الجابري مؤرخًا

الجابري مؤرخًا

خلَّف المفكر محمد عابد الجابري (1935-2010م) عملًا مرقونًا ضمن أوراقه العديدة تحت عنوان: «التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر». وبغض النظر عن أسئلة كثيرة يمكن أن تتبادر إلى الذهن، بخصوص عدم نشر محتوياته قيد حياة مؤلفه، فإن مجرد القراءة الأولى لمخطوطة الكتاب، الذي سيصدر عن منشورات ليتوغراف (طبعة مغربية خاصة) كما سيصدر عن دار رؤية المصرية أيضًا- لا تدع مجالًا للشك في أهمية هذا العمل في التأريخ للمسار العلمي والأكاديمي اللامع للفقيد الجابري.

ولعل عزمنا على نشر هذا التأليف المبكر ينسجم مع تقليد بات معهودًا في الغرب بخصوص نشر مجموع الأعمال التي كتبها مفكرون وفلاسفة وأدباء وغيرهم قيد حياتهم، فظلت مخطوطة ولم يُكتب لها أن تنشر لسبب من الأسباب. هذا الكتاب يعد بحق موضوعًا لكتابة جديدة عن مسار الأستاذ الباحث عابد الجابري؛ إذ يُسلِّطُ الضوء على عدة جوانب منه، انطلاقًا من زوايا غير معروفة بما فيه الكفاية، ونعني بها علاقة هذا المفكر بالتاريخ وبالمؤرخين. لقد وقفنا بعد اطلاعنا على مضامين هذا الكتاب على الوعي التاريخي المبكر لدى الجابري، وانفتاحه على بعض المعارف المعاصرة له، بما فيها تلك التي تنتمي إلى حقول التاريخ والتحليل النفسي، واستشعرنا علاقته الحميمة القديمة، ونقصد هنا لقاءه الأول بابن خلدون، ومن الطبيعي أن تتبادر لذهن القارئ تساؤلات عديدة تتعلق بعمل «التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر» لماذا لم ينشره مؤلفه قيد حياته؟ ما موقعه ضمن أعماله؟ وأين يمكن تصنيفه؟ وما علاقته بأعماله اللاحقة؟ وهل سبق أن أشار إليه؟

تمثل دراسة الجابري التي تنشر لأول مرة بعنوان: «التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر: دراسة نقدية على ضوء المفهوم الخلدوني للتاريخ والتأريخ» الانطلاقة الفعلية لعلاقته بابن خلدون المؤرخ، وهكذا يمكن القول: إن الكتاب الذي ناقشه كرسالة سنة 1967م يُعد امتدادًا مباشرًا للمقالات الثلاث التي نشرها تحت عنوان: «أزمة الاشتراكية في البلدان المتخلفة» بمجلة أقلام عام 1966م، التي تعززت لاحقًا بأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه عن العمران البشري عند ابن خلدون، والتي أسفرت عن نتائج مهمة، فقد كانت الإشكالية الأساسية في نظره متعلقة بالسؤال عن نمط أو «أسلوب الإنتاج» في التاريخ العربي الإسلامي، فتوصل إلى أن الأمر يتعلق بحضارة استهلاكية غير منتجة، أقيمت على أساس اقتصادي واهٍ، وأسلوب في الإنتاج غير طبيعي، قائم على الغزو. وقد عدد الجابري مظاهر الاختلاف بينه وبين ما أسماه كارل ماركس «النمط الآسيوي للإنتاج»، حيث توصل إلى أن السلطة عند صاحب المقدمة ليست نتيجة للسيطرة الاقتصادية، بل إن السيطرة الاقتصادية هي التي تَنْتُجُ عن السلطة، أي عن قوة العصبية. ومن ثم خَلُصَ إلى القول بشطط وتعسف التأويل الذي جعل من ابن خلدون رائدًا من رواد المادية التاريخية؛ ذلك أن تحليلات ابن خلدون وظروف عصره الاجتماعية والاقتصادية ومنطق التفكير السائد آنئذٍ لا يسمح بهذا الاستنتاج الذي دافع عنه المؤرخ الفرنسي لاكوست.

نماذج مبكرة

لا شك أن استعادة هذا العمل الأول للفقيد الجابري وإحياءه مجددًا يَجِدُ ضرورته في اعتباره جزءًا من ذاكرته الفكرية، وهو في الوقت ذاته استعادة لركن من هيكل البناء ككل، واستكشاف للجابري في جُبَّةِ المؤرخ الناقد لأعمال مُعاصريه. كما يتيح فرصة التعرف إلى نماذج مبكرة مما كتبه في مساره الأكاديمي أسلوبًا ومنهجًا ونقدًا. ظل عمل التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر على ضوء نظرية ابن خلدون غير معروف في الأوساط التاريخية، على الرغم من أن صاحبه أشار إليه في مذكراته السياسية لأول مرة سنة 2003م، وفيه قام الأستاذ الجابري بتمرين نقد الكتابات التاريخية بعد مرحلة الحماية، واتخذ من نظرية ابن خلدون ومن الرؤى التاريخية الجديدة، وبخاصة المدرسة الوضعانية، منطلقًا لتقييم التجربة.

لا شك أن وعي الفقيد الجابري بالمفاهيم المُتعلقة بمهنة المؤرخين تجد صداها في هذا الكتاب، الذي يدخل تحديدًا ضمن مجال نقد التأليف التاريخي بتلاوينهِ المتعددةِ، وقد اتخذ من المؤلفات والدراسات والمقالات والكتب المدرسية التي تتناول تاريخ المغرب موضوعًا للنقد والمراجعة، وهي أول تقويمية في مجالها؛ إذ حاولت إخضاع التجربة في بدايتها لتمرين المُحاورة والمراجعة استنادًا إلى نظرية آراء كبار فلاسفة النقد التاريخي آنذاك. وقد كان الجابري واعيًا بكون النشاط التاريخي لا يزال في بداياته، وربما قد يستغرب بعضٌ أنه من السابق لأوانه آنذاك القيام بدراسة نقدية لتجربة في بدايتها، بيد أن هذه المحاولة -من دون شك- لم تخلُ من فوائد؛ إذ النقد النزيه حسب تعبير الجابري «إذا رافق عملًا من الأعمال منذ البداية فإنه سيُساعد ولا شك على الاتجاه به الوجهة الصحيحة»، ولذلك حرص على إبراز جوانب النقص، ومواطن الضعف، من دون الاستخفاف بالمجهودات التي بذلت خلال تلك المدة. يتأطر كتاب الفقيد الجابري إذن ضمن مجال نقد التأليف التاريخي، وقد قدم لنا دراسة نقدية بإشراف مباشر من الأستاذ الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، وبتأطير موازٍ من الأستاذ المؤرخ جرمان عياش، مما يمنح هذا العملَ مكانةً مرموقة ومميزة.

