ابن عربي ينتصر على ابن رشد بالضربة القاضية!

ابن عربي ينتصر على ابن رشد بالضربة القاضية!

بداية أطرح هذا السؤال: لماذا أقف في صف شخص متصوف كابن عربي لا في صف فيلسوف عقلاني كابن رشد؟ أليس ذلك مناقضًا لكل توجهاتي التنويرية السابقة؟ ألسنا بحاجة إلى المزيد من العقلانية العلمية لا إلى المزيد من العقليات الغيبية والشطحات الميتافيزيقية؟ ينبغي العلم بأني أحترم التصوف الإسلامي وأتغذى منه روحانيًّا ولكن الغرق فيه قد يؤدي إلى الانفصال عن هموم الحياة العربية وما أكثرَها هذه الأيام. وهي هموم مُلِحَّة تتطلب تحليلًا علميًّا عقلانيًّا لا صوفيًّا باطنيًّا استلابيًّا. ونحن بحاجة إلى المزيد من العقلانية العلمية والفلسفية، لا الإغراق في التصوف والغياب عن العالم. ولكن ابن عربي لم يكن متصوفًا كبيرًا فقط، وإنما كان أيضًا عالمًا وفيلسوفًا كبيرًا. وابن رشد لم يكن فيلسوفًا فقط وإنما كان فقيهًا متشددًا، بل قاضي القضاة في قرطبة. وهذا كثيرًا ما ينساه المثقفون العرب. وقد آن الأوان للتذكير به.

في الواقع، إن عقيدة ابن عربي تتألف من تيارات عدة: دينية، وفلسفية، وصوفية. ومن ثَمَّ يصعب تحديدها بشكل نهائي ودقيق؛ لأنها تعتمد على نظرية وَحْدة الوجود. وهي نظرية تقول بأن الكون كله يصدر عن الله كما تصدر الجزئيات عن الكليات. كان يقول حرفيًّا هذه العبارة المذهلة التي قد يحسده عليها سبينوزا: ما في الوجود إلا الله! وهي تكاد تكون ترجمة حرفية للآية الكريمة: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ (البقرة: 115). ومن ثَمَّ لا أعرف لماذا يكفرونه؟

ينبغي العلم بأن الذي أسس التسامح الحقيقي في الدين الإسلامي هو ابن عربي وليس ابن رشد على عكس ما نتوهم. قد يصدمنا هذا الكلام أو يصدم قناعاتنا الراسخة ولكن هذه هي الحقيقة. وذلك لأنه دعا إلى احترام جميع الأديان من دون استثناء، هذا في حين أن ابن رشد كان يكفر الأديان الأخرى ولم يكن يخطر على باله قط أن يضعها على قدم المساواة مع الإسلام. معاذ الله! أما ابن عربي فكان، في نظرة بانورامية واسعة، يطلّ عليها جميعًا من عل، ويراها على المستوى نفسه ويرى أنها كلها تدعو إلى قيم الفضيلة والتُّقى والورع: لا تكذب، لا تسرق، لا تقتل، إلى آخر تلك الوصايا العشر. فلماذا نكرهها إذن؟ لماذا نحتقر أتباعها؟ ثم بالأخص: لماذا نكفرهم؟ لماذا لا يتسع قلبنا لكل البشر الطيبين حتى لو اختلفوا عنا في الدين أو المذهب…؟ جوهر الدين واحد ألا وهو مكارم الأخلاق، ولكن الاختلاف يكمن فقط في الطقوس والشعائر والعقائد.

بناءً على هذا التصور الواسع جدًّا أسس ابن عربي الإيمان الجديد العميق. وهو إيمان واسع بلا حدود؛ لأنه يشمل كل مخلوقات الله وكل عباده الصالحين. وضمن هذا المنظور نفهم أبياته الشهيرة عن دين الحب التي سنختتم بها هذا الحديث. وهي أبيات كافية لوضع ابن عربي على قمة الفكر العربي، بل العالمي. إنه يستبق على الحداثة وما بعد الحداثة.. ومن هذه الناحية فإنه يتجاوز كليًّا ابن رشد. إنه يؤسس علم الأديان المقارنة (من دون أن يدري) تمامًا كما فعل سابقًا عبقري العباقرة أبو العلاء المعري. ولكن للأسف لم يفهمه الفقهاء على حقيقته، ولم يدركوا أبعاد هذا التفكير الكوني الواسع الذي دشنه. ولذلك انتقدوه بشدة، بل كفّروه. ولا يزالون يشتبهون به حتى الساعة بسبب هذه الأبيات بالذات. انظر إلى موقف السلفيين وعموم الإخوان المسلمين منه. وهنا تكمن مشكلة الفلاسفة والمفكرين الأحرار في الإسلام. فالعامة لا تستطيع فهمهم والفقهاء المتشددون يكرهونهم نظرًا لاتساع أفقهم العلمي والعقلي الذي يتجاوز مداركهم الضيقة. وبالتالي فإنهم يتعرضون للمحاربة العنيفة باستمرار. لقد هاجمه كبار الفقهاء من أمثال العز بن عبدالسلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، والإمام برهان الدين البقاعي الذي ألَّف كتابًا كاملًا بعنوان: «تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي». ووصل الأمر بالإمام ابن الجزري إلى حد القول: «هو أنجس من اليهود والنصارى»! هنا يتجلى لنا الفرق واضحًا جليًّا بين الإيمان القروسطي الظلامي التكفيري القديم، والإيمان المتنور الواسع الحديث. ابن عربي كان أكبر من أن يفهموه في عصره، بل حتى في عصرنا!

وهي المشكلة نفسها التي يعانيها المثقفون العرب حاليًّا. فهم أيضًا يتعرضون للتكفير من كبار الفقهاء. الفتوى اللاهوتية أو الدينية أقوى من الرصاصة! وعلى أي حال، فلولا هذه لما كانت تلك.

معجزة المعجزات: لقاء العباقرة!

لقد تحدث ابن عربي عن لقائه الوحيد بابن رشد الذي كان قد بلغ أوج مجده عندما حصل اللقاء (57 سنة)، هذا في حين أن ابن عربي كان لا يزال غرًّا في أول الشباب ومقتبل العمر (17 سنة). لنستمع إليه يروي القصة على النحو التالي: «لقد زرت أبا الوليد ابن رشد في بيته بقرطبة بناءً على رغبته في رؤيتي والاستماع إليّ. وكان قد سمع بالإلهام الذي حباني الله به في خلوتي الروحية. وقد أبدى دهشته مما سمعه عني. ولهذا السبب فإن والدي الذي كان صديقه الحميم أرسلني إليه يومًا ما في حاجة؛ لكي يراني ويعرف من أنا بالضبط.

وما إن دخلت البيت حتى نهض ابن رشد من مجلسه وأقبل عليّ بكل ترحاب وعززني وكرمني بل وعانقني. ثم أجلسني إلى جانبه لكي يتحدث معي ويرى ما أملكه من علم. ثم قال لي مستفسرًا: نعم؟ (أي نحن متفقان)، فقلت له: نعم… وعندئذ شعر بالارتياح وبدا الانشراح على وجهه، وتوهم أني من تلامذته وأتفق معه على كل شيء. ولذلك استدركت فورًا قائلًا: لا!.. فاغتمّ وبان الحزن على وجهه وتغير. وبدا وكأنه يشك في تفكيره والعقيدة الفلسفية التي توصل إليها. وعندئذ سألني: ما هو الحل الذي توصلت إليه من طريق الإشراق والإلهام الرباني؟ وهل هو متوافق مع ما نتوصل إليه نحن عن طريق الفلسفة أو الفكر البرهاني؟ فأجبته: نعم، ولا!.. وذلك لأنه بين «النعم، واللا» تنطلق الروح حرة خارج مشروطية المادة، وتنفصل الأعناق عن أجسادها!.. وعندئذ، اصفرّ وجه ابن رشد، ورأيته يرتجف وهو يتمتم قائلًا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والواقع أنه فهم مقصدي العميق وما أشير إليه، وعرف أنه يتجاوز فلسفته العقلانية الجافة، أو يفترق عنها بعد أن يهضمها ويستوعبها».

نص ولا أروع! وقد رويناه بتصرف كبير، أو قل ترجمناه إلى اللغة العربية الحديثة بغية الإيضاح. هكذا نلاحظ أن ابن عربي الذي يصغر ابن رشد بأربعين سنة كان أحد تلامذته الذين استفادوا منه في البداية، ثم خرجوا عليه في النهاية. لقد استفاد من شروحاته الفلسفية ولكنه تجاوزها بعدئذ إلى ما هو أبعد وأعمق وأوسع عندما توصل إلى الفكر الإشراقي المنفتح على المطلق، مطلق الله ولا نهائية المعنى.. ولهذا السبب قال له أولًا: نعم، ثم أردف قائلًا: لا! كان يقصد أنه متفق معه على أهمية العقل وضرورة استخدامه، وأما (بلا) فكان يقصد أن العقل وحده لا يكفي للوصول إلى الحقيقة الإلهية وإنما ينبغي أن نفتحه أيضًا على الإلهام والشطحات الصوفية العظيمة والخيال الخلاق. ينبغي أن نفتحه على التجربة الروحانية العميقة التي لا تقاس بالمسطرة الأرسطوطاليسية. بمعنى آخر فهناك «عقل عُلوي» يتجاوز العقل «السفلي» ويعلو عليه. وهذا ما لم يدركه ابن رشد لأنه لا يتفق مع توجهاته الدوغمائية الحرفية. ويرى ابن عربي أنه لا يمكن التوصل إلى العالم الآخر الذي يقبع خلف هذا العالم الظاهري المحسوس إلا عن طريق هذا العقل الفوقي الخارق للعادة. وهذا ما يقوله حاليًّا أحد أكبر علماء الفيزياء الذرية الكوانتية المعاصرة: برنار ديسبانيا!

