وصايا توني موريسون الأخيرة 40 عامًا هيمنت على الثقافة الأفرو-أميركية مثل قديسة، قائدة وراعية، تعدم هؤلاء، وتواسي أولئك

وصايا توني موريسون الأخيرة

40 عامًا هيمنت على الثقافة الأفرو-أميركية مثل قديسة، قائدة وراعية، تعدم هؤلاء، وتواسي أولئك

صدرت في أكتوبر الماضي الترجمة الفرنسية لكتاب «توني موريسون» الأخير «مصدر الاعتزاز بالذات» عن دار نشر «كريستيان بورجوا»، الكاتبة الأفروأميركية الحائزة على نوبل التي رحلت في أغسطس الماضي، أَبَتْ إلا أن تترك لنا وصاياها الأدبية الأخيرة، وشهادتها على العالم قبل المغادرة.

تناول الكتاب العديد من القضايا والموضوعات السياسية والاجتماعية، مثل تحرير المرأة، ومكانة الأقليات في المجتمع الأميركي، ودور المال والإعلام، والعنصرية وكره الأجانب.

وقد استحضرت الروائية شخصية «مارتن لوثر كينغ» وأشادت بالكاتب المسرحي «جيمس بالدوين»، أحد أعظم المؤلفين الأميركيين في القرن العشرين، وناشط الحقوق المدنية، الذي اضطر للجوء إلى فرنسا في أواخر 1940م هربًا من العنصرية في بلاده. كما قامت الكاتبة بإلقاء نظرة نقدية على أعمالها، وأعمال فنانين آخرين مثل: الكاتب والرسام الأفرو-أميركي «روماري بيردن»، وناشط الحقوق المدنية «توني كيد بامبارا»، والمخرج «بيتر سلرز». وقد اعتبرت الصحافة العالمية هذا الكتاب بمثابة وصية أدبية للكاتبة وإضافة رائعة وأساسية لأعمالها. وفيما يلي ترجمة لقراءة حول الكتاب، ومقتطفات منه:

لم تكن ودودة. ما زلنا نتذكر لقاءها السريع، في باريس مع الكاتب النيجيري «وول سوينكا» الحائز أيضًا على جائزة نوبل في الأدب (1986م)، حيث بدت جافة للغاية. مع «توني موريسون»، العرافة البصيرة التي وُلِدتْ لعائلة من الطبقة العاملة، كان يتوجب على المرء أن يظهر حسن النية. متأثرة بشدة بـ«مارتن لوثر كينغ»، الذي وجهت له إشادة لطيفة مميزة في أحد نصوص مجلد المقالات هذا، و«جيمس بالدوين»، الأخ الأكبر الذي افتتح طريق النضال، هيمنت «التيرميناتور»* السوداء لمدة أربعين عامًا على الثقافة الأفرو-أميركية مثل قديسة، قائدة وراعية، تعدم هؤلاء، وتواسي أولئك، وفقًا للمناسبة. وبمعرفة عدد الأوسمة التي مُنِحتْها (ما لا يقل عن ثلاثين)، نقيس مقدار ما كان يتوجب على أميركا أن تكفر عنه. التكفير عن العبودية، التكفير عن العنصرية، التكفير، التكفير، التكفير.

على الرغم من أن أعظم رواياتها («محبوبة»، «الوطن»، «الجاز») حققت نجاحات شعبية كبيرة، فإن «توني موريسون» كانت مفكرة ثاقبة وأكاديمية رفيعة المستوى في المقام الأول، كما يتضح من خلال هذه الوصية الأدبية. يتعلق الأمر طبعًا ببعض الكتب: فوكنر (الذي شغلها كثيرًا) و«هانسيل وغريتل»، و«ملفيل» و«سيمون دي بوفوار». كما انساقت توني موريسون إلى شيء من الخصوصية، عندما روت كيف كتبت كتابها الأول، في المساء، بعد أن وضعت أطفالها في السرير، وشعورها بالوحدة والتعاسة. لكنها ظلت تحوم بشكل خاص حول تاريخ العبودية، والعنصرية في أميركا، بلا كلل مثل فراشة حول مصباح كهربائي. وهناك أيضًا جائزة نوبل. خطابها الذي لم يكن خطابًا عاديًّا. حيث نشعر أنها وزنت كل كلمة، ونلمس كمالًا شعريًّا وعاطفيًّا نادرًا. كما لو أنها أرادت هزيمة خصومها إلى الأبد. هزيمة أميركا؟