التاريخ ومهمة المؤرخ

كان الجابري منسجمًا في أطروحة عمله عن التاريخ والمؤرخين، فقد قسم موضوعه إلى قسمين رئيسين: الأول عن التاريخ ومهمة المؤرخ، وفيه حدد أهم المفاهيم والقضايا التي من دون استيعاب معانيها تظل ممارسة الكتابة التاريخية عديمة الفائدة، فميز بين دلالات كلمة «التاريخ» و«التأريخ»، وبَيَّنَ معنى الحادثة التاريخية وصفاتها، وخلص إلى أنَّ المؤرخ هو الذي يصنع التاريخ باختياره لحوادث تاريخية دون غيرها، وتوقف عند الصعوبات التي تعترض المؤرخ في جميع مراحل عمله، سواء ما تعلق بالموضوع الذي يعالجه المؤرخ، أي بالماضي الذي وَلَّى والذي يُطلب منه بَعْثُهُ مُجددًا. أو ما يتعلق بطبيعة عمله، أي بكيفية توفيقه بين التاريخ والفلسفة والعلم، على الرغم مما قد يكون بينهم من خلاف وتنافر.

إن إلقاء الأضواء على هذه القضايا، يُمكننا، ولا شك، من التَّعرُّف إلى جوانب مهمة من الممارسة التاريخية في طموحها لإعادة بناء الماضي وإضفاء صفة المعقولية على وقائعه، وهنا تطرح إحدى أهم القضايا الشائكة في الكتابة التاريخية، ويتعلق الأمر بإشكالية التفسير والتعليل وبحدودهما. والمقصود بالتفسير النهج التحليلي الذي يقوم على إبراز العلاقات السببية بين الظواهر، في حين أن التاريخ وبخلاف العلوم الحقة يقوم على الفهم، وهو نهج تركيبي يرتكز على تأويل النوايا البشرية واستعمال أساليب التفكير الفلسفي، ويعتبر الحقيقة البشرية الماضية نسبية.

قد يتحسر المؤرخون في العالم العربي، دون أدنى شك، من انتقال الجابري للفلسفة وقد بدأ دراساته الأولى في حقل التاريخ، وما ترتب عليه من ضياع مشروع مؤرخ كان بإمكانه الإسهام في خلق نقاش أكثر عمقًا مع المؤرخين وبالخصوص مع الأستاذ عبدالله العروي، فقد نشر الجابري أربعة مقالات في نقد مشروع «التاريخانية» في سبعينيات القرن الماضي، ولا شك أن الحس النقدي لهذا الباحث النبيه كان سيأخذ بيد جماعة المؤرخين نحو آفاق أبعد بكثير، وكان بالإمكان تجاوز سلبيات الانغلاق والتقوقع في فكر أحادي، استطاع أن يفرض نفسه على ساحة البحث التاريخي من دون أن يتقبل التجديد والنقد الهادف.

الدفاع عن عصر النهضة

الدفاع عن عصر النهضة

يُناقش جون ماري لوكال في كتابه الصادر سنة (2018) بعنوان: «دفاعًا عن عصر النهضة» Défense et illustration de la Renaissance قضية شائكة في التاريخ الأوربي، ويطرح تساؤلات كثيرة بشأن النهضة، هل وجدت فعلًا؟ هل لا تزال موجودة إلى اليوم؟ هل هي لحظة عولمة أولى مبكرة؟ ما علاقتها المفترضة بانطلاق الرأسمالية؟ هل مفهوم النهضة، في حد ذاته، واضح للعيان أم إنه مفهوم من دون موضوع؟

يعود جون لوكال، مدير قسم التاريخ بجامعة باريس الأولى، وعضو هيئة المجلة التاريخية إلى دراسة نشأة المصطلح الذي يُعارض «العصور الوسطى» الذي اخترع في القرن السادس عشر من رجال أرادوا إحياء العصور القديمة (الحقبتين الإغريقية والرومانية تحديدًا)، التي تزامنت مع روح الإصلاحات الدينية التي ميزت ولادة الحداثة. مع الأخذ في الحسبان مآخذ النقاد ممن اختلقوا ضجة موت عصرالنهضة، فهي في نظره حقبة لم تمت ولن تموت، ولذلك عمل على استرجاع تاريخها بالكامل في كتابه الذي حظي باهتمام الكثير من المؤرخين والمتابعين للتغيرات التي يعرفها العالم اليوم. يسعى هذا الكتاب إلى إنقاذ عصر النهضة وإظهار جميع الجوانب التي تميزه بوصفه عصرًا مختلطًا، وكذا تحديد السمات الرئيسة التي تميزه من العصر الوسيط، وبنائه من جديد وفق رؤية تعيد المكانة لهذه اللحظة المهمة من التاريخ التي تؤسس لمفهوم العالم المعاصر. وعليه فقد حدد المؤلف غاية الكتاب في تقديمه «راهنية النهضة»، تلك الحقبة الهجينة والمعقدة في كرونولوجيتها وفضائها، ووصفها، ورام الانتصار مجددًا «لعصر نهضة مغاير» يختلف عن ذاك الذي وضعه بعضٌ محلَّ سخرية وتندُّر بغرض الإجهاز عليه بشكل نهائي.

