هو كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر)، الصادر سنة 1938م، مقدمًا عن هذا الكتاب صورتين متفارقتين محتملتين، لا يدري أيتهما الصورة الراجحة، فلعل كله أو بعضه يقع موقعًا حسنًا من بعض الذين إليهم أمور التعليم، ويأخذون بعض ما فيه من رأي. أو لعل كله أو بعضه يقع موقعًا سيئًا من بعض الناس، وينقدونه ويثيرون حوله جدلًا خصبًا يجلي وجه الحق في كثير من الأحيان.

في هذا الكتاب قدّم طه حسين تصورًا خطيرًا وصادمًا، رابطًا مستقبل الثقافة في مصر بالالتحاق بأوربا، راجعًا إلى التاريخ القديم مفككًا علاقة مصر بالشرق ومجسرًا علاقتها بالغرب، متسائلًا: أمصر من الشرق أم من الغرب؟ قاصدًا الشرق والغرب الثقافيين لا الجغرافيين، معتبرًا أن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءًا من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين، جازمًا بأن مصر كانت دائمًا جزءًا من أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها.

شركاء في الحضارة

حين اتجه بنظره إلى العصر الحديث، طالب طه حسين بأن تتصل مصر بأوربا اتصالًا يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى تصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى وحقيقة وشكلًا، داعيًا لاتباع سيرة الأوربيين وانتهاج طريقهم لنكون لهم –حسب قوله- شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، نافيًا أي خطر على الشخصية المصرية من الحضارة الحديثة، متخذًا من الشخصية اليابانية نموذج قياس على ذلك؛ إذ لم يحدث لها أي خطر من الحضارة الحديثة، معقبًا على هذه المقايسة قائلًا: ولست أدري لم تضيع شخصية المصريين إذا ساروا سيرة الأوربيين، ولا تضيع شخصية اليابانيين، مع أن لمصر من المجد والسابقة ما ليس لليابان مثله.

هذا عن الظاهرة الأولى وسيرتها، أما الظاهرة الثانية فقد بدأت سيرتها حين تقدم جلال آل أحمد في سنة 1961م بتقرير داخلي، قدمه لمجلس حكومي يعنى بشؤون التعليم في إيران، وقد تحفظ المجلس على هذا التقرير، وامتنع عن نشره؛ بسبب طابعه النقدي الصريح والصارم، فجرى تداوله على نطاق خاص بين زملاء الكاتب وأصدقائه، الذين أبدوا عليه بعض الملحوظات بقصد التهذيب والتنقيح، وبعد زيادة وحذف قام بها جلال آل أحمد، صدر هذا التقرير في كتاب مثير وخطير حمل عنوان: (غرب زدكي)، ويعني حسب ترجمته العربية (وباء التغرب) أو (الابتلاء بالتغرب)، إلى جانب ترجمات أخرى تنوعت في الكلمة الثانية من العنوان (زدكي)، واتفقت على الكلمة الأولى (غرب).

في هذا الكتاب قدم جلال آل أحمد خطابًا نقديًّا شديدًا تجاه ما سماه التغرب، واصفًا له بالوباء الخطير، محذرًا من انتشاره، ساعيًا لتفكيك خطابه وتشريح بنيته وتقويض أركانه، مطلقًا صيحة في وجهه هي الأقوى من نوعها في ساحة الأدباء والمثقفين الإيرانيين المعاصرين.

كما حاول آل أحمد تتبع هذا الوباء –حسب وصفه- على الأصعدة كافة ثقافيًّا وتعليميًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وغيرها، باذلًا جهدًا واضحًا في الكشف عنه وفضحه وتعريته، وتسليط الضوء عليه، ووضعه تحت عدسة المجهر لتكبير صورته وليظهر على حقيقته، ومن أجل إخراجه من حالة التخفي والمخادعة، إلى حالة الانكشاف والمعاينة، وكأنه أراد أن يدقّ إسفينًا منبهًا مجتمعه من خطر عظيم، يقصد به وباء التغرب.

سياسات التحديث السريع

كانت إيران آنذاك بعد تركيا تُعَدّ من أكثر أقطار العالم الإسلامي تبنيًا لبرامج وسياسات التحديث السريع على النمط الأوربي، لربط المجتمع الإيراني بالغرب والتحديث الغربي، الوضع الذي دفع آل أحمد لأن يدق ناقوس الخطر منبهًا المجتمع من هذا الوباء، معرفًا به قائلًا: هو مجموعة من الأعراض التي تطرأ على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، ومن دون أن يكون دخولها تدريجيًّا، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليكم، أو قل: إنها الممهدة للآلة.