عقلانية ابن رشد

ولكن المسألة العظيمة والحاسمة التي أريد لفت الانتباه إليها ليست هنا. وانما هي تخص التكفير. نعم التكفير! فعلى عكس ما نتوقع فإن ابن رشد هو الذي كان تكفيريًّا وليس ابن عربي. من يصدق ذلك؟ لا ينبغي أن تغشنا عقلانية ابن رشد وأرسطوطاليته؛ لماذا؟ لأنها كانت محصورة بنطاق معين لا تتعداه. بحياته كلها ما كان ابن رشد يتخيل أن «غير المسلم» يمكن أن يحظى بمرضاة الله أو يدخل الجنة. وذلك لأن الأساسي بالنسبة له ليس العقل ولا الفلسفة وإنما الشرع والدين. وهنا نقول ما يلي: لقد أخطأ المثقفون العرب المعاصرون -وأنا من بينهم- إذ اعتقدوا أن ابن رشد كان عقلانيًّا محضًا مثل أرسطو وديكارت وسبينوزا مثلًا أو حتى مثل الفارابي وابن سينا والمعري. لقد أخطؤوا إذ اعتقدوا أنه كان منفتحًا حقًّا على الآخرين ومتسامحًا معهم. هذا غير صحيح على الإطلاق. ابن رشد كان فقيهًا متدينًا صارمًا قبل كل شيء. وإذا ما اصطدم العقل بالدين فإنه كان يغلب الدين فورًا. فله الكلمة العليا. بل كان يقول بأن مبادئ الشرع أو الشريعة أو الدين لا يجوز أن تخضع للمناقشات العقلانية؛ لأنها تقف فوق العقل وتتجاوز إمكانياته. لنستمع إليه يقول حرفيًّا: «فالذي يجب أن يقال فيها هو أن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية. ثم يردف: ولذلك يجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشريعة، فإنَّ جَحْدها والمناظرةَ فيها مُبطِلٌ لوجود الإنسان، ولذلك وجب قتل الزنادقة».

أما ابن عربي فلا يكفر أحدًا من خلق الله، ولا يحرم أحدًا من رحمة الله، ناهيك عن الأمر بالقتل! الجميع ينبغي أن تُحتَرم كرامتهم الإنسانية بمن فيهم اليهودي والمسيحي، بل حتى الوثني! شيء مذهل، شيء لا يكاد يُصدَّق بالنسبة لذلك الزمان. هذا هو المنظور الواسع الذي دشَّنه ابن عربي في تاريخنا الفكري الذي يتفوق به على ابن رشد بما لا يقاس. لذلك أقول بأن فكره يصلح لعصر العولمة الكونية، عصر تلاقي الأقوام والشعوب، أكثر من فكر ابن رشد. لماذا؟ لأن منظوره هو ذات المنظور الذي تتبناه الفلسفة التنويرية الحديثة، فلسفة حقوق الإنسان والمواطن. ابن عربي لم يكن يدعو إلى قتل أي شخص بسبب دينه أو معتقده كما يفعل ابن رشد الذي ظل على الرغم من عبقريته وعظمته سجين الانغلاق اللاهوتي التكفيري القديم. لقد ظل أصوليًّا حقيقيًّا! وبالتالي فمنظور ابن عربي أوسع بكثير من منظور ابن رشد، ونزعته الإنسانية أكبر وأعظم. والدليل على ذلك هذه الأبيات الخالدة:

لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبي          إذا لم يكن ديني إلى دينه دان

وقد صار قلبي قابلًا كل صورة          ………………………….

أدين بدين الحب أنى توجهت          ركائبه فالحب ديني وإيماني

صداقة العصر.. ديدرو - جان جاك روسو من الانصهار الكامل إلى الطلاق الكامل

صداقة العصر..

ديدرو - جان جاك روسو من الانصهار الكامل إلى الطلاق الكامل

نروي باختصار شديد قصة إحدى الصداقات الكبرى في التاريخ. كان ذلك إبان عصر التنوير أواسط القرن الثامن عشر. وأعني بها قصة تلك الصداقة الرائعة التي جمعت بين اثنين من كبار الفلاسفة: ديدرو، وجان جاك روسو. فقد التقى الرجلان في باريس حوالي عام 1742م أي بعد وصول روسو إليها مباشرة تقريبًا. وكانا آنذاك في الثلاثين من عمريهما. كان روسو المولود عام 1712م يكبر ديدرو المولود عام 1713م بسنة واحدة فقط. وبالطبع كانا فقيرين بل شبه معدمين. كانا يبحثان عن الشغل لدى العائلات الأرستقراطية ويشحذان الترجمات وأعمال السكرتاريا من هنا أو هناك لكي يسدَّا الرمقَ ويدفعا أجرة الغرفة في نهاية الشهر. وبالطبع لم يكن أحد يتوقع آنذاك أنهما سيصبحان أكبر مثقفي العصر. صحيح أن شهرة روسو أصبحت أسطورية لاحقًا وتعادل شهرة البطريرك فولتير ذاته، ولكن شهرة ديدرو لم تنفجر فعلًا إلا بعد موته في القرن التاسع عشر. بالطبع كان معروفًا كأحد كبار المفكرين لأنه صاحب مشروع الإنسيكلوبيديا الشهير ومناطح الأصولية والإخوان المسيحيين. ولكن شهرته ظلت أقل بكثير من شهرة فولتير وروسو. على أي حال لنعد إلى البدايات.

طيلة أكثر من عشر سنوات كانا صديقين حميمين لا يكادان يفترقان. كانا «روحًا واحدة في لباسين أو جسدين» كما يقول ديدرو شخصيًّا. وكانا يلتقيان يوميًّا في مقاهي باريس أو عند أحدهما وينخرطان في مناقشات فكرية لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. وكانا يخططان لمصير فرنسا والعالم كله، إذا جاز التعبير. فعلى الرغم من فقرهما الشديد وأنهما نكرة من النكرات فإنهما كانا يعرفان أن نار العبقرية تتأجج في أعماق كل واحد منهما. كانا يعرفان أن لحظتهما آتية لا ريب فيها. وقد أتت بالفعل. العبقري يعرف أن هناك شيئًا ما يعتمل في داخله، شيئًا يغلي غليانًا ويتجاوزه دون أن يعرف كنهه أو سره. 

على أي حال فقد أصبح جان جاك روسو مشهورًا بين عشية وضحاها عندما أصدر خطابه الشهير الأول عام 1750م. أي وهو في الأربعين تقريبًا. وكان ذلك على إثر الإلهام الصاعق الذي نزل عليه فجأة وهو سائر على طريق غابة «فانسين» فطرحه أرضًا. وهي الغابة التي كنت أسكن مقابلها يومًا ما أو قل أراها من نافذة شقتي في الضواحي الباريسية. بدءًا من تلك اللحظة أصبح رجلًا آخر. وبدءًا من تلك اللحظة أصبح ذلك الشخص النكرة التعيس جان جاك روسو: أي نبي العصور الحديثة. هل غار ديدرو منه يا ترى بعد أن اشتعلت شهرته كالحريق في حين ظل هو مغمورًا؟ ربما. على أي حال فالصداقة لا يمكن أن تصمد إذا ما أصبح أحد الصديقين فجأة أكثر شهرة من الصديق الآخر بكثير. لا بد أن تتأثر من جراء ذلك. ثم حصلت أشياء وأشياء بينهما أدَّت إلى القطيعة المرة. وكانت آخر رسالة كتبها روسو إلى ديدرو في عام 1758م. 

ولكن بعد ذلك بسنوات طويلة وربما في أواخر حياتهما طلب ديدرو من صديق مشترك أن يتوسط له لدى روسو، لكي تعود الأمور إلى مجاريها ويستأنفا الصداقة القديمة. لقد حن فجأة إلى زمن مضى وانقضى. نقول ذلك وبخاصة أن روسو كان قد أصبح ملاحقًا في كل مكان ومحاطًا بالأعداء الأقوياء من كل جانب بل مهددًا بالقتل والاغتيال في أي لحظة. فكان جواب روسو بالنفي القاطع. قال لهذا الصديق المشترك: «أعرف كيف أحترم الصداقة حتى لو كانت منطفئة. ولكن لا أعيد إشعالها أبدًا. هذا هو المبدأ الأخلاقي الأعلى الذي ألتزم به». بمعنى آخر: لن نلتقي مرة أخرى يا ديدرو، يا صديق العمر. وداعًا يا صديق الشباب الأول وسنوات الحرمان ومحاولات الوصول. وداعًا لتلك الأيام القديمة. كل هذا أصبح في ذمة الماضي. لن نلتقي في هذا العالم يا صديقي وإنما في العالم الآخر. ولكن المشكلة هي أن ديدرو كان قد أصبح ماديًّا ملحدًا لا يعتقد بوجود عالم آخر ولا من يحزنون. وذلك على عكس روسو الذي ظل مؤمنًا بالله والعناية الإلهية. وهنا يكمن أيضًا أحد أسباب اختلافهما ونفور بعضهما من بعض. إضافة إلى الاختلاف الشخصي حول قضية معينة كان هناك خلاف فكري عميق بين الرجلين. 