يسلط لوكال الضوء بالموازاة على إشكالية التحقيب من منظور مختلف، ويستحضر الكثير من القضايا الطارئة في مرحلة ما بعد الاستعمار، ومنها الجدل بشأن عصر النهضة ذاته، الذي يعدُّه بعضٌ الإرهاصَ المبكرَ والأول للعولمة الممقوتة؛ إذ غدا عصر النهضة متهمًا فجأة، ولإعادة الاعتبار له كان من الضروري أن يقف لوكال عند إشكالية التحقيب مجددًا.

يُحاول كتاب الدفاع عن النهضة أن يمنح الكلمة لصك الاتهام في علاقة النهضة بالعصر الوسيط، وبالنزعة المركزية الأوربية، وبالنزعة الإنسية التي لم تكن، على الأرجح، تلك الأنسنة التي كنا نتمنى أن تتمثلها.

يرصد المؤلف تاريخ المفهوم، والحقبة. وسيتطرق بتفصيل لكل الأسئلة الشائكة حول ما يُعتقد اليوم عن انتساب النهضة لإيطاليا ولادةً ومنشأ، وعن القطائع ومفاعيل العتبة التي طبعت الحقبة. وأخيرًا، سواء حدثتِ النهضة أو لم تحدث، فإن مخيالها لا يزال يغذي أوربا المعاصرة، وما زلنا نعيش معها إلى اليوم اللحظة.

وانطلاقًا من الوعي بهذه الوضعية العامة للتأمل وبواقع الأسطوغرافيا اليوم، طرح لوكال ما أطلق عليه المؤرخ الهولندي يوهان هوزينغا، عام 1920م، «مشكل النهضة» التي تعدّ، من بين كل الحقب، أكثرها تعرضًا للهجوم والشك؛ لأنها ابتدعتْ «عصرًا وسيطًا» مظلمًا، لم يتوقف مؤرخوه عن إعادة مكانته له، ومن بينهم جاك لوغوف الذي ارتبط اسمه بهذه الحقبة الزمنية. ولأن النهضة أقرتْ مسلسل التحقيب في أوربا ثانية، ولأنها أقرته أيضًا انتصارًا، كما يقول بعضٌ، لنزعة مركزية أوربية متعجرفة وهدامة. طرحت أسئلة بشأن دواعي كوننة منظور أوربي وفرض الهيمنة الغربية على تمثل العالم، وفرض أحداث ونظريات التاريخ التي «تثمن» النهضة التي تُعدّ مقدمة للحداثة؟ بهذه العبارات يختم المؤلف لوكال مقدمة كتابه التي وسمها بعنوان لافت: موت النهضة: نقاش مفتوح.

النهضة غدت متهمةً اليوم في عصر العولمة، ويجب إعادة قراءة الماضي والتأكيد على أن التغريب لم يكن قدرًا ولا مستقبلًا على الأرجح. هناك من يرى أن عصر النهضة ليس سوى اختراع من بين اختراعات أخرى ظهرت في القرن التاسع عشر، وأن ذلك كان البداية الفعلية للهيمنة الأوربية، وهكذا حُمِّلت النهضة ضمنيًّا المسؤولية عن تغذية فكرة التفوق التقني والاقتصادي والثقافي الأوربي؛ إذ بدأ الأوربيون في غزو العالم واستعماره بلا رحمة ولا شفقة بهدف استغلال ثرواته؟ ألم يؤدِّ اكتشاف أميركا إلى الإبادة الجماعية للسكان الأصليين وإلى الاتجار بالسود، ألا يبدو هذا من مساوئ عصر النهضة التي تتهم بتحمل مسؤولية كل شرور الحداثة.

عَدَّ كثير من المؤرخين أن النهضة هي أصل كل الشرور التي عرفتها الدول القومية لاحقًا، وهناك من ذهب لحد ربط النهضة بكل الآفات الناتجة عن ظاهرة العولمة، التي توصف بكونها وحشية؛ إذ عَدُّوها مرحلةً انبثقت ولادتها الأولى مع عصر النهضة. فهل تحمل هذه الحقبة في طياتها بالفعل بذور التجاوزات المعاصرة؟

هذيان غير مبرر

يكشف لوكال بعض المزايا التي تضمنتها إسهامات بعض النقاد ممن أعلنوا بكثير من المبالغة موت هذا العصر، لكنه يتوقف أيضًا عند كثير من الأوهام التي حشدوها للتدليل على أفول هذه الحقبة واحتضارها للأبد، فهو يعدُّ بعض الأطروحات المغالية في عداء النهضة غريبة الأطوار ويَسِمُهَا بالهذيان غير المبرر، بل هي تبعث على الغثيان عنده، ويُقدم في المقابل رؤية جديدة لعصر النهضة، رؤية هادئة وعلمية تضمنها كتابه الرائع: دفاعًا عن عصر النهضة.

يُناقش المؤلف في الجزء الأول التهم الرئيسة التي وجهت لعصر النهضة، ومنها الادعاء بأنه لم يكن بالإمكان اكتشاف العصور القديمة من دون إسهامات العصور الوسطى. كانت تلك إحدى أهم الركائز التي ارتكن إليها على سبيل المثال جاك لوغوف. وهنا يوضح صاحب فكرة الدفاع عن عصر النهضة أن الفرق بين العصور الوسطى وعصر النهضة يرجع إلى حقيقة أن هذه الأخيرة أنتجت تنوعًا من الجسم القديم، من خلال تحرير نفسها من مبنى أرسطو شبه الحصري الذي تحمله التقاليد المدرسية، وعليه فقد أصبحت هذه الحقبة مدركة للعصور القديمة منذ حقبة سابقة. ومن ناحية أخرى، لا يمكن، في نظره، فهم أوربا التي تركز على عصر النهضة من دون وضعها في سياق القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وذلك حينما كانت أوربا تحت رحمة تهديد العثمانيين، فهي التي أنقذت العالم الغربي من هذا الخطر الخارجي، وهذا هو الوجه المضيء في عصر النهضة، بينما يعترف أن استعمار أميركا وتجارة الرقيق يمثل بحق الجانب المظلم منها، الذي استنكره بعض رواد الحركة الإنسانية، وعلى رأسهم الدومينيكاني الإسباني بارتولاومي لاس كاساس (1474- 1566م)، الذي خلد التاريخ اسمه بسبب مواقفه من إبادة الشعوب الأصلية، وكان قد صحب والده في رحلة كريستوفر كولمبس، ومنذ وصوله إلى العالم الجديد عام 1502م، ناضل بحماسة ضد تعسفات الغزاة الإسبان اتجاه الهنود الحمر، ولا سيما في المكسيك، فقد سعى إلى وقف المذابح ضد الهنود، وسعى عبثًا لإيقافها. حتى لقد أطلق عليه لقب حامي الهنود ورسول بلاد الهند، وترك كتابًا توثيقيًّا بالغ الأهمية بعنوان القصة الدقيقة لتدمير بلاد الهند.

