المفكر اليساري كريم مروة: الاشتراكية كانت كذبة كبيرة

المفكر اليساري كريم مروة:

الاشتراكية كانت كذبة كبيرة

حياة المفكر اللبناني كريم مروة حافلة بالأحداث والتجارب والأفكار والأسرار، فمن ولادة وطفولة وتربية دينية تحت كنف والد من رجالات الدين البارزين، إلى انفتاح على الوعي المدني والتيارات القومية، إلى الانخراط في الحزب الشيوعي قائدًا طلابيًّا، ثم حزبيًّا، وصولًا إلى موقع الرجل الثاني في الحزب الشيوعي اللبناني، قبل أن يطلّق الحزب ويتفرغ للكتابة الفكرية منتجًا أكثر من 35 كتابًا، ويفتح النار على تجربة الاتحاد السوفييتي والشيوعية والاشتراكية والماركسية واليسار العربي، بنقد واقعي لاذع، وجرأة اعتادها منذ تفتح وعيه، ومشاكسة لم تفارقه في أثناء نضاله السياسي. لم يأتِ كريم مروة إلى الفكر من عزلة وتنظير ذهني، إنما من تجارب واسعة خبر من خلالها، وبالعين المجردة، ما يجري في معظم دول العالم، وحاور مئات المثقفين، والتقى عددًا كبيرًا من رؤساء الدول والقادة، ووقف على الوقائع والأسرار. وهو الآن ابن الثامنة والثمانين من العمر لا يترك دقيقة إلا ويستغلها بالكتابة، ورسْمِ المشاريع المستقبلية، مبحرًا في هموم الأمة، بعقل منفتح، وجرأة على الذات والآخرين، وبهمة شاب، وعقل رجل مخضرم، ووقائع حياة صاخبة.

في هذا الحوار الذي تنشره «الفيصل» وأجريناه في منزله ببيروت، في غرفة جدرانها كتب، وسيّدها لا تفارقه البسمة، ولا يدعوك إلّا إلى التفاؤل، حاولنا أن نضيء بعضًا من مواقفه وأفكاره ونقده واعترافاته..

● أنت الآن في الثامنة والثمانين من العمر، وتتصرف كمفكر شاب يريد أن يغير ويخصّب ويجدّد وينهض بالأمة. ما سرّ هذه الحيوية الفكرية؟

■ هذه أمور يقررها كل امرئ بنفسه، لا تملى عليه إنما هو يمليها على نفسه. قراري منذ شبابي ألا أفكر في نهاية العمر ما دمت قادرًا على الحياة وعلى ممارستها كما أحب، وكما أبتغي. سئلت ذات مرة وأنا في السادسة والثمانين: هل تفكر في الموت؟ قلت: لا. قالوا: لماذا؟ قلت: عندما يأتي الموت لا قرار لي بشأنه وما دام لم يأتِ فكل ما له علاقة بشؤون الحياة هو الذي يشغلني. على قاعدة ما تقدم، وأنا منذ وقت مبكر دخلت الحياة، وكنت في الخامسة عشرة من عمري، في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، فقررت من تلقاء ذاتي أن أصنف نفسي قوميًّا عربيًّا ديمقراطيًّا، معاديًا للفاشية والنازية والعنصرية، وكانت لي صداقات، مع قوميين عرب مثلي بالمعنى المتداول في ذلك التاريخ للفكر القومي العربي، وكان لي أصدقاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وصداقات أخرى مع شيوعيين بعضهم أكبر مني سنًّا كنت أحب سلوكهم أكثر، وأختلف مع القوميين.

مع كمال جنبلاط ونقولا شاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني وفاروق معصراني عضو المكتب السياسي للحزب

● هذا حدث طبعًا في المدرسة الجعفرية (في مدينة صور، جنوب لبنان).

■ نعم. الأمر الذي لفت نظر أستاذي المرحوم سليمان أبو زيد الذي دخل إلى المدرسة عام 1946م كأستاذ للأدب، وقال لي: «اسمع يا عبدالكريم (الاسم الأصلي)، أنت ستكون في فترة غير بعيدة قائدًا شيوعيًّا». لم يعنني هذا الكلام حينها؛ لأنني لم أكن أعرف ما تعنيه الشيوعية، لكنني كنت مهمومًا بكل ما يتصل بالقضايا العربية، يشغلني لبنان أولًا، وكانت فلسطين أهم ما يشغلني، فأنا ابن بلدة حاريص في أقاصي جنوب لبنان، قريبة من شمال فلسطين المحتلة، ومنذ طفولتي كنت أرى أبناء بلدتي وإخوتي يذهبون إلى حيفا ويافا وصفد وعكا لشراء حاجياتهم، ويعملون فيها، وكان شقيقي الذي يكبرني بخمس سنوات يعمل في إحدى مؤسسات حيفا. كانت فلسطين قد دخلت منذ ذلك التاريخ إلى وجداني، وقد أضيفت إلى لبنان الذي تفتح وعيي فيه على الحديث عن الانتداب والاستقلال بشكل غامض، ولا أدّعي أن الأمور كانت حينها واضحة لديّ. بعد ذلك أرسلني والدي إلى بغداد لمتابعة دراستي الثانوية، ونزلت في بيت ابن عمي الشهيد حسين مروة.

● لمْ يرسلك والدك، رجلُ الدين، إلى النجف للدراسة الدينية؟

■ لا. درست في بغداد، وكنا نسكن في الكاظمية. لكن بسبب الاحتجاجات نتيجة سلوك حكامنا، والألم الذي تركه فيّ تزوير الانتخابات من قبل شقيق رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري عام 1947م، ثم قرار تقسيم فلسطين؛ سرعان ما قررت في مطلع عام 1948م أن أكون شيوعيًّا بالمعنى العام، وأول ما قرأته «البيان الشيوعي» لماركس وإنغلز. ثم بدأ يتكون وعيي من خلال القراءات، وكنت نهمًا بالقراءة منذ ذلك الحين باللغتين العربية والفرنسية، وقد بدأت الكتابة في صحف لبنانية وعراقية منذ السادسة عشرة من عمري، وكانت لي زاوية عام 1947م في مجلة «كل شيء» تحت عنوان: «خواطر من الكوخ». وكانت كتاباتي حينها أدبية، لكن في داخلها مشاعر سياسية تنمو وتتطور، إلى أن دخلت في معترك الحياة بصفتي شيوعيًّا اشتراكيًّا. لكن في ذلك ما يشبه الادعاء لأن ما همني منذ البداية قراءات أولية لماركس، والقيم التي ارتبطت باسم الاشتراكية، وهي: الإنسان القيمة الأساسية في الوجود، فكل ما يتعلق بالحياة يتعلق بحياة الإنسان وتأمين شروط أفضل لحياته، هذه هي الفكرة الأولى، بعد مدة من الزمن اكتشفت أن ماركس يقول: إنه ضد تحويل الأفكار إلى عقائد جامدة، فأعجبني هذا القول.

● سوف نتحدث عن هذا الموضوع، لكن أردت أن أفهم منك لماذا في عمرك الآن لمّا تزل حاضرة فيك روح الاستنهاض وروح الشباب.

■ أعتبر أن من واجبي في ضوء تجربتي التاريخية، وما دمت قادرًا على ممارسة الحياة والتفكير والعمل، أن أتعامل مع هذه الأمور كما لو كنت شابًّا في مطلع العمر، وأعمل على تغيير أوضاع بلداننا، كما لو كنت شابًّا.

مجلة ومؤتمرات

● في هذا الإطار يندرج أيضًا البيان الذي أصدرته منذ عامين «من أجل تيار ديمقراطي لبناني». وهو يدل أيضًا على أنك تريد أن تؤسس. أتحدث هنا على المستوى الشخصي، على أن نناقش هذا البيان لاحقًا.

■ نظرت إلى الوضع في لبنان، وهو وضع بائس ويزداد بؤسًا، وأكثر ما يوحي بالبؤس عدم وجود قوى تفكر في كيفية تخليص لبنان من هذا الواقع، والمشكلة الأساسية هي أن الأجيال الشابة يائسة، في حين أنا ابن الثمانية والثمانين عندي ثقة في المستقبل. قلت لهم: اليأس يعني أنك لم تعد تفكر في الحياة، ولا تدري ما ينتظرك. أنا أعتقد أنه علينا أن نفكر في ما نعمل، بنفس طويل، ونؤسس لتيار ديمقراطي مدني، عابر للطوائف والقوى السياسية المتحكمة بالبلد والمانعة للتغيير فيه، آخذًا في الاعتبار تجربة الحراك الذي حصل منذ مدة، وهو مهم، لكنه في الوقت نفسه دخل في مشكلة صراع بين أطرافه، كلٌّ يدّعي أنه البطل، وهذا قريب من الحراك الذي حصل في العالم العربي، الذي أطلقتُ عليه صفة ثورة.

● يذكرني كلامك هذا بسعيد عقل الذي قال لي ذات يوم وهو في تسعينيات عمره: إنه ينوي إصدار جريدته «لبنان» من جديد. هذه الشجاعة موجودة أيضًا فيك. فأنت حاليًّا تصدر كتبًا بكثافة، حتى بلغت أكثر من 35 كتابًا، ولديك كما يبدو مشاريع كتابية مكثفة. أليست كلها مشاريع شبابية (بالمعنى المجازي)؟

■ بالفعل يذكرني سعيد عقل بما أنا منخرط فيه الآن، فعندي مشروع كبير يطاول العالم العربي، فأنا لا أفكر في التغيير في بلدي لبنان وحده؛ لأنني أعتقد أن بلداننا العربية كانت، وهي الآن أكثر من أي وقت مضى، مرتبطة مصالحها بعضها ببعض، ولذلك من الخطأ الفادح أن يفكر أي من مثقفينا ونخبنا ببلده وحده؛ لذلك عندي مشروع كبير يمكن أن أحدثك عنه بعض الوقت. من جملة هذا المشروع إصدار مجلة شهرية تعالج كل القضايا التي تتصل ببلداننا، من دون أن نعتبر بلداننا جزيرة في هذا العالم، نحن جزء من العالم، لذا تعالج المجلة ما يرتبط ببلداننا والعصر، وبمتغيراتهما، في اتجاهاتهما الإيجابية والسلبية، وهذا يتطلب منا أن نفكر في أن نحرر بلداننا من أنظمة الاستبداد بكل أشكالها، ويرتبط ذلك في الآن ذاته بتحرير الدِّين مما أدخل فيه من بدع وخرافات ونسيان للقيم الأساسية التي يمتلئ بها القرآن. المجلة جزء من مشروع أطلقته ووزعته على عدد من الشخصيات لأتلقى منهم تمويلًا، عنوانه: «مؤتمر للمثقفين في بلداننا العربية بكل مكوناتها»، لوضع خارطة طريق من أجل عالم عربي جديد. والمؤتمر يجمع مئة شخص. وهذا المشروع مقسم إلى ما يلي:

القسم الأول يتعلق باستحضار تراثنا في العالم العربي، من البدايات، ولا سيما المجيد فيه وهو كثير وعظيم، وكذلك استحضار ما هو مجيد في تاريخ العالم، كي نعرف من أين نذهب إلى المستقبل؛ لأن التاريخ تواصل، لا يمكن أن نذهب إلى المستقبل إلا من ماضٍ ما، ننطلق منه ونتجاوزه. وهذا أمر بالغ الأهمية. القسم الثاني، لدي أربعة مؤتمرات دائمة: الأول مؤتمر حوار الثقافات، والهدف منه أن نتعامل مع بلداننا على أساس أنها مكونة من مكونات متعددة، لا يوجد كبير أو صغير، أقلي أو أكثري، ديني أو علماني.

المؤتمر الثاني هو مؤتمر التجديد في الدين. والثالث يتعلق بكيفية معالجة الفقر. والرابع يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد آن الأوان كي نفرض في بلداننا والعالم حل الدولتين الذي يوفر علينا المتاجرة بقضية فلسطين. أهمية هذه المؤتمرات الأربعة أنها تهيئ شروط المستقبل، وتلغي كل العناصر التي استندت إليها ظاهرات القاعدة وداعش والأنظمة الاستبدادية التي تحاول منع أي تغيير في بلداننا. إلى جانب ذلك هناك مجموعة من المشاريع المتصلة.

● ما اسم المجلة؟

■ «رؤى».