ديدرو

ولكن لا ريب في أن صداقتهما كانت قد بلغت الذروة في لحظة من اللحظات. ولأنها كانت قوية جارفة فإن روسو لم يستطع المساومة على أنصاف الحلول فرفض إعادة العلاقة. ومعلوم أن جان جاك روسو كان حساسًا إلى أبعد الحدود، إلى درجة أنهم اتهموه بالهذيان والجنون. والحق أنه وصل إلى أعماق سيكولوجية وأنطولوجية وميتافيزيقية لم يصل إليها شخص آخر في ذلك العصر. حتى فولتير لم يصل إليها. فولتير على الرغم من أهميته يعدّ صحفيًّا عبقريًّا قياسًا إلى صاحب «إميل» و«العقد الاجتماعي». جان جاك روسو هو المفكر الأول والأعمق للعصر. ومن كثرة عمقه لم يستطع أحد مجاراته أو فهمه. 

وأخيرًا نضيف ما يلي: في الواقع كان هناك شخص حقير وخسيس ولكن ماكر جدًّا يدعى «غريم». وهو الذي أفسد الصداقة بين الرجلين. فقد ألَّب ديدرو على صديقه الحميم جان جاك روسو. واستطاع عن طريق النميمة والمناورات والمراوغات أن يفصل ديدرو عن روسو. وبالتالي فالواشي اللعين لا يخرب فقط علاقة الحب بين الحبيبين، وإنما أيضًا علاقة الصداقة بين الصديقين. كم ورد ذكره في الشعر العربي وبخاصة لدى الشعراء العذريين؟ تقريبًا لا توجد قصة حب واحدة في التاريخ إلا ويتصدى لها أحد الوشاة المفسدين. والمشكلة هي أنه ينجح في معظم الأحيان في تخريبها أو القضاء عليها! وبالتالي فلا ينبغي أن تستهينوا إطلاقًا بسموم هذا الجاسوس الخطير المدعو في آدابنا العربية: بالواشي أو النمام.

الصداقة في مرآة كبار الفلاسفة والأدباء

تُعزى للمعلم الأول أرسطو هذه العبارة أو الصرخة التي ندت عنه في لحظة ضيق: آه يا أصدقائي، لا يوجد أصدقاء! وبالفعل فالكثيرون يعتقدون أن الصداقة شيء نسبي جدًّا وعرضة للتقلبات والمتغيرات. ولكن لا ينبغي أن نكون متشائمين أكثر من اللزوم. فالصداقة شيء موجود وهي إحدى القيم الرفيعة إضافة إلى الإخلاص والصدق والاستقامة الأخلاقية… إلخ. والدليل على ذلك أن أرسطو نفسه يمجدها في مكان آخر حيث يقول: الهدف الرئيسي للسياسة هو خلق الصداقة والمودة بين أعضاء المجتمع. ثم يردف أرسطو قائلًا: عندما يكون الناس أصدقاء لا تعود هناك حاجة إلى العدالة إطلاقًا؛ لأنها تصبح تحصيل حاصل. ولكن حتى عندما يكونون عادلين ومنصفين فإنهم يظلون بحاجة إلى الصداقة والمودة. وهذا يعني أن الصداقة من أجمل نعم الحياة. وفي مكان آخر يقول أرسطو هذه العبارة: أن ترغب في أن تكون صديقًا فهذا شيء سهل. ولكن الصداقة ليست سهلة. إنها ثمرة إنضاج طويل وصعب.

جان جاك روسو

ولكن ليس هذا هو رأي الفيلسوف الفرنسي الشهير باسكال. ومعلوم أنه يختصر بعبارة واحدة المجلدات! ولكنه كان متشائمًا بالطبيعة البشرية. يقول هذه العبارة: لو كان الناس يعرفون ما يقوله بعضهم عن بعضهم الآخر لما تبقى على سطح الأرض أربعة أصدقاء! كيف نفهم ذلك؟ كيف نفسره باعتبار أن باسكال لا يلقي الكلام على عواهنه؟ أعتقد أنه يقصد ما يلي: النميمة تشكل جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية. والإنسان يجد متعة كبيرة في التحدث عن نواقص الآخرين بمن فيهم الأصدقاء. ونادرون هم الذين يستطيعون مقاومة هذا الإغراء.

ننتقل الآن إلى فيلسوف آخر لا يقل عبقريةً عن باسكال هو: فريدريك نيتشه. هو الآخر كان متشائمًا من الطبيعة البشرية والدليل على ذلك هذه العبارة الخبيثة جدًّا: لا يمكن للمرأة أن تصبح صديقة للرجل إلا إذا كانت بشعة. أما إذا كانت جميلة وجذابة فإنه سيقع في حبها حتمًا أو سوف يشتهيها. وفي كلتا الحالتين تنتفي الصداقة. والعكس صحيح أيضًا. ولكن هناك عبارة أخرى لنيتشه بليغة جدًّا، تقول: الحب أعمى، أما الصداقة فتغضُّ الطرف. بمعنى أنك عندما تقع في الحب تصبح مولعًا بها إلى درجة أنك لا ترى فيها عيبًا واحدًا. ولا تنكشف لك عيوبها إلا بعد أن ينتهي الحب. أما الصداقة فلا تبهرك ولا تعميك إلى مثل هذا الحد. إنك ترى عيوب الصديق ونواقصه منذ البداية ولكنك تغض الطرف عنها. هذه هي المسألة بكل بساطة.

أما القديس أوغسطين أحد آباء الكنيسة الكبار والجزائري الأصل فيقول هذه العبارة العميقة: لا يمكن أن تعرف حقيقة شخص ما إلا بعد مصادقته. وضمن هذا المعنى نفهم كلمة الروائي الفرنسي الشهير بلزاك: هناك ميزة واحدة للمصائب: هي أنها تكشف لنا عن هوية أصدقائنا الحقيقيين. ويشبه ذلك عبارة شيشرون: الأصدقاء الحقيقيون لا يُعرفون إلا وقت الشدائد. أما الزعيم الأميركي الشهير أبراهام لنكولن فيطرح هذا التساؤل الرائع: ألن أدمر أعدائي إذ أجعل منهم أصدقائي؟ ربما كان هذا التساؤل محصورًا برجال السياسة فقط. أما الحكيم الكبير بوذا فيقول لنا ما يلي: الصديق الشرير غير الصدوق ينبغي أن تخشاه أكثر من الحيوان المفترس. لماذا؟ لأن الوحش الضاري قد يجرحك جسديًّا، أما هو فيجرحك نفسيًّا وروحيًّا وفي أعماق أعماقك. 

توماس غينولي يسير عكس التيار ويفكك الإسلاموفوبيا

توماس غينولي يسير عكس التيار ويفكك الإسلاموفوبيا

هذا الكتاب «هلوسات مرضية تجاه الإسلام. لماذا تشيطن فرنسا المسلمين» لتوماس غينولي، الصادر حديثًا في الساحة الباريسية يستحق أن يقرأ لسببين أساسيين: أولهما أنه يسير عكس التيار الجارف في الغرب. وهو تيار معادٍ للإسلام ومتخوف منه جدًّا بعد التفجيرات الدموية التي فجعت فرنسا وألمانيا وبلدانًا أخرى. وثانيهما لأنه يضع النقاط على الحروف فيما يخص وضع الجالية العربية الإسلامية في فرنسا. إنه يكشف الحقائق الدامغة. وهذا شيء مدهش فعلًا ويستحق الإعجاب والتقدير. عنوان الكتاب في حد ذاته يعد استفزازًا كبيرًا لجماعات الإسلاموفوبيا. قد تتخيلون أن مؤلفه شخص عربي أو حتى باحث أصولي. أبدًا لا. إنه باحث فرنسي قح. وهذا يعني أن محبي الحقيقة موجودون في كل الأمم والشعوب. فمن توماس غينولي يا ترى؟ قبل أن ندخل في صلب الكتاب ينبغي لنا أن نعرف شيئًا ما عن هذا الباحث الجديد الصاعد حاليًّا في الساحة الفرنسية وغير المعروف عربيًّا.

أولًا- إنه باحث شاب جدًّا من مواليد 1982م أي لا يتجاوز الخامسة والثلاثين عامًا. وهذا يعني أنه نبغ علميًّا وتوصل إلى أعلى الشهادات في وقت قصير. فهو حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية. وقد عين أستاذًا في جامعة كريتيه شرق باريس حيث كنت أسكن منذ زمان لسنوات طويلة. وهو الآن أستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس. كما أنه مستشار لكثير من وسائل الإعلام الفرنسية كالفيغارو واللوموند وراديو فرنسا الثقافية والنوفيل أوبسرفاتور… إلخ. وقبل هذا الكتاب الجديد كان توماس غينولي قد نشر كتابًا مهمًّا عام 2014م بعنوان استفزازي مثير جدًّا: هل يأكل شباب الضواحي الإسلامية الأطفال الفرنسيين؟ وكشف فيه أن الصورة الشائعة عن شباب جاليتنا العربية الإسلامية خاطئة كليًّا. لا ريب في أنه توجد لديهم شريحة منحرفة وعدوانية بل مجرمة، لكنها لا تتجاوز نسبة 2%. هذا في حين أن المجتمع الفرنسي يعتقد أنهم يمثلون الأغلبية الساحقة. ويتساءل الباحث: ماذا نفعل بالـ 98% المتبقين من المسلمين؟ هل نعدهم غير موجودين؟ إنهم فقراء في أغلبيتهم ويعيشون بصعوبة ويكدحون طيلة النهار. ولكن على الرغم من فقر أغلبيتهم ومعاناتهم فإنهم أشخاص مسالمون طيبون لا يؤذون أحدًا. وكل ما يطلبونه هو أن يعترف بهم المجتمع الفرنسي بصفتهم مواطنين مثل غيرهم؛ لأنهم يحملون الجنسية الفرنسية في معظمهم. وقد ولدوا في هذا البلد ولم يعرفوا سواه. بل يثبت الباحث على أن شبيبة الجالية قطعت مع التدين الأصولي المتزمت مثلما فعلت الشبيبة الفرنسية المسيحية قبل جيل أو جيلين. والأخطر من ذلك هو أن المؤلف يتّهم المجتمع الفرنسي بأنه يسجن شباب المهاجرين داخل صورة سلبية جدًّا على الرغم من أنهم في أغلبيتهم حائزون الجنسية الفرنسية. ولكنه لا يعاملهم بصفتهم فرنسيين على الرغم من ذلك.