يُظهر لوكال أن رجل النهضة، وبعكس ما يُتداوَل اليوم، كان يُشير إلى الانتماء والتعلم، وأنه كان بعيدًا كل البعد من خصائص الفرد الأناني الذي يُعَدُّ مصدر شرور العالم المعاصر. إضافة إلى ذلك، فالفصل بين الإنسان والطبيعة في نظر المؤلف يعود إلى مرحلة القرن السابع عشر، وذلك مع ديكارت وليس مع عصر النهضة الذي ثمن الفن واحتفى بالإنسان والطبيعة. ثم يدخلنا المؤلف، في تاريخ عصر النهضة الحقيقي، بدءًا بتذكر القراءات الأولى التي أُجرِيَتْ. ويعود إلى جون ميشيليه الذي اخترع مفهوم عصر النهضة في القرن التاسع عشر، وهي حقبة تاريخية تتجاوز، في نظره، حصر هذا المصطلح في استخداماته الأدبية أو الفنية.

إعادة تأهيل الحياة

يعود عصر النهضة إلى إيطاليا، حيث يظهر الوجه الثاني الذي أسهم في التحول بالفعل نحو الحداثة، ويذكرنا جان ماري لوجال بأن عالم الاجتماع، وبخاصة ماكس فيبرمدين بهذه الرؤية الجديدة لعصر النهضة، التي مزج فيها الأخلاق البروتستانتية بروح الرأسمالية، حيث بيَّنَ أن البروتستانتية وإعادة تأهيل الحياة النشطة والدفاع عن حرية الضمير هي الأساس الذي أسهم في الانتقال نحو المجتمع الحديث.

يهيمن محوران رئيسان على فكرة الكتاب، وهما العلاقة بإيطاليا والعلاقة مع ظهور العصر الحديث، وإذا كان هناك من نموذج إيطالي في البداية، فإنه امتد إلى أوربا وتنوع، بل إن النهضة في إيطاليا نفسها كانت تعددية بل هجينة، كما هو الأمر في البندقية مثلًا أو فلورنسا، حيث لعبت التأثيرات الشرقية البيزنطية والإسلامية واليهودية دورًا حاسمًا في نشأة عصر النهضة، وهذا يكشف كما عبر جيري بروتون عن عصر نهضة عالمي؛ إذ يجب تجاوز المنظور الذي يحتفي بإنجازات الحضارة الأوربية من دون غيرها. كما كانت هناك أيضًا النهضة الألمانية في منطقة الراين، وفي مدن مثل بروج، التي شهدت حيوية اقتصادية وفنية كبيرة، بل لقد سافر الفنانون بين فلاندرز وإيطاليا، وتأثر بعضهم ببعض. ويحتفظ المؤلف أيضًا بمكانة مهمة للحظة اكتشاف الأميركيين من جانب اللاتينيين في هذه الحركة العظيمة لتجديد الفنون والمعرفة. لم يعد مرور الوقت تغييرًا في العصور القديمة ولكنه أصبح وقتًا للتقدم. ومع ذلك، هناك تناقض صارخ، خلال عصر النهضة، بين الانفتاح التدريجي للمعرفة واستمرار وجود مجتمع جامد للغاية، ولا سيما في إسبانيا حيث كانت تُمارس محاكم التفتيش كل أساليب التطهير الوحشية والعدوانية تجاه المسلمين واليهود. لاستكمال لوحة عصر النهضة هذه، شرع المؤلف في تحديد ملامح الفرد الذي وُلد في ذلك الوقت، مستندًا إلى رؤية السويسري ياكوب بوركهارت، ثم يؤكد على مكانة عصر النهضة في التاريخ بوصفها لحظة ملهمة وفاصلة.

يحكي الكتاب «قصة أخرى من عصر النهضة»، ويضع المفهوم على المحك لدى الإنسانيين الإيطاليين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، الذين كرموا الثقافة القديمة، وتحرروا مما سيطلق عليه بعد ذلك العصور الوسطى أو العصور المظلمة، ثم على النقيض نجد من يتحدث عن النهضة بوصفها ولادة جديدة للعصور الوسطى نفسها، تحت حكم شارلمان وفي القرن الثاني عشر على وجه الخصوص، إضافة إلى ذلك، بل في إطار «العصور الوسطى الطويلة» التي استمرت حتى الثورة الفرنسية.

كان يوهان هوزينغا قد حاول في كتابه «اضمحلال العصور الوسطى» رسم حدود فاصلة بينها وبين عصر النهضة، بيد أنه رصد كثيرًا من نماذج الحياة المشتركة بين الحقبتين، فعصر النهضة في نظره حافل بعناصر اتسمت بها الروح الوسيطية، وهي في أوج ازدهارها، ذلك أن المظاهر التي برزت في القرن الخامس عشر والسادس عشر بأوربا تمثل في نظره نهاية تقاليد العصور الوسطى وليس ميلادًا لروح عصر جديد.

نهضة لم تفعل شيئًا

لم تخمد أنفاس الطرائق الفكرية الخاصة بالعصور الوسطى تمامًا حتى في حقبة ما بعد عصر النهضة بزمن طويل، ذلك ما يحاول تبيانه هذا المؤرخ الهولندي من خلال دراسته لنماذج من الحياة والفكر والفنون بفرنسا والأراضي المنخفضة إبان القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين؛ إذ يقف عند عدد من أصول الحضارة الأوربية الحديثة في العصر الوسيط، فما جرى تسميته على الألسن بالعصور الوسطى لم يكن إلا تمهيدًا لعصر النهضة، وقد ناصر جاك لوغوف هذا الموقف ودافع عنه بقوة وصلابة، حين جعل من التاريخ الوسيط اللحظة الحقيقية لولادة أوربا، وعَدَّ النهضةَ لم تفعل شيئًا سوى إطالة العصر الوسيط.

