إدمون جابيس والكتابة البكماء الإصغاء إلى  ما لا يـُمكن وصفه

إدمون جابيس والكتابة البكماء

الإصغاء إلى ما لا يـُمكن وصفه

«كما في الـحجارة الـمتصدّعة، يوجد الـجمال في عمق الـجرح».

                                                                                إدمون جابيس، كتاب الـهوامش، ص: 39

مع نصوص إدمون جابيس، ستظل حائرًا أمام كتابة «ما لا يُوصف»، في محاولة الإنصات للصمت وهسهسة الوجود. الرجل الغريب الذي قال عنه رينيه شار يومًا ما إنه «مؤلف عمل عظيم في عصرنا». كاتب غريب يبحر في أعماق ذاته ليبحث عنها، مبتعدًا إلى الأقاصي الـممكنة حيث الفضاء الخفيّ والسّاكن والضّجر لليلنا، ليحسّ بالتيه والجفاف والامتداد الوجودي لهذا العدم الذي يشبهه.

ينحدر إدمون جابيس من عائلة فرنسية يهودية استقرّت في القاهرة، حيث أبصر النور سنة 1912م، ودرس في إحدى مدارسها الثانوية الفرنسية. اكتشف -وهو حدث- أصحاب نصوص شعرية كبيرة مثل بودلير ورامبو ومالارميه، وفي تلك المرحلة أعدّ قصائده الشّعرية الأولى. التحق بجامعة السوربون بعد نيله الباكالوريا. في باريس، وبـمساعدة ماكس جاكوب، بدأ في نشر قصائده على صفحات المجلات الأدبية الشهرية بانتظام وكان ذلك منذ سنة 1931م.

الـموت وتـجربة القسوة

كانت العلاقة بين الشاعرين جابيس وجاكوب وطيدة وراسخة، وحين وفاة جاكوب رثاه جابيس بحزن كبير. فالصّدمة دفعته لكتابة الجرح العريق الذي لم ينفكّ يعود ويـحفر بأسى في كيان الشاعر. فهذا الخراب الذي يحمله شعره وتكرّسه كتابته، بدأ منذ زمن، مع وفاة شقيقته «سارة»، والاضطراب العميق الذي خلّفته معتقلات أوشفيتز، وصور الفزع والفراغ والرهاب الذي لا يمكن تصوُّره، والذي سيبقى ظِلًّا يطارده في أعماله وشذراته الشعرية. في كتاب الأسئلة يستحضر تلك الذاكرة الـموجوعة، ليحاور شقيقته الراحلة مُخبِرها عمّا أحدثه وقع الموت الذي حلّ عليه وعليها، الـموت وقد أصبح أكثر إلحاحًا من الـمعتاد؛ إذ لم يعد كما كان عليه وهو يعمّق فينا دلالات الشوق والفقدان، بل أصبح يفد وهو مكلّل بمشاعر الكراهية وأزمنة البؤس، فأصبحت روح الإنسان أكثر سوادًا، وتراجعت إلى نطاق ضيّق يَزْخَرُ بالحصار والغارات، في زمن اختفى فيه عطر الأزهار، وداست الأقدام كلّ بهيج. لكن جابيس وظّف ثيمة الـموت بأسلوب مختلف لرؤية اللامرئي وشقَّ دربا مهمّا لفكّ رموز الذات.

صحراء الكتابة… بين فجوة النص وفراغ الـمنفى

بعدما قضى جابيس 44 سنة في القاهرة، غادرها سنة 1957 نحو باريس، تزامنًا مع أزمة قناة السويس، ليرحل عن موطئ رأسه، عن مكانه الأمومي الذي أحبّه بشغف والتحم به بعمقٍ شديد، ولم يكن الانفصال عن وطنه إلّا جلبًا للنُّدوب والجروح، ليجد نفسه في باريس من دون جنسية أو انتماء، وهو ما نـمّى لديه حسّ القلق بشأن كشف هويته ويهوديته، فاقدًا لكلّ شيء بين عشية وضحاها. لهذا كانت الكتابة له أكثر نزيفًا وتشظِّيًا وعنفًا، فـ«لا يـمكن للحقيقة إلّا أن تكون عنيفة، ليست هناك حقيقة مريحة» كما قال جابيس، هذا الكاتب اليهودي الناطق بالفرنسية الذي سارع إلى تحدّي نفسه بتفادي الـمتوقّع والـمتيقّن منه، منفتحًا على «حقيقة الحقيقة» الـمرجئة واللانهائية؛ وهو الرِّهان الـمتعذّر بلوغه أو قوله.

