«كورونا» وعولمة الهلع السيد الذي طالما بسط سيادته على الطبيعة تحول إلى عبد يلازم بيته

«كورونا» وعولمة الهلع

السيد الذي طالما بسط سيادته على الطبيعة تحول إلى عبد يلازم بيته

لا شكّ أنّ العولمة كسلطة وقوّة خارقة اكتسحت تاريخ البشرية حديثًا، غير أن وباء «الكورونا»، الذي يجرّ البشرية نحو ضروب من قلق: وجودي، وعلمي بيولوجي، واقتصادي، واجتماعي، وسياسي، أعلن عن تمركزات خصوصية تقلب وضعية العولمة بمختلف مستوياتها لتصبح على محك الانهيار، وترك المجال إلى عولمة انفعالية تشهد على عولمة انفعالات تتكاثر مثل الخوف والهلع، عوضًا عن العولمة المادية القائمة على منطق المنفعة.

واضح أنّ عولمة الهلع هذه سوف تؤسس لمقولة جديدة هي: التعاسة الكونية ومنطق اللاوعي المعمم، وتقع التضحية اليوم بالقيمي والإيتيقي… وإذا كانت أول خصوصية اغتصبتها العولمة هي خصوصية الاقتصاد ومحليّته، فها هي لحظة الانهيار الأولى تبدأ من الاقتصاد ذاته، فبعد أن كانت العالمية الاقتصادية أو العولمة الاقتصادية (أي مسار انفتاح الشعوب بعضها على بعض اقتصاديًّا) حديث العالم، أصبح هناك اليوم قَطْعٌ مع الاقتصاد والتجارة العالميين؛ إذ أغلقت الحدود في وجه السلع والبضائع وأمام الأرواح أيضًا.

فالعالم في مرحلة حجر وعزل افترضته سلطة بيولوجية طبيعية. فالحجر قد يكون بمعناه المحلي وقد يكون العزل في مستوى علائقي دولي عالمي، فالإنسانيّة اليوم في مرحلة الحجر والتقوقع عكس ما تسعى إليه مقولة العولمة. فالإنسانيّة التي في زمن ما كانت تعيش ضربًا من الذوبان والانصهار في الآخر، وطالما كانت تأمل في خصوصيّة حرّة متحررة من كلّ قيد يفرض عليها انفتاحها على المغاير بمقتضى منطق المصلحة، أضحت اليوم تعيش ضربًا من الخصوصيّة السجينة والمعزولة، ربّما هي عودة للخصوصي لكن بمعنى مغاير بعيدًا من المعنى الذي نرومه منذ عقود أو حتى قرون هو الخصوصي الإكراهي الإجباري وليس الخصوصي الإرادي الأصيل.

خصوصية حزينة مكروهة

إنّ انهيار العولمي قد خلق خصوصيّة حزينة مكروهة ينعدم فيها الشعور بالتفرّد، فمعنى الخصوصيّة اليوم تصاحبه معانٍ من قبيل: الحجر والتحجر، والعزل والانعزال، والغلق والانغلاق، والتقوقع والانكماش، والداخل، والمحلي، والوطني، والالتزام والملازمة، والبيت؛ كلّها معانٍ تفيد ضرورة إقصاء كلّ ما يجمع، كلّ تجمع، كل اجتماع، وبالتالي رفض الكلّ والكلّي في حد ذاته أو بالأحرى العالمي أو العولمي.

إنّ القضايا الحارقة اليوم هي قضايا علميّة من الطراز الأوّل وتتبعها الاقتصادية والاجتماعية ومن هذا المنطلق يأتي السياسيّ، فهي بلبلة ورجّة على كلّ المستويات من دون استثناء، وهو ما من شأنه أن يمثّل قلقًا عالميًّا متعدد الأبعاد والأشكال: اللهفة على الحياة اليوم تصاحبها لهفة على الاستهلاك، والمقصود هنا هو أنّ الفرد أو الأفراد الذين تعوّدوا أن يعيشوا فقط لمجرّد كونهم كائنات استهلاكيّة، فالإنسان كائن استهلاكي بامتياز، واللهفة على الاستهلاك هي التي تحدد نمط عيشه في هذه المرحلة، وفي هذه الحيثيّة، والوعي هنا مرتبط بالاستهلاك، وإذا ما انقطع البشر عن الاستهلاك نتيجة تعكر الأوضاع الاقتصادية بما فيها الصناعية فسوف يؤثر ذلك في قوت الشعوب، ويعم الجوع، وتزداد الحاجة إلى الانتفاضة على الخبز، وعليه سوف يتأذى الاجتماعي نتيجة الضرر الذي قد يلحق بالاقتصادي؛ ليزعج صوت الجياع هدوء السياسي وسكينته من فوق عرشه.