حين نعود إلى جول ميشيليه في القرن التاسع عشر، نتوقف عند موقف مناقض تمامًا، فهذا الأخير يؤكد أن حقبة القرنين الخامس عشر والسادس عشر هي الحقبة التي بدأت تمتلك فيها أوربا هوية سياسية وثقافية مشتركة، فقبل ذلك كان من النادر جدًّا تعريف الناس أنفسهم بكونهم أوربيين.

ما رآه جول ميشيليه في القرون الوسطى هو الغرابة والتوحش والهمجية لا غير، بينما حقبة النهضة كانت مختلفة، فهي على النقيض تمامًا؛ إذ تعبِّر عن العقل والفن والجمال. كان ميشيليه أول من استخدم لفظة عصر النهضة، وحين نشر كتابه تاريخ فرنسا (1833م)، وضع اسم عصر النهضة عنوانًا للمجلد السابع منه، وهو ما يعني أن هذا العصر بالنسبة إليه هو عصر اكتشاف العالم من جديد واكتشاف الأوربي لذاته، وقد توقف عند هذه الحقبة طويلًا بوصفها أهم حقبة تاريخية في الثقافة الأوربية، فهي ترادف عنده النور والإبداع، وبذلك فهي تمثل مرحلة فاصلة وحَدًّا جوهريًّا مع العصر الوسيط، وقد روَّج أنصاره للنهضة لاحقًا بوصفها حقبة فاصلة، ليذيع استخدام اللفظ على نطاق واسع؛ إذ فرض نفسه بوصفه لفظًا دالًّا على حقبة معينة واستثنائية، وهكذا سطع نجم النهضة عاليًا في الأفق وغرق العصر الوسيط في الظلمات القاتمة؛ إذ نما تدريجيًّا شعور بالعداء تجاه العصر الوسيط وصل إلى حدّ الازدراء التامّ أحيانًا.

على منوال ميشيليه سيركز بوركهارت في كتابه حضارة إيطاليا في عصر النهضة على سمة مميزة عَدَّها خاصية دالة على هذه الحقبة، ويتعلق الأمر بصعود النزعة الفردية والوعي بالذات، هذا الوعي الذي غاب جملة وتفصيلًا خلال العصر الوسيط، فقبل القرن الخامس عشر كان الأوربيون يفتقرون للشعور الهوياتي الفردي، وبناءً عليه فإن إيطاليا من وجهة نظر بوركهارت أنجبت لنا إنسان حقبة النهضة أو ما سماه «المولود الأول» من أبناء أوربا الحداثة، وقد خصص الفصل الثاني من كتابه المذكور لتبيان تطور الفرد، فجعل من إنسان النهضة حاملًا لثقافة جديدة تحيل على الفردانية؛ لأنه تخلص من معوِّقات الدين والمحيط، ولذلك فشخص عصر النهضة، وخلافًا لشخص العصر الوسيط، قادر على تطوير شخصيته من دون عقبات.

لغط ونقاش حاد

أثار كتاب بوركهارت الذي احتفى بعصر النهضة كثيرًا من اللغط بين الباحثين، واحتد نقاش حاد بشأن ما طرحه هذا الأخير في مؤلفه من أفكار عن عصر النهضة، وقد لقيت آراؤه اعتراضات كثيرة، وخصوصًا حين عَدَّ عصر النهضة هو البداية الحقيقية للعصر الحديث، هذا مع العلم أنه لم يُخْفِ قط الجانب المظلم من عصر النهضة، حيث أبرز استمرار التنجيم جنبًا إلى جنب مع العلم الحديث، والتردد بين الدنيوية والعالم الآخر بوصفهما مميزين للعصور الانتقالية، ولكن هذا العصر كان أسبق في تقديم المثل لأحسن ما في الإنسان الحديث.

إن الصورة التي رسمها هذان المؤرخان عن عصر النهضة إنما تنطلق من سياقات وظروف القرن التاسع عشر، فقد استنبطا من عصر النهضة قوة أوربا وانتصارها على باقي الحضارات الأخرى، وقد شكل هذا المبدأ أحد الأسس التي استندت عليها الإمبريالية الأوربية آنذاك، ففي هذه المرحلة التي كانت فيها أوربا تتنافس لفرض هيمنتها على آسيا وإفريقيا، كان هناك من يقدم رؤية لعصر النهضة بوصفها تأصيلًا وتبريرًا للهيمنة الأوربية على العالم، وهو ما جعل الحقبة المذكورة محل اتهام وشكوك، ولذلك فقد قدم عنها هازينغا نظرة سلبية.

احتضرت النهضة! ماتت النهضة! ضجة تناقلتها دوائر المؤرخين الضيقة بعدما كان اسم «النهضة» يمثل رونق البدايات، وإحياءً للجمال والخير والحق، فجأة أصبح المصطلح مؤشرًا على كل ما هو قديم ومهترئ بل متَّهَمٍ؛ لكونه عمَّر كثيرًا، وأنتج العديد من الشرور. لم يعد مصطلح «النهضة» الذي انتصر لقوة الحياة المتدفقة واستخف بالأخلاق والدين محمودَ التداول، حتى إن ظلت أعمال عصر النهضة في الرسم والهندسة والأدب مثارَ انبهار، فإنها غدتْ وحشًا غير مرغوب فيه بسبب امتداداتها. باختصار شديد، على النهضة التي كانت تمثل الزمن العائد أن تتوارى عن الأنظار، ولن يكون هنا كأي مجال لانبعاثها مجددًا من الرماد. في نظر لوكال: كَلّا ثم كَلَّا، لم تأفل الدراسات حول النهضة ولن تضمحل.

