السياسات النكرووية (١) أو سياسات الموت (2)

السياسات النكرووية (١) أو سياسات الموت (2)

Wa syo’ lukasa pebwe

Umwime wa pita

[أسلم روحه…

  لكن آثار أقدامه

باقية على الصخر]

قول مأثور في اللامبا، زامبيا

* * *

تفترض هذه المقالة(٤) أن التعبير النهائي عن السيادة يكمن، إلى حد كبير، في: السلطة والقدرة على تعيين الذين قد يعيشون والذين يجب أن يموتوا(٥). ومن ثم فأن تقتل أو أن تسمح بالعيش يشكل حدود السيادة وسماتها الأساسية. أن تمارس السيادة يعني ممارسة السيطرة على الوفيات، وأن تحدد الحياة بوصفها نشر السلطة ومظاهرها. يمكن للمرء أن يلخص المصطلحات المذكورة أعلاه فيما يعنيه ميشيل فوكو بالسلطة الحياتية: مجال الحياة الذي سيطرت عليه السلطة.(6)

ولكن تحت أي ظروف عملية يُمارس الحق في القتل، والسماح بالعيش، أو التعريض للموت؟ من الذات التي ستمارس هذا الحق؟ ماذا يخبرنا تنفيذ مثل هذا الحق عن الشخص الذي يُختار للموت وعن علاقة العداوة التي تضع هذا الشخص في مواجهة قاتله؟ هل مفهوم السلطة الحياتية كافٍ لتناول الطرق المعاصرة، التي تجعل السياسي، تحت ستار الحرب، أو المقاومة، أو الكفاح ضد الإرهاب، يجعل قتل العدو هدفه الأساسي والمطلق؟ الحرب، بعد كل شيء، بقدر ما أنها وسيلة تحقيق السيادة، وسيلة لممارسة الحق في القتل. يجبرنا تخيل السياسة كشكل من أشكال الحرب على أن نسأل: ما المكان الذي يُعطى للحياة، والموت، وجسد الإنسان (ولا سيما الجرحى أو الجثث الميتة)؟ كيف يُسَجَّلُوا في ترتيبات السلطة؟

السياسات، عمل الموت، وأن «تصبح ذاتًا»

من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، يعتمد هذا المقال على مفهوم السلطة الحياتية ويستكشف علاقته بمفاهيم السيادة (السلطة المطلقة) وحالة الاستثناء(7). يثير هذا التحليل عددًا من الأسئلة التجريبية والفلسفية التي أود أن أتناولها بإيجاز. وكما هو معروف جيدًا، فإن مفهوم حالة الاستثناء قد نوقش في كثير من الأحيان فيما يتعلق بالنازية، والشمولية، ومعسكرات الاعتقال والإبادة. وفُسِّرت معسكرات الموت على وجه الخصوص على نحو مختلف بوصفها الاستعارة المركزية للعنف السيادي والمدمر كما أنها العلامة القصوى للسلطة السلبية المطلقة.

تقول حنّا أرندت: «لا يوجد نظير للحياة في معسكرات الاعتقال. لا يمكن للخيال أن يتقبل رعبها بسبب أنها تقف خارج الحياة والموت»(8). ولأن سكانها يسلبون الوضع السياسي ويختزلون إلى الحياة العارية، فإن المعسكرات، بالنسبة لجورجيو أغامبين، «المكان الذي تتحقق فيه أكثر ظروف لاـــ إنسانية يمكن أن تظهر على وجه الأرض على الإطلاق»(9). وفي التركيب السياسي-القانوني للمعسكر، يقول، تتوقف حالة الاستثناء عن أن تكون تعليق زمني مؤقت للقانون.

ووفقًا لأغامبين، فإنها تتحصل على ترتيب مكاني دائم يبقى باستمرار خارج حالة القانون العادية. والهدف من هذا المقال ليس مناقشة خصوصية إبادة اليهود أو جعلها أُنموذجًا(11). هنا سأبدأ من فكرة أن الحداثة كانت في أصل مفاهيم متعددة للسيادة – وبالتالي للسياسات الحياتية. وبغض النظر عن هذه التعددية، منح النقد السياسي في نهايات حقبة الحداثة للأسف امتيازات لنظريات معيارية للديمقراطية وجعل مفهوم العقل أحد أهم عناصر كل من مشروع الحداثة وأماكن السيادة. ومن هذا المنظور، فإن منتهى التعبير عن السيادة هو إنتاج معايير عامة من قبل هيئة (الشعب) تتألف من رجال ونساء أحرار ومتساويين. وهؤلاء الرجال والنساء ذوات كاملة قادرة على الفهم والوعي والتمثيل الذاتي. وبالتالي، تحدد السياسة بأنها ذات شقين: مشروع الاستقلالية وتحقيق اتفاق بين الجماعات عن طريق الاتصال والاعتراف. وقيل لنا إن هذا ما يميزها عن الحرب(12).

وبعبارة أخرى، تمكن النقد في الحداثة المتأخرة من صياغة فكرة معينة عن السياسة والمجتمع والذات أو، بشكل أساس، عما تعنيه الحياة الجيدة وكيفية تحقيقها وأن تصبح ضمن العملية فاعلًا أخلاقيًّا بشكل كامل، على أساس التمييز بين العقل وغير العقل (العاطفة، والخيال). العقل ضمن هذا النموذج هو حقيقة الذات، والسياسة هي ممارسة العقل في المجال العام. وممارسة العقل هي قيمة لممارسة الحرية، وعنصر أساس للاستقلالية الفردية. تتكئ رومانسية السيادة، في هذه الحالة، على الاعتقاد بأن الذات هو السيد والمؤلف المسيطر على معناه الخاص. وتحدد السيادة بالتالي بوصفها عملية مزدوجة من التكوين الذاتي والقيود الذاتية (تحديد حدود الفرد لنفسه).

وتتكون ممارسة السيادة بدورها من قدرة المجتمع على الإبداع الذاتي من خلال الاستعانة بمؤسسات تستلهم دلالات اجتماعية وخيالية محددة(13). كانت هذه القراءة المعيارية بقوة لسياسة السيادة هدف العديد من الانتقادات التي لن أكررها هنا(14). فشاغلي هو مظاهر ورموز السيادة التي لا يتمثل مشروعها الأساس في الكفاح من أجل الاستقلالية، ولكن التوظيف الأداتي المعمم للوجود البشري والتدمير المادي للأجساد البشرية والسكان. مظاهر السيادة هذه بعيدة عن كونها نموذجًا من الجنون المذهل أو التعبير عن تمزق بين دوافع ومصالح الجسم والعقل. في الواقع، هي، مثل معسكرات الموت، ما يشكل قانون nomos المكان السياسي الذي ما زلنا نعيش فيه. وعلاوة على ذلك، تشير التجارب المعاصرة للتدمير البشري إلى أنه من الممكن تطوير قراءة للسياسة والسيادة والذات مختلفة عن تلك التي ورثناها من الخطاب الفلسفي الحداثي. فبدلًا من اعتبار العقل حقيقة هذه الذات، يمكننا أن ننظر إلى فئات أساسية أخرى أقل تجريدًا وأكثر لمسًا، مثل الحياة والموت. ومن المهم بالنسبة لمثل هذا المشروع مناقشة هيغل للعلاقة بين الموت و«أن تصبح ذاتًا».