مقتطفات
ما للعبودية في أميركا من خصوصية

في عام 1988م، عندما قام «جيمس كاميرون» بافتتاح المتحف الأميركي للهولوكوست الأسود، هنا في «ميلووكي»، أجبت عن سؤال أحد الصحافيين. حيث إنني كنت قد نشرت رواية تتناول حياة عائلة وُلدت في العبودية، فسُئلت عن حاجة وضرورة صياغة هذه الحلقة المسكوت عنها في التاريخ الأميركي، حول الحاجة إلى تذكر الرجال والنساء والأطفال الذين نجوا أو لم ينجوا من ثلاث مئة سنة من التجارة الدولية التي بُودِلتْ خلالها أجسادهم وأرواحهم ومواهبهم وأطفالهم وكدهم مقابل المال، مال لم يكن بإمكانهم المطالبة به. لماذا أردت إعادة فتح هذه الندبات والخدوش، التي وارتها الحرب الأهلية والكفاح من أجل الحقوق المدنية حتى الزمن نفسه؟ حيث إن الحجة الداعية إلى تفادي الذكريات السيئة أو التسامي عنها كانت قوية جدًّا، وفي بعض الأماكن لم يكن ينظر إليها على أنها تقدمية فحسب، بل كانت صحية أيضًا. كان الجسد- العبد ميتًا، أليس كذلك؟ وكان الجسد- الأسود على قيد الحياة، أليس كذلك؟ ولم يكن مشغولًا فقط بالمشي والتحدث والعمل والتكاثر، ولكن أيضا بالتحقق، والاستمتاع بفوائد المواطنة الكاملة وثمار عمله الخاص. […]

كانت إجابتي مؤلمة. انسلخت بشكل من أشكال الإنهاك بعد الانتهاء من روايتي. هيجان وحزن. قلت: «ليس هناك مكان، حيث يمكنني أنا وأنتم الذهاب للتفكير أو لعدم التفكير في العبيد، لاستحضار وجودهم أو لتذكر غيابهم؛ لا شيء يذكرنا بمن خاضوا الرحلة حتى النهاية ومن لم يفعلوا. ليس هناك نصب تذكاري أو لوحة أو إكليل أو جدار أو حديقة أو ناطحة سحاب ملائمة. ليس هناك برج بطول تسعين مترًا. ليس هناك مقعد صغير على حافة الطريق. ليس هناك حتى شجرة حُفِرَ عليها أول حرف يمكنني أو يمكنكم الذهاب لرؤيته في «تشارلستون»، «سافانا»، «نيويورك»، «بروفيدنس»، أو أفضل من ذلك على ضفاف المسيسيبي. […] ليس لدي أي نموذج في ذهني، ولا أي شخص، ولا حتى أي شكل من أشكال الفن. أنا فقط متعطشة للعثور على مكان دائم. ليس من الضروري أن يكون وجهًا ضخمًا، ملحميًّا، محفورًا في الجبل. يمكن أن يكون صغيرًا؛ مكان حيث يمكنك الاسترخاء. يمكن أن تكون شجرة. ليس من الضروري أن يكون تمثالًا للحرية.

مثلما تلاحظون، كنت أشعر بالعجز التام عندما أدليت بهذه التعليقات.