استقرتْ في الأذهان، منذ عدة أعوام، فكرة أن عصر النهضة، المثير للجدل، أصبح بلا أفق إمبريقي، وأضحى مزعجًا على المستوى السياسي، ومقلقًا على الصعيد الأخلاقي. في عام 2017م، وسمَ ميشال أونفري، تمسيح القارة الأميركية، بعد اكتشافها، «بالإبادة الجماعية الكبيرة لسكانها الأصليين». وفي السنة نفسها، صرحت ماري هيلين فرايسي، في برنامج «عالَم الكتب» قائلة: «لم نفطن دائمًا إلى أي حد انطلقت آفات العولمة مع انبثاق عصر النهضة». لقد أقحمتنا النهضة في مسلك وعِر؛ لذا علينا التخلص من جثتها الملعونة الموروثة عن إسطوغرافيا القرن التاسع عشر، وابتكرتْ، كما يُقال، بهدف تكريس التفوق الأوربي. «من دون شك، علينا الكف عن إيجاد تقابلات تاريخية في الخارج؛ لأنه لا جدوى من ذلك سوى جعل امتياز الحداثة حكرًا على أوربا» كما يقول أحد المؤرخين الذي يرى في «النهضة مصطلحًا متبجِّحًا».

مفاهيم مشكوك فيها

إذا رجحنا احتكار أوربا لهذه المرحلة، وبكونها تقف وراء تكريس النزعة المركزية الأوربية في عصر الحداثة؟ فإن هناك من يرى أن «الاكتشافات الكبرى» و«التوسع الأوربي» و«الحداثة» ليست سوى مفاهيم «مشكوك في أمرها»؛ لذا، لم يتوانَ بعض المؤرخين والأنثربولوجيين عن الدعوة بشكل علني للتخلص من عبارة عصر النهضة، بل شطبها من قاموس التداول لأنها مُتهمة بإفراز النزعة القومية والاستعمار وتجارة الرقيق والعولمة البئيسة. بل ما الفائدة في الاستمرار على الإحالة إلى هذا المصطلح ما دامت القطيعة مع العصر الوسيط ليست سوى فكرة أسطورية، على حد قول جاك لوغوف، أحد أشهر مؤرخي العصر الوسيط، الذي دافع بقوة عن فكرة «عصر وسيط طويل الأمد».

إن محاكمة حقبة النهضة لها مبرراتها المشروعة، ولذلك عرضها الكاتب للنقاش والمداولة، فتتبع الخلافات حول الأصول الوسيطية «للنهضة»، وأثار تعدد مفهوم «عصر النهضة» في حد ذاته، وعاين امتداده الجغرافي، وعلاقته بالعالم القديم.

مثل عصر النهضة لزمن طويل «مشكلاً» حقيقيًّا، وبخاصة أن كثيرًا من الباحثين تخلوا عن الصورة المشرقة التي تكونت عن هذه الحقبة بوصفها ملهمة للفرادة الغربية. لقد نظروا إلى «النهضة» كأنها مسؤولة عن محاكم التفتيش، وعن مطاردة الساحرات، وعن معاداة السامية التي أنتجت معسكرات الإبادة، وتنامي تجارة العبيد، ناهيك عن الحروب الدينية التي امتدتْ من بداية القرن الخامس عشر إلى الفصول الدامية للثورة الإنجليزية في إيرلندا في منتصف القرن السابع عشر. على حين استمر بعض في تمجيد هذا العصر وتقديمه على أنه مثال لأرقى الأعمال الفنية، والقصور الفارهة، و«العباقرة».

أُعِيدَ تقويم حقبة عصر النهضة من جانب كثير من المثقفين الأوربيين، خصوصًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتأثر أغلبيتهم بأحداث وصول الدكتاتوريات إلى الحكم فيما بين الحربين في عدد من الدول الأوربية، وبخاصة في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، فهانز بارون على سبيل المثال سلَّط الضوء في كتابه «أزمة عصر النهضة الإيطالية المبكرة» على أحداث وقعت بفلورنسا وأسقطها تشبيهًا على أحداث من الحقبة المعاصرة، فقارن بين دوق ميلانو جان جالياتسو والفوهرر هتلر. لقد تفاعلت رؤية بارون مع واقع أوربا المهدد بالتوليتارية.

في النصف الثاني من القرن العشرين ومع تنامي دور حركات الجندر وتصاعد ثقافة الحريات الفردية ستخضع حقبة عصر النهضة لمراجعة شاملة، وخصوصًا من طرف تيار المنعرج اللساني الذي برز في الولايات المتحدة الأميركية، فقد نشر ستيفن غرينبلات كتاب تشكيل الذات في عصر النهضة من مور إلى شكسبير، وقد تبنى فيه فكرة بوركهارت عن نشأة الإنسان الحديث مع عصر النهضة، وبقدر ما أظهر إعجابه الكبير بالحقبة وبإنجازاتها تأسف للجانب المظلم المرتبط بها، ويتعلق الأمر باستعمار العالم الجديد ومعاداة السامية التي غدت ظاهرة منذ القرن السادس عشر.

كثيرٌ من الباحثين بدؤوا في استخدام تعبير أوائل العصر الحديث للدلالة على عصر النهضة، وهو ما يشكك في النظرة المثالية التي قدمها ميشيليه وبوركهارت عن الحقبة، وبذلك تكون النهضة مجرد حقبة عابرة وليست رُوحًا مختلفة، واستُكشِفَتْ موضوعات وقضايا لا علاقة لها بعصر النهضة؛ إذ رُكِّزَ على دور الفئات المهمشة التي خضعت لإعادة التقويم والنظر، ومنها فئات العبيد السود واليهود والسحرة، وهذه الأصوات كانت مهملة ومستبعدة خلال عصر النهضة.

شككت حركات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية في الروايات التي مجدت عصر النهضة وربطته بالتنوير والحداثة والتقدم؛ إذ عدُّوا الكوارث الكبرى التي شهدها العالم المعاصر من جرائم الإبادة والاستعمار، لم تكن سوى نتائج حتمية لأفكار عصر النهضة، على الرغم من إنكار أدورنو وميشيل فوكو لمثل هذه الرؤى.

