لماذا يا هيلين؟!

لماذا يا هيلين؟!

كيف تغيبين فجأة

هكذا يا هيلين

دون أن تخبريني

ألم أكن غريمتَك الطيبة

التي كتبتْ فيك قصيدة

ذات يوم؟!

صوتك هنا يلف معي الجدران

كيف استقبلتُ نبأ رحيلك

وحدي بكل هذا الحياد

هو أمر لا يليقُ بك

كغريمة عذبتني طويلًا

أحاول أن أتخيل

كيف غطوا جسدك النحيل

وكيف تحملت الملائكة

منظر عينيك الحزينتين

وهم يصعدون بك

مسرعين إلى السماء.

القرينة

القرينة

صوتها مثل لؤلؤة

تضيء في العتمة.

كأنها قرينتي من العالم

 الآخر

نفس العينين الحائرتين

اللتين تتحركان

في كل اتجاه. 

كأننا التقينا من قبل

 في حلم

أو ربما في زمن آخر

أكثر براءة.

 

كأنها مرآة روحي

 المنكسرة

 

أتأمل على سطحها

 

البقع التي تغطي القلب.

لسنا بحاجة إلى لغة

 حين نتحدث معًا

 

الروح ترسل إشاراتها

وتتكفل بكل شيء.

 إذن ليس هناك داعٍ 

 لأن أحكي لها 

عن حبيبي الذي يعيش 

 وحيدًا في سياتل

مكتفيًا بصورة لي يُعلّقها

على حائطه المتهدم.

الآن تأكدت أنه يشبه

أبي الذي تخلى عني

في منتصف الطريق

لم يعد لي أحد -إذن-

في هذه المدينة الموحشة 

سواكِ أيتها القرينة الطيبة.

المفارقة الساخرة في ديوان قهقهات الفتى الأخرس

المفارقة الساخرة في ديوان قهقهات الفتى الأخرس

لعل من يقرأ ديوان «قهقهات الفتى الأخرس» للشاعر اليمني محمد اللوزي، الصادر حديثًا عن دار ميارة التونسية، سوف يكتشف أن معظم قصائده تنبني على المفارقة الساخرة، التي تكشف عن نظرة الشاعر إلى العالم، التي ترى – ضمن ما ترى- أن التناقضات هي جوهر الوجود الإنساني.

وواقع الحال أن الشاعر محمد اللوزي الذي أصدر ثلاثة دواوين شعرية مميزة من قبل، وهي: «الشباك تهتز العنكبوت يبتهج» (2001م)، و«إجازة جيري (٢٠٠٨م)، و«حبّة خال في ساق الفراشة» (٢٠١٥م)، قد اشترك مع عدد كبير من شعراء قصيدة النثر في العالم العربي، وبخاصة أبناء جيله من التسعينيات في استخدام تقنية المفارقة الساخرة، التي تعبر عن وجود درجة عالية من الوعي بالذات لديهم.

ولعل عددًا كبيرًا من النقاد في تاريخ النقد الأدبي قد أشار إلى أهمية ما يمثله استخدام هذه التقنية من قيمة جمالية سواء في الشعر أو في فن القص على حد سواء، ومنهم على سبيل المثال، الناقد الإنجليزي المعروف آيفور آرمسترونغ رتشاردز Ivor Armstrong Richards (1893-1979م) في كتابه «مبادئ النقد الأدبي» Principles of Literary Criticism حين كان يناقش موضوع الخيال، مشيرًا إلى أن الشعر الذي لا يصمد أمام المفارقة ليس شعرًا من الطراز الأول، كما أن المفارقة ذاتها هي دائمًا من الصفات المميزة للشعر الرفيع. ولا يكتفي الشاعر محمد اللوزي باعتماده على تقنية المفارقة فحسب، إنما يمزجها باستخدامه آلية السخرية الباردة التي يعتمدها كثير من شعراء قصيدة النثر لإنتاج شعرية خاصة بهم، تعبر عن وعي مفارق في الكتابة، وتصور غضب هؤلاء الشعراء ورفضهم لقبح واقعهم، فالسخرية -كانت وما زالت- إحدى السمات الخاصة لبلاغة المقموعين، وهي في الوقت ذاته سلاح كل الضعفاء والمهمشين في عالم تحكمه قوانين القوة والمال.