● هل تحدد موعد إصدارها أو عقد المؤتمرات؟

■ الموضوع لا يزال قيد البحث، وقد وزعته على مجموعة كبيرة من الشخصيات العربية المهتمة بالثقافة، والمهتمة بتغيير بلداننا وتملك المال. وسوف أبقى مثابرًا على هذا المشروع، ولديّ أصدقاء يساعدونني.

الأفكار الجريئة

● «تحديث المشروع الاشتراكي»، و«نحو نهضة جديدة لليسار»، و«في البحث عن المستقبل»، كلها عناوين لكتب لك تدعو إلى التجديد. هل تشك في صلاحية أي فكر لتلبية حاجات مراحل عدة؟ ألا تعتقد بأن هناك أفكارًا تعيش طويلًا وأخرى عمرها قصير؟

مع والده

● كنت داخل الحزب الشيوعي اللبناني تقف إلى جانب أصحاب الأفكار الجريئة التي تحاول اختراق الجمود الفكري. بمعنى أنك كنت منفتحًا على الرأي الآخر. ألم تواجه مشكلات مع القيادات الأخرى في الحزب؟

■ أول مشكلة واجهتني في مطلع شبابي عندما عدت من العراق إلى لبنان عام 1949م، معتبرًا نفسي شيوعيًّا، أن الحزب الشيوعي اتخذ قرارًا بإعفاء فرج الله الحلو من مهماته الأساسية، وكان رئيسًا للحزب؛ لأنه اعترض على قرار الاتحاد السوفييتي بتأييد قرار تقسيم فلسطين. اتخذ القرار من جانب خالد بكداش و«البوطة» التي معه، وكنت أسمع بفرج الله الحلو، وأكثر من ذلك وجدت أن مجموعة من المثقفين من بينهم رئيف خوري وهاشم الأمين وإميلي فارس إبراهيم وموريس كامل وقدري عرقجي، طردوا من الحزب لأنهم وقفوا إلى جانب فرج الله الحلو، فانضممت إليهم ورفضت الدخول إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ما دام لا يستطيع أن يتحمل كلمة يختلف بها مع السوفييت، وبقيت كذلك حتى عام 1952م عندما دخلت إلى الجامعة، وانتخبت نائبًا لرئيس أول رابطة طلابية في الجامعة اللبنانية، فقال لي نديم عبدالصمد: كيف انتخبت بصفتك شيوعيًّا وأنت لست في الحزب؟ وكان ردي أنني شيوعي رغمًا عن الجميع، ولا أحد يقرر عني كيف أنتمي إلى الشيوعية، وضغطَ عليَّ فذهبت إلى رئيف خوري الذي كان مغمورًا بالشتائم من الحزب في ذلك الحين، وأنا أقدر رئيف خوري كثيرًا، فهو من الذين علَّموني أمورًا كثيرة، وعندما رويت له ما حدث، وأخبرته رفضي الدخول إلى الحزب قال: لا. هذا خطأ. ادخل واشتغل وناضل ولا تستسلم لما يحصل. أكبرت فيه قوله، وما إن دخلت الحزب حتى سلموني مسؤولية الطلاب الشيوعيين، وأرسلوني إلى اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي عام 1954م، وعدت، ثم أرسلوني إلى مجلس السلم العالمي، وعشت أربع سنوات في الخارج مع منظمات عالمية، وفي لقاءات مع مثقفين وقياديين من العالم، وقد علمتني هذه التجربة أمورًا استثنائية. عدت عام 1964م، وكان الحزب الشيوعي اللبناني قد انفصل عن الحزب الشيوعي السوري، فعيَّنوني عضو المكتب السياسي، قلت لرئيس الحزب نقولا شاوي: إذا لم يكن الحزب ديمقراطيًّا لا أستطيع أن أعمل فيه، فطلب مني أن أتريث قائلًا: لم يمضِ إلا شهران حتى الآن على انفصالنا عن الحزب الشيوعي السوري، ونحن مضطرون لأن نجري تعيينًا لا انتخابًا، وهذا مؤقت حتى نعقد مؤتمرنا وننتخب القيادة، وكنت وجورج حاوي كأننا أبناء نقولا شاوي، فوافقت، لكن بعد عام على دخولي المكتب السياسي لم يعجبني الوضع، فقلت لنقولا: الروتين مملّ، فإما أن تكون لدينا مهمات وإلا ما الفائدة من الحزب! قال: ما اقتراحاتك؟ طلبت منه أن نحدد سكريتاريا، تهيئ لاجتماع المكتب السياسي، ونوسع المكتب السياسي، ونحدد مهماته، على أن تراقب اللجنة المركزية تنفيذ هذه المهمات، وتكون هناك محاسبة دائمة، ونحدد علاقاتنا وخصوماتنا. فأبدى استعداده لتنفيذ طلبي.

وهذا ما حصل بالفعل في فبراير عام 1966م، بعد سنة بالتمام. وخلال هذا العام ذهب وفد الحزب إلى موسكو لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي، وعندما رجع لم يكن نقولا بين أعضائه، فسألت عنه، وكنت عضو سكريتاريا مع جورج حاوي وثلاثة آخرين من الحرس القديم، فكانت الإجابة أنه مريض، أربكني الموضوع، إلى أن أتتني دعوة إلى جنيف، فذهبت واتصلت من هناك بجورج بطل الذي كان في براغ، وكان ممن حضروا مؤتمر موسكو، وسألته عن حقيقة وضع نقولا، فقال: هناك مؤامرة ضد نقولا، ثم عدت إلى بيروت غاضبًا، وبدأت المعارك مع حسن قريطم الذي كان الثاني في الحزب بعد نقولا، وقد عقد اجتماعًا للسكريتاريا لم أدعَ إليه أنا وجورج، فقلت لقريطم: لا تعنيني المواقع القيادية، فإما أن أكون عضوًا فاعلًا ومسؤولًا مثلك وإلا «باي باي». المهم بدأت المعركة، ثم اتخذوا قرارًا بمساندة السوفييت من دون معرفتي وجورج، وعندما أبديت احتجاجي قال قريطم: نحن نأخذ مواقفنا السياسية من بيانات وكالة «تاس» (السوفييتية)، قلت له: أنت تفعل ذلك، أما أنا فالبيان أقرؤه وأرمي الورقة في سلة المهملات، أنا لا أقبل أن يملي عليَّ أي طرف الموقف الذي يعود إلى بلدي، إن كان السوفييت أو غير السوفييت، وهنا بدأت المعركة ضدي، واتخذوا قرارًا بإرسالي إلى موسكو بحجة إعادة تأهيلي (يضحك). ومنذ ذلك الوقت بدأت المعركة للخلاص من هذا الوضع. حينذاك تدخل السوفييت بشكل وقح، عن طريق سفيرهم في بيروت، وقرر القياديان في الحزب الشيوعي السوفييتي سوسلوف وبونماريوف، أن جورج حاوي جاسوس، أما أنا عندما انتهيت من مدرسة التأهيل منعوني من العودة، فأشار لي مدير المدرسة الذي كان صديقًا لي أن أكتب رسالة إلى بريجينيف، ففعلت وشكوت له أمري، فأفرجوا لي عن جواز السفر والبطاقة، لكن بونماريوف قال لي بكل وقاحة ما معناه: إني شريك جورج في الجاسوسية. وعندما رجعت إلى بيروت استقبلني نقولا، وقال لي بالفم الملآن: انتصرنا على السوفييت، أي أن جيل الشباب فرض رأيه على السوفييت والحرس القديم المرتبط بهم، وصار الحزب لبنانيًّا، يقرر في الوضع اللبناني ما يراه مناسبًا، فلا يفرض عليه السوفييت أمرًا. والطريف أننا عندما لبَّينا دعوة الاحتفال بالذكرى الخمسين لانتصار السوفييت عام 1967م، وذهبنا، حصل ما قاله لي نقولا شاوي مسبقًا أن من شتمني من القيادة السوفييتية أتى واستقبلني بالأحضان واعتذر مني. انظر كم كانت الشيوعية عظيمة في تاريخها (يضحك ساخرًا).

روجيه غارودي منافق

● وصفك صديقك طوني فرنسيس بأنك «شيخ طريقة» لأسلوبك التبسيطي ودعوتك الآخرين للنقاش والتفاعل ورسم البرامج والمشاريع. هل توافقه هذا التوصيف «الصوفي»؟

■ بمعزل عن التوصيف، أنا أكتب بلغة عربية صحيحة، هدفي الحقيقي وهمِّي أن أصل إلى أوسع جمهور، بأبسط الأفكار.

● الشيوعي روجيه غارودي الذي تأثرت به في إحدى مراحلك اعتنق الإسلام بعد اختلافه مع حزبه، لكنك وأنت ابن رجل دين، بقيت بعيدًا من هذا الخيار. هل السبب برأيك هو حصانة الأفكار الماركسية؟

■ سفراتي إلى أوربا علمتني أمورًا كثيرة؛ أن أكون منفتحًا جدًّا، وأفكر وأشغل دماغي. هذه كانت حصانتي. أما بالنسبة إلى الماركسية، فأنا لست قارئًا مهمًّا لها، هناك أمور كثيرة في كتاب «رأس المال» لم أفهمها، هكذا كانت قدراتي، فأنا لم أنجز في الجامعة سوى سنة واحدة، علمًا أني دخلت الأدب العربي لا الفلسفة، لكن تجربتي واهتمامي بالحياة وقراءاتي المكثفة باللغتين العربية والفرنسية، وزياراتي المتكررة إلى أوربا وبلاد العالم، فأنا زرت 65 بلدًا، من القارات الخمس، أي أنني زرت كل الدول المهمة، والتقيت 30 رئيس دولة وعشرات القادة الحزبيين من كل الاتجاهات، ومئات المثقفين… كل ذلك علمني كيف أكون مجددًا لأفكاري، ومفهومًا في خطابي. المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956م أحدث الكثير من التغييرات المهمة وخضّة في الحركة الشيوعية، لكن خروتشوف، للأسف، لم يكن أمينًا لذلك، وكان روجيه غارودي من أوائل الذين استفادوا من هذه التجربة، ونشر مجموعة من الكتب الرائعة جدًّا، وكنت قارئًا نهمًا فتأثرت به، وبآخرين أيضًا، لكن آلمني أن تغير في السنوات الأخيرة من عمره، وكان خارج الحزب حينها، فلم أفهم كيف خرج من الحزب الشيوعي ودخل الإسلام. وذات عام من التسعينيات أتى إلى لبنان، فكتبت كلمة عنه في جريدة «النهار» بناءً على طلبهم، وكانت كلمتي مهذبة لكن مع لؤم، وحضرت جلسة نقاش معه بحضور مثقفين آخرين، لم تكن كافية لفهم سره، بعدها دعاه جورج حاوي إلى الغداء، ودعاني، كنا ثلاثتنا فقط، فطلبت منه: احكِ لي بالضبط ما الذي حصل حتى تحولت، إلا إذا كنت تمارس دورك الإسلامي هذا من موقعك كماركسي (بسخرية)، قال لي بشيء من الحدة: صحيح. فتوقف النقاش، وفهمت أنه كان منافقًا.

● منذ مراحل سابقة في حياتك وأنت تقدّم أفكارًا نقدية جريئة للماركسية كفكر ونظرية، معتبرًا أنها ليست نظرية فوق النقاش!

■ بصراحة، استنادًا إلى أفكار ماركس بعدم تحويل الأفكار إلى عقائد، مجرد القول: إني ماركسي، يكون خطأ، أنا آخذ من ماركس ومن سواه، نعم يعجبني ماركس أكثر من سواه، لديه أفكار عظيمة أشرت إلى بعضها وأفكار أخرى انتهت، بهذا المعنى لا أسمي نفسي ماركسيًّا، أعتبر نفسي مفكرًا أتمسك بقيم دخل إليها ماركس باسم الاشتراكية، وفي المناسبة أنا أرى أن أي كلام عن الاشتراكية والشيوعية لا معنى له، فقبل أن تنهار التجربة الشيوعية، تجرأت عام 1983م وفي مئوية وفاة ماركس، وكتبت في عدد خاص لمجلة «الطريق» عن المناسبة، فاعتبرت أن هناك أزمة في الماركسية في الدول العربية، حتى لا أعمم، ومن حقي أن أعتبر هذا الكلام ماركسيًّا أو غير ماركسي، وفي عام 1990م نشرت كتابًا عنوانه: «حوارات» ناقشني فيه أربعون مثقفًا حول مقالات لي نشرتها في «الأهرام»، في آخر الكتاب وضعت خلاصة رأيي، وكنت قد أمضيت سنة في الاتحاد السوفييتي بين عامي 1987 و1988م، ورأيت كارثة البيريسترويكا، وأوهام التجديد في حركة عمرها 70 سنة، فكنت من أوائل من تكلموا عن أزمة في الاشتراكية.