يتركز تناول هيغل للموت على ثنائية مفهوم السلبية. أولًا، الإنسان ينفي الطبيعة (نفي موجه للخارج في جهود الإنسان لتطويع الطبيعة لاحتياجاته الخاصة)؛ وثانيًا، أنه يحول العنصر المنفي من خلال العمل والنضال. في تحويل الطبيعة، يخلق الإنسان عالمًا؛ ولكن في هذه العملية، يتعرض أيضًا لسلبيته الخاصة. موت الإنسان، ضمن الباراديم الهيغلي، طوعي في الأساس. وهو نتيجة للمخاطر التي تفترضها الذات الواعية. ووفقًا لهيغل، فإن «الحيوان» الذي يشكل الكينونة الطبيعية للذات الإنسانية قد هُزم في هذه المخاطر. وبعبارة أخرى، يصبح الإنسان ذاتًا حقًّا- أي ينفصل عن الحيوان – في النضال والعمل الذي يواجه من خلاله الموت (يفهم على أنه عنف السلبية).

حياة تفترض الموت وتعيش معه

ومن خلال هذه المواجهة مع الموت يُقذف الإنسان في حركة التاريخ المستمرة. وبالتالي، تفترض سيرورة (أن تصبح ذاتًا) دعم عمل الموت. ودعم عمل الموت هو بالضبط كيف يحدد هيغل حياة الروح. فحياة الروح، كما يقول، ليست هي الحياة التي تخاف من الموت، وتخلص نفسها من الدمار، ولكن تلك الحياة التي تفترض الموت وتعيش معه. فالروح لا تصل إلى حقيقتها إلا من خلال إيجاد نفسها في قطع أو بتر تام(15). السياسات إذًا هي الموت الذي يعيش حياة إنسانية. وهذا يعني، مثل تعريف المعرفة المطلقة والسيادة: المخاطرة بمجمل
حياة الفرد.

يقدم جورج باتاي أيضًا رؤى نقدية حول كيف يهيكل الموت فكرة السيادة والسياسة والذات. يستبدل باتاي مفهوم هيغل عن الروابط بين الموت والسيادة والذات بثلاث طرق على الأقل. أولًا- يفسر الموت والسيادة على أنهما نوبات من المبادلة والغزارة -أو، بتوظيف مصطلحاته الخاصة: الفيض. بالنسبة لباتاي، الحياة هي معيبة فقط عندما يأخذها الموت رهينة. الحياة نفسها موجودة فقط في دفقات وفي تبادل مع الموت(16). ويقول: إن الموت هو تعفن الحياة، الرائحة النتنة التي هي المصدر والشرط المقيت للحياة في الوقت نفسه. وبالتالي، وعلى الرغم من أنه يدمر ما كان، ويطمس ما كان من المفترض أن يستمر في الوجود، ويقلل إلى لا شيء الفرد الذي يأخذه، فإن الموت لا ينحدر إلى إبادة نقية للوجود. بل هو في جوهره وعي ذاتي. وعلاوة على ذلك، هو أفخم شكل من أشكال الحياة، بمعنى أنه التدفق والغزارة: قوة الانتشار. وبطريقة أكثر جذرية، يسحب باتاي الموت من أفق المعنى. وعلى النقيض من هيغل، الذي لا شيء بالنسبة له يُفقد بشكل نهائي في الموت؛ فإن الموت في الواقع يحمل دلالة كبيرة بوصفه واسطة الحقيقة.

ثانيًا- يرسخ باتاي بقوة الموت في مجال البذل (الإنفاق المطلق، السمة الأُخرى للسيادة)، في حين يحاول هيغل الحفاظ على الموت داخل اقتصاد المعرفة المطلقة والمعنى. الحياة أبعد من الفائدة، يقول باتاي: الموت هو مجال السيادة. وبالتالي، فإن الموت في هذه الحالة، هو نقطة يشكل فيها التدمير والقمع والتضحية بذلًا راديكاليًّا لا رجعة فيه – أي بذلًا دون احتياطي – بحيث لم يعد ممكنًا أن يحدد بوصفه سلبيًّا.

الموت، تبعًا لذلك، هو مبدأ الفيض الخاص، ضد الاقتصاد. ومن هنا استعارة الترف والطابع الفاخر للموت. ثالثًا، يقيم باتاي علاقة بين الموت والسيادة والجنسانية. وترتبط الجنسانية ارتباطًا وثيقًا بالعنف وبانحلال الحدود بين الجسم والنفس عن طريق نبضات ماجنة وبرازية. وهكذا تهتم الجنسانية بشكلين رئيسين من نبضات الإنسان المستقطبة ــ الإفراز والاستيلاء ــ وكذلك نظام التابوهات المحيطة بها(17).

تكمن حقيقة الجنس وخصائصه القاتلة في تجربة فقدان الحدود التي تفصل بين الواقع والأحداث والموضوعات الفنتازية. وبالنسبة لباتاي، فإن للسيادة أشكالًا كثيرة. ولكنها في نهاية المطاف رفض قبول الحدود التي يفرض الخوف من الموت على الذات احترامها. إن العالم السيادي، يقول باتاي: «هو العالم الذي يُلغى فيه حد الموت. الموت موجود فيه، ووجوده يُعرّف عالم العنف، ولكن في حين أن الموت موجود، إلا أنه هناك فقط كي يتم إنكاره، لا لشيء إلا لذلك». فالسيد، يقول باتاي، «هو الذي، كما لو أن الموت ليس موجودًا…. لا يضع أي اعتبار لحدود الهوية أكثر مما يفعله لحدود الموت، أو لنقل إن هذه الحدود هي نفسها؛ هو المتجاوز أو المنتهك لكل هذه الحدود».

وحيث إن المجال الطبيعي للحظر يشمل الموت، من بين أمور أخرى (على سبيل المثال، الجنسانية، القذارة، البراز)، تتطلب السيادة «قوة لانتهاك الحظر ضد القتل، على الرغم من أن هذا سيكون في ظل ظروف تحددها العادات والتقاليد».