ولعل عنوان الديوان اللافت، يكشف بوضوح عن حصافة الشاعر في توظيف تقنية المفارقة الساخرة؛ فهو يجمع بين ضدين في جملة واحدة؛ «القهقهة» وهي حالة ترتبط بشيء من البهجة والصخب، وبين حالة «الخرس» وما تمثله في أذهاننا من عجز وصمت. فكيف يقهقه من كان أخرسَ وعاجزًا عن الكلام؟!

ويمكننا أن نستشف هنا أهمية ما يمثله أو ما يلعبه المجاز المستخدم من دور في إيصال المعنى المراد؛ فالكتابة الشعرية -كما تتضح لنا- محملة بفعل السخرية المريرة، فهي –بالنسبة إلى الشاعر- بمنزلة القهقهة العالية في وجه العالم، التي قد لا تحمل معنى الفرح أو البهجة –كما يمكن للبعض أن يعتقد- بقدر ما تبطن معنى السخرية من هذا الوجود بمتناقضاته. ولأننا عاجزون عن فعل أي شيء في مواجهة هذا العالم القبيح، والمفتوح على حالة من العدم الدائم، ولأننا أيضًا لا نمتلك صوتًا نحتج به –كحال الأخرس تمامًا- فإننا نعبر بالشعر وبالمجاز، عما ما نعجز عن قوله في الواقع، ومن ثم نكتشف أن المجاز المستخدم في القصائد، ليس شكلًا زخرفيًّا إنما بصيرة لرؤية حقائق الوجود الإنساني.

محمد اللوزي

وتُلمح قصائد الديوان إلى هذه البصيرة الخاصة التي يمتلكها الشاعر داخله، وتجعله دومًا يرى ما لا يراه الآخرون، ففي قصيدة «شاعر» نراه يقول مثلًا: «بالغت في ما ترى/ حتى إنك رأيت الشيء قبل أوانه/ ورأيت فيه ضده/ تفحصته بيدك وهلة أخرى/ ورميت في البئر أصابعك».

وتبدو المفارقات الشعرية داخل قصائد الديوان، كما لو كانت تمثيلًا حيًّا لرؤية الفيلسوف الألماني أوغست فلهلم شليغل (1767- 1845م) للمفارقة بوصفها شكلًا من النقيضة، التي هي إدراك لحقيقة أن العالم في جوهره ينطوى على تناقض، وأن الوعي الضدي هو الذي يستطيع الإمساك بكليته المتنافرة. وهو ما يجعل الشاعر يظل في كل كتاباته الشعرية -مسكونًا بهاجس القلق إزاء ما يكتب، فيقف على مقربة منه وعلى مسافة منه في الوقت نفسه. هي حالة –إن شئنا التوصيف- أشبه ما تكون بحالة اللعب. ولعلنا في أكثر من قصيدة في هذا الديوان نلمح حالة من التأسي، من دون السقوط في فخ المباشرة أو الخطابية من جانب الشاعر، على ما أَلَمَّ بوطنه من كوارثَ ونكباتٍ، وما تعرض له اليمن وأهله الطيبون من تدمير لا يستحقونه:

«مثلما تتساقط أحجار الدومينو/ تساقطت البلاد تباعًا/ حتى حجرها الفارغ/ ولم يبقَ أحد/ لم يعد ثمةَ حجر واقف/ أو بلاد».

