صداقة الناقد والمبدع..  أي أثر تركته في الأدب العربي؟

صداقة الناقد والمبدع..

أي أثر تركته في الأدب العربي؟

 كيف يمكن معاينة مفهوم الصداقة بين المثقفين والأدباء، وهل من حدود يمكن أن تتوقف عندها الصداقة بين هؤلاء، وما الأثر الذي تركته الصداقات وظلالها على الإبداع العربي، هل من صداقة حقيقية يمكن أن تجمع ناقدًا ومبدعًا أو مبدعة؟

تَعُدُّ الكاتبة الأردنية سميحة خريس الصداقةَ «أمرًا نادرًا جدًّا بين عموم الناس، وحين تكون هناك مصالح متبادلة يصبح الرهان عليها صعبًا، ولكن الأمر لا يخلو من حالات نادرة، هذا يعتمد على درجة وعي ونزاهة الأشخاص». وتتطرق إلى تجربتها الشخصية، فتقول: «من تجربتي الخاصة كنت أتجنب عرضًا إبداعيًّا على الأصدقاء من النقاد، وأتعامل بحساسية تجاه ما يكتبون وهم يتناولون إنتاجي، كأني أخاف من الانحياز العاطفي. والغريب أن النقاد الذين وقعت بيني وبينهم الصداقة تم ذلك بعد سنوات من تناول أعمالي لديهم؛ لأننا وجدنا أن هناك صفات شخصية تُحيي الصداقة. في كل الأحوال أحاول ألّا أخلط الأمر، ولا أفرض على ناقد أن يقرأني، ولا على صديق أن يلتفت لإبداعي، حتى لا يحدث هذا الوقوع في الشللية، ولكن أعتقد دائمًا أن الانحياز للجودة قد يشكل شلة محترمة». وتذهب صاحبة رواية «فستق عبيد» إلى أن الصداقات «بين النساء عمومًا أقرب إلى التحقق، نظرًا لكثير من الاهتمامات والهموم والحكايات التي تجمعهن، وأنه في حال وجود حالات مثقفة سينتج حراك جميل».

سميحة خريس

صداقات الكاتبات

وترى الكاتبة المصرية سلوى بكر أن الصداقة بين الكاتبات «تعد مناخًا إيجابيًّا، وليس به ما يلفت النظر إلى فكرة التكريس للنوع». وتقول صاحبة رواية «البشموري»: إننا نعيش في منظومة قيم يشوبها الكثير من التشوه والماضوية، وهو ما ينعكس على الحياة الثقافية. فالأسماء المكرسة لا تطيق التعامل مع الأسماء الشابة الجديدة، وظاهرة الجماعات والشلل صارت تسود مناحي الحياة، وهي جماعات لا تقوم على أسس جمالية وفكرية، ولكن علاقات ومصالح، وهناك العلاقات الإقليمية التي انتشرت في العمل الثقافي، كجماعة المحلة وجماعة حلوان وشلة الوراق وغيرها، نحن نعيش نوعًا من الازدواجية المعلنة في قيمنا». وتضيف سلوى بكر: «ليس عندي مانع من صداقة بعض الكاتبات لبعضهن، حتى لو على أساس إنساني، فغدًا أو بعد غدٍ ستكون صداقة على أساس فكري وجمالي». وتتأسف على أن الكتابة «لدينا عشوائية. ولعل السؤال الآن هو: هل نحن متفقون جماليًّا؟ للأسف الكتابة لدينا نمطية ومقولبة وعشوائية، ومشاكلنا القيمية الفظيعة لا تجعلنا نتقدم، وتجعلنا نفرح بمجرد أن تمسك امرأة بقلم لتكتب، يا ليت الكاتبات يتصاحبن، وهذه الصداقة ستكون مفيدة جدًّا حين تقوم على أساس الهواجس والهموم المنشغل بها المبدع، للأسف الحوار والنقاش الجاد لم يعد موجودًا حتى في مجتمع الرجال، فحين نذهب إلى المقهى الثقافي لا نجد حوارًا حقيقيًّا، وإذا حاولت أن تتكلم بجدية ينظر إليك الجميع على أنك ثقيل الدم».