وخلافًا للتبعية التي هي دائمًا متجذرة في الضرورة والحاجة المزعومة إلى تجنب الموت، فإن السيادة تدعو بالتأكيد إلى خطر الموت(18)، وبتناوله للسيادة بوصفها انتهاك المحظورات، يعيد باتاي فتح مسألة حدود السياسة. السياسة، في هذه الحالة، ليست حركة جسورة جدلية للعقل. لا يمكن أن يُقتفى أثر السياسة إلا بوصفها انتهاكًا لولبيًّا، مثل ذلك الاختلاف الذي يشوش فكرة الحد الأقصى. السياسة بصورة أكثر تحديدًا، هي الفرق الذي يعمل من خلال انتهاك تابو(19).

السلطة الحياتية وعلاقة العداوة

وبعد أن قدمت قراءة للسياسة بوصفها عمل الموت، أنتقل الآن إلى السيادة، كما طُرحت في الغالب بوصفها الحق في القتل. ولأغراض حجتي، أربط فكرة فوكو عن السلطة الحياتية بمفهومين آخرين: حالة الاستثناء وحالة الحصار(20). وأدرس تلك المسارات التي توضح كيف أن حالة الاستثناء وعلاقة العداوة أصبحت الأساس المعياري للحق في القتل. في مثل هذه الحالات، تشير السلطة (وليس بالضرورة سلطة الدولة) بشكل مستمر/ وتدعو إلى الاستثناء والطوارئ والفكرة المتخيلة عن العدو. كما أنها تعمل على إنتاج نفس الاستثناء والطوارئ والعدو المتخيل. وبعبارة أخرى، فإن السؤال هو: ما العلاقة بين السياسة والموت في تلك النظم التي يمكن أن تعمل فقط في حالة الطوارئ؟ وفي صياغة فوكو، تعمل السلطة الحياتية، على ما يبدو، من خلال تقسيم الناس إلى أولئك الذين يجب أن يعيشوا والذين يجب أن يموتوا. وحين تعمل على أساس الانقسام بين العيش والموت، فإن هذه السلطة تعرف نفسها من خلال العلاقة مع حقل البيولوجيا – الذي تسيطر عليه وتثبت نفسها فيه. تفترض هذه السيطرة توزيع الأنواع البشرية في مجموعات، وتقسيم السكان إلى مجموعات فرعية، وإنشاء قطيعة بيولوجية بين الواحدة والأُخرى. وهذا ما يصفه فوكو بمصطلح (يبدو مألوفًا للوهلة الأولى) العنصرية أو العرقية(21). ذلك العرق (أو العنصرية بوصفها ذات صلة بهذه المسألة) والذي يظهر بشكل بارز في حساب التفاضل والتكامل للسلطة الحياتية له ما يبرره تمامًا.

كان للعرق، أكثر من الفكر الطبقي (الأيديولوجية التي تعرف التاريخ على أنه نضال اقتصادي للطبقات)، ظلًّا دائمًا في الفكر والممارسة السياسية الغربية، وبخاصة إذا تعلق الأمر بتخيل لا-إنسانية/ أو حكم الشعوب الأجنبية. بالإشارة إلى الحضور الكلي والشبيه بالشبحي لعالم العرق بشكل عام، تموضع أرندت جذوره في الخبرة المتشظية للآخرية (الغيرية) وتقترح أن سياسة العرق مرتبطة في نهاية المطاف بسياسة الموت(22). وفي الواقع، وبمصطلحات فوكو، فإن العنصرية، قبل كل شيء، هي تقنية تهدف إلى السماح بممارسة «السلطة الحياتية»، و«الحق السيادي القديم بالموت»(23) وفي اقتصاد السياسات الحياتية، فإن وظيفة العنصرية هي تنظيم توزيع الموت وتمكين الدولة من وظيفة القتل. هي، كما يقول، «شرط القبول بالقتل»(24).

يقول فوكو بوضوح: إن الحق السيادي في القتل (droit de glaive) وميكانيزمات السلطة الحياتية مدرجة في الطريقة التي تعمل بها جميع الدول الحديثة(25)؛ بل يمكن عدها عناصر تأسيسية لسلطة الدولة في الحداثة. وفقًا لفوكو، كانت الدولة النازية المثال الأكثر اكتمالًا للدولة التي تمارس حق القتل. هذه الدولة، كما يدعي، جعلت الإدارة، والحماية، وتثقيف أو تهذيب الحياة تتعايش مع الحق السيادي في القتل. وبواسطة الاستقراء البيولوجي حول موضوع العدو السياسي، وتنظيم الحرب ضد خصومها، وفي الوقت نفسه، تعريض مواطنيها للحرب، دشنت الدولة النازية الطريق للتوطيد الهائل للحق في القتل الذي تُوج بمشروع «الحل النهائي». وبفعلها هذا أصبحت النموذج الأصلي لتشكيل السلطة التي تجمع بين خصائص الدولة العنصرية، والدولة القاتلة، والدولة الانتحارية.

ويُقال: إن الخلط الكامل بين الحرب والسياسة (والعنصرية والقتل والانتحار)، طالما أنه لا يمكن تمييزها عن بعضها الآخر، هو أمر فريد من نوعه خاص بالدولة النازية. إن تصور وجود الآخر كمحاولة اعتداء على حياتي، كتهديد مميت أو خطر مطلق من شأن إقصائه البيوفيزيائي أن يعزز قدرتي على الحياة والأمن، وهذا في رأيي، واحد من العديد من خيالات السيادة المميزة لكل من الحداثة المبكرة والمتأخرة نفسها. يدعم الاعتراف بهذا التصور إلى حد كبير معظم الانتقادات التقليدية للحداثة، سواء كانت تتعامل مع العدمية وإعلانها عن إرادة السلطة بوصفها جوهر الوجود؛ والفهم التشييئي للإنسان بتحويله إلى شيء أو موضوع؛ أو إخضاع كل شيء للمنطق غير الشخصي، ولسيطرة الحسابات والعقلانية الأداتية(26).