لقد غيّرت تجربة الـمنفى واجتثاث هويته الشرقية علاقته مع الكتابة، فأغلبية نصوصه بعد سنة 1959م نجدها حُبلى بصمتٍ إلـهي، وغموض وجودي مثل غموض الكون، قصاصات وشذرات عبارة عن تأملات شخصية حول الـمنفى واليهودية والشتات، عتمات أصبحت شموعًا تضيء كل الأسئلة، كما وصفها ديدييه كوهن. كان جابيس مفتونًا بتداخل كلّ كتاب مع كتاب آخر، كتاب موجود داخل هوامش كتاب آخر، بالكتابة يملأ الفجوة ليفتح فجوة أخرى بشكل أفضل وأعمق، كتابة هامشية باستحقاق، تنبع من هوامش صمته ووحدته ومرارته التي يرسمها ما لا يـمكن وصفه: «الـمستحيل»، وهناك يحفر القارئ باستمرار عن جذور النص، متذوّقًا إيقاع كتابة شعرية فلسفية متدبّرة في حلمها الهارب والـمتمزّق على ضفاف النيل. يتجوّل جابيس في فراغ الـمنفى وخراب الذاكرة، التي أصبحت أماكنها الحقيقية والوحيدة في الأساطير والكتب والصحراء ومصر الـمفقودة.

يستكمل جابيس مسيرته الشعرية والأدبية، سارحًا متأمّلًا خروجه من مصر وعبوره الصحراء، وهي تـمثّل لحظة شتات هوياتي وخللًا انتمائيًّا شبيهًا بالحال التي نعهدها في كثير من الـمراجع التوراتية. وتتجلّى مسيرته عبر صفحات كتابه «الريبة الصحراء» (1978م). فمن خلال قراءة مقتطفاته تبدو لنا كم كانت تجربة الصحراء مهيمنةً على جابيس، بخوضه الكتابة الحفرية بين علوّ السماء ووُسع الرّمال، بين كلّ شيء ولا شيء؛ ظلَّت الكتابة لديه سؤال الحرق بامتياز، ارتقابًا لآفاق الـمعلوم، واختراقًا لحدود الـمنظور. العودة إلى نصّ الصحراء، هو عودة لـ«اللامفكر فيه» والـمنسحب والـملغى والغياب، ولا ريب أن الصحراء كانت مسكن التيه الذي لا معنى له، دلالة اللامكان واللاشيء الذي انجذب إليه جابيس أدبًا وفكرًا.

تـجلّيات الذات: اللانـهائي وأقاصي الأسرار

ماكس جاكوب

كتاب الأسئلة عند جابيس نـمطًا شغوفًا بالانتماء الهائل في صمته، الذي لا يـمكن البوح به إلا بلغة الحرق والرماد، سؤال يحرق ولا يحترق. فالكتابة تخترق التخوم وتنصهر في تفاصيل الخلاء، عبر حرارة القيظ وصهد الصحارى، طرْحُ الأسئلة عبر شذرات الكتابة الشعرية شبيهٌ بتجربة الصحراء، فهي تجربة استماع كذلك، حيث الكاتب وهو البدوي الصحراوي يحيط بأرض السراب والكثبان، منصتًا لنداء بعيد وصدى سحيق مـمتدّ منذ آلاف السنين، لكتابة تجليّات الذات وهي على هوامش اللامـمكن، لذلك مثّلت الصّحراء له الفضاءَ الرّحب لـمواجهة الكلمة الدنيوية والـمقدّسة، البشرية والإلهية. عدَّ جابيس الكتابةَ صمتًا رهيبًا، قداسة رهبانية، جزيرة يهرب إليها البشري حيث يستوطن الإلـهي، حيث الـمواجهة تكون مواجهة يهوديّ حائر أمام كلمة الله اللانهائية. سيكتشف قارئ جابيس أن الصحراء كانت لحظة إلهام وصفاء، وفتحًا هادئًا لعيش الأبدية، بأيادٍ ترتجف مُحاوِلةً الحفاظَ على ذلك الفتح والإبقاء على الفتحة التي تدفع بالكتابة إلى الأُنْس والسكينة ومحاذاة مَواطن الصفوة ومعالـم الـخلوة.