ما يريد آل أحمد أن يقرره ويناقشه في كتابه، معبرًا عنه كنظرية له، يتحدد في قوله: إننا لم نستطع أن نحافظ على شخصيتنا الثقافية والتاريخية في مواجهة الآلة وهجومها الحتمي، ولم ندرك ماهية الحضارة الغربية وأساسها وفلسفتها، وأخذنا نقلد الغرب شكلًا، وفي الظاهر نستهلك آلاته، ولا نعرف أسرار هذه الحضارة ونظمها وبنيتها، وما دمنا لم نصنع الآلة فنحن متغربون.

ما يثير الانتباه في هذين الموقفين أنهما اتسما بأعلى درجات الاقتراب والابتعاد تجاه الغرب والثقافة الغربية، ومَثّلَا أشدّ صُور التباين والافتراق يمينًا مع طه حسين، ويسارًا مع جلال آل أحمد، وكَشَفَا لنا عن نهجين ومنظورين في التفكير والاستشراف كان لهما تمثلاتهما في الأدبين والثقافتين العربية والإسلامية، بقيا متنازعين ومتصادمين أدبيًّا واجتماعيًّا، فما دعا إليه بشدة طه حسين رفضه بشدة جلال آل أحمد، وما دعا إليه بشدة آل أحمد رفضه بشدة طه حسين.

أما السمة المشتركة لهذين الموقفين فقد تحددت في الإسراف مدحًا وذمًّا، اقترابًا وابتعادًا، قبولًا ورفضًا، فطه حسين أسرف في طريقة التعلق بأوربا، وفي الدعوة إلى اتباع سيرة الأوربيين، متأملًا أن تصبح مصر جزءًا من أوربا منقطعة عن الشرق ملتحقة بالغرب. وجلال آل أحمد أسرف من جهته كذلك في ذم الغرب وكل ما له علاقة به، مبالغًا في رفضه وقدحه، مغاليًا في تصويراته وتشبيهاته، ناظرًا له بوصفه تلوثًا وتسممًا ووباءً.

بذلك نكون أمام موقفين مغاليين غير متوازيين، فلا يمكن أن نقبل موقف طه حسين بهذه الطريقة من الاتباع إلى الغرب، كما لا يمكن أن نقبل موقف آل أحمد بهذه الطريقة من الرفض، وإنما علينا أن ننتخب طريقًا لا استلاب فيه من جهة، ولا جمود فيه من جهة أخرى، فمستقبلنا قطعًا ليس في اتباع الغرب، لكن الغرب ليس شرًّا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، والمطلوب أن نجتهد ونختار نموذجنا الحضاري المستقل!

فكرة الحوار ونظرية التواصل

فكرة الحوار ونظرية التواصل

يفتح الاقتران بين فكرة الحوار ونظرية التواصل أفقًا فكريًّا حيويًّا، يثري فكرة الحوار عمقًا، ويضيف لها وزنًا، ويضعها أمام خبرة معرفية ونقدية فعالة ومهمة، باتت تمثل في أزمنتنا الراهنة واحدة من الخبرات المعرفية الجادة والمؤثرة في المجال الفكري الأوربي المعاصر.

من وجه آخر، يتيح لنا هذا الاقتران إمكانية تطوير فكرة الحوار بنية وتكوينًا وأفقًا، بالمقايسة على نمط الطريقة التي طور فيها المفكر الألماني البارز يورغن هابرماس نظرية التواصل، أو النظرية التواصلية كما عرفت في الأدب الأوربي الحديث، وبفضل هابرماس اكتسبت هذه النظرية ثراء معرفيًّا، وتراكمًا نظريًّا،
وخبرة نقدية.

تطورت هذه النظرية وتجددت على أرضية الاتصال بحقول معرفية عدة، تنتمي إلى دائرة العلوم الإنسانية والاجتماعية، شملت الفلسفة والأخلاق والسياسة وعلم الاجتماع واللغة واللسانيات، وقد فتحت في المجال الغربي نقاشًا واسعًا ومعمقًا، بقي حاضرًا هناك ولم ينقطع أو يتوقف، وشهدنا له امتدادًا إلى بيئات أخرى خارج المجال الغربي.