عندما أستخدم مصطلح «جسد- العبد» لتمييزه من «جسد- الأسود»، فأنا أرغب في التأكيد على أن العبودية والعنصرية ظاهرتان متمايزتان. أصول العبودية ليست بالضرورة (ولا حتى على نحو عادي) عنصرية. بيع وامتلاك الأفراد هو تجارة قديمة. ربما لا يوجد أحد في هذه الصالة لم يكن من بين أسلافه أو قبيلته عبيدًا. إذا كنت مسيحيًّا، فقد كان من بين شعبك عبيد؛ إذا كنت يهوديًّا، فقد كان من بين شعبك عبيد؛ إذا كنت مسلمًا، فقد كان من بين شعبك رقيق. […]

ليس فقط أصول، ولكن أيضًا تبعات العبودية ليست دائمًا عنصرية. ما لعبودية العالم الجديد من «خصوصية»، ليس وجودها، بل تحولها إلى عنصرية مثابرة. إن وصمة الاستعباد لا تدين بالضرورة سلف العبد عن طريق التشهير به أو شيطنته أو حتى صلبه. ما يُبقي كل هذا هو العنصرية. أهم ما جعل عبودية العالم الجديد استثنائيًّا، هو العلامات العرقية لشعوبه التي يمكن تحديدها بدرجة كبيرة، من بينها لون البشرة، وبشكل خاص لكن ليس حصري، تعزيز التسلسل الهرمي للأعراق والحد من قدرة الأجيال اللاحقة على الانصهار داخل الشعوب غير المستعبدة، بالنسبة لهم، لم تكن هناك تقريبًا أي فرصة للاختباء أو التنكر أو الهرب من وضع العبد السابق؛ لأن رؤية واضحة فعّلت التقسيم بين أولئك الذين كانوا عبيدًا وبين البقية (على الرغم من أن التاريخ قد تصدى لهذا التمييز)».

من خطاب أُلقي في المتحف الأميركي للهولوكوست الأسود، أغسطس 2000م.

من «القارئ الجيد»؟

بدأت القراءة في سن الثالثة، لكن الأمر كان دائمًا صعبًا بالنسبة لي. لم يكن صعبًا بسبب تعقيد القيام به، ولكن صعبًا لأنني كنت أواجه صعوبة في البحث عن المعنى الموجود داخل الكلمات وخارجها. جملة كتاب السنة الأولى الابتدائية: «اركض، جيب، اركض»، قادتني إلى سؤال: لماذا يركض؟ هل كان أمرًا؟ إذا كان الأمر كذلك، إلى أين هو ذاهب؟ هل كان هذا الكلب مُطاردًا؟ أم كان يطارد أحدًا ما؟ في وقت لاحق، عندما بدأت أقرأ «هانسيل وغريتل»، تدفقت أسئلة أكثر جدية. كما هو الحال بالنسبة للألعاب وأغاني الأطفال: «جولة حول الغصن، بجيوب مليئة بالباقات». استغرق الأمر مني بعض الوقت لفهم أن أغنية الأطفال واللعب يحيلان إلى الموت أثناء الطاعون الدملي. […]

الحبر غير المرئي هو ما يوجد تحت الخطوط وبينها وخارجها، ويبقى مخفيًّا حتى يكتشفه القارئ الجيد. من خلال قارئ «جيد»، أقصد أن بعض الكتب ليست موجهة بالضرورة لجميع القراء. من الممكن أن تُعجب بـ«بروست» من دون أن تجد أنك تشاركه وجهة نظر فكرية أو عاطفية. حتى القارئ الذي يحب الكتاب يمكن ألا يكون الشخص الذي يعجب به بشكل أفضل أو بالطريقة الصحيحة. القارئ «الموجود من أجل» الكتاب هو الذي يتناغم مع الحبر غير المرئي. […]

بعض كُتاب الخيال يصممون نصوصهم بشكل مزعج: ليس فقط من خلال المؤامرات المليئة بالإثارة، أو القضايا المستفزة، أو الشخصيات المثيرة للاهتمام، ولا حتى عن طريق الفوضى. يصممون كتبهم الخيالية بشكل يزعج، يزلزل ويتلبس سياق القراءة بالكامل. إزالة الاستعارات والمقارنات لا تقل أهمية عن اختيارها. يمكن كتابة جمل رئيسية لاحتواء المعلومات المخفية التي تكمل، تجتاح، أو تتلاعب بالقراءة. غير المكتوب هو أيضًا أداة كشف مثل المكتوب. عند ملء الثغرات الاختيارية، والمُضللة بشكل متعمد، من قبل القارئ «الجيد»، فإنها تنتج النص بالكامل وتشهد على وجوده الحي. […]