بالرمل يكتب ما هو موجود في مخيّلته، يقول أكثر مـمّا يقال، «ما يقال» الذي يـمثل امتدادًا للأثر، وكتابته تكون بذَرَّاتِ الرّمل إلى ما لا نهاية، وهو ما يبني عليه كلّ كتبه. «كتابة العدم والتمزق» عبارة عن إجابة غير كافية، إحاطة غير محيطة، سؤال لا ينفك عن البعث الذي يظل يتساءل باستمرار عن كلّ شيء. كيف يمكننا أن نتحدّث عن «ما لا يـمكن قوله»؟ يأتي كتاب الأسئلة -مثلًا- في سبعة أجزاء، شبيهًا بنظام الحياة الجلل في سيرورتها وصمتها البائس، الذي يجرُّنا ويسلبنا، كتاب شبيه بالأيام السبعة، شبيه بـمنطق الاكتمال، الذي يجب كسره وتجاوزه، لنتمكّن من فتح الكتاب؛ لهذا تأتي كلّ كلمة أو جملة حمَّالة لفيض لا يمكن الإلـمام به، لتكون الكتابة له ذلك «الكون الأبدي»، اللُّغْز الذي يتنفَّس عبره، راحته وضجره، نومه ويقظته، في سباق بين الحروف والزمن ليبني قصورًا من الرّمال على سواحل الوجود. لا ينحصر مسار الكتابة لديه باستحواذ السؤال عن مكانه الماضوي، مكان الولادة، ذكريات الـمراهقة، شغف الشباب، بل انفتاحه على مـجاهيل الآتي، وغياهبه الحالكة التي ستتحقّق لكن تحققها يظلّ مُرْجَأً وغير مُكتمِل، كتابة الصمت حيث «لم يكفّ الجرح عن النزيف، لن يجفّ أبدًا». كتابة يتعذّر الإمساك بنسيجها، صورة لفكر يهوى كتابة الهاوية.

جابيس: جسارة الكتابة بين الـصمت والـموت

«ستكون الكتابة هي قبول أو بحث عن مواجهة دائمة مع الـموت» هكذا يكتب إدمون جابيس. وعلى هذا القدر من الحماسة والجسارة كانت كتابة جابيس استنفارًا دائمًا لفكرة الـموت وترصّدها. كتابة اعترف لها جهابذة الفكر الفرنسي المعاصر في السبعينيات (مثل: ليفناس، ودريدا، وبلونشو، وليريس) أنها عمل منفرد يتناول موضوعات مهمّة كالاستماع والحوار والهوية والتسامح والانفتاح. وبعد حصوله على الجنسية الفرنسية، أصبح جابيس من أكثر الأصوات الشعرية والنقدية حضورًا وتميزًا وممثلًا رئيسًا لجيلٍ جديد من النخبة اليهودية المثقفة الناطقة بالفرنسية. شاعر غوّاص ينتقل بين بِحَار الداخل والخارج، والـ«هُنا» والـ«هناك» في مناطق غير محدّدة ولا مـحدودة، بين البحر والصحراء، في دوار لا نهاية له. سَفَر لا يخلو من خوفٍ وعدمٍ، سِفْرٌ يحتمي فيه بالكتابة الشذرية كقارب نجاة وحيد يتجوّل فيه الإنسان داخل الإنسان، كنواة داخل ثـمرة، أو حبّة ملح في قلب محيط، هو الكاتب الغريب الذي فتن بكتابته مجمع المفكرين والنقاد بفضل ارتداداته التساؤلية، خلال كتابة ألغت كلّ الحدود وسحقت كلّ منطق. يـمثل إدمون جابيس كتابة الأعماق والضوضاء غير الواضحة، الصوت الـمشوّش غير المسموع الذي يحتاج إلى غبار وصحراء مصايرنا لاستجلائه. لجأ إلى الكتابة بعد أن غادر أرضًا لم تكن له، لأرضٍ أخرى ليست له كذلك. لجأ إلى الحبر ليكتب عن العدم والـموت والذات؛ يـمشي عاريًا من دون أن يحمي نفسه من الشمس أو يغطيها في الليل، يذهب قلقًا متوجّسًا بعد جهله من أين أتى؟ كتابة لم تقل شيئًا سوى الانتظار.

______________________________________________________________________________________________________

مصادر‭ ‬الـمقال‭:‬

– Edmond Jabès‭, ‬le livre des questions‭, ‬t1‭, ‬Gallimard‭, ‬1963‭.‬

– Edmond Jabès‭, ‬Le Soupçon le Désert‭ , ‬le livre‭ ‬des ressemblances‭, ‬t3‭, ‬Gallimard‭, ‬1978‭.‬

– Edmond Jabès‭, ‬Du Désert au‭ ‬livre‭, ‬entretiens avec Marcel Cohen‭, ‬Belfond‭, ‬1980‭.‬

– Edmond Jabès‭, ‬Désir‭ ‬d’un commencement Angoisse d’une seule fin‭, ‬Fata Morgana‭, ‬1991‭.‬

– إدمون‭ ‬جابيس،‭ ‬كتاب‭ ‬الهوامش،‭ ‬ترجمة‭: ‬رجاء‭ ‬الطالبي،‭ ‬منشورات‭ ‬ضفاف،‭ ‬بيروت،‭ ‬ودار‭ ‬الأمان،‭ ‬الرباط،‭ ‬ومنشورات‭ ‬الاختلاف،‭ ‬الـجزائر،‭ ‬ط1،‭ ‬2015م‭.‬