وقد يرى البعض في استخدم الشاعر مجاز «أحجار الدومينو» إشارة إلى سرعة وهشاشة هذا السقوط، فهو لم يستغرق وقتًا كي يتداعى، لكننا أيضًا يمكن أن نؤوله على نحو آخر؛ فنرى أنه أراد أن يشير باستخدام مجاز «أحجار الدومينو» إلى أن «السقوط» كان أشبه بلعبة ومقامرة من جانب أطراف عدة دبرت و تآمرت على أمن وسلامة وحضارة هذا البلد صاحب التاريخ العريق، والحقيقة أن الشاعر في هذه القصيدة، التي تبدو في هيئة مرثية مؤلمة وجميلة في الوقت نفسه –على ما آلت إليه الأوضاع باليمن من سقوط وخراب، ذكرتني– بالرغم من فروق كثيرة بينهما- بمشهد السيد المسيح وبكائه على مدينة أورشليم (أي القدس، وفقًا لتسميتها الحالية) ورؤيته الاستبصارية بما ستؤول إليه الأمور فيما بعد في هذه المدينة، كما ورد في النص الإنجيلي: «وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلًا: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا مَا هُوَ لِسَلَامِكِ. وَلكِنِ الْآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلَا يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ؛ لِأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ» (لوقا 19:41-44).

«أشياء ليس لها كلمات» لجرجس شكري .. شعرية الوعي الضدي

«أشياء ليس لها كلمات» لجرجس شكري .. شعرية الوعي الضدي

أتصور أن من يقرأ ديوان «أشياء ليس لها كلمات» للشاعر المصري جرجس شكري، الصادر حديثًا عن دار آفاق بالقاهرة، سيكتشف أن الوعي الذي أنتج هذه القصائد، هو «وعي ضدي» بامتياز. ولعل أبرز سمات هذا الوعي أنه ينقسم على نفسه باستمرار، وهو ما يعنى أنه يظل وعيًا متوترًا، يضع نفسه والعالم موضع التساؤل الدائم(1). هذا الوعي الضدي الذي امتلكه الشاعر جرجس شكري هو بالضرورة قرين نوع من المفارقة؛ إذ إن العالم مجموعة من المتناقضات المتصارعة(2).

أحسب أن الكتابات الشعرية الجديدة التي نقرؤها الآن، تؤكد أننا لا نستطيع أن ننفصل بوعي محلي مغلق، أو قومي محاصر، عن الوعي الكوني الذي يتخلق الآن.

فلم يعد الشاعر هو ذلك النبي المنتظر الذي يمتلك اليقين ويعرف الحقيقة المطلقة عن العالم، وتلك كانت إحدى الصور الشائعة عن الشاعر العربي القديم. أما الآن فقد صار مجرد كائن مأزوم يتشكك في كل شيء من حوله، مُحمَّل بالهواجس والتساؤلات، يضع كل تصوراته وأفكاره عن العالم موضع المساءلة المستمرة ليخرج من أسر وعيه الضيق، فيكتشف وجوده بكل ما ينطوي عليه من جمال أو قبح، بعيدًا من سطوة الأنظمة والمفاهيم المستقرة التي حجمت حريته طويلًا، فيجد نفسه مضطرًّا؛ كما عبر نيتشه: «لإعادة تقييم كل القيم». فالشاعر -لا يمكنه بأية حال- أن ينفصل عن لحظته الراهنة التي يعيشها أو يتجاهل مثلًا المتغيرات العالمية ودخولنا إلى عالم تغيرت فيه طرائق إنتاج المعرفة الإنسانية وصار العالم قرية كونية صغيرة، عالمًا مليئًا بالتناقضات ومشبعًا بحالة من التشظي والتفكك، عالمًا تتساقط فيه كل يوم النظريات الكبرى التي سادت الفكر والعلم الاجتماعي، التي ادعت طويلًا إمكانية قراءة العالم وتفسيره.