لا يزال النزاع قائمًا على تراث عصر النهضة في القرن الحادي والعشرين، بل إن هناك من ذهب إلى كون الصراع بين الغرب والشرق ليس في جوهره سوى انعكاس للتصورات التي عَدَّتْ عصر النهضة هو عصر تفوُّق القيم العليا للإنسان الغربي.

تشكلت تصورات مختلفة عن عصر النهضة، ولا تزال هذه الحقبة إلى الآن تغري بالكتابة عنها، والملحوظ أن أغلبية المؤرخين الغربيين ما زالوا من المعجبين بها والمؤيدين لها، بيد أن تأثير المؤرخ جاك لوغوف كان مع ذلك أكثر قوة وتأثيرًا؛ إذ أعاد قلب المعادلة من بتثمين العصر الوسيط مجددًا والتنقيص من قيمة النهضة، ففي نظره لم توجد نهضة واحدة بل نهضات عدة. لقد دافع لوغوف في كتاباته المتعددة عن كون النهضة لا تمثل حقبة خاصة، إنما هي آخر عملية نهوض لعصر قروسطوي طويل الأمد.

يتهم جاك لوغوف رواد الحركة والحقبة التي ستسمى النهضة بكونهم انتقدوا حداثة العصر الوسيط وأبخسوا المرحلة حقها ولم يعطوها المكانة التي تستحق. كل شيء إيجابي ظهر في العصر الوسيط بالنسبة للوغوف، والعكس هو الصحيح؛ إذ إن أغلبية الظواهر السلبية تنتمي لعصر النهضة أكثر مما تنتمي للعصر الوسيط، فالقمع الرهيب للساحرات تم في أوج عصر النهضة. كان للنهضة وجهها المظلم بالتأكيد، ومن ذلك صدور كتاب مطرقة الساحرات عام 1886م، يقول جاك لوغوف عن هذا الوجه الآخر: «سوف تجد المذابح الجماعية ضد اليهود ومحاكم التفتيش والحركات الدينية الألفية تقبلًا أوسع في عصر النهضة مما كان عليه الأمر في العصر الوسيط».

يعترف لوغوف بكون ولادة العصر الوسيط تمت بالموازاة مع اختراع مفهوم النهضة على يد ميشيليه في درسه الافتتاحي الأول الذي ألقاه بالكوليدج دو فرونس، وهو ما أدى إلى نشأة تحقيب جديد للتاريخ لا يصلح في واقع الأمر سوى للعالم الغربي، ولذلك عارض وصف النهضة بأنها حقبة نوعية، ذلك أن القرنين الخامس عشر والسادس، في نظره، هما استمرار للعصر الوسيط، وأن التغيير الحقيقي في الحقبة إنما يقع في قلب القرن الثامن عشر.

موقف المؤرخ لوغوف ينبني على كون النهضة التي عدَّها التاريخ التقليدي حقبة مخصوصة ليست في واقع الأمر سوى آخر حقبة فرعية من عصر وسيط مديد، وبذلك أعلن هذا المؤرخ في أبحاثه المتعددة موت عصر النهضة.

لم يشهد أي عصر من العصور تزاوج الخير والشر كما شهده «عصر النهضة»، غير أن لا أحد نبذ مفهوم «النهضة» أو أسقط مسألتها جانبًا بمبرر أنها لم تعد مناسِبة للطرح مثل ما فعل بعضٌ ممن كان حكمهم قاسيًا على هذه الحقبة حين أعلنوا عاليًا: لنتوقف عن الحديث عن النهضة! بيد أنه على عكس هذا الموقف، خاض لوكال في حديثه مجددًا مكتشفًا عوالم وخبايا جديدة!

مذكراتٌ بعضها جاء باهتًا، وآخر أثار جدلًا

مذكراتٌ بعضها جاء باهتًا، وآخر أثار جدلًا

انتعشت كتابة المذكرات السياسية في الغرب، حيث تلقي فيها وسائل الإعلام مادة دسمة، فهي تُكتب تحت الطلب، وتكون مدفوعة بقوة الأحداث التي تثير فضول القُرّاء. ومن اللافت للنظر أنْ عرفت المذكرات بالمغرب طفرة نوعية وكمية في الآونة الأخيرة؛ إذ صدرت شهادات عددٍ من الفاعلين السياسيين، وذلك في إطار المساهمة في حفظ الذاكرة الوطنية. وبالطبع تحتاج هذه المذكرات إلى مزيد من المقابلات والمقارنات، لكنها تظل ذات أهمية لكتابة تاريخ المغرب في مرحلة ما بعد الاستقلال.

صدرت «مذكرات» المحجوبي أحرضان ثم «تأملات وشهادات» لعبدالرحيم بوعبيد و«المغرب الذي عشته» لعبدالواحد الراضي، و«مذكرات المجاهد الهاشمي الطود»، وهو عملٌ أعدَّه الباحث أسامة الزكاري، و«أحاديث فيما جرى: شذرات من سيرتي» لعبدالرحمن اليوسفي، ومذكرات اليازغي التي صدرت بعنوان «الصحراء هويتنا»، وكان قد سبقها بمذكرات «سيرة وطن مسيرة حزب». وأخيرًا هَا نَحْنُ أمام مُذكرات جديدة «هكذا تكلم محمد بنسعيد»، وهي لأبرز معارض سياسي مغربي. ولا ننسى التذكير أيضًا بأهمية الحوارات المسترسلة التي أجرتها عدد من الصحف المحلية، وأشهرها حوارات «كرسي الاعتراف» التي واظبت على نشرها جريدة المساء مع عدد من قادة الحركة الوطنية. وقد طُرح كثير من الأسئلة حول دوافع هؤلاء لكتابة مذكراتهم وتسجيل شهاداتهم في هذه اللحظة بالضبط، التي تأتي بعد سياق الربيع العربي وتجربة المصالحة؟ من دون شك ليست كتابة هذا النوع تنحصر بالضرورة في كشف الحقيقة، فهناك دوافع أخرى خفية تتوارى في الظل.