الفساد في الاشتراكية

● يبدو أنك اقتديت ببليخانوف حين قال: التكنولوجيا والإنتليجنسيا هما حاملتا حركة التغيير لا الطبقة العاملة. بمن تأثرت أيضًا من منتقدي الماركسية؟

■ صحيح تأثرت به، وبغرامشي وجورج لوكاش، والطريف في الموضوع أن لينين نفسه عندما قام بثورة أكتوبر، وبالمناسبة لم تكن ثورةً كانت بمنزلة انقلاب عسكري، اكتشف خطأه بعد انتصار هذا الانقلاب، اكتشف أنه أراد تنفيذ الاشتراكية في بلد متخلف ومدمَّر بفعل الحرب، وعندما انتهت الحرب الأهلية أراد أن يقيم سياسة جديدة، فهو نشر نصًّا مهمًّا جدًّا عام 1923م، كان ألقاه في محاضرة رائعة جدًّا، أمام المسؤولين عن التثقيف في الحزب، يقول: نحن الآن في سلطة العمال والفلاحين، انتصرنا، لكن الآن ما الذي يبني روسيا المتخلفة المدمَّرة غير الرأسمال، والرأسمال يأتي بشروط الرأسماليين لا بشروطنا. أطلق على ذلك تسمية «رأسمال الدولة»، وقال: لا تبحثوا عند ماركس عن هذا الموضوع، فهو لم يتكلم عن ذلك. وتابع: نحن أمام خيار واحد، أن نأتي بالرأسمال من الداخل أو الخارج لبناء روسيا، إذا فعلنا ذلك تستمر السلطة وإلا فسوف نخسرها. وما علينا إلا أن نستقبل هذا الرأسمال بدم بارد.

اكتشف لينين خطأه ثم عاد إلى نظرية ماركس التي تقول: إن الاشتراكية لا تتم إلا من أعلى مرحلة من تطور الرأسمالية، وأعلى مرحلة من تطور القوى المنتجة، وأعلى مرحلة من تطور الطبقة العاملة. وفي إحدى محاضراتي عام 1990م قلت: هناك 15 خللًا بنيويًّا في الاشتراكية، بدأت من لينين ووصلت إلى ما كان يجري في البلدان الاشتراكية مما يناقض القيم الشيوعية بكل المعاني. ومن خلال تجربتي ومعرفتي بالدول الاشتراكية والاتحاد السوفييتي بشكل خاص، أرى أن الفساد كان سائدًا، وما أعرفه فظيع جدًّا.

● لا يفاجئني موقفك الحاد من ستالين الذي تصرف كدكتاتور، والمعروف بدمويته، وأنت تتهمه بقتل الملايين من السوفييت. لكن دكتاتورية أخرى رفضها الشيوعيون الأوربيون، ولم يرفضها الشيوعيون العرب، أعني دكتاتورية البروليتاريا. هل بسبب عدم استقلاليتهم تمامًا عن الاتحاد السوفييتي؟

■ في الحزب الشيوعي اللبناني كنا من الذين يؤيدون دكتاتورية البروليتاريا، لكن في عام 1966م ألغيناها من أدبياتنا واعتبرناها عيبًا، وكان برنامج حزبنا حينها برنامج حزب شيوعي لبناني بكل المعاني، ديمقراطي ويعترف بالآخر، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، خرج حينها الحزب من قوقعته؛ لأنه كان أعمى ويعمل ما يملى عليه من الاتحاد السوفييتي. طبعًا هناك أحزاب شيوعية عربية أخرى بقيت على خطئها في هذا المجال.

● أنت مرة تستعين بالماركسية على الماركسيين، ومرة تنتقد الماركسية نفسها. ماذا بقي من الماركسية اليوم، برأيك؟

■ هذا سؤال صعب. كما قلت لك من قبل لا أميل إلى توصيف نفسي منسوبًا إلى شخص أو عقيدة. والماركسية ليست عقيدة، إنما أفكار، قد يكون من الخطأ أن نسأل: ماذا بقي من الماركسية؟ يمكن أن نسأل: ما الذي بقي من أفكار ماركس؟ وما الذي انتهى مع الزمن؟ وما بقي من أفكاره هو ما ذكرته في حديثي، الإنسان هو القيمة الأساسية في الوجود، وكل ما له علاقة بالحياة يدور حول مصلحة الإنسان، والقيم الأساسية هي التي ترتبط بهذا الأمر، والأفكار ليست عقائد، والفكر تاريخي.

● هناك من يحمّل اليسار المسؤولية الأساسية لإخفاق أفكار ماركس، وهناك من يحمّل الماركسية نفسها أزمة اليسار. ما رأيك؟

■ رأيي أن الاتجاهين خطأ. مجرد إصرار البعض على اعتبار كل ما قاله ماركس مقدسًا، يعني أن لا علاقة لهم بالفكر ولا بحياتنا ومستقبلنا، أما أنا فسميت نفسي يساريًّا، لا شيوعيًّا ولا اشتراكيًّا، مع أن كلمة يساري لم يكن لها معنى إلا أيام الثورة الفرنسية، بمعنى ما هو أقرب إلى الواقع والتغيير، فكلمة يساري لا تعني عقيدة محددة، فيها ميل واتجاه نحو التغيير استنادًا إلى بعض القيم التي أخذناها من ماركس، ثم هل هناك قبضاي يصف نفسه بالاشتراكي أو الشيوعي يمكن أن يشرح لي صفته! أكثر من ذلك، في أحد حواراتي قلت: إذا طُرح على شخص رأيه بكلمة شيوعي بعد كل الذي حصل، ماذا يقول؟ إذا كان لديه بعض العقل يمكن أن يرد: ألا تخجل أن تطرح عليّ هذا السؤال، عمن تسأل! عن أولئك الذين عملوا الكوارث باسم الشيوعية.

رفضت الحتمية التاريخية

● إذن، أنت ضد تطبيق الاشتراكية أو الشيوعية في العصر الحالي، وأنت أيضًا ضد الحقد على الرأسمالية بشكل عام، وتبحث عن التكامل معها. هل يعني ذلك أنك متوافق مع النظرية الثالثة التي توفق بين الرأسمالية والاشتراكية وطبقتها بعض الدول الإسكندنافية وسواها؟

■ أنا لست ثالثًا، أنا أول! بمعنى أنني أفكر كيف أغيّر في بلادي، وهذا التغيير لا يستند إلى عقيدة، إنما إلى قراءة الواقع واستخلاص مهمات منه، وأشرت في إحدى إجاباتي إلى أن أمامنا مهمتين كبيرتين، الأولى كيف نعمل نظامًا ديمقراطيًّا تعدديًّا، والثاني كيف نعمل دولة مدنية حديثة فيها فصل بين الدين والدولة، والدولة مهمتها الاهتمام بكل مرافق الحياة. واستنادًا إلى هاتين المهمتين أطرح السؤال: كيف أعمل تغييرًا؟ وأجيب: عناصر التغيير ثلاثة: حرية، وتقدم بكل المعاني، وعدالة اجتماعية. وتحقيق هذه الأقانيم الثلاثة يتطلب الأمور التالية: القوى التي تقوم بعملية التقدم، هذه القوى تكون برعاية الدولة والنظام الديمقراطي التعددي والرأسمالي، هذا ما قلته لرفاقي الشيوعيين منذ زمن بعيد، فالشتيمة للرأسمالية كلام فارغ، وكذلك الكلام على العدو الطبقي. من دون رأسمال لا يحصل التغيير، حتى تكوّنه عليك أن تكون كتلة تاريخية، أمامها مهمات التغيير، وتفرض على الرأسمال القيام بواجبه في ظل الصراع الديمقراطي أن يقوم بواجبه فيحقق التقدم، من جهة، وأفرض عليه باسم المجتمع والدولة أن يوقف همجيته في البحث عن الربح بأي ثمن، من جهة أخرى. هكذا أفكر بحرية وواقعية، ومن دون أي مرجعيات.

● أنت هنا تنسف نظرية أساسية للماركسية وهي الحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية، وهذا ما قلته أيضًا في كتابك «عشية أفول الإمبراطورية»: إن مقولة انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية لم تكن واقعية.

مع ياسر عرفات

■ فكرة الحتمية التاريخية رفضتُها منذ وقت مبكر؛ لأن معناها أنني أذهب في اتجاه محدد إلى الهدف، من قال ذلك؟ ما الوقائع والمتغيرات؟ وهل العالم ثابت؟ العالم متغير دائمًا لذلك لا تصح الحتمية التاريخية. بعض المنظرين يحررون ماركس من هذه المقولة. هذا لا يهمني، فأنا بنيت موقفي ضدها، ورفضت أن أقول: أنا سلفًا ذاهب إلى الاشتراكية، أي تجربة تلك التي كانت ستؤدي إلى الاشتراكية؟ التجربة التي عددت 15 عنصرًا من الخلل البنيوي فيها. أي اشتراكية تلك التي حصلت في الاتحاد السوفييتي! أنا أقمت في كل البلدان الاشتراكية، ورأيت الوقائع مثلما هي تمامًا. كلها كانت كذبة كبيرة. لكن هذا في المناسبة لا يلغي أمرًا مهمًّا جدًّا، وهو أن الذين آمنوا بالاشتراكية كانوا من كبار العلماء وكبار الأدباء والفنانين والمثقفين، اشتغلوا استنادًا إلى هذا الارتباط الفكري، وإذا أردت، الطوباوي. هؤلاء شكلوا سمة عصر بكامله. والمشكلة الأساسية أيضًا أنهم طرحوا فكرة كيف نعمل لصالح الإنسان، وهؤلاء عملوا نظريات في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية لكن الدول الرأسمالية طبقتها ولم تطبقها بلادهم، مثل: النقابات، والرعاية الصحية والتعليم والسكن، نعم أخذت بعض الدول الرأسمالية أفكارًا اشتراكية وطبقتها في بلادها.

● تلك هي النظرية الثالثة.

■ أنا لا أسميها هكذا. أندريه جيد دُعي في الستينيات إلى الاتحاد السوفييتي ليرى الإنجازات، وعندما وصل أطلعوه على برنامج الزيارة، فقال لهم: أنا أحدد أين أذهب، وعندما جال حيث يريد اكتشف الفضائح، وكان حينها صديقًا للشيوعيين، وعندما عاد إلى فرنسا نشر الفضائح.

● ننتقل من الحتمية التاريخية إلى التاريخ الذي تبدو مولعًا به، ففي مقدمة كتابك «شخصيات وتواريخ في السياسة والفكر والأدب والفن» تعتبر أن التاريخ شريطة للدخول إلى المستقبل، وتعد القراء بأنك ستدأب في الوقت اللاحق على تدوين تاريخ العالم العربي من عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر، وتاريخ العالم في عصوره المختلفة، ولا سيما عصر الأنوار، وصولًا إلى الثورة الفرنسية. ماذا تريد أن تؤسس على دراستك لهذا التاريخ؟

■ هذا الموضوع له علاقة بما أسلفتك القول عنه حول مشاريعي المقبلة، فأنا دائمًا أقول: اقرؤوا التاريخ لتعرفوا إلى أين أنتم ذاهبون، ونفهم كيف نضع خارطة طريق لمستقبل عربي جديد، استنادًا إلى أننا جزء من العالم ولسنا في جزيرة. حتى المجيد في تاريخنا علينا أن نتجاوزه. التاريخ برأيي تواصل وتجاوز، ومن دون التواصل لا يمكن أن يكون التجاوز. بهذا المعنى نعود إلى التاريخ لنحدد طريقنا إلى مستقبل مختلف.

● تُشدِّد في أدبياتك على مبدأ أساسي يقوم على اعتبار أن الإنسان هو القيمة الأساسية في الوجود، وتركز على تعبير الإنسان الفرد الحرّ والإنسان الجماعة المُشَكَّلة من أفراد أحرار، كأنك تغمز هنا من قناة الاشتراكية أيضًا، التي تشدد على ذوبان الفرد في الجماعة؟

■ لا أبدًا. ذوبان الفرد في الجماعة نقيض لفكر ماركس، فهو يعتبر أن الإنسان هو القيمة الأساسية في الوجود، والإنسان الفرد يبقى فردًا، والجماعة تتشكل من أفراد أحرار من دون أن يذوبوا فيها، وما ساد في الدول الاشتراكية من مثل هذه الأفكار يناقض الفكر الماركسي، وأنا في هذا الموضوع مع ماركس.