العجز العلمي قد أدخل الأرض في كابوس اللّا-بقاء واللّا-وجود لتعلن الطبيعة الساحقة عن انتصارها، ومدى قدرتها على وضع التقدّم الإنساني على المحكّ. فالإنسان الذي طالما بسط سيادته على الطبيعة، سرعان ما أعلن اليوم عبوديته وقصوره أمام ظواهر بيولوجيّة من هذا القبيل، فلم يعد سيدًا في بيته مثلما بالغ ديكارت في نعته.

إنّ هذا السيّد الذي قدّمه ديكارت أصبح يلازم بيته ويتحوّل إلى عبد وقد انتهت صلاحيّة سيادته. فقد استنزفت حلول الأرض، والأمل اليوم بيد السماء طمعًا في رفع البلاء، وهو نداء استغاثة رفعه بعض الحكام. إنّ ما تعولم اليوم ليس السوق والسلع، إنما هو الهلع والفزع والخوف، والتفكير في المصير الواحد، وهو إيذان بانهيار تلك الأسطورة القديمة للعولمة، فالجائحة اجتاحت الإنسانيّة في مختلف تمظهراتها، لم تستثنِ؛ لا القوي ولا الضعيف، ولم ينفذ لا الحاكم ولا المحكوم، لا السيد ولا العبد، لا الكبير ولا الصغير، لا البورجوازي ولا البروليتاري، ربّما يستوجب منا الأمر أن نعدَّ أنفسنا نعيش الكارثة عينها، الكارثة الكونية. لئن لم يقدر على البشر أن يعيشوا سعداء فقدّر عليهم أن يعيشوا تعساء، فإن لم تكن هناك السعادة الكونية المنشودة فها نشهد التعاسة الكونية الموجودة، وما بين المنشود والموجود تتصدر الوحدة الإنسانية.

حال من الفراغ

الإنسان اليوم يعيش حال من الفراغ حين يكتشف أوّلًا: أنّه لا قيمة لكلّ المعارف التي تعلّمها، أي ردّ الاعتبار لما اعترف به سقراط ذات عصر «كلّ ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئًا» والنقص الحاصل هنا في البيولوجيا كعلم مثلًا. ثانيًا: لا قيمة لوجوده ما لم ينعم بضرب من الأتراكسيا أو السكينة النفسية، فالمشكل اليوم نفسي أكثر مما هو معرفي قيمي بالنسبة للعامي. ثالثًا: لا قيمة لوجوده كذات واعية حين يشعر أنّه عاجز أمام قوّة الطبيعة وقصور العقل.

فهذا الانفجار البيولوجي قد خلق ثلاثة أنماط من البشر؛ الأوّل: النمط العدمي الذي سرعان ما يعتقد أنّ النهاية عاجلة ولم يلحق أن حقّق كينونته طوال مسيرته الحياتيّة، أو ربّما يظنّ أنه لم يستغل مراحل حياته التي ذهبت هدرًا حتّى يثبت أنّه حقيق بأن يكون إنسانًا وهو نوع نادر. ربّما استطعنا أن نقول عنه: إنّه الصنف البشري الذي أراد أن يتحدّى سقراط بعجز الإنسان عن معرفة كلّ الأشياء، ولكن أضحى ما يؤلمه اليوم هو عجزه أمام فشل النموذج العلمي في تمثل الواقع وحلّ مشاكله.

الثاني: ذلك الذي يعتقد أنّه لم يحقق كينونته كجسد وكموضوع مادي يلهث وراء تحقق شهواته ورغباته التي داهمته المنية وهو لم يشبعها، وهنا نتحدث عن النمط الاستهلاكي من المجتمعات البشرية للهفة المتزايدة حول بعض المنتوجات الاستهلاكية. وهذا الصنف هو الصنف الغالب في مجتمعاتنا وهو النمط العامي الذي يراهن على أنّ الهدف من الحياة يكمن في العيش فقط، العيش بالمعنى المادي متغافلًا الجانب القيمي الإيتيقي من الإنسانية. وأخيرًا النمط الثالث: وهو النوع الغائب الحاضر، من ناحية هو وجود غافل، وجود لا مبالٍ، لا يمكن أن نُصنِّفه إلّا بوجود مستهتر، وكأنّ المنتمين إلى هذا الوجود لا ينتمون إلى العالم أو إلى الوطن. هذه مخلفات الوباء العالمي على مستوى إنساني.