إن كثيرًا من السياسيين بمجرد انتهاء مهامهم الرسمية يتجهون إلى كتابة سيرهم، فقِسم منهم، وهم الأقلية، يمسكون بالقلم لكتابة مذكراتهم وهم لا يزالون في موقع المسؤولية، وغالبًا ما يقدِّم هؤلاء صورة جميلة عن أنفسهم، طامسين أغلب الحقائق. وقسم آخر يلجأ إلى الكتابة بعد أن يعتزل الأضواء، فيكشف عن أشياء كانت تتوارى في الظل سابقًا لظروف المرحلة. والملاحظ أن هذه المذكرات والشهادات تثير اهتمام الرأي العام الذي يتطلع إليها بفارغ الصبر، خصوصًا إذا كانت الشخصية مثار جدل، أو ارتبطت بقضية ساخنة؛ إذ غالبًا ما يُنْتَظَر منها كشف المستور.

لقد أثارت «مذكرات» أحرضان، الزَّعيم السابق للحركة الشعبية، جدلًا كبيرًا حين صدورها، وقد تناولت موضوعات شائكة من قبيل قضية اغتيال عباس المسعدي، أحد رموز جيش التحرير؛ إذ ذكر أن القاتل لا يزال على قيد الحياة، ولمَّح إلى تورط الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة في مسألة إصدار الأوامر، وقد تكفل كل من عبدالكريم غلاب والعربي المساري وآيت يدر بالرد على كثير مما جاء في هذه المذكرات، التي عدَّها صاحبها الرِّواية التي تستحق أن تُعتمد مرجعًا تاريخيًّا. كما أنها تعرضت للانتقاد من طرف عدد من القيادات التَّاريخية السابقة لحزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. والواقع أن هذه المذكرات لم تلق الكثير من المصداقية بالنظر لتاريخ صاحبها وعلاقاته الملتبسة مع سلطات الحماية بالرغم من التغطية الإعلامية الكبيرة التي واكبت صدورها. ولذلك اتجهت الأنظار بشكل كبير إلى مذكرات الراحل عبدالرحيم بوعبيد، التي صدرت عام 2018م، تحت عنوان «تأملات وشهادات»، ولعل هذا ما يُفسر الإقبال الكبير عليها، حتى إنها حققت أفضل المبيعات، غير أنها أسهبت في الحديث عن مخاضات الاستقلال، وعما يتعلق بمفاوضات إيكس ليبان، التي أسفرت عن توقيع معاهدة إنهاء الحماية.

كان هدف بوعبيد سرد وقائع تمتد من تقديم وثيقة الاستقلال في مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي إلى الحقبة الأولى التي أعقبت حكومة عبدالله إبراهيم. وكان قد كتب فصولها النهائية بداية الثمانينيات بهدف تسليط الضوء على الالتباسات التي رافقت مسار الحركة الوطنية، ولذا فإنها لم تتعرض للكثير من القضايا التي تستأثر باهتمام القارئ المغربي اليوم، وبدأ يلوح في الأفق حديث مرتقب لعبدالرحمن اليوسفي الذي أحيا الآمال مجددًا، بعد أن كان قد اتخذ قرارًا نهائيًّا بخصوص اعتزاله الخوض في الشأن السياسي، وهو مَا كسره بمذكراته الموسومة بــــ«أحاديث فيما جرى»، أملاها على مبارك بودرقة رفيقه في المنفى وأحد أبرز مهندسي تجربة العدالة الانتقالية، التي سجل شهادته بشأنها في كتابه «مذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة». وقد تحدث هذا الأخير عن محاولاته لإقناع اليوسفي بتدوين أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية وفي المقاومة، وفيما شهده المغرب من أحداث جسام بعد الاستقلال، وكان اليوسفي يُقابل هذا الإلحاح بالصمت. لجأ بودرقة في النِّهاية إلى المناورة، فقد عمل على تجميع المادة الوثائقية المتعلقة بالتراث السياسي والفكري للسيد اليوسفي، مُعتمدًا على رسائله وتقاريره، وقد استشعر اليوسفي أهمية المادة المُدَوَّنة، وآنذاك وافق التمهيد للإصدار ببيان أهم تفاصيل سيرته، وقد تم ذلك على مدار جلسات طويلة، غير أنَّ أفق الانتظار كان مخيِّبًا، ودون سقف التطلعات التي عُقدت عليها، فالمعلومات التي تضمنتها المذكرات معروفة وسبق تداولها في الصحافة، ولا توجد بها أية أسرار خاصة، اللهم إلا ما يتعلق بسيرته العائلية، بيد أنها ليست ذات أهمية للمتابع الذي كان ينتظر من الرجل الذي عايش لحظات الانتقال بين ملكين الكثير ليقوله، فاليوسفي الذي تحول من تاجر سلاح معارض إلى سياسي مُسالم، انخرط في مسار تجربة التناوب التي وُئِدَتْ.

وبالرغم من الانتقادات الموجهة إلى التجربة، فإن اليوسفي لم يدافع عنها ولم يذكر التفاصيل التي أدَّت به إلى الانسحاب من الحياة السياسية. لقد جاءت مذكرات اليوسفي باهتة، فهي تعج بمساحات فارغة، وربما آثر هذا الأخير الصمت في القضايا الحساسة حفاظًا على علاقاته الطيبة بالسلطة، وللوعد الذي قطعه للراحل الملك الحسن الثاني الذي استحلفه على القرآن، وربما لأن اليوسفي سيظل ذلك «الشخص الذي يلوي لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم» حسب تعبير صديقه الأخضر الإبراهيمي، ولذلك، فإن صدور «سيرة آيت يدر بنسعيد» بداية عام 2019م أحيت الآمال ثانية بالنبش في الإشكاليات والقضايا التي ظلت غير مطروقة في مذكرات من سبقه، وبخاصة أن أكثر من عشر مُسوَّدات كُتُبٍ تنتظر دورها للخروج للعلن، وهي المشاريع التي لم يصدر منها إلى الآن سوى ثلاثة، وهي: «صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي»، و«وثائق جيش التحرير في الجنوب المغربي»، ثم «الهيئة الريفية». بَيْدَ أن من بين كل هذه المشاريع سيحتل الإصدار الجديد «هكذا تكلم محمد بنسعيد» موقعًا متميزًا ومتفردًا ضمنها؛ لما تتمتع به هذه الشخصية من مكانة.