الثورات العربية حقيقية

● عندما تحدثت عن اليسار العربي رأيت أنه لم يمارس المراجعة أو أي نقد حقيقي. هل هذا اليسار يختلف برأيك عن اليسار الغربي باختلاف الشرق عن الغرب حضاريًّا؟

■ المؤسف أننا في زمن يلتقي المتخلف بالمتحضر، لو نظرت اليوم إلى فرنسا، ففيها الديغولية والاشتراكية الديمقراطية والشيوعية، لكن يحكمها شخص غريب اسمه ماكرون أصبح رئيسًا لفرنسا، ويتحكم بمصيرها، وله أكبر كتلة برلمانية، في حين التيارات الثلاثة التي كانت أساسية باتت صفرًا على اليسار. هذه التيارات الثلاثة شبيهة بما عندنا من حركات متخلفة، لم تقرأ الواقع ولم تُجرِ مراجعات نقدية، فكيف تذهب إلى المستقبل!

● تقول: إن الفكر عندما يتحول إلى عقيدة يتحكم الإيمان بالعقل. هذا الإيمان يحوِّل شخصًا إلى إله أو قائد تاريخي. ألا ينطبق هذا الواقع أيضًا على اليسار؟

■ ما أكثر الآلهة عند اليسار، لينين، ستالين، ماو تسي تونغ، وخالد بكداش… .

● عندما تحدثت عن الثورات العربية في مؤلفاتك حذرت من ثلاثة مخاطر: المبالغة، والشعبوية، والسلفية. إذا سألنا عن حضور هذه المخاطر في طبيعة الثورات التي قامت، ماذا يتبقى منها برأيك؟

– تقييمي للثورات أنها كانت ثورات حقيقية، بمعنى أنها طرحت فكرة مهمة جدًّا، لم يدركها كل الناس، لكنها عبرت عما يجول في خاطر كل منا، لم نعد نستطيع أن نعيش كما نحن في ظل الاستبداد والقهر والظلم والظلامية وسوى ذلك، وعلينا أن نغير. هذه الفكرة بحد ذاتها مهمة جدًّا. الفرق بين هذه الثورات وسواها في العالم أن للأخيرة قادة، فالثورة الفرنسية كانت مثل ثوراتنا لكن عصر الأنوار كان سابقًا لها، وفولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم. في بلادنا لم يكن مثل هؤلاء، كان اليسار فقط، ومع ذلك أنا ضد المقارنة. في ثوراتنا كان المطلوب هو التغيير، فطرح الناس شعارات، لا برامج ولا آليات نضال ولا قوى جاهزة، ولا حسابات للخصوم، فالأنظمة الاستبدادية عميقة الجذور وقوية، وجمهورها كبير ومستسلم ويائس وموافق على الحكم، وفي المقابل الحركات السلفية ماتت من الخوف من أن تنجح ثورة اليسار، فالتقى الخصوم ضد الثورة. ولم تكن شروط تحقيق الأهداف متوافرة، لكن ردة الفعل ضد الثورات تؤكد أهميتها. والآن مطلوب الاستفادة من تجربة الحروب الأهلية وهذا الوضع الصعب؛ داعش وسواها.

● ألا تعتقد أن هذه الثورات ظهَّرت قوة الإخوان المسلمين وداعش أكثر من أي قوى أخرى مثل قوى التقدم والتغيير؟

■ هذا يؤكد أن الذين قاموا بالثورات لم يكونوا يقدرون الواقع كما هو، فالتيارات الإسلامية جذورها عميقة في بلادنا، وهي تستند إلى أنظمة استبدادية، لذلك لا يحصل التغيير إلا إذا وضعتَ برنامجًا طويل المدى، يجمع حوله القوى، وكوَّنت تيارًا، وجرى تطوير العمل مرحلة بعد أخرى. ماذا يفعل مليون في مصر نزلوا إلى الشارع من أصل مئة مليون! ولا ننسى أن قوى ودولًا متعددة حاولت ضرب هذه الحركات من الداخل.

● أنت تدعو إلى تجديد الدين الإسلامي، لكن ماذا لو حصل ذلك وبقي أصحابه مُصرِّين على عدم الفصل بينه وبين الدولة؟

■ قبل البحث في فصل الدين عن الدولة، تبين أن عندنا حركات سلفية همجية بكل معنى الكلمة تستخدم نصوصًا من القرآن في ضرب الأعناق والتكفير، وتعتبرها مرجعيتها وبرنامجها، وتلغي كل ما هو نقيض ذلك. في القرآن آيات ملأى بعدد هائل من القيم الإنسانية والاعتراف بالآخر:           ﭼﭽ، ﯿ        ﰂﰃ،     ،       ،         ، وحديث «اطلبوا العلم ولو في الصين»، والحث على استخدام العقل والعلم. أنا شديد الاعتزاز بالقيم الإنسانية الموجودة في الدين الإسلامي التي علمني إياها والدي. وبالمناسبة أجرى لي الوالد امتحانًا عندما صرت شيوعيًّا فوجد أنني ما زلت على نفس القيم فارتاح، وبتقديري أن والدي، رجل الدين، كان يعرف الأساس في الدين. أنا لا أجرؤ على تقديم اقتراح فيما يتعلق بالتجديد الديني، لكني أضع للبحث أمام المؤسسات الدينية السؤال التالي: هل تريدون أن تمنعوا منعًا باتًّا قيام حركات مثل داعش ومثيلاتها، إذا أردتم ذلك خذوا من القرآن، فهو مليء بالقيم الإنسانية، واجعلوا هذه القيم أساسًا في وعي الدين والارتقاء بالمؤمنين إلى هذه القيم، عندئذ وفي هذه الحالة يلتقي المؤمن وغير المؤمن. وكل ذلك يجب أن يكون تحت سلطة الدولة، فعندما تتدخل المؤسسات الدينية، ولا أقول الدين، دائمًا تحمل معها مصالحها، وهي تتناقض مع وظيفة الدولة ووظيفة الدين، ينبغي أن نحرر الدين من إقحامه في شؤون ليست له، ونترك للدولة أن تأخذ من الدين قيمه الأساسية.

● هل تنتظر أن يستمع المتدينون لدعوة علماني إلى تجديد الدين الإسلامي، حتى لو استعنتَ بكثير من آيات القرآن والأحاديث؟

■ سأعطيك مثلًا أعتز به، وهو أن الإمام محمد مهدي شمس الدين الذي كان رئيس المجلس الشيعي الأعلى، وكانت تربطني به صداقة عميقة، ذهبت إليه في مطلع عام 1991م، مع جورج حاوي الذي قال له: أريد أن أُعْلِمَكَ سماحة الإمام أن الحزب الشيوعي ليس حزبًا ملحدًا، فضحك كثيرًا، سألته عن السبب، قال: أريد أن أوجه سؤالًا إلى جورج: هل تعني بكلمة ملحد عدم الاعتراف بخالق؟ إذا أثبتَّ لي عدم وجود خالق يمكن أن تقنعني. فنظر إليَّ جورج، فقلت له: أجب، فقال له: لا أستطيع أن أُقنعك بعدم وجود خالق. فالتفت سماحة الإمام وهو يضحك وقال: هل تتصورون أنني أستطيع أن أقنعكم بوجود خالق؟ وتابع: هناك إيمان وشك، وهما أمران متلازمان، عندي أنا الإيمان أقوى من الشك، الشك يلازمني لكنني قررت أن أكون مؤمنًا، وهذا يريحني، أنتما فليكن الشك أقوى عندكما من الإيمان. وفي عام 1999م نشر سماحته كتاب «الوصايا» الرائع، وكان في أواخر حياته، يقول فيه: أريد دولة مدنية لا دين لها، هكذا كان الإمام شمس الدين، والمؤمنون سيجدون أنفسهم مرغمين على إحداث تغيير في الدين. وهنا أستشهد بنصين لخليفتين، عمر بن الخطاب يقول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»، وهل يوجد أروع من هذا الكلام؟ والإمام علي يقول: «لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم». حتى لو ذهب داعش ولم يحدث تغيير في الدين سينشأ داعش آخر. لا غنى عن التجديد في الدين.

اليسار اللبناني

● تحدثت عن مجلة عربية ومؤتمرات عربية، وأنت تؤمن بالقومية العربية، لكنك دعوت إلى تيار ديمقراطي لبناني لا عربي؟

■ لدي مشروعان، واحد لبناني وآخر ديمقراطي مدني عابر للطبقات، مهمته مواجهة ما نحن فيه الآن، همي كلبناني ومعي مجموعة من الشباب، يجب أن يكون عند أي مجموعة في بلد عربي آخر، حتى لا أبقى في الإطار اللبناني فقط وضعت المشاريع العربية الأخرى مع تحديد المهمات، وملخصها وضع خارطة طريق من أجل عالم عربي جديد يتميز بأمرين: أنظمة ديمقراطية بدون تمييز بين مكون وآخر، ودولة مدنية حديثة تقوم بوظائفها كاملة، ومجتمع راقٍ متقدم، كلما تقدم أكثر صار شريكًا للدولة في تحقيق ما هو مطلوب منها.

● معنى ذلك أنك بواسطة المجلة والمؤتمرات العربية تحفز على قيام تيارات ديمقراطية عربية أخرى. لكنك دعوت إلى تأسيس تيار، لماذا لم تدعُ إلى تأسيس حزب؟ أهو موقف من العمل الحزبي أم مرحلة تمهيدية يتأسس بعدها الحزب؟

■ بصراحة، لأنني لم أعد من أنصار تأسيس أحزاب، فالتجربة بينت أن الحزب الذي ساد في الوطن العربي بكل مكوناته، شيوعيًّا أو غير شيوعي هو الحزب اللينيني الذي يحول الأفراد إلى كتلة، وهو فاقد للديمقراطية والاعتراف بالآخر وإمكانية طرح فكرة حقيقية للتغيير، فلماذا نبقى مُصرِّين على هذا التقليد؟ أهمية التيار أنه متنوع ومتعدد، يكون فيه العضو مرتبطًا لكنه يعبر عن أفكاره بحرية. فكلمة حزب لم يعد لها معنى برأيي الشخصي.

● في كتابك «فصول من تجربتي في الفكر وفي السياسة» توقفت عند أخطاء اليساريين اللبنانيين وقصور نظرتهم، هل ترى أن أي نقد لليسار اللبناني هو نقد ذاتي لكريم مروة؟

■ أول شيء حتى يحترمك الناس عليك أن تنتقد ذاتك. أنا كتبت اعترافات شخصية حول مجموعة من الأخطاء التي ارتكبتها، لم يجرؤ أحد على تقديم مثلها، ستقرؤها في كتاب يصدر قريبًا.

● هل يمكن أن تذكر نموذجًا منها الآن؟

■ مثلًا طرحت على نفسي سؤال: أرى أنني نزق في بعض تصرفاتي، كيف أسعى للتحرر من هذا النزق؟

● نموذجًا آخر؟

■ رأيت عناصر الخلل في حزبي وفي التجربة الاشتراكية، وسكت في البداية لأنني خفت أن أعاقب كما عوقب فرج الله الحلو، وخفت أن أؤذي التجربة… عندي كمٌّ كبير من الاعترافات. والنقد الذاتي هو نقطة الانطلاق إلى النقد العام.

● تقول: إن النظام اللبناني لن يستقيم إلا إذا اقترن بالضرورة بقيام دولة مدنية حديثة، دولة حق وقانون ومواطنة وحقوق إنسان ومؤسسات ديمقراطية، في حين يقول آخرون: إنه لا يمكن التخلص من النظام الطائفي دفعة واحدة، وإن الحل يكون بالتدرّج. أنت موافق؟

■ برأيي موضوع التدرج شرط ضروري في كل عمل، والتراكم مهم للتدرج.