والواقع، من منظور أنثروبولوجي، أن ما تمثله هذه الانتقادات ضمنًا هو تعريف السياسة بأنها العلاقة الحربية بامتياز. كما أنها تتحدى فكرة أن حساب التفاضل والتكامل للحياة يمر بالضرورة من خلال موت الآخر؛ أو أن السيادة تتكون من الإرادة والقدرة على أن تقتل من أجل أن تعيش. ومن وجهة نظر تاريخية، جادل عدد من المحللين بأن البنى المادية للإبادة النازية توجد في الإمبريالية الاستعمارية من ناحية، وفي تسلسل الميكانيزمات التقنية لقتل الناس من ناحية أخرى ــــ الميكانيزمات التي جرى تطويرها بين الثورة الصناعية والحرب العالمية الأولى. ووفقًا لإينزو ترافرسو، كانت غرف الغاز والأفران تتويجًا لعملية طويلة من التجريد من الإنسانية وصناعة الموت، التي كانت إحدى سماتها الأصلية دمج العقلانية الأداتية مع العقلانية الإنتاجية والإدارية للعالم الغربي الحداثي (المصنع، والبيروقراطية، والسجن، والجيش). وبعد أن أصبح آلية، حُوِّل الإعدام المتسلسل إلى إجراء فني بحت، لا شخصي وصامت وسريع. وقد ساعد جزئيًّا في هذا التطور القوالب النمطية العنصرية وازدهار العنصرية القائمة على الطبقة التي أدت، عند ترجمة الصراعات الاجتماعية في العالم الصناعي بمصطلحات العنصرية، إلى مقارنة الطبقات العاملة و «الأشخاص عديمي الجنسية» في العالم الصناعي بـ«المتوحشين الأغلاظ» في العالم الاستعماري(27).

الحداثة والإرهاب

والواقع أن الروابط بين الحداثة والإرهاب تنبع من مصادر متعددة. بعضها موجود في الممارسات السياسية للنظام القديم. ومن هذا المنظور، فإن التوتر بين شغف الجمهور بالدم ومفاهيم الثأر والانتقام والعدالة أمر بالغ الأهمية. يبين فوكو في (المراقبة والمعاقبة) كيف أن إعدام دامين الذي كان سيكون قاتل الملك استمر لساعات لنيل رضا الحشد(28). ومن المعروف جيدًا الموكب الطويل من المدانين في الشوارع قبل التنفيذ، واستعراض أجزاء الجسم -الطقس الذي أصبح سمة قياسية للعنف الشعبي- والعرض النهائي للرأس المقطوع مثبتًا على رمح. يمثل ظهور المقصلة في فرنسا مرحلة جديدة في «إضفاء الطابع الديمقراطي» على وسائل التخلص من أعداء الدولة. والواقع أن هذا الشكل من أشكال الإعدام الذي كان في السابق حقًّا مقصورًا على النبلاء امتد إلى جميع المواطنين.

وفي سياق ينظر فيه إلى قطع الرأس بوصفه أقل مهانة من الشنق، فإن الابتكارات في تقنيات القتل لا تهدف فقط إلى «تهذيب أو تمدين» طرق القتل. ولكنها تهدف أيضًا إلى التخلص من عدد كبير من الضحايا في مدة زمنية قصيرة نسبيًّا. وفي الوقت نفسه، تظهر حساسية ثقافية جديدة يكون فيها قتل عدو الدولة امتدادًا للعبة، لتظهر أشكال من القسوة أكثر حميمية، ورهبة، وبطئًا. ولكن لم يتبدَّ الخلط بين العقل والإرهاب بشكل واضح جدًّا في أي مكان كما هو الحال خلال الثورة الفرنسية(29). يفسر الإرهاب خلال الثورة الفرنسية، على أنه جزء ضروري تقريبًّا من السياسة. ويزعم أن الشفافية المطلقة موجودة بين الدولة والشعب. وبوصفه فئة سياسية، يتحول «الشعب» تدريجيًّا من واقع ملموس إلى رمز بلاغي.

وكما بين ديفيد بيتس، يعتقد منظمو الإرهاب أنه من الممكن التمييز بين التعبيرات الأصيلة للسيادة وأعمال العدو. كما يعتقدون أنه من الممكن التمييز بين «خطأ» المواطن و«جريمة» الثورة المضادة في المجال السياسي. وهكذا يصبح الإرهاب وسيلة لوسم الانحراف في الجسم السياسي، وتُقرأ السياسة بوصفها القوة المتنقلة للعقل والمحاولة التائهة لخلق مساحة حيث يُقلل «الخطأ»، وتُعزز الحقيقة، ويُطرد منها العدو على حد سواء(30). وأخيرًا، فإن الإرهاب لا يرتبط فقط بالاعتقاد الطوباوي بالقدرة غير المقيدة للعقل الإنساني، ولكنه يرتبط بوضوح بسرديات مختلفة عن التمكن والتحرر، يرتكز معظمها على فهم التنوير للحقيقة والخطأ، «الحقيقي» والرمزي. يخلط ماركس، على سبيل المثال، بين الكدح (دورة لا نهاية لها من الإنتاج والاستهلاك اللازمة للحفاظ على حياة الإنسان) والعمل (خلق التحف الدائمة التي تضيف إلى عالم الأشياء). وينظر إلى الكدح بوصفه أداة للخلق الذاتي التاريخي للبشرية.

إن الخلق الذاتي التاريخي للبشرية هو في حد ذاته صراع الحياة والموت، أي صراع حول المسارات التي ينبغي أن تؤدي إلى حقيقة التاريخ: التغلب على الرأسمالية والشكل السلعي والتناقضات المرتبطة بهما. وفقًا لماركس، مع ظهور الشيوعية وإلغاء علاقات التبادل، سوف تظهر الأمور كما هي عليه في الواقع؛ وسيقدم «الحقيقي» نفسه كما هو في الواقع، وسيتم تجاوز التمييز بين الذات والموضوع أو الوجود والوعي(31). ولكن بجعل التحرر البشري يعتمد على إلغاء إنتاج السلع، يطمس ماركس الانقسامات المهمة بين عالم الحرية الذي صنعه الإنسان، ومجال الضرورة الذي تحدد الطبيعة، وشرطية التاريخ. إن الالتزام بإلغاء إنتاج السلع الأساسية وحلم الوصول المباشر ودون وسيط إلى «الحقيقي» يجعل من هذه العمليات -تحقيق ما يسمى بمنطق التاريخ وتصنيع الجنس البشري- عمليات عنيفة بالضرورة تقريبًا. وكما بيّن ستيفن لو، فإن المبادئ المركزية للماركسية الكلاسيكية لا تترك أي خيار سوى «محاولة إدخال الشيوعية عن طريق الأوامر الإدارية، وهو ما يعني عمليًّا أنه يجب نزع تسليع العلاقات الاجتماعية بقوة»(32).