أعترف باستخدام هذا البناء الاختياري في جميع كتبي تقريبًا. كمطالبات صريحة بألَّا يشارك القارئ في القصة فحسب، بل يساعد بشكل خاص في كتابتها. أحيانًا من خلال سؤال. من يموت في نهاية «أنشودة سليمان»، وهل هو مهم؟ وأحيانًا بفضل صمت محسوب وفق طبيعة الشخصيات. من هو المتحدث في بداية «الحب»؟ […] بالنسبة للقارئ الذي ليس «جيدًا»، هذه الإستراتيجيات مزعجة، وبالنسبة لآخرين، هو باب موارب يتوسل إلينا للدخول».

محاضرة بجامعة «برينستون»، مارس 2011م.

اللغة الرسمية سخيفة، متصيدة وانفعالية

اللغة الميتة ليست فقط لغة لم نعد نتحدث أو نكتب بها، بل هي لغة غير مرنة لا تطالب سوى بالإعجاب بجمودها. هذا هو حال اللغة الرسمية التي تخضع للرقابة وتمارسها. شرسة في أداء واجبها بالمراقبة، ليس لديها أي رغبة أو هدف آخر سوى الحفاظ على نطاق نرجسيتها المضجرة، على تفردها وعلى هيمنتها. مع ذلك، وعلى الرغم من كونها تحتضر، فإنها ليست منعدمة التأثير؛ لأنها تعوق الذكاء بقوة، تقيد الوعي وتكبت القدرات البشرية. ورافضة للاستجواب، ليس بإمكانها خلق أفكار جديدة أو التسامح معها، صياغة رؤى جديدة، أو سرد قصة أخرى، أو ملء الصمت المقلق. اللغة الرسمية التي صِيغَتْ لتثبيت الجهل وحماية الهيمنة، هي درع مصقول يلمع بشدة، قوقعة غادرها الفارس منذ مدة طويلة. ومع ذلك لا تزال هنا: سخيفة، متصيدة وانفعالية. تولِّد القدسية لدى الطلاب، وتوفِّر ملجأ للطغاة، وتكوم ذكريات خاطئة عن الاستقرار والوئام بين الشعوب. […]

يمكن التعرف إلى النهب الممنهج للغة من خلال ميل المتحدثين بها للتخلي عن خصائصها الدقيقة والمعقدة والتوليدية** لصالح الترهيب والخضوع. اللغة التي تضطهد هي أكثر من مجرد تمثيل للعنف: إنها عنف؛ إنها تقوم بأكثر من مجرد تمثيل حدود المعرفة: إنها تحد من المعرفة. سواء تعلق الأمر باللغة الرسمية المربكة أو بلغة الكذب السخيفة لوسائل الإعلام. سواء تعلق الأمر باللغة المفتخرة والمتكلسة لعالم الجامعة أو اللغة العلمية التي تحكمها الإنتاجية؛ سواء تعلق الأمر باللغة الخبيثة للقانون غير الأخلاقي أو ذلك المصمم لسلب الأقليات، التي تخفي غنائمها العنصرية تحت جرأتها الأدبية، يتوجب رفضها، تغييرها وإدانتها. إنها اللغة التي تشرب الدم، وتلعق الوعي، وتخفي حذاءها الفاشي تحت عباءة الاحترام والوطنية، خلال تحركها بلا هوادة تجاه أدنى مستوى. اللغة المتحيزة للجنس، اللغة العنصرية، اللغة المقدسة: لغات نمطية تؤسس للهيمنة، لا تسمح ولن تسمح بتجارب جديدة، ولا تشجع تبادل الأفكار.

خطاب حفل تسليم جائزة نوبل، ستوكهولم، 1993م.

* نسبة إلى فِلْم «ذا تيرميناتور» المشهور للمخرج «جيمس كاميرون».

** منهج التهكم والتوليد لسقراط.


المصدر: مجلة «لوبسيرفاتور»، العدد 2864، أكتوبر 2019م، الصحفية «ديديه جاكوب».