والحق أن مانويل فالس رئيس الوزراء السابق اعترف بوجود نظام الأبارتايد الذي يصيب جالياتنا العربية المسلمة ويهمشها. هذا وقد قدم المفكر المعروف إيمانويل تود للكتاب واصفًا اياه بأنه «كتاب نضالي من أجل قضية شريفة. ثم قال: لقد أصاب كتاب توماس غينولي الهدف بسرعة وعدالة وقوة». وميزة الكتاب هي أنه يكشف عن البؤس الاجتماعي أو الفقر المدقع الذي تعيشه جالياتنا في الضواحي المحيطة بالمدن الفرنسية كالزنار. ولكن يبدو أن أطروحته عن انحسار الأصولية في الضواحي متسرعة. فالأبحاث الميدانية لجيل كيبل ومروان محمد وهوغ لاغرانج تنفي ذلك وتبين أن التيارات الإخوانية والسلفية منتعشة الآن في بعض أوساط الجالية الكريمة. أيًّا كان من أمر فإن الصحافي الكندي جان فيليب سيبرياني أثنى على الكتاب قائلًا: إنه يدحض ويفكك أطروحات إريك زمور وآلان فنكيلكروت وعموم اليمين المتطرف عن الإسلام والمسلمين الفرنسيين.

التعصب الديني محصور في أقلية

توماس غينولي

ننتقل الآن إلى الكتاب الجديد الذي ابتدأنا به هذا الحديث وصدر قبل شهرين فقط في العاصمة الفرنسية. فما أطروحاته يا ترى؟ ما الإضاءات الجديدة التي قدمها عن الإسلام الفرنسي والجاليات العربية الإسلامية الضخمة التي تتجاوز خمسة ملايين شخص في بلاد موليير وفولتير؟ أولا نلاحظ أنه تكملة للكتاب السابق مع إضافات جديدة ومهمة بطبيعة الحال. فعندما أصدر كتابه السابق قبل عامين لم تكن التفجيرات الإرهابية قد أصابت باريس ونيس وسواهما من المدن الفرنسية. ولكن على الرغم من ذلك فإن الباحث الشاب مصرّ على القول بأن التعصب الديني محصور بأقلية قليلة من المسلمين داخل المجتمع الفرنسي. ومع ذلك فإن هذا المجتمع يشكل عن الجالية الكريمة صورة جماعية شبه جنونية أو هذيانية. لقد تحول الإسلام إلى فزاعة للفرنسيين والألمان على الرغم من أنه دين الرحمة والمغفرة. في كل الأحوال فإن المجتمعات الأوربية تشكل عن الإسلام صورة خيالية مخالفة للواقع. وهذا ما يريد أن يكشفه الباحث ويبرهن عليه. وهذا ما يدعوه بمصطلح قوي من الناحية السيكولوجية: الهوس المرضي بالإسلام، أو الخوف الهذياني من الإسلام. ويرى الباحث أن الكليشيهات الشائعة عن دين الله هي مجرد أحكام مسبقة لا تصمد أمام الامتحان.

ونلحظ أنه يركز هجومه على جيل كيبل على الرغم من أنه ينتمي إلى جيل أساتذته. من بين الكليشيهات التي يفككها الباحث أو يفندها ما يأتي: أولًا- جيل كيبل يقول بأن النزعة الطائفية الدينية أصبحت غالبة على مسلمي فرنسا. ولكن التحريات الميدانية أثبتت أن عدد المسلمين المنتسبين إلى جمعيات دينية إخوانية أو سلفية متشددة لا يتجاوز نسبة الـ 6%. فأين ذهب الـ 96% الباقون؟ هل نعمّم الستة بالمئة على أكثر من تسعين بالمئة؟ هل نأخذ الصالح بجريرة الطالح. هنا يكمن الخلل في أطروحة جيل كيبل. إنها صحيحة لكنها لا تنطبق إلا على نسبة قليلة من المسلمين. نقول ذلك وبخاصة أن المسلمين يعيشون في مجتمع حداثي علماني ليبرالي ولا بد أن يتأثروا به بشكل أو بآخر. فبعد العيشة الطويلة في مجتمع ما لا بد أن تتطبع به بشكل ما. والمثل العربي يقول: من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم. فما بالك بالشهور الطويلة والسنوات الكثيرة والإقامة الدائمة لجالياتنا في الغرب. هذا لا يعني أن المسلمين تخلوا عن عروبتهم أو إسلامهم لكن ما عادوا يفهمون الهوية بشكل ضيق متزمت كما يحصل في بعض البلدان المحافظة جدًّا. إنهم يفهمون دينهم بطريقة متسامحة ومنفتحة على الآخر ومحترمة له ولخصوصيته.

تحليل جيل كيبل خاطئ

ثانيًا- يقول جيل كيبل بأن هناك لوبي إسلاميًّا في طور الانبثاق والتشكل في فرنسا. وهدفه الضغط على الانتخابات الفرنسية من نيابية ورئاسية بل محلية. ولكن هذا كلام فارغ في رأي الباحث توماس غينولي. فالحزب الإسلامي الذي تشكل مؤخرًا لم يحصل في الانتخابات إلا على نسبة 4، 0 بالمئة. فلو كان هناك لوبي حقًّا لحصل على نسبة ضخمة تتناسب مع ضخامة الجالية التي تتجاوز خمسة ملايين وبعض يقول: ستة ملايين.

ثالثًا- يرى جيل كيبل أن مصطلح الإسلاموفوبيا، أي معاداة الإسلام وكرهه في فرنسا، هو من اختراع الأصوليين الإسلامويين. ينتج عن ذلك أن كل باحث يعترف بوجود ظاهرة الإسلاموفوبيا في فرنسا هو بالضرورة «أبله مفيد» للأصوليين. ومصطلح «الأبله المفيد» يطلق عادة على المثقفين الحداثيين الذين يركبون الموجة الأصولية أو ينبهرون بها لسبب أو لآخر. ثم يخدمونها عن طيب خاطر وبكل سذاجة. إنهم مثقفون مغفلون ليس إلا. ولكن تحليل جيل كيبل خاطئ في رأي توماس غينولي. لماذا؟ لأن علماء الاجتماع الفرنسيين في بداية القرن العشرين هم الذين اخترعوا مصطلح الإسلاموفوبيا وليس المسلمون أنفسهم. يضاف إلى ذلك أن هذا المصطلح الشهير مستخدم من جانب عشرات الباحثين العلميين في مختلف الدول الأوربية.

رابعًا- يقول الروائي الشهير ميشيل ويلبيك: إنه اعتمد على أبحاث جيل كيبل في كتابة روايته «خضوع» الصادرة عام 2015م. وفيها يقول الكاتب: إن فرنسا سوف تنتخب عام 2022م رئيسًا مسلمًا يدعى محمد بن عباس! وسوف تنتهي الحضارة الفرنسية العلمانية الحداثية عندئذ. لماذا؟ لأن هذا الرئيس الجديد سوف يؤسلم فرنسا كليًّا. وسوف يحلّ الشريعة والقوانين الدينية محلّ القوانين المدنية. وعلى هذا النحو سوف يفرض قانون تعدد الزوجات مثلما في البلدان الإسلامية المحافظة. وسوف يمنع الاختلاط بين النساء والرجال. وسوف يحبس المرأة في البيت ويمنعها الخروج إلى العمل. وسوف يجبر الفرنسيات على لبس الحجاب، بل حتى النقاب بدلًا من التنورات القصيرة الشائنة. ويصل ويلبيك في هذياناته البارانوية إلى حد القول بأن السوربون سوف تتحول إلى كلية شريعة إسلامية! يضاف إلى ذلك أن الوظائف العليا الحساسة في الدولة سوف تصبح حكرًا على المسلمين فقط.

يقول الباحث توماس غينولي معلقًا: هذا السيناريو هذياني وجنوني بالخالص. لا ريب في أن الكاتب توصل إلى رواية خيالية من أعلى طراز فنيًّا…؟ المهم في الأمر هو أن توماس غينولي يقول بالحرف الواحد: إن ميشيل ويلبيك مخطئ تمامًا في تصوراته الهذيانية. فالجالية الإسلامية الفرنسية في أغلبيتها الساحقة مضادة للتعصب والظلامية الدينية.