تاريخيًّا، اتخذت هذه المحاولات أشكالًا مثل عسكرة العمل، وانهيار التمييز بين الدولة والمجتمع، والإرهاب الثوري(33). ويمكن القول: إن هذه التدابير تهدف إلى استئصال حالة التعددية الإنسانية الأساسية. في الواقع، فإن التغلب على الانقسامات الطبقية، وذوبان الدولة، وازدهار الإرادة العامة يفترض مسبقًا أن التعددية البشرية هي العقبة الرئيسة أمام تحقيق الغايات التاريخية المحددة سلفًا. وبعبارة أخرى، فإن الذات في الحداثة الماركسية هي، في الأساس، ذات تعتزم إثبات سيادتها من خلال شن قتال حتى الموت. وكما هو الحال مع هيغل، فإن سردية السيطرة والتحرر هنا ترتبط بوضوح بسردية الحقيقة والموت. إن الإرهاب والقتل يصبحان وسيلة لتحقيق الغايات الحتمية تاريخيًّا.

العبد، رمز مثالي للظل

يحتاج أي تناول تاريخي لظهور الإرهاب الحداثي إلى تناول الرق أو العبودية، وهي ما يمكن عده أولى حالات التجريب السياسي الحياتي. يظهر هيكل النظام الزراعي وعواقبه الشكل الرمزي والمتناقض لحالة الاستثناء(34). وهذا الشكل متناقض هنا لسببين؛ أولًا- في سياق المزرعة، تظهر إنسانية الرقيق (العبد) بوصفه الرمز المثالي للظل. والواقع أن حالة الرقيق تنجم عن خسارة ثلاثية: فقدان «الوطن»، وفقدان الحقوق على جسده، وفقدان الحالة السياسية. وهذه الخسارة الثلاثية متطابقة مع الهيمنة المطلقة، والاغتراب منذ الولادة، والموت الاجتماعي (الطرد من الإنسانية كلية). ومن المؤكد أن المزرعة، بوصفها هيكلًا سياسيًّا وقانونيًّا، هي المكان الذي ينتمي فيه الرقيق لسيد. فهي ليست مجتمعًا لأن المجتمع بحكم تعريفه ينطوي على ممارسة سلطة الكلام والفكر. وكما يقول بول غيلروي: «إن أنماط التواصل المتطرفة التي تحددها مؤسسة الاستعباد الزراعي تملي علينا أن نعترف بالتداعيات الخارجة عن اللغة والمناهضة للخطاب للسلطة الفاعلة في تشكيل الأفعال التواصلية. قد لا يكون هناك، على الإطلاق، أي معاملة تبادلية في المزرعة خارج إمكانيات التمرد والانتحار، والفرار، والحداد الصامت، وليس هناك بالتأكيد أي وحدة قواعدية نحوية للكلام لتكون وسيطًا للعقل التواصلي. وفي العديد من النواحي، يعيش سكان المزرعة بشكل غير متزامن»(35).

وبوصفه أداة كادحة، فإن للعبد ثمنًا. وبوصفه من الممتلكات فإن له قيمة. هناك حاجة إلى عمله. فضلًا عن استغلال عمله. وبالتالي يبقى العبد حيًّا ولكن في حالة غبن وإهانة، في عالم شبه شبحي من الأهوال والقسوة الشديدة والبذاءة. ويتجلى الاتجاه العنيف لحياة العبد من خلال رغبة المشرف أن يتصرف بطريقة قاسية وغير معتادة وفي مشهد الألم الذي يلحق بجسد العبد(36). ويصبح العنف، هنا، عنصرًا في السلوك(٣٧)، مثل الجلد أو قتل الرقيق في حد ذاته: عملًا من أعمال التدمير الخالص الذي يهدف إلى تثبيت الرعب(٣٨).

حياة الرقيق، بطرق عديدة، هي شكل من أشكال الموت في الحياة. وكما تقترح سوزان باك- مورس، فإن حالة الرقيق تنتج تناقضًا بين حرية التملك وحرية الفرد. تنشأ علاقة غير متكافئة تسير جنبًا إلى جنب مع عدم المساواة في السلطة على الحياة. هذه السلطة على حياة أخرى تأخذ شكل التجارة: تنحل إنسانية الإنسان إلى درجة يمكن معها القول: إن حياة العبد يمتلكها السيد(39). ولأن حياة العبد مثل «شيء»، تُمتلك من قبل شخص آخر، يظهر وجود الرقيق كشكل أو كرمز مثالي للظل. وعلى الرغم من الإرهاب والعزل الرمزي للرقيق، فإنه يحتفظ بوجهات نظر بديلة نحو الوقت والعمل والنفس. وهذا هو العنصر الثاني المتناقض في عالم المزارع بوصفه دليلا على حالة الاستثناء؛ إذ بالرغم من معاملته كما لو أنه غير موجود إلا أداة إنتاج، فإن الرقيق قادر على جر أي موضوع أو أداة أو لغة أو لفتة إلى الأداء ومن ثم أسلبتها.

مُخترقًا باقتلاع الجذور وعالم الأشياء الخالص الذي هو ليس إلا شظية منه، يستطيع العبد أن يثبت القدرات المتلونة للروابط البشرية من خلال الموسيقا والجسم نفسه الذي يُفترض أنه ملك لآخر(40). وإذا كانت العلاقات بين الحياة والموت، وسياسة القسوة ورموز البذاءة غير واضحة في نظام المزرعة، إلا أنه في المستعمرة وفي ظل نظام الفصل العنصري يظهر إلى حيز الوجود تشكيلًا إرهابيًّا خاصًّا سأنتقل إليه الآن(٤١). سمة من سمات هذا التشكيل الإرهابي هو تسلسل السلطة وحالة الاستثناء وحالة الحصار. ومن الأمور الحاسمة في هذا التسلسل، مرة أخرى، العرق(٤٢).

وفي الواقع، وجد اختيار الأعراق، وحظر الزيجات المختلطة، والتعقيم القسري، حتى إبادة الشعوب المهزومة، في معظم الحالات، أول أرضية تجريبية له في العالم الاستعماري. وهنا نرى أول التوليفات بين المجزرة والبيروقراطية، التوليفة التي تجسد العقلانية الغربية(43). وضعت أرندت أطروحة تقول إن هناك صلة بين الاشتراكية القومية والإمبريالية التقليدية. ووفقًا لها، فإن الغزو الاستعماري كشف عن احتمال وقوع عنف لم يكن معروفًا من قبل. فما شهده المرء في الحرب العالمية الثانية هو توسيع نطاق الأساليب التي كانت محجوزة سابقًا للـ «متوحشين البرابرة غير المتمدنين» لتطول الشعوب «المتحضرة» في أوربا. ففكرة أن التقنيات التي انتهت بإنتاج النازية كان ينبغي أن تنشأ في المزرعة أو في المستعمرة، أو، على العكس من ذلك -كما في أطروحة فوكو- أن النازية والستالينية لم تفعل أكثر من تضخيم سلسلة من الآليات التي كانت موجودة بالفعل في التشكيلات الاجتماعية والسياسية في أوربا الغربية (إخضاع الجسم، واللوائح الصحية، والداروينية الاجتماعية، وتحسين النسل، والنظريات الطبية القانونية على الوراثة، والتنكس أو الانحطاط، والعرق) هي، في النهاية، غير ذات صلة.