سلاح حزب الله

أنت مع مبدأ النضال السلمي والديمقراطي في الداخل، لكنك مع استخدام السلاح لصد العدوان ومقاومة المحتل، فمن يحق له استعمال السلاح؟

■ أولًا أعترف لك بأنني اكتشفت ولو متأخرًا أنني بالمطلق ضد استخدام العنف، وأن النضال من أجل تحقيق هدف معين بما في ذلك إزالة الاحتلال، ينبغي أن نفكر أولًا بمدى كلفته، هل أتسبب بموت ناس، ويسقط شهداء أفاخر بعددهم! هذا ما حصل في المقاومة. أعتقد أنه في ضوء تجربة كل الثورات التي عرفناها في التاريخ، أن النضال السلمي كان أفضل بكثير، خذ التجربة الفييتنامية، والصينية، فماو تسي تونغ تسبب في مقتل 130 مليون شخص، ولا أعرف عدد من تسبب ستالين في مقتلهم، في النهاية الصينيون رجعوا إلى الأميركان، والحزب الشيوعي الفييتنامي له السلطة والبناء والعمران للأميركان. هل كانت هناك ضرورة لما حصل؟ أعتقد لو أخّرنا الوصول إلى أهدافنا قليلًا لحصلنا على ما نريده سلمًا. لذلك كنت من الدعاة إلى المحافظة على سلمية الثورة في سوريا، لكن النظام استدرج الثوار للسلاح، فوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. أما في موضوع تحرير الأرض من الاحتلال، فالمتعارف عليه أنه لا بد من مقاومة الاحتلال، تقاوم باسم الدولة أو منظمات، وهذا له علاقة بالظرف التاريخي الذي يحصل فيه الاحتلال، وهناك حالات متعددة في العالم. نحن فعلنا مثلما فعلوا في أوربا وحملنا السلاح، أنا أشهد أن المقاومة التي استخدمناها كشيوعيين وبعض من كان حولنا لم تستخدم سوى السلاح البسيط، وكنا نحدد الأهداف بدقة، بخلاف ذلك صار حزب الله يمتلك دبابات، ولديه جيش كامل، وهذه مبالغة في استخدام السلاح، أنا أعلنت أنني ضدها بالمطلق وما زلت. وصلنا إلى مرحلة أننا حررنا الأرض، وبقي السلاح، فهذا معناه أن للسلاح وظيفة غير تحرير الأرض، لا علاقة لها بالوطن. واستمراره يشكل خطرًا كبيرًا على لبنان.

● تقصد سلاح حزب الله؟

■ طبعًا. والدليل على ذلك دخوله الحرب في سوريا، ودفاعه عن نظام استبدادي، بحجة وجود داعش، مع أن داعشًا صنعه النظام نفسه. لذلك أقول أنا ضد العنف، فغاندي حرر الهند من دون عنف. آمل أن يأتي وقت يدرك فيه حزب الله أنه ارتكب خطأً فادحًا مرتين، مرة لأنه عظّم سلاح المقاومة، رغم تقديري وتقويمي الإيجابي لبطولاته في المقاومة ضد إسرائيل، فعندما يناضل أبطال ويستشهدون ضد عدو عليك أن تحترمهم حتى لو كانوا ألد خصومك. ومرة أخرى كان عليه أن يلقي سلاحه ويسلمه للدولة عندما تحررت الأرض، كما فعلت جميع مقاومات العالم. عندما تشكلت حكومة فرنسا برئاسة ديغول عيّن موريس توريز، أمين عام الحزب الشيوعي، نائبًا لرئيس الحكومة، لأن الحزب الشيوعي الذي كان بطل المقاومة سلّم سلاحه للدولة. يؤلمني جدًّا كلبناني أن يبقى حزب الله يلعب بالسلاح؛ لأن حزب الله مكون من أبناء شعبي وبلدي، وأنا حريص ألا يموتوا وألا يقتلوا سواهم.

● لكنك بالرغم من كل هذا الوضع العربي المرير تبدو دائمًا متفائلًا. ماذا ترى في الأفق؟

■ أنت أمام أمرين، إما أن تتفاءل وتعمل من أجل تحقيق أهدافك، أو أن تيأس، واليأس سهل لكنه لا يوصل إلى مكان، بل يبقيك في كمد وقلق، فتفاؤلي يعطي معنًى لحياتي، وأنا أتفاءل وأقول لا بد من أن نعمل للتغيير، وسوف أعمل من أجل التغيير لآخر نفس في حياتي. وهذا يشعرني بأنني رغم تقدمي في العمر لا أزال شابًّا، ومُصرًّا على هذا الشعور (يضحك).

الطائفية والمثقف في لبنان: متجذّرة في التاريخ.. قابضة على الثقافة والمثقفين.. والمستقبل على يد عفريت!!!

الطائفية والمثقف في لبنان: متجذّرة في التاريخ.. قابضة على الثقافة والمثقفين.. والمستقبل على يد عفريت!!!

لا يمكن الكلام عن المثقف اللبناني والطائفية من دون معرفة فصول التاريخ الطائفي المتجذر في لبنان، واستكشاف هذه النبتة السامة التي تفرخ حروبًا كل مدة من الزمن، ولا شك في أن تنوع الأديان والمذاهب في لبنان الذي نفترض أنه يشكل غنى حضاريًّا وثقافيًّا في هذا البلد الصغير، هو ذاته يشكل أرضًا خصبة لمن يريد استثمار العصبيات الطائفية لمصالحه السياسية، فالحساسيات تخبو وتستعر بحسب مقاييس الربح والخسارة لدى الزعماء اللبنانيين والمحركين الخارجيين.

لقد كانت المرحلة العثمانية من المراحل الطائفية الأكثر خصوبة في تاريخ لبنان، لما مثله العثمانيون من اتجاه إسلامي وضع لبنان في حال تنافر طائفي ومذهبي، فاعتبار السلطان العثماني نفسه خليفة للمسلمين، أخرج المسيحيين من دائرة الرضا والحظوة، كذلك أثرت ارتدادات الصراع العثماني الصفوي في موقف الشيعة تحت الحكم العثماني، ومن ضمنهم شيعة لبنان. ومن هنا بدأ التغلغل الأوربي في المنطقة يتخذ من الطوائف والمذاهب متكأً لمناهضة الحكم العثماني، وبالتالي تطور الوضع ليرث الأوربيون في النهاية تركة الرجل المريض. وفي ظل الحكم العثماني المريض أنشئ «نظام القائم مقاميتين» (1843- 1861م) الذي قسّم بموجبه لبنان (بحدوده السابقة) بين قائمقامية درزية جنوب خط بيروت الشام وأخرى مارونية شماله، ومنذ ذلك الحين بدأ التجاذب الدولي للطوائف اللبنانية، بحيث بدا كأن البريطانيين يدعمون القائم مقامية الدرزية والفرنسيين القائم مقامية المارونية. وقد أتى ذلك بعد الحرب الأهلية الأولى في لبنان التي حدثت عام 1841م بين الدروز والموارنة. ثم أتى نظام المتصرفية بعد أحداث 1860م أيضًا، ليستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، الذي تولّت بموجبه الدول الأوربية حماية الطوائف والمذاهب اللبنانية في دولة جبل لبنان، فرعَت فرنسا الموارنة، وروسيا الأرثوذكس، والنمسا الكاثوليك، وإنجلترا الدروز، في حين بقيت الطائفتان السنية والشيعية تحت حكم السلطة العثمانية.

ومع بدء الانتداب الفرنسي عام 1920م، وإعلان «دولة لبنان الكبير» بحدودها الراهنة، بقيت المجالس التمثيلية موزعة على الطوائف، وبقي المسلمون معترضين على انضمامهم إلى دولة تجعلهم أقلية، في حين كانوا في الحكم العثماني في ظل أكثرية مسلمة. وكان الميثاق الوطني أول اتفاق يجمع اللبنانيين على صيغة واحدة في ظل الاستقلال عام 1943م، وُزّعت فيه الرئاسات الثلاث على المسيحيين والشيعة والسنة (عرفًا لا نصًّا) كما هي حاليًّا، في حين وُزّعت الوظائف بنسبة سبعة للمسيحيين مقابل ستة للمسلمين. ورغم أن المادة 95 من الدستور نصّت على اعتبار الطائفية مؤقتة، فإنها استمرت لتكون سببًا أساسيًّا في تجدد اشتعال فصول من الحروب الطائفية، فحصلت أحداث 1956م، ثم الحرب الأهلية عام 1975م، لتتغير صيغة التوزيع الطائفي رسميًّا من خلال مؤتمر الطائف عام 1989م إلى توزيع الوظائف مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك النواب والوزراء، مع تخفيف صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي.

وجيه كوثراني

علي حرب

هذا التاريخ الذي يمتد من الحكم العثماني حتى اليوم يشير إلى أن كرة الثلج الطائفية لا تزال تكبر وتكبر حتى يومنا هذا، حتى في بلد الحريات، وإن تغيرت أطراف الصراع، وبات التناحر السني الشيعي يحتل اليوم المشهد السياسي والأمني في لبنان، مع تواري الصراع المسيحي الإسلامي. ويعتبر المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن غياب الديمقراطية الصحيحة في لبنان هو السبب: «العلمانية وحرية الفكر والتعبير لا تعوضان الفوارق، كما أنهما لا يمكن أن تخففا إلى الأبد من وقع الظلم الناتج عن استئثار فئة من الفئات بالقسط الأكبر من السلطة السياسية والاقتصادية. لقد كبر جسم لبنان على قميص الديمقراطية الذي أُلبِسه في الأربعينيات، فكان لا بد أن يتمزق ليظهر الجسم على حقيقته، جسمًا مريضًا بالطائفية» («الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، 1996م، ص 109). ويتابع الجابري تعميم الفكرة بالقول: «وليس ما يجري في لبنان سوى نموذج لما يمكن أن يجري في أي بلد آخر يكون فيه توظيف الدين في السياسة حاجة سياسية» (ص 120). هكذا بات لبنان أرض صراع طائفي بغيض، وباتت الأحزاب الطائفية هي الفاعلة في السياسة المحلية، وهي التي تستقطب الأجيال الجديدة، بعدما كانت هذه الأحزاب تتقاسم الحضور السياسي مع أحزاب يسارية وعلمانية. على أن هذا الصراع ما كان ليحتدم لولا الاحتضان الدولي له.

مثقفون ضد الطائفية

جبران خليل جبلران

خلال تلك المراحل التاريخية كانت مواقف المثقفين مشتتة، لكن عددًا كبيرًا من الأسماء المعروفة كانت ضد الطائفية والمذهبية، بدءًا من أحمد فارس الشدياق (1804-1887م) المعروف بتمرده على الأديان وتحرره وابتعاده من العصبيات، و«تجوّل» بين الطوائف والمذاهب، وقد جاء في كتابه الشهير «الساق على الساق في ما هو الفارياق»: «وأنتم يا سادتي الحكام والمشايخ والكبراء والمطارنة جربوا مرة أن تجتمعوا بأهلكم وأزواجكم مع أهل جيرانكم.. وأن ترفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور» (ص 474)، ثم جبران خليل جبران، الذي هاجم رجال الدين وحمَّلَهم مسؤولية الانقسام، ومارون عبود، شيخ النقاد العرب في لبنان، الذي اختار لابنه اسم محمد رفضًا للعصبيات الطائفية، وصولًا إلى ميخائيل نعيمة وسواه الكثيرون، وتوفيق يوسف عواد الذي استشرف الحرب الأهلية الطائفية في لبنان في روايته الشهيرة «طواحين بيروت». وتحضرنا مجلة «الأديب»، لصاحبها ألبير أديب، التي كانت لها مكانة في الصحافة الأدبية (1942 – 1982م)، وكان مبدؤها الابتعاد من الطائفية والسياسة، مثلها مثل عدد من المجلات الأدبية التي ظهرت في تلك الحقبة، وكان همها أن تصل إلى كل المثقفين العرب بانتماءاتهم الدينية والمذهبية كافة، ونذكر منها «الآداب» و«شعر» و«الثقافة الوطنية»، ولعل التنوع الطائفي فيها يدل عليه ضمها أدباء ومفكرين بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، ولذا رأينا من أعضاء «الأديب»: الشيخ عبدالله العلايلي والشيخ إلياس خليل زخريا، والدكتور نقولا فياض، ونور الدين بيهم، والشاعر محمد علي حوماني، والشاعر صلاح الأسير، وألبير أديب. واستمرت على نهجها الوطني والقومي حتى إقفالها.