مفارقة ساخرة باردة

جرجس شكري

وأظن أنه ليس من قبيل المصادفة، أن كل الدواوين السابقة التي أصدرها الشاعر جرجس شكري، تقوم بنيتها على المفارقة الساخرة الباردة التي تعكس موقفًا عدميًّا من الحياة والوجود. والعدمية ليست –كما هو شائع لدى كثيرين- هي مجرد إبراز الموت والبشاعة والعنف والقبح في العالم، لكن الشاعر العدمي هو الذي ينفذ من خلال ذلك إلى معنى الحياة، وبذلك يكشف لنا أن العدم هو الوجه الآخر للوجود، ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأن معنى كل منهما يكمن في الآخر. فعلى سبيل المثال- كان الشاعر والناقد غوتفريد بن (1886–1956م) من أبرز العدميين الذين أوضحوا معنى العدمية كمذهب أدبي؛ إذ قال: «إن العدمية ليست مجرد بث اليأس والخضوع في نفوس الناس، بل مواجهة شجاعة وصريحة لحقائق الوجود»(3). فقد خلق الإنسان ولديه إمكانات محدودة وعليه لكي يثبت وجوده، أن يتصرف في حدود هذه الإمكانات، بحيث لا يتحول إلى يائس متقاعس أو حالم مجنون. أما العدمية عند الفيلسوف الألماني «نيتشه» (1844-1900م) فهي «ليست تلك المعروفة بأنها الحياة بلا هدف، وإنما الحياة المعمية عن مناقشة أفكارها، والمبنية على بعض الأوثان»(4).

ولعل عنوان ديوان الشاعر جرجس يستدعي إلى الذهن عنوان كتاب «أشياء وكلمات» للفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو (1926–1984م) وهو دراسة –بحسب ميشيل فوكو نفسه- لا تنتمي إلى تاريخ الأفكار، أو تاريخ العلوم، إنما هي دراسة تريد البحث عن المنطلق والأساس للمعارف والنظرية عندما تكون ممكنة وموجودة، وحسب أي مدى من النظام تكونت المعرفة، وعلى خلفية أي قبيلة تاريخية وفي عنصر أي وضعية تمكنت أفكار من الظهور(5). إن «فوكو» في هذا الكتاب، يريد البحث عن أشياء جديدة للمعرفة لم تبحث من قبل، وكأن الشاعر جرجس شكري بهذا الاستدعاء لعنوان كتاب ميشيل فوكو يريد أن يدعونا جميعًا إلى إعادة قراءة ما كنا نظنه هامشيًّا في المعرفة التي اكتسبناها، والبحث في علاقاتها المتشابكة والملتبسة مع النظام المكون لها.

وقد تبدو البنى داخل هذا الديوان ظاهريًّا -لغير المدربين على تلقي مثل هذا النوع من الكتابات الشعرية– كما لو كانت مفككة. وقد يذهب بعض منا إلى أن ثمة انفصامًا نحياه مع ذواتنا ومع الآخر، فكلما تشوه العالم ازدادت البنى تفككًا، وأن هذه الكتابة تعكس حال من الاغتراب صار يعيشها الإنسان الآن بعد أن عانى الانفصالَ عن محيط عالمه، وشعر بالتشيؤ وبفقدان الحرية. لكن هل يمكننا أن نتأمل الأمر على نحو مغاير، عند قراءة هذا المقطع من قصيدة «أشياء ليس لها كلمات»:

حين يصل الصباح على عربة يجرها الموتى

يصل باكيًا، وتسقط عيوننا على الأرض.

حين يسرق الآخرون حياتَنا

ويلبسون وجوهنا في وضح النهار.

حين نموت برصاصة طائشةٍ

ضلت طريقها بمحض إرادتها.

حين نأكل طعامًا رخيصًا

وننام في شوارع خائفةٍ.

حين نتبادل القبل كعزاء واجبٍ

وندفن موتانا في ملابسنا

خوفًا ومحبة.

حين تغلق الكنيسة أبوابها

فينام الملائكة والقديسون

في قاعة الرقص.

حين يغرس الموظف حليق الرأسِ

سكينًا في بطن صاحب الشركة

احتجاجًا على وسامته المفرطة

حين نغلق رغباتنا لأجل غير مُسمى

ونفاجئ الآخرين

يصطادون سراويلهم في غسالة الملابس.

فهل نخفي عنك شيئًا يا سيدي.

(الديوان، ص7-9)

بالطبع في البداية، سوف نتساءل: ما العلاقة بين هذه الدوالّ المتتابعة التي تبدو كأنها منفصلة؟! فليس ثمة معنى واحد يقوله النص، يمكننا تحديده بدقة وباطمئنان، فما علاقة مثلًا مشهد أو لقطة «وصول الصباح الباكي الذي تجره عربة» بالدوال التالية أو اللقطات المتتابعة بعدها في القصيدة مثل: «الموت برصاصة طائشة»، أو بـ«غلق الكنيسة لأبوابها ونوم القديسين في قاعة الرقص»، أو «غرس الموظف سكينًا في بطن صاحب الشركة» احتجاجًا على وسامته المفرطة»؟!