منذ أن تعرف هابرماس إلى هذه النظرية لم يتوقف عن الاهتمام بها، وظل يطور فيها ويجدد، مستفيدًا من خبراته المعرفية والتطبيقية، حتى تبلورت في صورة نظرية عرفت في ساحة الفكر الأوربي المعاصر بنظرية «العقل التواصلي»، أو «العقلانية التواصلية»، جامعة في تركيب تبادلي بين العقل والتواصل، العقل بما يمثل من فاعلية على مستوى النظر، والتواصل بما يمثل من فاعلية على مستوى السلوك والعمل.

شيد هابرماس هذه النظرية وشرحها وأسس لها في عدد من مؤلفاته الفكرية والنقدية المهمة، يبرز منها ويتقدم ثلاثة أعمال هي بحسب تعاقبها الزمني: كتاب: «نظرية الفعل التواصلي» الصادر سنة 1981م، وكتاب: «الأخلاق والتواصل» الصادر سنة 1983م، وكتاب: «القول الفلسفي للحداثة» على ترجمة، أو «الخطاب الفلسفي للحداثة» على ترجمة أخرى لصادر سنة 1986م.

مثلت هذه التأليفات الثلاثة التي ترتد زمنًا إلى حقبة ثمانينيات القرن العشرين، الأساس المرجعي لنظرية التواصل أو النظرية التواصلية، جعلت منها نظرية متينة ومتماسكة، أخذت في الحسبان الأسس الفلسفية لتمتين علاقتها بالعقل والعقلانية، بقصد إعطاء التواصل صفة العقلانية، وقد عرفت بهذه الصفة متحددة بتسمية «العقل التواصلي»، أو «العقلانية التواصلية»، لتكون نظرية متعالية على الجانب الذوقي والعاطفي والوجداني من جهة، وبعيدة من الجانب الفوضوي المنفلت وغير المنضبط من جهة أخرى.

كما أخذت هذه النظرية كذلك في الحسبان الأسس الأخلاقية التي أبان عنها هابرماس مستفيضًا في كتابه: «الأخلاق والتواصل»، متقصدًا إعطاء النظرية صفة الأخلاقية، ليكون التواصل متعاليًا على الجانب الفردي والذاتي من جهة، وبعيدًا من مظهر القوة والإكراه من جهة أخرى، سعيًا لتمتين علاقة التواصل بالمجتمع، ولكي يظهر التواصل بفاعليته الاجتماعية، بوصفه مفهومًا اجتماعيًّا.

إلى جانب ذلك، أخذت أيضًا هذه النظرية الاعتبار بالأسس اللغوية لتمتين علاقة التواصل باللغة، لكون اللغة هي أداة التواصل، ويشتركان معًا في وظيفتهما الاجتماعية، وليكون التواصل من جهة متعاليًا على الاستغراق في فلسفة الوعي، وبعيدًا من جهة أخرى من جانب الغموض والإبهام، فلا تواصل من دون لغة قادرة على البيان والتفاهم، والمقصود باللغة هنا الخطاب وطريقة المخاطبة الصادقة والمفهومة.

أما فكرة الحوار فهي في الأساس فكرة تواصلية، تظهر فاعليتها في التواصل وعبر الفعل التواصلي حسب اصطلاح هابرماس، وهي تعني كما تعني فكرة التواصل محاولة العبور من فلسفة الذات إلى فلسفة الآخر، فلا بد من الوصول إلى الآخر حتى يتحقق الحوار، ولا فاعلية للحوار إلا بالتواصل.

بمعنى لا يكفى الدعوة إلى الحوار، ولا يتحقق الحوار بمجرد الإعلان عن هذه الدعوة الحسنة، وإنما لا بد من شرط الوصول إلى الآخر، ودفعه إلى التواصل، وليس من السهل تحقيق هذه الرغبة أو إنجاز هذه المهمة التواصلية، لكن ليس من الصعب كذلك النهوض بها، علمًا أن الحوار والحوار الفعال لا يتحقق بدونها.

لهذا فإن نظرية التواصل تقدم خبرة معرفية ونقدية مهمة لا غنى عنها لتطوير فكرة الحوار في أبعادها الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية واللغوية، وبهذه الطريقة المتجددة والفعالة يمكن أن نجنب فكرة الحوار من الإصابة بوضعية الرتابة أو الجمود أو حتى وضعية الانسداد، والانتقال بها من كونها فكرة وعظية لها جمالية المظهر إلى فكرة تواصلية فعالة لها جمالية المظهر وقوة المعنى.