الحقيقة، على الرغم من ذلك، هي أن المستعمرة في الفكر الفلسفي الحداثي والممارسة والخيال السياسي الأوربي تمثل المكان الذي تتشكل فيه السيادة بشكل أساس من ممارسة السلطة خارج القانون والمكان حيث الاحتمالات الكبرى لأن يأخذ «السلام» وجه «حرب بلا نهاية». والواقع أن هذا الرأي يتفق مع تعريف كارل شميت للسيادة في بداية القرن العشرين، أي سلطة البت في حالة الاستثناء. ولتقييم فاعلية المستعمرة بشكل صحيح بوصفها شكلًا من أشكال الإرهاب، يتعين علينا أن نلتفت إلى الخيال الأوربي نفسه من حيث صلته بالمسألة الحاسمة المتمثلة في تدجين الحرب وإنشاء نظام قضائي أوربي.

وعلى أساس هذا الترتيب كان هناك مبدآن رئيسان. يفترض أولها المساواة القانونية بين جميع الدول. وقد طبقت هذه المساواة بشكل ملحوظ على الحق في شن الحرب (أخذ الحياة). والحق في شن الحرب يعني أمرين. فمن ناحية، جرى الاعتراف بأن القتل أو إبرام السلام هو إحدى المهام البارزة لأي دولة. وجرى ذلك جنبًا إلى جنب مع الاعتراف بحقيقة أنه لا يمكن لأي دولة أن تطالب بحكم خارج حدودها. ولكن أيضًا، على العكس من ذلك، لا يمكن للدولة أن تعترف بأي سلطة فوقها داخل حدودها. ومن ناحية أخرى، تعهدت الدولة من جانبها بـ «بتمدين» طرق القتل وإعطاء أهداف عقلانية لفعل القتل ذاته. ويتعلق المبدأ الثاني بإضفاء الطابع الإقليمي على الدولة ذات السيادة، أي تحديد حدودها في إطار نظام عالمي فرض حديثًا.

وفي هذا السياق، أخذ نظام الحقوق القانونية التي يتمتع بها كل المواطنين «جوس ببليكوم» بسرعة شكل التمييز بين تلك الأجزاء من العالم المتاحة للاستيلاء من قبل الاستعماري من ناحية، ومن ناحية أخرى، أوربا نفسها (حيث كان من المفترض أن يسود الجوس ببليكوم)(44). يُعد هذا التمييز، كما سنرى، أمرًا حاسمًا من حيث تقويم فعالية المستعمرة بوصفها شكلًا إرهابيًّا. فبشكل عام، وتحت «الجوس ببليكوم» تكون الحرب المشروعة، إلى حد كبير، حربًا تقوم بها دولة ضد دولة أخرى، أو على وجه أدق، حربًا بين دول «متحضرة».

إن مركزية الدولة في حساب التفاضل والتكامل للحرب مستمدة من حقيقة أن الدولة هي نموذج الوحدة السياسية، ومبدأ التنظيم العقلاني، وتجسيد فكرة العلامة العالمية والأخلاقية. وفي السياق نفسه، تشبه المستعمرات الحدود. يقطنها «المتوحشون». إن هذه المستعمرات ليست منظمة في شكل دولة ولم تنشئ عالماً بشريًّا. ولا تشكل جيوشها كيانًا متميزًا، كما أن حروبها ليست حروبًا بين الجيوش النظامية. فهي لا تعني تعبئة الذوات السيادية (المواطنين) الذين يحترمون بعضهم الآخر كأعداء. ولا تميز بين المقاتلين وغير المقاتلين، أو مرة أخرى بين «العدو» و«المجرم»(45). ومن ثم يتعذر التوصل إلى سلام معها. وباختصار، فإن المستعمرات هي المناطق التي تقف فيها الحرب والاضطرابات، والرموز الداخلية والخارجية للسياسة، جنبًا إلى جنب أو بالتبادل مع بعضها الآخر. وعلى هذا النحو، فإن المستعمرة هي المنطقة بامتياز حيث يمكن وقف ضوابط وضمانات النظام القضائي – المنطقة حيث يعتبر أن عنف حالة الاستثناء يعمل في خدمة «الحضارة».

غير واقعيين يشبهون الأرواح

ويمكن أن تحكم هذه المستعمرات في ظل انعدام مطلق للقانون ينبع من الإنكار العنصري لأي رابطة مشتركة بين الغزاة والسكان الأصليين. في نظر الغزاة، الحياة الوحشية هي مجرد شكل آخر من أشكال الحياة الحيوانية، تجربة مرعبة، شيء غريب وراء الخيال أو الفهم. في الواقع، وفقا لأرندت، فإن ما يجعل المتوحشين مختلفين عن البشر الآخرين هو الخوف من أن يتصرفوا كجزء من الطبيعة أكثر من لون بشرتهم، وأنهم يعاملون الطبيعة كما سيدهم بلا منازع. وهكذا تظل الطبيعة، بكل جلالتها، حقيقة ساحقة مقارنة بما يبدو أنهم أشباح وغير واقعيين ويشبهون الأرواح. إن المتوحشين هم، أو كما لو أنهم، بشر طبيعيون «يفتقرون إلى الطابع الإنساني على وجه الخصوص»، «ولذلك عندما ذبحهم الأوربيون لم يكونوا مدركين أنهم قد ارتكبوا جريمة قتل»(46). لكل ما سبق فإن الحق السيادي في القتل لا يخضع لأي قاعدة في المستعمرات. في المستعمرات، قد يقتل السيد في أي وقت أو بأي شكل من الأشكال. فالحرب الاستعمارية لا تخضع لقواعد قانونية ومؤسساتية. وهي ليست نشاطًا مقننًا قانونيًّا. بدلًا من ذلك، يتشابك الإرهاب الاستعماري باستمرار مع الأوهام الناشئة استعماريًّا عن البرية والموت والخيال لخلق تأثير الواقع(47). السلام ليس بالضرورة النتيجة الطبيعية للحرب الاستعمارية.