تبدل وجه الحرب

عباس بيضون

صحيح أن الطائفية في نصوص الدستور اللبناني وأعرافه بقيت عبارة عن عبوات معدة للتفجير في أي ظرف مناسب، لكن الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1975م، وكان الوجود الفلسطيني المسلح سببًا وحجة لتسريع اشتعالها، كان ظاهرها بين اليمين ذي الطابع المسيحي واليسار الذي احتضن المقاومة الفلسطينية وتحالف معها في حربها ضد العدو الإسرائيلي، وباطنها الغليان الطائفي، وقد استمرت فصولها الأخيرة طائفية بشكل مكشوف، بعدما تبلورت الأطراف وظهرت قوى أكثر جذرية من تلك التي انطلقت مع الحرب مع مساهمة ياسر عرفات في تفريخ ميليشيات سنية وشيعية (المرابطون وحركة أمل مثلًا) بعد جولات من الحرب، فتهمش دور القوى العلمانية وذابت أخيرًا في المد الطائفي. ويصف المفكر اليساري فواز طرابلسي الوضع من زاويته: «في عام 1975م كان في لبنان مشروع تغيير جذري، توّج عقدًا كاملًا من التحركات الشعبية غير المسبوقة في تاريخه. ما لبث الحراك من أجل التغيير أن تحوّل إلى حرب أهلية» (جريدة «السفير» 10 إبريل 2013م).

ما يهمنا هنا أن نركز على هذه المرحلة التي استمرت من بداية حرب 1975م ولمّا تزل حتى يومنا هذا، تتفاوت بين حروب صغيرة وكبيرة، مسلحة مرة وسياسية كيدية مرة أخرى. يرى أدونيس، (في مقالته الأسبوعية «مدارات» جريدة «الحياة» 20 نوفمبر  2003م) أن «الطائفة، اليوم، في بيروت، تخرج من «دِينيّتها» وتصبح حزبًا سياسيًّا. إنها ظاهرةٌ تُضْمِرُ تطوّرًا يقلب جميع الأسس التي قام عليها لبنانُ – البدايات. بل يمكن القول: إن لبنانَ هذا مهدّد بخطر الانتهاء». ومقارنة بين بيروت الأمس واليوم، «كانت الطائفيّة في لبنان تملك عَقْلَ الإنسان، واليوم أخذت تملك جسمَه كذلك. أصبح اللّبناني أسيرَ طائفته على نَحْوٍ كامل، عقلًا وجسمًا. صار مستعبَدًا في عمق أعماقه. مجرّدَ رَقْمٍ، مجرّدَ شيء. وفي هذا تلتقي البنية الطائفيّة بالبنية الفاشيّة». والمثقفون ليسوا بعيدين من هذا الواقع، ففي هذه المرحلة التي كان الانقسام فيها آخذًا شكلًا ملتبسًا، عشية هذه الحرب الأهلية، كان اليسار اللبناني أكثر استقطابًا للمثقفين، مسلمين ومسيحيين؛ إذ كانت أحزابه علمانية، يعبر فيها المسيحي عن وجوده تمامًا مثل المسلم، ويضم أصحاب التوجه القومي العربي والقومي السوري والأحزاب الماركسية. وكانت المقاومة الفلسطينية قد استقطبت عددًا من المثقفين العرب، الذين أتوا إلى بيروت، إما هربًا من جور الأنظمة، أو طوعًا للتعبير عن قناعاتهم، ولا ننسى أن بيروت كانت في الستينيات والسبعينيات عاصمة الثقافة العربية، لما كانت تتمتع به من حريات هي خبز المثقفين وحاجة إبداعهم وما تعنيه من انفتاح على الغرب.

وهنا لا بد من أن نذكر أسماء مثقفين عرب كُثُر كانوا في طليعة اليسار والفضاء الثقافي العربي، من أمثال محمود درويش، وأدونيس، وخالدة سعيد، ونزار قباني، ومؤنس الرزاز، وسعدي يوسف، وعبدالوهاب البياتي، ومحمد الماغوط، وسواهم كثر بدأت بيروت تفتقدهم واحدًا تلو الآخر مع تقدم أعمال الحرب. وكان من اللبنانيين خليل حاوي، وسهيل إدريس (مؤسس مجلة «الآداب») وحسين مروة، وفواز طرابلسي، وأحمد بيضون، وعلي حرب، وعباس بيضون، ومرسيل خليفة، وروجيه عساف، ونضال الأشقر، وسواهم من الأسماء اللامعة، في حين مثل التيار القومي اللبناني شارل مالك، وسعيد عقل، وكمال الحاج، وفؤاد أفرام البستاني وسواهم، وقد شارك مالك وعقل في تأسيس الجبهة اللبنانية التي ضمت ميليشيات الأحزاب المناهضة لعروبة لبنان والمقاومة الفلسطينية والاتجاهات اليسارية اللبنانية.

تحولات

ولا شك في أن طبول الحرب عندما قرعت وتلاطمت أمواج حقدها حصلت تحولات كثيرة على المستوى الثقافي، يمكن اختصارها فيما يأتي:

أولًا- بدأ النشاط الثقافي في بيروت يضعف شيئًا فشيئًا، حتى إن بعض الأطراف السياسية طلبت من مثقفيها الانخراط في المعارك العسكرية.

ثانيًا- شهدت الساحة الثقافية هجرة عدد لا بأس به من المثقفين، ولا سيما الذين يعملون في الصحافة، إلى قبرص والخليج العربي ولندن وباريس بشكل أساسي.

ثالثًا- بدأ دور بيروت الثقافي يضعف، ومن ثَم بدأت تفقد شيئًا فشيئًا لقبها كعاصمة للثقافة العربية.

رابعًا- بدأت القدرة الشرائية تتراجع مع تدهور الليرة اللبنانية، خصوصًا في السنوات التي تلت اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982م ووصولها إلى العاصمة بيروت، وانسحاب المسلحين الفلسطينيين، وسحب عرفات الأموال التي كانت لفتح في البنوك اللبنانية، وقدرها 13 مليار دولار أميركي.

فواز طرابلسي

خامسًا- بدأ الفرز الطائفي بين المناطق يتبلور، وبدأ احتساب مثقفي كل منطقة على الطرف السياسي المهيمن فيها، وإن بقيت بعض الأسماء بعيدة من الانتماء المباشر لأي طرف، والمثل الساطع على ذلك بول شاوول الذي كان زمن الحركة الطلابية مع اليمين اللبناني (حركة الوعي) المنفتح على الحوار، وطاردته «الكتائب اللبنانية» في المنطقة الشرقية (المسيحية) من بيروت، فلجأ إلى المنطقة الغربية، وبقي محافظًا على استقلاليته فيها. وفي حوار معه في مجلة «المجلة» (23 نوفمبر 2013م) قال: «رفضت طائفية طائفتي، ولم أذهب لتأييد طائفة أخرى حين بدأت الحروب الطائفية والمجازر الطائفية. أنا أعتبر أن الطائفية هي سرطان لبنان، وكل طائفي هو عدو للبنان».

سادسًا- شهدت المنطقتان الغربية والشرقية حال انقطاع في النشاط الثقافي إلا ما ندر، حين ساهم الراحل منح الصلح في مد جسور التلاقي مع «الحركة الثقافية- أنطلياس»، عبر الكاتبين عصام خليفة وأنطوان سيف. وكان هذا الجسر من الجسور الثقافية النادرة التي تصل المناطق، في حين كانت الجسور التجارية في نشاط مستمر لم ينقطع، وكذلك الجسور السياسية، حيث بقيت مؤسسات الدولة مستمرة في أداء مهامها، وإن بمزيد من التآكل والاهتراء.

سابعًا- لما ترافقت الحرب الأهلية مع عدوان إسرائيلي دائم على أرض الجنوب اللبناني بشكل أساسي، برزت ظاهرة «شعراء الجنوب»، وانتشرت في العاصمة اللبنانية، وكان من بينها: محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، ومحمد العبدالله، وحسن العبدالله، وجودت فخرالدين… إلخ. لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م كان من شأنه أن يغير شعار «كل الجهات الجنوب» الذي طرحه أمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حبيب صادق، ولما اشتد عود الشعراء الشباب، وباتت أسماؤهم معروفة في العالم العربي استصغروا التسمية على أنفسهم، وراحوا يرفضونها عبر وسائل الإعلام حتى زالت.

ثامنًا- تدهورت الروح الوطنية، ذلك أن الانتماء إلى الطائفة بات أولوية، ويأتي الوطن في مرتبة ثانية. يقول علي حرب واصفًا الإسلامي الأصولي بأنه: «يستحيل أن يكون مسلمًا ومواطنًا، ويستحيل عليه مثلًا أن يكون مسلمًا ولبنانيًّا أو سوريًّا أو مصريًّا أو فرنسيًّا أو سويسريًّا… لأن من يفكر ويعمل على هذا النحو، يأتي الدين عنده أولًا، وما عداه يعمل لخدمته، وإلا كان محل استبعاد أو رفض أو إدانة» («المصالح والمصائر، 2010م، ص166).

شحنات طائفية

لا شك في أن الحرب الأهلية التي لم تهدأ تردداتها حتى الآن في لبنان، وقد شهدت مراحل ما بعد «اتفاق الطائف»، الذي نفترض أنه أنهى فصول الحرب، تفجيرات مختلفة للوضع الأمني ونزول المسلحين إلى الشوارع، ولا سيما في المرحلة الأخيرة من الحرب الطائفية التي تبدلت بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري من حرب بين المسلمين والمسيحيين إلى حرب بين السنة والشيعة، وقد شهدت الحرب الأهلية في فصولها الأخيرة ما قبل الطائف تشظيًا ضمن الطائفة الواحدة في حروب طاحنة بين أمراء كل طائفة وأحزابها، وهو ما جعل التعصب للطائفة أو المذهب أكثر تشددًا، وبرز كتّاب كثر يلمّعون بكتاباتهم الطوائف والمذاهب، وينبشون أخبار المنسيين من العلماء والفقهاء والقديسين الذين ينتمون إلى هذه الطائفة أو ذاك المذهب. وفي تلك المدة شهدت معارض الكتب ظهورًا واسعًا للكتب الدينية، وباتت هي الأكثر مبيعًا وجذبًا، وانكبت دور النشر على طباعة المزيد منها، وإحياء الكتب الدينية القديمة التي يزيد أصحابها التعصب تعصبًا، كذلك انكب عدد كبير من الكتّاب على تلميع تاريخ كل طائفة وشخصياتها، حتى إن مطابع لبنان اشتغلت على تصدير عدد كبير من شحنات الكتب الدينية في تلك المدة إلى الأوساط السنية والشيعية في العالم العربي.

وإذا أردنا التمعن أكثر في معارض الكتب، فقد شهدت المنطقة الشرقية معرضًا مسيحيًّا يبرز فيه حضور دور نشر مسيحية أو ظهور الكتاب المسيحي، تقيمه ولمّا تزل بشكل سنوي «الحركة الثقافية- أنطلياس» برعاية رئيس الجمهورية (المسيحي)، وقد استوقفنا رقم جمهور «معرض المعارف العربي الدولي» الذي أقامه حزب الله، وجذب قرابة ربع مليون نسمة في نسخته الثانية والأخيرة، وإذا كان هذا المعرض برعاية السيد حسن نصرالله (الشيعي)، فقد كان هناك معرض آخر برعاية رئيس مجلس النواب الشيعي أيضًا، هو معرض اتحاد الناشرين اللبنانيين، الذي توقف هو الآخر، وبقي «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» (أول معرض كتاب عربي) الذي يقام برعاية رئيس الحكومة (السني) هو المعرض المركزي، الذي لم يكن له عندما تأسس عام 1956م أي طابع طائفي أو مذهبي، وكان ولمّا يزل يديره النادي الثقافي العربي، إلا أن تحولات السياسة جعلته يبدو منحازًا إلى هيمنة تيار «المستقبل» عليه، بعد بروز العصبيات المذهبية، وتجاذب أحزاب الأمر الواقع الطائفية المذهبية للهيئات والمؤسسات والأندية الثقافية والاتحادات المهنية. غير أن هذه العصبية في المعرض الأخير بدأت تخف بعد إلغاء التحديات الأخرى.