لعل القارئ وحده هو من يستطيع أن يقيم هذه العلاقة بين هذه الدوال المتتابعة، وتكاد العبارة الأخيرة في هذا المقطع من القصيدة، وهي على هيئة سؤال يحمل قدرًا من السخرية الباردة: «فهل نخفي عليك شيئًا يا سيدي؟» هي ما يدلنا على احتمالية ما يريد النص أن يقوله لنا ويكشف الرابط الخفي بين كل هذه اللقطات أو الدوال المتتابعة أمامنا. فهذا السؤال الذي يختم به المقطع ما هو إلا سخرية من حالة الموت وعبثية الوجود الذي نحياه، وهو ما نجده شائعًا في أغلب قصائد الديوان تقريبًا.

الكتابة تصير مونتاجًا

فلو افترضنا مثلًا أن النص استخدم مونتاجًا من الكلمات لمونتاج من الصور؛ أي أن الكتابة صارت مونتاجًا، (وفكرة المونتاج هي من إبداع جاك دريدا، وهي تحل عنده محل المحاكاة عند أرسطو)، فعلينا -إذن- أن نحصر اهتمامنا في العلاقة بين الدال والمدلول «الصور داخل المونتاج». فمثلًا البنيويون يقررون أن الفلم نظام سميوطيقي في أي لغة، باعتبار أن الصور واللقطات دوال، والدال مستقل عن مدلوله الوضعي، وأن أي دال في النص يتحدد من خلال علاقته بالدوال الأخرى الموجودة به. إلا أن التفكيكيين يقررون أن المعنى لا يمكن أن يتحدد أبدًا، وأن أي دال في النص لا بد أن يحمل أثرًا أو آثارًا من دوال أخرى، ولهذا فإن معناه ليس ثابتًا. وهو تمامًا ما يحدث في المونتاج السينمائي فالمشاهد هو الذي يخلق بين الدوال أو اللقطات المتتابعة، فالمونتاج هو أنجح الوسائل لإعادة وصف العالم؛ لأنه يقدم عدة عوالم محتملة «Possible Worlds» -وهو يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها التفكيك الدريدي- والمشاهد أو القارئ هو الذي يخلق العلاقة بين اللقطات المتتابعة داخل النصوص(6).

والحقيقة أن هذه الصور أو «اللقطات المجازية» المتتابعة التي تحوي معنى ما، خفيًّا علينا، تصر على إبرازه بأكثر من طريقة؛ هو أن البشر يتصارعون، وهم يدركون جيدًا أن العدم في انتظارهم وهذا الصراع فوق طاقتهم البشرية، لذلك يتحول صراعهم إلى عبث لا معنى له. وقد لا يستطيع قارئ قصائد هذا الديوان من أن يمنع نفسه من تذكر مقولة الفيلسوف نيتشه في كتابه «إرادة القوة»: «كل معتقد، كل شيء يعتبر حقيقة، هو زائف بالضرورة لأنه ببساطة ليس هناك عالم حقيقي»(7).

فهل يمكننا أن نذهب إلى أن بنية القصائد التي تبدو في ظاهرها مفككة – قد تعكس فكرة يلح عليها الشاعر جرجس شكري طوال الديوان وهي غياب المعنى ومن ثم استحالة وجود حقيقة؟! وهو المعنى نفسه الذي نراه يتواتر في عدد كبير من القصائد داخل الديوان، على نحو ما نرى مثلًا في قصيدة «مشاهد من حياة رجل بارٍّ»:

فيما مضى

كنت ملكًا وقديسًا،

عازف مزمار

وصاحب فلسفة وأبقار كثيرة

وذات مساء

هربت الحقيقة من بيتي

فلم أعد كما كنت أبدًا.

( الديوان، ص44).