أسباب متداخلة لظاهرة الإسلاموفوبيا

أخيرًا، ماذا يمكن أن نقول عن هذا الكتاب؟ ماذا يمكن أن نستخلص منه؟ أولًا ينبغي الاعتراف بأن فرنسا بلد حضاري وديمقراطي ولولا ذلك لما سمحت للمؤلف بأن يعبر عن آرائه بكل حرية. وهي مخالفة لآراء جيل كيبل المسيطر على الساحة والمُتبنى من جانب المراجع العليا. ولكن ينبغي الاعتراف بأن أبحاث جيل كيبل عن الحركات الأصولية قد أصبحت مراجع عالمية. قد لا تنطبق على الجالية الإسلامية في فرنسا إلا بشكل جزئي ضيق كما بين توماس غينولي. لكنها تنطبق حتمًا على حركات التطرف التي ظهرت في العالم العربي طيلة نصف القرن المنصرم… وعلى أي حال فهناك أسباب متداخلة ومتشابكة لظاهرة الإسلاموفوبيا. أولها التفجيرات الإجرامية بطبيعة الحال. فقد هزّت فرنسا وأوجعتها وأقلقتها. وثانيًا خوف فرنسا من الأفول والانحطاط الديمغرافي. وثالثها إرث القرون الوسطى المعادي للإسلام والمتجذر في الذاكرة الجماعية. ورابعها حرب الجزائر التي لم تُنسَ حتى الآن. وخامسها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. كل هذه العوامل المتضافرة أدت إلى انتشار الإسلاموفوبيا. لكن على الرغم من كل ذلك فقد أثبت الشعب الفرنسي أنه شعب ناضج حضاريًّا ولم يستسلم للغضب العارم وردود الأفعال بعد التفجيرات الأخيرة. ولولا ذلك لهاجت هائجته على العرب والمسلمين، ولجرت الدماء أنهارًا في شوارع باريس ونيس ومارسيليا وسواها…

الظاهرة الداعشية ما بين الإسلام والمسيحية (هاشم صالح)

الظاهرة الداعشية ما بين الإسلام والمسيحية (هاشم صالح)

هاشم صالح

هاشم صالح

يعيب المثقفون الغربيون على تيار الإسلام السياسي المتطرف أنه يحجر على العقول، ويقيد حرية التعبير، ويلاحق المثقفين والفنانين، ويهددهم أحيانًا. بل قد يعتدي عليهم جسديًّا كما حصل لفرج فودة ونجيب محفوظ وآخرين عديدين… ويعيبون على الإخوان المسلمين تلك النزعة التوتاليتارية في تفسيرهم الانغلاقي المتزمت للإسلام الحنيف متجاهلين سماحته ورحمته وشفقته على كل مخلوقات الله. وهذا صحيح. ولكنهم ينسون أو يتناسون أحيانًا ما فعله الإخوان المسيحيون مع كبار علمائهم وفلاسفتهم إبان محاكم التفتيش السيئة الذكر. وبالتالي فليكفوا عن مهاجمة الإسلام بمناسبة ودون مناسبة، وليكنسوا أمام بيتهم أولًا. ليتذكروا محاكم التفتيش الرهيبة التي طالما قمعت العلماء والمفكرين من كوبرنيكوس، إلى جيوردانو برونو، وغاليليو، وديكارت، ومعظم فلاسفة التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بل حتى التاسع عشر ومنتصف العشرين فيما يخص إسبانيا والبرتغال. للحق والإنصاف فإن معظم مثقفي أوربا يعترفون بذلك ما عدا تيار اليمين المتطرف أو التيار الأصولي الكاثوليكي. وهما متداخلان ومتمايزان في الوقت ذاته.

يجب العلم بأن محاكم التفتيش التي ماتت الآن في أوربا بفضل استنارة العقول تحولت إلى شيء آخر أو مؤسسة أخرى. وهي الآن موجودة في الفاتيكان وتدعى باسم: «المجمع المقدس للحفاظ على صحة العقيدة والإيمان المسيحي». صحيح أنها لم تعد تحرق المفكرين وكتبهم كما كانت تفعل سابقًا. ولكنها تراقب أي خروج على العقيدة أو أي انتهاك لها وتعاقبه عن طريق فصل الأستاذ من عمله أو منعه عن تدريس مادة اللاهوت المسيحي كما فعلت مع عالم اللاهوت الشهير هانز كونغ مثلا.

لكن لنعد إلى الوراء قليلًا أو كثيرًا. يجب العلم بأن محاربة الزندقة كانت سارية المفعول حتى قبل ظهور محاكم التفتيش كمؤسسة رسمية في بدايات القرن الثالث عشر. فقد كان هناك دائمًا أناس يخرجون على هذا المبدأ أو ذاك من العقيدة المسيحية. وكانت الكنيسة تعاقبهم بشكل أو بآخر. ويمكن القول بأن المجمع الكنسي الذي اجتمع في مدينة لاتران عام (1139م) كان أول من بلور التشريعات البابوية ضد الزندقة والزنادقة.

داعش

الخروج على الإجماع المسيحي

وقد طبقت هذه التشريعات على إحدى الفئات المسيحية أثناء الحروب الصليبية لأول مرة وهي فئة «الألبيجيين» التي اعتبرت بمنزلة الخارجة على الإجماع المسيحي، وبالتالي فقد اعتبرت مهرطقة أو زنديقة. وكان الإمبراطور المسيحي هو أول من فكر بالحرق كعقاب للزنادقة عام 1224م. وهي عقوبة فظيعة ومرعبة لأنهم كانوا يشعلون النار في الحطب، ثم يلقون بالإنسان الزنديق فيها وهو يزعق ويصيح مذعورًا. ولكم أن تتخيلوا المشهد إذا كنتم تستطيعون! ثم صدق البابا غريغوار التاسع على هذا القرار الخاص بالمعاقبة على الزندقة عام 1231م. وأصبح حرق الزنادقة أمرًا شرعيًّا معترفًا به، بل خلعت عليه القداسة الإلهية؛ لأن البابا كان يتمتع بمكانة المعصومية المطلقة في نظر جمهور المسيحيين آنذاك. كان يمثل ظل الله على الأرض. وبالتالي فكل ما يأمر به أو يفعله مقدس ولا رادّ له. وقد كان الهدف من إقامة محاكم التفتيش هو الدفاع عن الإيمان المسيحي في مذهبه الكاثوليكي البابوي الروماني. وقد أسسوها في البداية لمحاربة بعض الفئات المسيحية «المارقة» في فرنسا. ثم وسعوها لكي تشمل طوائف أخرى عديدة لا تلتزم كليًّا أو حرفيًّا بالشعائر المسيحية الكاثوليكية. وأخيرًا وسعوها لكي تشمل بقايا الوثنية التي لم تمت بعد في أوربا، وكذلك لكي تشمل كل أعمال «الكفر» أو التجديف: أي ازدراء المقدسات المسيحية أو النيل منها أو الاستهزاء بها. وبالتالي فالمسيحيون كانوا تكفيريين أيضًا قبل أن تتقدم أوربا وتستنير وتتحضر.

هكذا كان هدف محاكم التفتيش في البداية. ولكن كيف كانت تشتغل هذه المحاكم يا ترى؟ كيف كانت تمارس عملها؟ وما هي منهجيتها في المحاكمة؟ عن هذا السؤال يمكن أن نجيب بما يلي: بمجرد أن يشتبهوا في شخص ما أي في إيمانه وعقيدته، كانوا يقبضون عليه ويخضعونه للتحقيق فإذا اعترف بذنبه تركوه، وإذا لم يعترف عذبوه حتى يعترف. وإذا أصرّ على موقفه ألقوه طعمة للنيران. وأحيانًا كانوا يصدقونه ويعدونه بريئًا من التهمة الموجهة إليه فيخلون سبيله. وكانت محاكم التفتيش مشكَّلة عادة من رجلي دين أو راهبين اثنين ولكن كان يساعدهما أو يحيط بهما أشخاص عديدون لا ينتمون إلى سلك الكهنوت ككاتب العدل أو كاتب المحكمة، وكالسجان أو حارس السجن. والشخص الذي كان يرفض المثول أمام المحكمة كانوا يكفرونه فورًا ويخرجونه من الأمة المسيحية. وبالتالي يباح دمه عندئذ ويصبح قتله أمرًا مشروعًا ومن يقتله لا يعاقبه أحد ولا يسائله أصلًا. وكانوا يطلبون من المشتبه فيهم أن يكشفوا للمحكمة عن كل ما يعرفونه عن أسرار الزندقة والزنادقة. وكان كاتب العدل يسجل ما يقولونه كمحضر رسمي. وكان القضاة يلجؤون أحيانًا إلى الوشاة أو الجيران أو حتى شهود الزور؛ لكي يحصلوا على معلومات تدين الشخص المشتبه فيه الذي يريدون معاقبته بأي شكل لأنه لا يؤدي الشعائر الدينية كما ينبغي، أو لأنه لا يؤمن بالعقائد المسيحية كلها بشكل مطلق ودون أي تساؤل. وكان يصل الأمر بهم إلى حد محاكمة الشخص حتى بعد موته! فإذا ما ثبت لهم أنه مذنب أو خارج على العقيدة المسيحية فإنهم كانوا ينبشونه من قبره، ويستخرجون جثته، ويحرقونها معاقبة له!

وكانت العقوبة من نوعين: خفيفة وثقيلة. فإذا كان الذنب خفيفًا اكتفوا بتقريع المذنب في الكنيسة والتشهير به على رؤوس الأشهاد. وأحيانًا كانوا يطالبونه بدفع مبلغ من المال للفقراء بغية التكفير عن ذنبه. أما إذا كان الشخص الملاحق «زنديقًا حقيقيًّا» فإنهم كانوا يسجنونه مدى الحياة، وفي الحالات القصوى كانوا يلقونه في المحرقة طعمة للنيران. وقد بلغ التعذيب ذروته في القرن الثالث عشر. ففي ذلك الوقت ازدهرت محاكم التفتيش وانتشرت في شتى أنحاء المسيحية الأوربية من إيطاليا، إلى فرنسا، وألمانيا، وإسبانيا والبرتغال،… إلخ. ففي فرنسا أدت هذه المحاكم اللاهوتية إلى حرق مناطق بأكملها جنوب البلاد، بالقرب من مدينة تولوز. وهي مناطق كانت مسكونة من قبل طائفة مسيحية خارجة على القانون وتدعى: طائفة الكاتاريين. وكان أتباعها يخلطون العقائد المسيحية بعقائد أخرى لا علاقة لها بالمسيحية. ولهذا السبب كفّروهم، وأعلنوا عليهم حربًا صليبية لاستئصالهم في الوقت نفسه الذي وجهوا الحملات الصليبية نحو الشرق الإسلامي.