اتحاد الكتاب اللبنانيين

سهيل إدريس

اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي أسسه سهيل إدريس مع قسطنطين زريق ومنير البعلبكي وأدونيس وبقي أمينًا عامًا له لأربع دورات متتالية، وكان الشيوعيون قبل الحرب، وخلال المدة الأولى منها يتحكمون في هيئته الإدارية، ولم يكن للطائفية مكان فيه؛ سقط في يد حركة أمل الشيعية اليوم، وشلت قدراته، وأفرغ من مضمونه الثقافي، وبتنا لا نسمع به إلا وقت الانتخابات أو إذا أضيف اسمه إلى نشاط جامع، والظريف في الأمر أن الأمانة العامة فيه تمنح من قبل الحركة، شكلًا، لكاتب مسيحي أو سني؛ ذلك لأن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي تأسس عام 1964م، بقي بقيادة الشيعي (غير الطائفي) حبيب صادق. وتمتد يد حركة أمل إلى جمعية الفنانين التشكيليين وجمعيات مهنية أخرى، في سياق الصراع في العمل النقابي العام في لبنان، الذي بات بأكثريته خاضعًا لأحزاب طائفية، بعد عزل الأحزاب العلمانية. المؤسف بالفعل أن يصبح اتحاد الكتاب ذو السمعة الممتازة بين الاتحادات العربية سابقًا مطيةً طائفيةً وفئويةً، بل يصبح مشلولًا، وقد انفضّ عنه كبار الكتاب، وفلتت فيه التنسيبات المزيفة، ويمتطي الزعيم الطائفي وزبانيته ظهور الكتّاب حتى يبروها. والمضحك أن انتخابات جمعية الفنانين التشكيليين تنجب مرة رئيسًا أمينًا عامًّا مسيحيًّا، ومرة أخرى مسلمًا، على أن يكون المسلم مرة سنيًّا وأخرى شيعيًّا. هكذا تتحول الجمعية إلى لعبة شطرنج يتحكم فيها لاعب واحد يوزع الأدوار، وينغمس فيها عدد كبير من الفنانين الذين نراهم خارج الجمعية وفي محترفاتهم ونتاجاتهم الفنية بعيدين كل البعد من أي منطق طائفي، في حين يتقدمون إلى الانتخابات بكل عدتهم الطائفية والمذهبية، كأنما هو انفصام الأمر الواقع.

جِبِلَّة المثقف

كمال الصليبي

إن وجود المثقف بين «بلوكات» طائفية مقفلة، وبين هذا الكم الهائل من المواطنين اللبنانيين المنتمين، سياسيًّا، إلى طوائفهم، ينذر بالشؤم، وكذلك وجود مسؤولين في الحكم ليس لديهم مهمة سوى أن يمثلوا طوائفهم أفضل تمثيل، وأن «ينتزعوا» حقها في قرص الجبنة. ويتوهم البعض، في كثير من الأحيان، في اعتبار المثقفين شريحة فوقية برجية وعاجية وفضية وذهبية بعيدة من الطين والمعادن الرخيصة، تترفع على الخلافات السياسية التي تجري على الأرض، أو تبتعد من الحدث والواقعة لتتمسك بالجوهر وبالجوهر فقط! بينما الحقيقة أن المثقفين ينقسمون ويتناحرون ويتوالدون ويتقاتلون ويتحزّبون ويتعصبون، وأحيانًا يكونون أشد فتكًا لكونهم أكثر معرفة. منهم المسالم الأخضر، ومنهم النازي الأحمر. من الخطأ أن نتعامل مع المثقف على أنه طينة مختلفة أو جِبِلَّة صنعها الله من غير التراب، أو التطلع إلى المثقفين كفئة منزّهة عن التفكير بالمصالح الفردية، المصالح التي يفكر فيها المسؤولون والموظفون وذوو العصبيات العمياء. صحيح أن تجنب الإصابة بمرض الطائفية يحتاج إلى وعي وثقافة، غير أن هذين العاملين ليسا كافيين للتحصن من المرض، فوعيٌ كثير قد يقود إلى الطائفية ووعي قليل قد يقود إلى تجنب الإصابة بها. ولا يستغربنّ أحدٌ، فزعماء الطوائف معظمهم مثقفون أيضًا، والثقافة ليست، كما يأمل كثيرون، حصنًا لأصحابها من الأمراض ومنها مرض الطائفية.

ما الحل؟

خليل حاوي

بول شاوول

إن اتساع أي تظاهرة أو تجمع شبابي حول خيار إلغاء النظام الطائفي في لبنان، من شأنه أن يخفف من استعراضات التظاهرات الطائفية، وقد حدث ذلك مرات عدة، ومن شأنه أن يجعل اللبنانيين ينتبهون أكثر، لا إلى قوة ثالثة تنخرط في الصراع، بل إلى خيار ثالث منقذ. لأن الخيار الطائفي الذي تعتمده الأطراف الفاعلة، والحدة التي تتبعها، والتحدي الذي يدهور أحوال البلد واقتصاده وناسه، ويستدرج السلاح الذي لا يبقي ولا يذر… يؤدي إلى بلد تخفق في هوائه أجنحة الغربان. الخيار الآخر ليس حزبًا، ولا قوة عسكرية، ولا وسطية على طريقة حمائم أمراء الطوائف، ولا سعيًا إلى تبويس اللحى… كل ذلك لا ينفع، فالمسألة لا تنقضي باختراع طائفة جديدة، بل بابتكار أفكار جديدة تُسقط طائفية البلد، ويحمل لواءها المثقفون قبل سواهم، ويكون الوطن هو المنتصر معها.

لا نريد حوار أديان ومذاهب، إنما نريد حوارًا مدنيًّا إنسانيًّا ووطنيًّا، فتلاقي الأديان والحوار الإسلامي المسيحي ليسا من شأن المثقفين، إنما يجب أن يجري في المؤسسات الدينية وفي المساجد والكنائس. يقول كمال الصليبي في حوار أجريته معه في جريدة «السفير» بتاريخ 26 أكتوبر 2007م: «يقولون لك حوار أديان. كل هذه الحوارات كذب بكذب؛ لأن كلَّ محاوِرٍ ينطلق في الحوار من أن دينه الصح ودين الآخرين الخطأ، لكن يقول لنحكِ، لا بأس». ويتابع: «عليك أن تأتي بقوة خارجية ليحدث شرٌّ في لبنان. ساعتئذ يتسلح الناس ويفلت بعضهم على البعض الآخر، ويتصرفون تصرفًا شائنًا جدًّا. تمامًا مثلما حدث في ما نسميه الحرب الأهلية اللبنانية. تلك التي لم تكن حرب الغير على أرضنا، كانت حربًا لبنانية، كان فيها الفلسطينيون واللبنانيون عناصر تساهم في إشعال الحرب، لا أطرافًا أساسية فيها». ورأى «أن الطائفية شعور قبلي لا لاهوتي».

أدونيس

هذا لا يعني أن علينا ألا نفرق بين ثقافتين إسلاميتين، واحدة أصولية، وأخرى منفتحة على الحوار. يقول محمد جمال باروت في كتابه «يثرب الجديدة» (الصادر عن شركة رياض الريس في بيروت): «لا يرى الخطاب الأصولي في العالم الإسلامي إلا أمة واحدة تقوم على أساس الدين وحده، ويصفها هذا الخطاب بـ«الأمة الإسلامية»، في حين يرى الخطاب الإصلاحي أن العالم الإسلامي هو اتحاد ما بين مجموعة أمم وقوميات» (ص 160)، وينقل عن عبدالرحمن الكواكبي قوله: «دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط» (ص 161). وهل نجد من الإسلاميين الجهاديين، سنة وشيعة، من يصغي لكلام الكواكبي هذا؟! يقع الرهان بالطبع على المثقفين المستقلين عن سلطات الطوائف، في رفع شعار بسيط: لا للحرب.. لا لسلطة الطوائف، نعم للدولة المدنية. ويرى المفكر والمؤرخ وجيه كوثراني في حوار أجرته معه جريدة «مدن» الإلكترونية (19 ديسمبر 2015م) «أن «الحراك المدني» في لبنان، من طرف شباب متعلم وواعٍ ومتفانٍ للعمل العام، هو من دون شك «بشائر» واعدة بالخروج من سجن هذه البنية الطائفية على المدى البعيد» ويتابع: «لا بد من أن يؤول التحرك إلى أطر تنسيقية أشمل، تمهيدًا لظهور أحزاب غير طائفية في لبنان، مدنية وعلمانية». أما المفكر كريم مروة فطالب بـ«دولة مدنية قائمة على الفصل بين الدين والدولة، لتحرير الدين مما تقحمه فيه المؤسسات الدينية وأمراء الطوائف (…) وتحرير الدولة من تلك الأدوار التي تعطي للدين نقيضًا لقيمه الروحية». (جريدة «النهار» 19 سبتمبر 2015م). عدا ذلك، فالمستقبل على يد عفريت.

المثقف‭ ‬طائفي‭.. ‬حقيقة‭ ‬مرة

الحقيقة المرة أن المد الطائفي جرف معه كثيرًا من المثقفين اللبنانيين، بعضهم انغمس في الأطر الحزبية الطائفية وجرفته الحساسيات الطائفية، وبعض آخر وقع في مكيدة اعتبار الصراع سياسيًّا لا طائفيًّا، وبرّر لنفسه دعم هذا الطرف أو ذاك، وقلة قليلة بقيت على الحياد.

لا يميز المثقف اللبناني نفسه، اليوم، عن سواه من أطراف الصراع اللبنانية، إلا نادرًا. فصحيح أن الصراع في لبنان له وجهه السياسي، لكن القيمين على السياسة يستخدمون الطائفية من ألفها إلى يائها. إنها مرحلة من الصراع الوسخ في لبنان، الصراع الذي لا يجوز لمثقف وطني أن يكون طرفًا فيه، أو طرفًا في سجالاته المحتدمة. ولهذا اختلفت سجالات المثقفين اللبنانيين اليوم عنها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الصراعات المحتدمة ذات طابع سياسي وفكري مرتبط بالصراع الإقليمي والدولي. وعندما كان السجال يتخذ طابعًا أيديولوجيًّا محمومًا، بين معسكرين في العالم. حينها كان النشاط الثقافي واسعًا ودسمًا، لكن طول أمد الحرب الأهلية اللبنانية وفشل الأفكار التي راجت قبل النكسات العربية المتتالية، وتعقد الصراع، وبروز الاتجاهات التقسيمية، كلها أحدث تحولًا في بعض مناحي الصراع الثقافي؛ إذ رأيناه يتجه، محليًّا، نحو الغرق في ثقافات أكثر ضيقًا، ثم أكثر اتجاهًا نحو ثقافات طائفية ومذهبية، خصوصًا مع طرح شعار «الإسلام هو الحل»، وهو ما أغرق عددًا كبيرًا من المثقفين في وحل الأفكار البديلة وسمومها، وأدى إلى تدهور دور المثقف اللبناني التقدمي. ومن أجل أن تكتمل اللعبة أحيانًا كان على الطرف الطائفي أن يبرر لا طائفيته باستخدام مثقفين من طوائف أخرى، وكان على المثقف إقناع نفسه بلا طائفيته فيحتل مكانًا مفسوحًا له في مؤسسةِ طائفةٍ غير طائفته. وهكذا بدا بعض المثقفين كأنما يخونون طوائفهم مع طوائف أخرى، وهو أمر مؤسف. وعندما انقسم لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري عام 2005م، بين طرفي 8 و14 مارس، وقع كثير من المثقفين، بشكل أوضح، في فخوخ الصراع الطائفي، ولم تبقَ إلا قلة قليلة من المثقفين الذين اعتبروا أنفسهم خارج الصراع المحتدم، وبقوا يشكلون نواة دور مستقبلي لتصويب الصراع وسحب لبنان نحو خلاصه.