الهوامش‭:‬

  1. ‬جابر‭ ‬عصفور،‭ ‬نظريات‭ ‬معاصرة،‭ ‬مكتبة‭ ‬الأسرة،‭ ‬سلسلة‭ ‬الأعمال‭ ‬الفكرية‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ ‬1998م،‭ ‬ص‭ ‬268‭.‬
  2.  ‬نجاة‭ ‬علي،‭ ‬المفارقة‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬القصيرة،‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة،‭ ‬2008م،‭ ‬ص9‭.‬
  3. إبراهيم‭ ‬جركس،‭ ‬ما‭ ‬العدمية؟‭ (‬مقالة‭)‬،‭ ‬موقع‭ ‬الحوار‭ ‬المتمدن،‭ ‬تاريخ‭ ‬النشر‭ ‬20‭/‬11‭/‬2009م‭. ‬
  4. فريدريش‭ ‬نيتشه،‭ ‬غسق‭ ‬الأوثان،‭ ‬ترجمة‭ ‬علي‭ ‬مصباح،‭ ‬دار‭ ‬الجمل،‭ ‬بغداد،‭ ‬بيروت،‭ ‬2010م،‭ ‬ص106‭.‬
  5. ميشيل‭ ‬فوكو،‭ ‬الكلمات‭ ‬والأشياء،‭ ‬ترجمة‭ ‬مطاع‭ ‬صفدي‭ ‬وآخرين،‭ ‬مركز‭ ‬الإنماء‭ ‬القومي،‭ ‬بيروت،‭ ‬لبنان،‭ ‬1990م،‭ ‬ص25‭.‬
  6. عابد‭ ‬خزندار،‭ ‬عن‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬مجلة‭ ‬إبداع،‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب،‭ ‬نوفمبر‭ ‬1992م،‭ ‬ص‭ ‬74‭.‬
  7. فريدريك‭ ‬نيتشه،‭ ‬إرادة‭ ‬القوة،‭ ‬محاولة‭ ‬لقلب‭ ‬كل‭ ‬القيم،‭ ‬ترجمة‭ ‬وتقديم‭ ‬محمد‭ ‬الناجي،‭ ‬دار‭ ‬إفريقيا‭ ‬الشرق،‭ ‬الدار‭ ‬البيضاء،‭ ‬المغرب،‭ ‬2012م،‭ ‬ص‭ ‬170‭.‬
نصان

نصان

شارع عيون الحرية

هنا البيت وليس ميدان التحرير

وغرفة نومي لم تكن يومًا

شارع محمد محمود

من أين يأتي الغاز إذن؟

ومن سمح لقناصة العيون

أن تعتلي النوافذ

ومن قال للجنود أنْ يعبروا

– هكذا- بحرية

بالقرب من سريري

منتشين برائحة الموت

وبالفرجة على جثث مكومة

قرب صناديق القمامة.

لكنني هنا .. أقف وحدي

على بعد سنتيمترات

من الرعب

أجمّع ملامح الأطفال

بزيهم المدرسي

وهم يسقطون بخفة

قرب قدمي

فأكتفي- فقط – برسمهم على

الحوائط

وهم مبتسمون نصف ابتسامة

وأظل أراقب الهاربين من الحياة

منتظرة عودة صديقتي الوحيدة

من قصر الدوبارة

لأسألها من أين يأتي

كل هذا الغاز؟

وهل شاهدتْ صدري المثقوب

منذ ثلاثة أعوام

وكأنني عدتُ لتوِّي من الحرب!!

مؤامرة

كيف تموتين فجأة يا هيلين

دون أن تخبريني؟

ألم أكن غريمتك الطيبة

التي كتبت فيك قصيدة

ذات يوم؟!

صوتك هنا يلف معي الجدران

كيف استقبلتُ نبأ رحيلك

وحدي بكل هذا البرود

هو أمر لا يليق بك

كغريمة عذبتني طويلًا

أحاول أن أتخيل

كيف غطوا جسدك النحيف

وكيف تحملت الملائكة

منظر عينيك الحزينتين

وهم يصعدون بك

مسرعين إلى السماء