استهداف العدو الأقرب قبل الأبعد

فرج فودة

فرج فودة

وبالتالي فالحروب الصليبية ابتدأت أولًا في الداخل قبل أن تنتقل إلى الخارج. لقد استهدفت العدو الأقرب قبل أن تستهدف الأبعد. وهذا شيء يجهله كثيرون. فقد كانت الكنيسة الرسمية تعدّ زنادقة الداخل بمنزلة طابور خامس يشكل خطرًا على المسيحية أكثر من الإسلام، ولذلك حصلت مجازر كثيرة في تلك المنطقة الفرنسية. ولم يستطيعوا التغلب على «الزنادقة» إلا بعد مقاومة عنيفة وجهد جهيد. ولا تزال آثار هذه المجازر حاضرة في الذاكرة الفرنسية الجماعية حتى الآن. نضيف إليها بالطبع الحروب المذهبية الكاثوليكية – البروتستانتية التي اجتاحت آنذاك أوربا كلها وليس فرنسا فقط. وهي تذكرنا بالصراعات المذهبية المندلعة حاليًّا في العالم الإسلامي للأسف الشديد. وقد ذهب ضحيتها عشرات الملايين في فرنسا وألمانيا وإنجلترا،… إلخ، وهي تشكل صفحة سوداء في تاريخ فرنسا. ولذلك فإن الساسة الفرنسيين يقولون لك عندما تنشب مشكلة داخلية عويصة: لا نريد تحويلها إلى حروب دينية! والمقصود بذلك أنهم لا يريدون العودة إلى الانقسامات الطائفية والحروب الأهلية التي مزقتهم طويلًا في الماضي. وبالتالي فأكثر شيء يرعبهم هو شبح تلك الحروب المذهبية التي جرت في القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر حتى السابع عشر. بل لم تنتهِ كليًّا إلا بعد الثورة الفرنسية. إنهم يريدون أن ينسوا تلك الذكرى الأليمة لمحاكم التفتيش والحروب المذهبية التي تشكل صفحة أليمة في تاريخهم. وبالتالي فمحاكم التفتيش والحروب المذهبية لم تنتهِ من الذاكرة الجماعية، إنما لا تزال آثارها عالقة في النفوس حتى الآن. وإن كانوا قد تجاوزوها عمليًّا بالطبع.

وبين عامي 1250 – 1257م، أي طيلة سبع سنوات، قاد محاكم التفتيش في جنوب فرنسا زعيم كاثوليكي أصولي متعصّب جدًّا يدعى «روبير لوبوغر». وقد فتّش كل المدن والأرياف هناك بحثًا عن الزنادقة أو المزعومين كذلك. وحرق بالنار واحدًا وعشرين شخصًا، وسجن مدى الحياة (239)، ورمى في النار الكاهن «الزنديق» زعيم طائفة «الكاتاريين» المارقة، وحكم على قرية بأكملها بالمحرقة؛ لأنه اتهمها بإخفاء أحد الزنادقة الكبار من رجال الدين الكاتاريين. ما الفرق بينه وبين الدواعش حاليًّا؟ ألا يمكن عدّه داعشيًّا قبل الأوان؟ هكذا نلاحظ أن كل الأديان يمكن أن تفرز ظاهرة التعصب لا دين واحد على عكس ما يزعم كثيرون في الغرب.

دفاع عن المسلمين في فرنسا

توماس-توركمادا

توماس توركمادا

آلان جوبيه

آلان جوبيه

أتوقف هنا لحظة لكي أشيد بموقف آلان جوبيه رئيس وزراء فرنسا سابقًا. فقد اعترف مؤخرًا بأن المذهب المسيحي الكاثوليكي كان متعصبًا جدًّا في الماضي، وأن التعصب ليس حكرًا على دين دون آخر. وكان بذلك يدافع عن الإسلام والمسلمين في فرنسا. وتتخذ شهادته كل أهميتها إذا ما عرفنا أنه هو من أصل كاثوليكي ويعتز بديانته ومذهبه.. أما أبشع محاكم التفتيش في العالم فقد وجدت في إسبانيا التي كانت مشهورة بتعصبها الديني الكاثوليكي. وقد ابتدأت هناك عام 1480م قبيل انتهاء الحروب التي أدت إلى طرد العرب والمسلمين من إسبانيا. وكان على رأسها الملكة إيزابيل الكاثوليكية جدًّا، وكذلك زوجها فيردنان. وقد استهدفت محاكم التفتيش أولًا «المسيحيين الجدد» لمعرفة فيما إذا كانوا قد اعتنقوا المسيحية عن جَدّ أم لا. وهؤلاء الناس كانوا سابقًا إما مسلمين وإما يهودًا اعتنقوا مذهب الأغلبية خوفًا من الاضطهاد والملاحقات. وكان ذلك بعد أن انتصرت الجيوش المسيحية على العرب وإنهاء حكم ملوك الطوائف في الأندلس. وليس من قبيل الصدفة أن يكون مركز محاكم التفتيش في إشبيلية، إحدى عواصم التنوير الأندلسي في سالف الأزمان.. ومن أشهر قادة محاكم التفتيش ليس فقط في إسبانيا إنما في العالم كله شخص يدعى: توماس توركمادا (1420- 1498م). ومجرد ذكر اسمه لا يزال يثير القشعريرة في النفوس حتى هذه اللحظة. فقد كان أشهر أصولي متزمت في الغرب المسيحي كله. وكانت جرأته على القتل والذبح تفوق الوصف. إنه أكبر داعشي في العصور القديمة. وكان مقربًا جدًّا من الملكة إيزابيل التي لا تقلّ تعصبًا عنه.

ولذلك عيَّنوه رئيسًا لمحاكم التفتيش الإسبانية بين عامي 1481 – 1498م: أي طيلة سبعة عشر عامًا! وفي ظل عهده «الميمون»، أطلقت محكمة التفتيش في طليطلة الأحكام التالية: حرق عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصًا بالنار، ذبح ستة آلاف وثمانية وأربعين زنديقًا آخر، تعذيب خمسة وستين ألفًا ومئتين وواحد وسبعين شخصًا حتى الموت في السجون، شنق اثني عشر ألفًا وثلاث مئة وأربعين شخصًا متهمًا بالزندقة أو بالخروج عن الخط المستقيم للدين المسيحي (أي المذهب الكاثوليكي البابوي)، الحكم على تسعة عشر ألفًا وسبع مئة وستين شخصًا بالأشغال الشاقة والسجن المؤبد. باختصار فإن هذه الأحكام المرعبة شملت ما لا يقلّ عن 114 ألف شخص، ويزيد. وكل ذلك حصل في منطقة طليطلة وحدها. فما بالك بما حصل في مختلف مناطق إسبانيا الأخرى؟!

وكل هؤلاء الزنادقة كانوا يجردونهم من أملاكهم وأموالهم وأرزاقهم. ولكن «توركمادا» رفض أن يأخذها لنفسه، أو يغتني على حسابها. إنما ظل رجلًا فقيرًا كأي راهب صغير بعد أن أعطاها الكنيسة أو الجمعيات الخيرية المسيحية. وهذا يعني أنه كان متزمتًا حقيقيًّا ومؤمنًا كل الإيمان بما يفعل لا شخصًا انتهازيًّا وصوليًّا. كان يعتقد أنه يتقرب إلى الله إذ يذبح ويعذب ويحرق ولكن فاته أن الله رحمان رحيم.

التعصب‭ ‬يصيب‭ ‬الأديان‭ ‬في‭ ‬حقب‭ ‬الجهل‭ ‬والقلاقل

ريجيس دوبريه

ريجيس دوبريه

توقفت مطولًا عند هذه الأحداث التاريخية لا لكي أشنّع بالمسيحية أبدًا، إنما لكي أبين أن التعصب ليس محصورًا بدين ما دون بقية الأديان كما يزعم بعض الغربيين حاليًّا وكما تشيع وسائل إعلامهم عمومًا. إنما هو يصيب جميع الأديان في حقب الجهل والقلق والقلاقل. والدليل على ذلك أن المسيحيين تجاوزوها كليًّا في الغرب بعد أن تقدموا وتطوروا واستناروا. وهذا يعني أنه يجب أن نكتب صفحة جديدة في تاريخ الأديان المقارنة أو بالأحرى تاريخ الأصوليات المقارنة. فلا توجد أصولية أفضل من أخرى. كنا نتمنى لو أن متعصبي الغرب الحاليين قد تذكروا شيئًا من ذلك قبل أن يلصقوا تهمة التعصب بالإسلام والمسلمين فقط. كنا نتمنى لو أنهم احترموا الحقيقة والموضوعية التاريخية. أقول ذلك بعد أن مررت بعدة عواصم ومدن أوربية مؤخرًا؛ مثل: باريس وبروكسل وجنيف ونيو شاتيل، واطلعت على مدى هيجان كثيرين وحساسيتهم بمجرد ذكر كلمة إسلام أمامهم.