والواقع أن التمييز بين الحرب والسلام لا ينفع. والحروب الاستعمارية تصور على أنها تعبير عن عدائية مطلقة تضع الغازي في مواجهة عدو مطلق(48). وتجد جميع مظاهر الحرب والعداء التي هُمِّشَتْ في المخيلة القانونية الأوربية مكانًا لإعادة الظهور في المستعمرات. هنا، تنهار قصة التمييز بين «غايات الحرب» و«وسائل الحرب»؛ وكذلك قصة أن الحرب تعمل كمنافسة تحكمها القاعدة، بدلًا من الذبح النقي دون مخاطر أو تبرير أداتي. ومن ثم، يصبح من غير المجدي محاولة حل إحدى المفارقات المستعصية للحرب التي التقطها ببراعة ألكسندر كوجيف في إعادة تفسيره لـ(فينومينولوجيا الروح) لهيغل: وهي تزامن المثالية واللا-إنسانية الظاهرة(49).


هوامش:

(١)النخر (باللاتينية: nocrosis] هو الموت المبكر لخلايا الجسم الحية، يحدث النخر نتيجة أسباب خارجية كالإنتان والالتهاب والسموم والرضح، بعكس الاستموات (الموت المبرمج) الذي يكون لأسباب داخلية. لا ترسل الخلايا التي تموت نتيجة النخر إشارات كيميائية إلى جهاز المناعة كما تفعل الخلايا التي تموت نتيجة الاستموات، مما يعرقل الخلايا البالعة عن إزالة الخلايا الميتة. مما يؤدي إلى تكون نسيج ميت يكون بيئة خصبة للإنتانات ويستدعي إزالة هذا النسيج الميت جراحيًّا. والبادئة necro سابقة بمعنى النَّخَر؛ البِلى؛ الموت؛ الرِّمَّة. (أماني).

(2) NecropoliticsJ.-A. Mbembé, Libby MeintjesPublic Culture, Volume 15, Number 1, Winter 2003, pp. 11-40 (Article)Published by Duke University Press

(٣) المقال منشور بالإنجليزية في مجلة (الثقافة) والترجمة إلى الإنجليزية لليبي مينتجيس Libby Meintjes. وترجمته أنا عن الإنجليزية.

(٤) هذا المقال هو نتيجة محادثات مستمرة مع أرجون أبادوراي، كارول بريكنريدج، و فرانسواز فيرجيس. وعرضت مقتطفات منه في حلقات دراسية وحلقات عمل في إيفانستون، شيكاغو، نيويورك، نيو هافن، وجوهانسبرغ. كما قدم بول جيلروي وديليب بارامشوار غاونكار وبيت بوفينلي وبن لي وتشارلز تايلور وكروفورد يونغ وعبدوماليك سيمون ولوك سيندجون وسليمان بشير دياغن وكارلوس فورمنت وأتو كايسون وأولريكي كيستنر وديفيد ثيو غولدبرغ وديبورا بوسيل، انتقادات مفيدة. كما قدمت ريحانة إبرفالي وسارة نوتال تعليقات وأفكارًا إضافية بالإضافة إلى الدعم والتشجيع. وأهدي المقال لتشيكالا كايمبي بيايا.

(٥) تبتعد المقالة من التناولات التقليدية للسيادة كما تطرحها تخصصات العلوم السياسية، والعلاقات الدولية المتفرعة منها. في معظم الأحيان، تحدد هذه التناولات السيادة داخل حدود الدولة القومية، داخل المؤسسات الممكنة من قبل الدولة أو داخل المؤسسات والشبكات فوق الوطنية. انظر، على سبيل المثال، Sovereignty at the Millennium, special issue, Political Studies 47 (1999).. ويستند نهجي الخاص إلى نقد ميشيل فوكو لمفهوم السيادة وعلاقته بالحرب والسلطة الحياتية في: Il faut défendre la société: Cours au Collège de France, 1975–1976 (Paris: Seuil, 1997), 37–55, 75–100, 125–48, 213–44.. انظر أيضًا جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben, Homo sacer. Le pouvoir souverain et la vie nue (Paris: Seuil, 1997), 23–80.

(6) Foucault, Il faut défendre la société, 213–34.

(7) On the state of exception, see Carl Schmitt, La dictature, trans. Mira Köller and Dominique Séglard (Paris: Seuil, 2000), 210–28, 235–36, 250–51, 255–56; La notion de politique. Théorie du partisan, trans. Marie-Louise Steinhauser (Paris: Flammarion, 1992).

(8) Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism (New York: Harvest, 1966), 444.

(9) Giorgio Agamben, Moyens sans fins. Notes sur la politique (Paris: Payot & Rivages, 1995), 50–51.

(10) On these debates, see Saul Friedlander, ed., Probing the Limits of Representation: Nazism and the “Final Solution” (Cambridge: Harvard University Press, 1992); and, more recently, Bertrand Ogilvie, “Comparer l’incomparable,” Multitudes, no. 7 (2001): 130–66.

(11) See James Bohman and William Rehg, eds., Deliberative Democracy: Essays on Reason and Politics (Cambridge: MIT Press, 1997); Jürgen Habermas, Between Facts and Norms (Cambridge: MIT Press, 1996).

(12) James Schmidt, ed., What Is Enlightenment? Eighteenth-Century Answers and Twentieth-Century Questions (Berkeley: University of California Press, 1996).

(13) Cornelius Castoriadis, L’institution imaginaire de la société (Paris: Seuil, 1975) and Figures du pensable (Paris: Seuil, 1999).

(14) See, in particular, Paul Gilroy, The Black Atlantic: Modernity and Double Consciousness (Cambridge: Harvard University Press, 1993), especially chap. 2.

(15) G. W. F. Hegel, Phénoménologie de l’esprit, trans. J. P. Lefebvre (Paris: Aubier, 1991). See also the critique by Alexandre Kojève, Introduction à la lecture de Hegel (Paris: Gallimard, 1947), especially Appendix II, “L’idée de la mort dans la philosophie de Hegel”; and Georges Bataille, Oeuvres complètes XII (Paris: Gallimard, 1988), especially “Hegel, la mort et le sacrifice,” 326–48, and “Hegel,l’homme et l’histoire,” 349–69.

(16) See Jean Baudrillard, “Death in Bataille,” in Bataille: A Critical Reader, ed. Fred Botting and Scott Wilson (Oxford: Blackwell, 1998), especially 139–41.

(17) Georges Bataille, Visions of Excess: Selected Writings, 1927–1939, trans. A. Stoekl (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1985), 94–95.

(18) Fred Botting and Scott Wilson, eds., The Bataille Reader (Oxford: Blackwell, 1997), 318–19.

See also Georges Bataille, The Accursed Share: An Essay on General Economy, vol. 1, Consumption,trans. Robert Hurley (New York: Zone, 1988), and Erotism: Death & Sensuality, trans. Mary Dalwood(San Francisco: City Lights, 1986).

(19) Bataille, Accursed Share, vol. 2, The History of Eroticism; vol. 3, Sovereignty.

(20) On the state of siege, see Schmitt, La dictature, chap. 6.