أزمة الصحافة الورقية في لبنان.. قصة موت لم يعلن عنه بعد

أزمة الصحافة الورقية في لبنان.. قصة موت لم يعلن عنه بعد

السؤال الذي لا بد من أن نستبق به الكلام عن أزمة الصحافة في لبنان هو: هل هذه الأزمة تؤدي إلى انهيار الصحافة وموتها أم انهيار الصحافة الورقية فقط، حتى لا تختلط علينا الأمور، في عصر تنهض فيه وسائط إعلام جديدة بدأت تسود على أكثر ما عداها من وسائط؟

هذا السؤال لا يتردد في لبنان وحده إنما يسود العالم كله؛ إذ بدأ التحول الانقلابي يطيح بكثير من أساليب الحياة التقليدية، وقد بات علينا أن نتعامل بحذر حيال الموقف، فلا نقف ضد تطور الحياة ونحن نتصدى لمفاعيل أزمة الصحافة التقليدية، فموت أسلوب في سبيل ولادة أسلوب جديد ليس موتًا، ففي مطلع مقدمته لكتاب صاحب جريدة النهار غسان تويني، «أسرار المهنة وأسرار أخرى»، كتب الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج الذي كان وقت صدور الكتاب (عام 1995م) رئيس تحرير الجريدة: «ما من غياب إلا لحضور آخر، والانهيار قيامة، لا موت هنا، في هذا العالم، مع أنه مرصع بالموت، لا موت ولا صمت، بل حياة تتفجر من كل شيء». هذا الكلام جاء في معرض تفاؤل أنسي الحاج بالمستقبل الصحافي، وسط كل ما كان يراه من مشكلات في الصحافة اللبنانية، وما استنتجه من الحوار الطويل الذي أجراه مع صاحب «النهار» حول أسرار المهنة؛ حتى إن تويني نفسه الذي خاض غمار الصحافة في «النهار» منذ عام 1948م، حين رأس تحرير الجريدة بعد والده جبران تويني (أسسها عام 1933م) كان متفائلًا بما كان يجري في العالم من تغيرات.

مظاهر الأزمة

إذا كانت «النهار» صامدة حتى الآن مع كل التراجعات التي ألمّت بها، فإن إقفال جريدة «السفير» هو الذي اختصر الأزمة في لبنان، ولم يبدأها، ومنه انطلق الكلام الواسع عن بدء سلسلة الانهيارات المتوقعة للصحافة الورقية في لبنان، فالصراخ كان يتصاعد أكثر من صحف أخرى، عندما وصل تأخر دفع مرتبات العاملين في وسائل إعلام الرئيس الحريري (تلفزيون المستقبل، وإذاعة الشرق، وجريدة المستقبل) إلى عشرين شهرًا، وفي جريدة النهار إلى خمسة عشر شهرًا، وشهدت السنوات العشر الماضية سلسلة إجراءات تسريح عدد من الموظفين من الصحف. لم تنقطع مرتبات العاملين في «السفير» وهذا أمر إيجابي، لكن التوتر كان سائدًا في الاجتماعات، والخوف من التوقف في أي شهر كان ماثلًا أمام الجميع. وكانت «السفير» و«النهار» وصحف أخرى قد جمدت الزيادات الإدارية الدورية قبل 15 سنة، وأوقفت الشهرين الثالث عشر والرابع عشر، واتخذت إجراءات تقشفية مختلفة، على أساس تخيير الموظفين بين هذه الإجراءات والإفلاس. إن ما حصل لـ«السفير» كان يمكن أن يحصل في صحف أخرى، لولا أن هذه الصحف اتخذت إجراءات وقائية تحميها إلى مدد لا تطول كثيرًا، وقد اعتمدت مبدأ ملاقاة الأزمة في منتصف الطريق، فاختصرت عدد العاملين، على حساب مستوى التحرير ومستوى العمل الصحافي، علمًا بأن كل هذه الإجراءات الوقائية لن تقيها من الانهيار؛ ذلك أن الانهيار بات أمرًا بديهيًّا، وسوف يدور على الجميع، ما دامت الصحف مشاريع تجارية خاصة غير حكومية، وإن كان بعضها ذا أبعاد حزبية.

ونحن نتحدث عن هذه الظروف القاسية التي تعيشها الصحافة اللبنانية نتذكر، لو رجعنا بالتاريخ إلى الوراء، أنها كانت مثلًا حسنًا للصحافة العربية، وأن بيروت كانت ذات يوم عاصمة الصحافة العربية مثلما كانت عاصمة الثقافة العربية وعاصمة الحريات، وصحيح أن الصحافة اللبنانية الحديثة التي تأسست في القرن العشرين قد استفادت كثيرًا من الصحافة المصرية قبل أن يلجمها نظام عبدالناصر، فإن الصحافة المصرية نفسها التي انطلقت مع «الأهرام» عام 1874م كانت تأسست على يد اللبنانيين سليم تقلا وأخيه بشارة اللذين أسسا مطبعة ودار «الأهرام» في الإسكندرية قبل نقلها إلى القاهرة، لتصير أهم جريدة مصرية. ولعل عز انتشار امتيازات الصحافة اللبنانية كان بين عامين 1950م (حيث صدر 50 امتيازًا) وعام 1955م (45 امتيازًا). وإذا علمنا أن عدد امتيازات الصحف اللبنانية قد وصل إلى 110 امتيازات، نفهم أن الخط البياني لانهيار الصحافة بدأ منذ زمن طويل، فكثير من الصحف التي توقفت ذات عام كانت تعاني مشكلات مشابهة للتي عانتها «السفير» وتعانيها صحف اليوم، مع اختلاف التفاصيل وطبيعة العصر، وقد وصل عدد الصحف اليومية حاليًّا إلى عُشْرِ الـ110، كما صرح نقيب الصحافة الجديد في لبنان عوني الكعكي.

أسباب الأزمة

غسان تويني

يمكن أن نلخص أسباب أزمة الصحافة في لبنان بما يأتي:

أنسي الحاج

أولًا- أزمتنا جزء من الأزمة التي تصيب الصحافة الورقية في العالم، وتحوُّل عدد كبير منها إلى إلكترونية، في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة، نذكر منها «النيوزويك» الأميركية الشهيرة، و«كريستيان ساينس مونيتور»، أعرق صحيفة أميركية وقد استمرت بالصدور قرنًا كاملًا، ثم «الإندبندنت» البريطانية وصحيفة «ذي لندن بيبر» المسائية المجانية، بعد إقفال نحو مئة صحيفة محلية في بريطانيا. وهكذا يمكن ذكر كثير من الصحف الأوربية وسواها من دول العالم، التي أسقطها التنافس مع الإعلام الإلكتروني، وبات متعذرًا عليها الاستمرار في ظل الأزمات الاقتصادية، وكذلك في ظل تنافس التلفزيون والإذاعة أولًا، ثم وسائط التواصل الاجتماعي وأثر الإنترنت وصيغة الإعلام الجديدة التي تركز على المعلومات أكثر من الإعلام بمعناه الأشمل. لم تكن تبعات الأزمة العالمية التي نتحدث عنها ترمي بثقلها على الصحافة اللبنانية وحدها في منطقتنا، إنما شهدت الصحافة العربية كثيرًا من الأزمات، وسادت حال الرعب العديد من العاملين في الصحافة الورقية، خصوصًا العاملين في الصحف غير المدعومة من الحكومات، بل إن بعض الصحف التي تقف خلفها سلطات بدأت تعاني مشكلات تهدد استمرارها، وقد اتخذت صحف خليجية عدة إجراءات وقائية؛ لتفادي السقوط المبكر، فلم تَسلَم الصحيفتان الكبريان «الحياة» و«الشرق الأوسط» من الاهتزاز، وإن كانت «الحياة» محسوبة بامتيازها على لبنان، وبمضمونها وقدراتها المالية على السعودية. وقد باتت صحف كثيرة مصرية وكويتية ومغاربية تشعر بهذا الاهتزاز، ويكفي أن نعرف أن مجموع توزيع الجرائد اليومية المصرية انخفض إلى 400 ألف نسخة فقط (كان مليونين و400 ألف عام 2009م) وهذا تراجع ينذر بالشؤم لأنصار استمرار الصحافة الورقية.

ثانيًا-  تراجع المال السياسي الذي انقطع مع انهيار نظام صدام حسين ونظام القذافي، وكذلك توقف تدفق المال الخليجي لأسباب عدة؛ منها شعور الداعم السياسي بعدم الجدوى من دعمه، بعد حدوث ضعف في الأداء والتأثير شهدته الصحف، كذلك بعد تطوير وسائل الإعلام الخليجية التي باتت تؤدي الغرض نفسه الذي تؤديه الصحافة اللبنانية، خصوصًا بعد استقطاب الطاقات الصحفية اللبنانية التي هجر بعضها بسبب الحرب وبعضها الآخر طلبًا لأجور أعلى.

ثالثًا- تراجع المبيعات، فقد مرت على الصحف اللبنانية مراحل ذهبية، أو مناسبات، وصل فيها إصدار جريدة «النهار» إلى 125 ألف نسخة، في حين وصل إصدار «السفير» إلى 50 ألف نسخة، لتبدو الأزمة في قمتها عندما وصلت مبيعات كل من «النهار» و«السفير»، الأكثر انتشارًا في لبنان، إلى قرابة خمسة آلاف نسخة يوميًّا، إذا لم تقل عن ذلك في المراحل الأخيرة لاحتضار «السفير»، وقد بات عدد النسخ المطبوعة من الصحيفة في لبنان سرًّا من الأسرار العميقة خوفًا من انكشاف نقاط الضعف. ومع هذا التراجع في المبيعات تصبح كلفة النسخة أضعاف أضعاف سعرها في السوق، وقد وصلت في جريدة «السفير»، على حد علمي، إلى أكثر من خمسة أضعاف، وقد بات من المستحيل الاستمرار من دون دعم إعلاني أو سياسي.

عوني الكعكي

عوني الكعكي

رابعًا-  تراجع الإعلانات سنة بعد سنة جعل الأزمة في ازدياد تدريجي، خصوصًا في الصحف التي لا تعتمد على مال سياسي أو دعم حكومي، وكل الصحف اللبنانية المعروفة غير مدعومة رسميًّا، وقد تركز الدعم الرسمي في لبنان على «الجريدة الرسمية» وهي مقتصرة على الإعلانات الرسمية، ووكالتي الأنباء «الوطنية» و«المركزية».

خامسًا- تراجع مستوى التحرير، مع تزايد الضغوط الاقتصادية، واضطرار الصحيفة للتخلّي عن كوادر مهمة بسبب مرتباتهم العالية، وتوظيف شباب وشابات جدد بمرتبات أقل. ولا نغالي إذا قلنا: إن بعض الذين توقفوا عن شراء الصحف إنما فعلوا ذلك لأن مضمونها لم يعد يقنعهم، ولم يعد يمثل تطلعاتهم، خصوصًا في مرحلة تزايد الحساسيات الطائفية والمذهبية، ولم تستطع الصحف، التي حاول بعضها كثيرًا استقطاب قراء الأجيال الشابة، الوصول إلى الهدف.

سادسًا- عدم تحول الصحف اللبنانية إلى مؤسسات تدار بشكل ذاتي؛ إذ تخضع الصحف لأمزجة شخصية، ثم يأتي التوريث ليفقد الصحيفة البوصلة التي وضعها المؤسس، فيأتي جيل أقل حماسة من سابقه، وهذا ما حدث بوضوح عندما مرت جريدة «النهار» بمراحل مختلفة متأثرة بمصلحة الوريث، فمن جبران تويني الجد إلى غسان، ثم ابنه جبران، وصولًا إلى ابنة الأخير نائلة التي في زمنها تشهد الجريدة آخر انهياراتها، ولا شك في أن تدخلات أبناء طلال سلمان عجلت من إقفال «السفير»؛ لأنهم هدفوا إلى حفظ ما توافر لهم من أرباح في زمن مضى، لأن الاستمرار أكثر يقضم بعضها، وقد صرح سلمان بما يؤكد هذا المعنى عندما رأى أنه لا يريد أن يحرم أبناءه من الإرث.

ماذا‭ ‬بعد؟

إذا كان إقفال جريدة «السفير» قد رمى قرابة 150 موظفًا في الشارع، فإن نقيب المحررين اللبنانيين، إلياس عون، دعا الدولة إلى إيجاد حلول لإنقاذ قطاع يوفر دخلًا لقرابة 10 آلاف شخص، يمكن أن تمارس بحقهم أساليب «تطفيش»، لا سيما من خلال تأخير دفع الرواتب، لكن كل صيحات استدراك استفحال الأزمة باءت بالفشل حتى الآن.

كلنا أسف على التاريخ المجيد للصحافة اللبنانية الرائدة على المستوى العربي، وأسف أكبر على تلك التي أقفلت الستارة على تجربتها بشكل كامل، وتلك التي تقف على شفير الهاوية، أو لم تعلن عن موتها بعد (تحويرًا لعنوان رواية ماركيز «قصة موت معلن»). ولا يسعنا إلا أن نأمل في استمرار حضور الصحف اللبنانية الجادة، بما تتميز به من حريات وخبرة عالية، من خلال تحولها إلى الوسائط الإعلامية الرقمية الجديدة، الأقل كلفة والأكثر انتشارًا.. وتأثيرًا.