فهم يربطونه فورًا برجم المرأة المخطئة، وقطع يد السارق، وتكفير المسيحيين واليهود بشكل أتوماتيكي، وتبرير العنف اللاهوتي الذي يحصد المارّة بشكل عشوائي،… إلخ، وينسون أن هذه الممارسات قليلة ومحصورة في بعض الفئات المتعصبة جدًّا؛ مثل: طالبان والقاعدة وداعش وسواها، ولا علاقة لأغلبية المسلمين الوسطيين العقلاء بها. هناك صورة كاريكاتورية بل حتى هلوسية شائعة عن الإسلام والمسلمين في الغرب وحتمًا يغذيها بعض الأوساط المعادية. ولكن لحسن الحظ فإن أغلبية المستنيرين الغربيين يرفضونها. فهؤلاء يعتقدون أن المسلمين سائرون على طريق التقدم والاستنارة لا محالة، وأن المسألة مسألة وقت ليس إلّا. من بين هؤلاء ريجيس دوبريه الذي صرّح مؤخرًا قائلًا: يجب أن نكون صبورين مع الإسلام والعالم الإسلامي. فالأصولية المسيحية عارضت أفكار الحداثة والتقدم والتسامح طيلة ثلاث مئة سنة قبل أن تقبل بها مؤخرًا وتتصالح معها. فلماذا لا يُعطى المسلمون المدة الزمنية الكافية لكي يستطيعوا تحقيق المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة؟

التنوير العربي كمنقذ من الطائفية والمذهبية

التنوير العربي كمنقذ من الطائفية والمذهبية

بداية أود طرح هذا السؤال: لماذا يرفض الغربيون العودة إلى الأصولية المسيحية؟ لأنهم يعرفون معنى التدين الأصولي القديم وكل العصبيات الطائفية والمذهبية التي يحملها معه أو تحت طياته. وهذا شيء يريدون تحاشيه بأي شكل كان؛ فقد عانوا حروب المذاهب المسيحية ما عانوا إلى درجة أن مجرد ذكراها يبث الرعب والاشمئزاز في النفوس. يكفي أن نعلم أن حرب الثلاثين عامًا (1618-1648م) دمرت نصف ألمانيا تقريبًا، واجتاحت معظم أنحاء أوربا الأخرى. وهم لا يريدون العودة إلى هذه الحروب الطائفية التي مزقتهم تمزيقًا. وقُل الأمر ذاته عن الحرب الأهلية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في فرنسا. أصلًا التنوير جاء كرد فعل على هذه الحروب المذهبية التي حطمت أوربا. الكاثوليكيون والبروتستانتيون كانوا أيضًا يكفّر بعضهم بعضًا مثلما تفعل المذاهب والطوائف عندنا حاليًا. كل طرف كان يدعي أنه يمثل العقيدة المسيحية القويمة المستقيمة التي لا تشوبها شائبة، وأن الطرف الآخر منحرف عنها ومهرطق وزنديق، ومن ثم فهو كافر يحل دمه.

وهذا يعني أن عقيدة الفرقة الناجية موجودة أيضًا في المسيحية. جماعة البابا والفاتيكان يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم هم الذين يمثلون المسيحية الحقة وليس البروتستانتيون أو الأرثوذكس الروسيون أو غير الروسيين من يونانيين وصرب ومسيحية شرقية عربية. وعلى هذا الأساس كان الكهنة والقساوسة يهيجون المتدينين البسطاء بعضهم على بعض لارتكاب المجازر والذبح على الهوية. عندئذ قرر فلاسفة التنوير فتح ملف العقيدة اللاهوتية المسيحية. واتخذوا قرارًا بتفكيكها والانتقام منها حتى العظم! ماذا فعل بيير بايل وسبينوزا وفولتير ومونتسكيو وروسو وديدرو والموسوعيون… إلخ؟ هذا ناهيك عن كانط وهيغل وفويرباخ ونيتشه… إلخ. هنا بالضبط يكمن جوهر مشروع التنوير الكبير الذي يريد بعض المثقفين العرب القفز عليه بحجة أنهم تجاوزوه ووصلوا إلى مرحلة ما بعد الحداثة! برافو!

سؤال فلسفي مطروح على واقعنا العربي الإسلامي

السؤال المطروح الآن هو: ما معنى اللحظة التاريخية التي نعيشها حاليًا؟ في أي لحظة من التاريخ نتموضع نحن كعرب وكمسلمين؟ هل حقًّا تجاوزنا مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والتنوير إلى ما بعد التنوير، كما فعلت مجتمعات أوربا المتقدمة؟ أم أننا لا نزال متخلفين عقليًّا ومتأخرين فكريًّا؟ لماذا لم تعد تحصل أي مجزرة طائفية أو مذهبية في فرنسا أو ألمانيا أو سويسرا في حين أنها كانت شائعة طيلة القرون الوسطى بل حتى القرن الثامن عشر؟ ينبغي أن نعترف بأننا: لا نزال نتخبط في متاهات العصور الوسطى الطائفية التكفيرية. نحن نتخبط في خضم الحروب المذهبية التي حذَّر منها بالأمس القريب الأمير الشاعر المثقف خالد الفيصل. أطرح عليكم هذا السؤال: هل تجاوز المجتمع الباكستاني مرحلة المجازر الطائفية؟ ماذا حصل فيه مؤخرًا من مجازر طائفية بل يحصل بشكل دوري من وقت لآخر؟ وقل الأمر ذاته عن المجتمع الأفغاني. ماذا يحصل في نيجيريا أو العراق أو سوريا… إلخ؟ وقس على ذلك بقية المجتمعات الإسلامية والعربية من دون استثناء.

إن مناهضي التنوير يتحدثون عن الأمور بكل خفة -أو استخفاف- وكأن المجتمع السوري أو المصري أو السعودي يقف على نفس مستوى الاستنارة العقلية عند المجتمع الهولندي أو الفرنسي، أو الأوربي عمومًا. وأقصد بالاستنارة العقلية هنا انحسار العصبيات الطائفية والمذهبية بفضل هضم جماهير الشعب (وليس فقط المثقفين) للفلسفة العقلانية الحديثة وتجاوز المرحلة القروسطية للدين أو التدين. أحيانًا يخيل إليَّ وكأنهم يقولون: لا توجد طائفية عندنا ولا مذهبية ولا حروب أهلية مضمرة أو صريحة. كل شيء على ما يرام عندنا والحمد لله. نحن لا نشكو من أي شيء. من قال لكم بأن عندنا مشكلة؟ نحن تجاوزنا مرحلة الحداثة والتنوير بسنوات ضوئية ووصلنا إلى مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد التنوير القديم التافه! لماذا يريد هذا الشخص أن يعيدنا مئتي سنة إلى الوراء؟ وأنا أقول: إني أريد إعادتكم أربعمئة سنة إلى الوراء وليس فقط مئتين! ليتكم توصلتم إلى مستوى الوعي الأوربي في القرن السادس عشر! ليت شمس النهضة الإيطالية العظيمة أطلَّت عليكم ولو لحظة واحدة فأضاءت عتماتِكم ودياجيرَكم المتراكمة بعضها فوق بعض منذ إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط قبل ألف سنة. ومن ثم كفانا مكابرة أيها الأصدقاء. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.

الفرق بين المعاصرة الزمنية

والمعاصرة الفكرية أو الإبيستمولوجية

إtnwذا لم نأخذ في الحسبان الفجوةَ التاريخية الكبيرة التي تفصل الفكر الأوربي عن الفكر العربي، أو تؤخر المجتمعات العربية عن تقدم المجتمعات الغربية، فإننا لن نفهم شيئًا من شيء ولن نستطيع طرح أي مشكلة بشكل صحيح، ناهيك عن حلها وعلاجها. وهنا تطرح علينا مشكلة التحقيب الزمني والإبيستمولوجي للفكر الأوربي من جهة، والفكر العربي الإسلامي من جهة أخرى. ينبغي لنا أن نعلم أن الفكر الأوربي مر بمختلف المراحل حتى الآن وبشكل طبيعي تدريجي؛ مرحلة العصور الوسطى المسيحية، فمرحلة الحداثة، فمرحلة ما بعد الحداثة. وهنا ينبغي لنا أن نتفق على أمور؛ فمرحلة ما بعد الحداثة لا تعني إلغاء منجزات الحداثة، إنما تعني تصحيحًا للانحرافات التي طرأت على الحداثة.

أما منجزات الحداثة كالتنوير الديني وتجاوز الطائفية بوساطة العقل العلمي والدولة المدنية، فلا أحد يريد التراجع عنها. لا ريب في أنهم أصبحوا يدعون إلى علمانية إيجابية منفتحة على البعد الروحاني للإنسان ولكن من دون العودة إلى النظام الأصولي الطائفي القديم، أو التراجع عن الفكرة الأساسية للعلمانية والدولة المدنية. لا أحد يريد التراجع عن دولة الحق والقانون الذي ينطبق على الجميع. ولا أحد يريد التراجع عن الحرية الدينية المطلقة: أي حرية أن تتدين أو لا تتدين على الإطلاق، بمعنى آخر فإن آية: ﴿لا إكراه في الدين﴾ مطبقة في أوربا وليس في العالم الإسلامي. ولذلك قال الإمام محمد عبده عبارته الشهيرة: في أوربا يوجد إسلام بدون مسلمين، وعندنا يوجد مسلمون بلا إسلام. بمعنى أن مكارم الأخلاق والدقة في المواعيد والإخلاص في العمل كلها أشياء موجودة في أوربا ولكن ليست عندنا.

أكاد أسمعهم يقولون: «يا أخي، هذا الشخص يريد إعادتنا إلى عصر التنوير الأوربي. إنه يريد إعادتنا مئتي سنة إلى الوراء. ما هذا الهراء؟! نحن تجاوزنا كل ذلك. نحن في القرن العشرين، بل الحادي والعشرين. متى سيفهم هذا الشخص أننا لم نعد في القرن الثامن عشر؟!». كردٍّ على هذه المغالطة السهلة والمكابرة المضحكة(1) سوف أقول ما يلي: إني لا أريد إعادتكم إلى القرن الثامن عشر فقط، إنما إلى القرن السادس عشر أيضًا! هل تعتقدون أنكم تجاوزتم الأسئلة التي طرحتها النهضة الإيطالية العظيمة على الدين؟ بل أريد إعادتكم إلى القرن الثالث عشر وبدايات النهضة الأوربية الأولى؛ حيث انهمكوا في ترجمة علمائنا وفلاسفتنا وبنوا على ذلك نهضتهم الكبرى.