(21) See Foucault, Il faut défendre la société, 57–74.

(22) «Race is, politically speaking, not the beginning of humanity but its end… , not the natural birth of man but his unnatural death.» Arendt, Origins of Totalitarianism, 157.

(23) Foucault, Il faut défendre la société, 214.

(24) Foucault, Il faut défendre la société, 228.

(25) Foucault, Il faut défendre la société, 227–32.

(26) See Jürgen Habermas, The Philosophical Discourse of Modernity: Twelve Lectures, trans. Frederick G. Lawrence (Cambridge: MIT Press, 1987), especially chaps. 3, 5, 6.

(27) Enzo Traverso, La violence nazie: Une généalogie européenne (Paris: La Fabrique Editions, 2002).

(28) Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison (New York: Pantheon, 1977).

(29) See Robert Wokler, “Contextualizing Hegel’s Phenomenology of the French Revolution and the Terror,” Political Theory 26 (1998): 33–55.

(30) David W. Bates, Enlightenment Aberrations: Error and Revolution in France (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 2002), chap. 6.

(31) Karl Marx, Capital: A Critique of Political Economy, vol. 3 (London: Lawrence & Wishart, 1984), 817. See also Capital, vol. 1, trans. Ben Fowkes (Harmondsworth, England: Penguin, 1986), 172.

(32) Stephen Louw, “In the Shadow of the Pharaohs: The Militarization of Labour Debate and Classical Marxist Theory,” Economy and Society (29) 2000: 240.

(33) On labor militarization and the transition to communism, see Nikolai Bukharin, The Politics and Economics of the Transition Period, trans. Oliver Field (London: Routledge & Kegan Paul, 1979); and Leon Trotsky, Terrorism and Communism: A Reply to Karl Kautsky (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1961). On the collapse of the distinction between state and society, see Karl Marx, The Civil War in France (Moscow: Progress, 1972); and Vladimir Il’ich Lenin, Selected Works in Three Volumes, vol. 2 (Moscow: Progress, 1977). For a critique of “revolutionary terror,” see Maurice Merleau- Ponty, Humanism and Terror: An Essay on the Communist Problem, trans. John O’Neill (Boston: Beacon, 1969). For a more recent example of “revolutionary terror,” see Steve J. Stern, ed., Shining and Other Paths:War and Society in Peru, 1980–1995 (Durham, N.C.: Duke University Press, 1998).

(34) See Saidiya V. Hartman, Scenes of Subjection: Terror, Slavery, and Self-Making in Nineteenth-Century America (Oxford: Oxford University Press, 1997); and Manuel Moreno Fraginals, The Sugarmill: The Socioeconomic Complex of Sugar in Cuba, 1760–1860 (New York: Monthly Review Press, 1976).

(35) Gilroy, Black Atlantic, 57.

(36) See Frederick Douglass, Narrative of the Life of Frederick Douglass, an American Slave, ed. Houston A. Baker (New York: Penguin, 1986).

(٣٧) يستخدم مصطلح «manners» الوسائل أو الطرق هنا للدلالة على الصلات بين الرضا الاجتماعي والسيطرة الاجتماعية. وفقًا لنوربرت إلياس، تجسد الطرق أو الأساليب ما «يعتبر سلوكًا مقبولًا اجتماعيًّا» «مبادئ السلوك»، وإطار «conviviality». انظر:

«The History of Manners», vol. 1, The Civilizing Process, trans. Edmund Jephcott (New York: Pantheon, 1978), chap. 2.

(٣٨) «وكلما علا صراخها، كلما جلدها بقسوة أكبر. وكلما سال الدم بشكل أسرع، هناك جلدها لأطول مدة، يقول دوغلاس في روايته عن جلد عمته من قبل السيد بلومر. كان يجلدها ليجعلها تصرخ، ويجلدها لتصمت. وليس حتى يغلبه التعب، حينها يتوقف عن جلد جلد البقرة الذي تخثر بالدم…. كان أشد المشاهد فظاعة».

Douglass, Narrative of the Life, 51. On the random killing of slaves, see 67–68.

(39) Susan Buck-Morss, «Hegel and Haiti,» Critical Inquiry 26 (2000): 821–66.

(40) Roger D. Abrahams, Singing the Master: The Emergence of African American Culture in the Plantation South (New York: Pantheon, 1992).

(٤١) وفيما يلي، أدرك أن الأشكال الاستعمارية من السيادة كانت دائمًا مجزأة. وكانت معقدة، «أقل اهتمامًا بإضفاء الشرعية على وجودها وأكثر عنفًا بشكل مفرط من أشكالها الأوروبية». والأهم من ذلك أن «الدول الأوروبية لم تكن تهدف أبدًا إلى حكم الأقاليم الاستعمارية بنفس التماثل والكثافة المطبقة على سكانها».

T. B. Hansen and Finn Stepputat, «Sovereign Bodies: Citizens, Migrants and States in the Postcolonial World» (paper, 2002).

(٤٢) وفي قضية الدولة العنصرية [1]، يقول ديفيد ثيو غولدبيرغ إنه منذ القرن التاسع عشر، هناك على الأقل اثنان من التقاليد التاريخية المتنافسة للعقلانية العنصرية: ا naturism (على أساس ادعاء الدونية) و historicism (على أساس الادعاء بـ «عدم النضج» التاريخي – وبالتالي «التعليم» عند السكان الأصليين). وفي تواصل خاص (23 آب / أغسطس 2002م)، يقول إن هذين التقليدين طبقا بطريقتين مختلفتين عندما يتعلق الأمر بمسائل السيادة، وحالات الاستثناء، وأشكال سلطة الموت. وفي رأيه، يمكن أن تتخذ سلطة الموت أشكالًا متعددة: رعب الموت الفعلي؛ أو شكل «أكثر طيبة» – الذي ينتج عنه تدمير ثقافة من أجل «إنقاذ الشعب» من نفسه.

(43) Arendt, Origins of Totalitarianism, 185–221.

(44) Etienne Balibar, «Prolégomènes à la souveraineté: La frontière, l’Etat, le peuple,» Les temps modernes 610 (2000): 54–55.

(45) Eugene Victor Walter, Terror and Resistance: A Study of Political Violence with Case Studies of Some Primitive African Communities (Oxford: Oxford University Press, 1969).

(46) Arendt, Origins of Totalitarianism, 192.

(47) For a powerful rendition of this process, see Michael Taussig, Shamanism, Colonialism, and the Wild Man: A Study in Terror and Healing (Chicago: University of Chicago Press, 1987).

(48) On the «enemy,» see L’ennemi, special issue, Raisons politiques, no. 5 (2002).

(49) Kojève, Introduction à la lecture de Hegel.