بل أريد إعادتكم إلى ما قبل ذلك بكثير: إلى القرن الثامن والتاسع والعاشر للميلاد؛ أي إلى العصر الذهبي العربي الإسلامي بالذات. هل تعتقدون أننا تجاوزنا التساؤلات التي طرحها ابن المقفع والتوحيدي والرازي والفارابي وابن سينا وابن رشد والمعري وسواهم على الدين؟ بل حتى الأسئلة التي طرحتها فرقة المعتزلة المتنورة العظيمة التي لا نستطيع طرحها الآن. أيها السادة، العالم الإسلامي ليس متخلفًا عن ركب الحضارة علميًّا وتكنولوجيًّا وفلسفيًّا فقط. إنما هو متخلف دينيًّا ولاهوتيًّا أيضًا بالدرجة الأولى. ما يقال عن الدين في العالم العربي والإسلامي حاليًا شيء مضحك ومخجل. إنه يفضحنا أمام البشرية كلها. إنه يعرينا على حقيقتنا. هل تعتقدون أننا سنخرج من هذا المغطس الكبير الذي وقعنا فيه عن طريق مثل هذا الخطاب القروسطي التكفيري الذي يبثه شيوخ الفضائيات على مدار الساعة، ويملأ العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؟

لقد أصبحنا مهزلة العالم كله، بل أصبحنا بعبعًا يرعب العالم، بعد أن كنا ذروة الحضارة إبان العصر الذهبي. ومن ثم فالمسألة ليست مضحكة على الإطلاق.

الصراع الجدلي الخلَّاق

بين مثقفي الحداثة ومثقفي القدامة

قلتها مرارًا وتكرارًا في كتبي المتلاحقة: هناك فرق بين التنوير الوسطي المؤمن والتنوير المتطرف الملحد؛ الأول يمثله (فولتير، وجان جاك روسو، ومونتسكيو، وكانط) وسواهم من عمالقة الفكر، والثاني يمثله (ديدرو، والبارون دولباك، ونيتشه) وآخرون عديدون. وقد اخترت معسكري منذ البداية بكل وضوح؛ فأنا مع التنوير المؤمن بالله والعناية الإلهية والقيم الأخلاقية العليا لتراثنا العربي الإسلامي العريق، وقلت أيضًا بأن تنويرنا لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوربي، ولا معاكسًا له على طول الخط؛ فهناك إيجابيات عديدة في التنوير الأوربي، وخصوصًا في بداياته عندما كان لا يزال بريئًا ولم ينحرف بعد. ولا بأس من استلهامها والاستضاءة بها. وعلى أي حال فإن صراع الأضداد الذي جرى في أوربا بين الفلاسفة ورجال الدين المسيحيين سوف يحصل ما يشبهه في الساحة العربية، بل قد بدأ يحدث من الآن، وبخاصة بعد أن وصل الإخوان إلى سُدَّة السلطة في بعض البلدان العربية قبل أن يزاحوا عنها لحسن الحظ من متنوري مصر وتونس.

فمن الواضح أن الفهم الإخواني للإسلام يتعارض مع الفهم العقلاني المستنير. والصراع محتوم بين الطرفين. ولن نستطيع تحاشي ذلك مهما فعلنا؛ فإما إسلام الأنوار وإما إسلام الإخوان. انظر إلى ما حصل في مصر إبان حكم مرسي من صراعات حادة حول «الأخونة»: أي أخونة الإدارة الحكومية والتلفزيون والإعلام والثقافة وكل شيء. ولكن الصراع ليس كله سلبيًّا كما ذكرت سابقًا. على العكس تمامًا. كان هيغل يقول ما معناه: «لا شيءَ عظيمًا في التاريخ يتحقق بدون صراعات البشر وأهوائهم الهائجة». ومن ثم فما نشهده حاليًا من اضطرابات في العالم العربي قد يكون ظاهرة صحية وليست مرضية؛ فالمجتمعات الراكدة الهامدة هي وحدها التي لا تعرف معنى الصراع، ومن ثم تجهل معنى الابتكار والإبداع والانتقال من حال إلى حال.

وعلى مدار التاريخ كان هناك صراع جدلي خصب بين العقل الديني والعقل الفلسفي. وحضارتنا العربية الإسلامية لم تبلغ أوجها إلا عندما كان هذا الصراع متألقًا إبان العصر الذهبي المجيد. ولكن عندما توقف هذا الصراع وماتت الفلسفة أُغلق باب الاجتهاد ودخلنا في عصر الانحطاط الطويل والفكر الأُحادي الممل والتكرار والاجترار… لم يعد هناك توتر ذهني أو صراع فكري في الساحة الإسلامية؛ لأن أحد طرفي المعادلة، أي العقل الفلسفي، هُمش وقُضي عليه، بل تم تكفيره وزندقته. وبموت العقل الفلسفي حصل جمود للعقل الديني فأصبح فقيرًا جدًّا من الناحية الفكرية؛ لأن الفلسفة لم تعد موجودة لكي تغذيه وتستفزه وتدفعه إلى المزيد من النضج والانفتاح. للتدليل على ذلك يكفي أن نقارن بين العقل الديني عندنا والعقل الديني في الغرب. بصراحة لا وجه للمقارنة؛ فرجال الدين في أوربا يطلعون على كتب الفلسفة ويستفيدون منها في تعميق الإيمان وفهم الدين، أما عندنا فيكتفون بقراءة الكتب التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب. نضرب على ذلك مثلًا: عالم اللاهوت السويسري الألماني هانز كونغ(2). إنه مطلع على أحدث النظريات الفلسفية والإبيستمولوجية، ولهذا السبب فإن دراساته عن الدين تبدو قوية ومقنعة، على عكس دراسات التقليديين المملة من كثرة التكرار والاجترار. وهذا يعني أن الاحتكاك بين الدين والفلسفة مفيد لكلا الطرفين. ومن ثم فلا بد من إعادة الاعتبار إلى الفلسفة والعقل الفلسفي إذا ما أردنا النهوض واستعادة العصر الذهبي مرة أخرى.

وختامًا فإن تخبطات الربيع العربي شيء إجباري لا مندوحة عنه؛ لأنه «لا بد دون الشهد من إبر النحل»؛ كما يقول شاعرنا الكبير المتنبي الذي اكتشف معنى الجدل وقانون التقدم قبل هيغل! وهذا يعني أن المرور بالمرحلة الإخوانية الأصولية على الرغم من صعوبتها وخشونتها شيء لا بد منه لكي نتحرر منها على طريقة: «وداوني بالتي كانت هي الداء»؛ كما يقول الشاعر الكبير أبو نواس. لهذا السبب أقول بأننا نعيش لحظة تقدمية من التاريخ العربي حتى لو كانت تبدو في ظاهرها تراجعيةً، بل فجائعية.

الهوامش:

(1) للرد عليهم كان يكفي أن أستشهد بذلك المهرجان الكبير الذي أقامته المكتبة الوطنية الفرنسية للاحتفال بالتنوير وفلاسفته تحت إشراف المفكر المعروف تزفيتان تودوروف عام 2006م. وقد نظموه تحت الشعار الكبير التالي: التنوير كإرث للمستقبل! بمعنى أن التنوير لا ينتمي إلى الماضي حتى بالنسبة إلى أوربا، فما بالك بالنسبة للشعوب التي لم تشهده بعد؟ لا ريب في أن أوربا الغربية استنارت إلى حد بعيد. ولكن ماذا عن أوربا الوسطى والشرقية؟ ماذا عن روسيا السلافية الأرثوذكسية؟ بولونيا لا تزال كاثوليكية جدًّا، على عكس فرنسا مثلًا. ومن ثم فهناك شعوب كثيرة لا تزال تنتظر أن تستنير. لا ريب في أنهم نظموا المعرض والمهرجان كرد فلسفي على ضربة 11 سبتمبر، لا ريب في أنهم كانوا يقصدون به الشعوب العربية والإسلامية بالدرجة الأولى، ولكن مسألة التنوير تخص الجميع.

انظر الكتاب الجماعي الذي أصدروه بعد المؤتمر والمعرض تحت نفس العنوان: الأنوار إرث للمستقبل. مطبوعات المكتبة الوطنية الفرنسية 2006م.

Lumieres! Un heritage pourdemain. Collectif Bibliotheque Nationale de France 2006.

ومن ثم فالتنوير لم يصبح في ذمة التاريخ على عكس ما يتوهم بعض المثقفين العرب!… بل إنه لم يبتدئ بعد بالنسبة لثقافات عديدة وشعوب كثيرة في العالم، إنه أمامنا لا خلفنا.

(2) انظر كتابه الكبير عن الإسلام ويقع في نحو ألف صفحة. وقد ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية:  Hans Kung :L’Islam.Cerf.Paris 2010.

للأسف الشديد! لا نستطيع أن نقارن مشايخنا بهذا العالم الكبير. وهذا أكبر دليل على مدى تخلف الفكر الديني في بلادنا. هناك مفكر واحد يستطيع أن يرتفع إلى مستواه وربما يتفوق عليه هو: محمد أركون، أكبر مجدد للفكر الإسلامي في هذا العصر. ولكن من يستمع إلى محمد أركون؟ لحظته لم تحن بعد..