سلوى بكر

عطايا المبدعين للنقاد

وتوضح القاصة الكويتية إستبرق أحمد أن المبدع والناقد «طرفا علاقةٍ حكايتُها النصُّ، أو ذلك ما يجب أن نفترضه بعيدًا من أهداف ضيقة وسريعة، فالعلاقة في الأساس مجردة من التكسُّب، عمادُها البعد الإنساني والمعرفي، ولذلك انعكاسه على ثراء النص وتحصنه من الخلل والخفوت». وتذكر أن هناك من يرى أن الصداقة الحقّة، «تمنع الناقد من تناول النص وإشهار أدواته النقدية في جسده إذ لا سبيل للحيادية. وهناك من يرى أن النقد عمل مجرد من أي علاقة شخصية مع الكاتب، فيتحرر من تأثيرها في رؤيته، لكنني أكتب الآن وأسمع لهاث بعض الكتاب وعطاياهم لنقاد مؤثرين وادعاءهم صداقةً مزيفةً؛ ليأمنوا من كتابة لاذعة أو يُكافَؤُوا بدراسة داعمة، كما أسترجع كتابات لنقاد يكررون من كاتب إلى آخر الأغنية ذاتها في تقديم أو بيع أقلامهم، أو يسعون في ذكورية مقيتة للَفْتِ نظرِ كاتبةٍ وتخيُّل رابطة خاصة، من دون الاهتمام بجودة نصها الذي هو أساس وسبب العلاقة، هكذا لا نستغرب اهتراء صداقة مزعومة بين الكاتب والناقد، وإخفاقها في التعامل مع النص هنا لا يتم باحترافية في ظل ما نعاينه ونعانيه من خراب، أما ما نأمل ونشجع عليه فهو وجود علاقات منصفة في تعاونها وإيمانها بأن النص كائن قائم بذاته يحتاج محاولاتها لينمو ويتطور».

إستبرق أحمد

ناقدًا لا صديقًا

ويرفض الناقد صلاح السروي الصداقة بين الناقد والمبدع، قائلًا: «إذا نَحَّيْنا الجوانب الإنسانية تصبح العلاقة بينهما هي النص فقط، فعلى الناقد أن يكون ناقدًا لا صديقًا، وعلى المبدع أن يعتز بنصه لا أن يكون صديقًا للناقد، ينبغي أن تكون العلاقة مجردة بحيث لا توجد ميول ذاتية، ولا حتى تعامل المتكبر أو المدلس، فالمبدع يتعامل بنصه والناقد بضميره النقدي». ويستدرك السروي موضحًا: «لكن الأمور اختلطت في الحقل الثقافي، وصرنا نرى جماعات تشبه العصابات، وبعض المبدعين يشترون نقادًا أو حسب وصفه (ناقد ملاكي)، وبعض النقاد يتعاملون بوصفهم أصحاب فضل، فيطلبون مقابلًا حسب النوع أو الجنس أو الوضع الاجتماعي، وهناك ظاهرة الناقد الذي لا يريد أن يغضب أحدًا، وهناك من يريد أن يبرز قدراته على حساب مميزات النص وجمالياته، وهناك من المبدعين من قد يرى أنه أكبر من أي تناول نقدي فلا يأبه ولا يهتم بأحد، وهناك من يرى أن حياته لا وجود لها من دون النقاد، فيتحول إلى رجل علاقات عامة، وهو ما يجعل الحياة الثقافية معتلة؛ إذ يُحتفَى بأعمال ضعيفة على حساب أعمال مهمة، وهذا راجع إلى قدرات المبدع على استمالة النقاد أو إحراجهم».

صلاح السروي

أصدقاء يتحولون إلى خناجر

من ناحيته، يتذكر الناقد والشاعر اليمني علوان الجيلاني قول عبد الله البردوني: «والصداقات كالعداوات تؤذي.. فسواءٌ مَنْ تَصطفي أو تُعادي». يتذكر أيضًا حوارًا موثقًا بالفيديو «أجريته مع الروائي المصري الراحل خيري شلبي ربيع عام 2010م، قلت له يومها: سبعون كتابًا كيف استطعت إنجاز كل هذا؟ أجاب: بالبعد عن الأصدقاء وبخاصة الشلل، إنهم يشغلونك ويبعدونك عن مقصودك، يدخلونك في القيل والقال، وفي مماحكات وصغائر، تستنزفك وقتًا وطاقة وتسرق من فكرك، وتؤذي روحك».

لكن الجيلاني مع ذلك، يؤمن بضرورة الأصدقاء في حياتنا، «فالأصدقاء أجنحة ومتكآت وروافع للإنسان سواءٌ كان مبدعًا أو غير مبدع، ولطالما كان للأصدقاء دور واسع في حياتي، رغم أن العديد منهم كانوا يتحولون إلى حُفَرٍ ووَهَدَاتٍ وخناجرَ تطعن في الظهر. سيظل الأصدقاء غير متساوين، هناك الصديق الذي تجد نفسك فيه، بمعنى أنك تجده قريبًا منك إبداعًا وقراءات ومرجعيات ومزاجًا في الطباع وفي طريقة فهم الحياة والوعي بها، وهناك الصديق اللدود الذي كثيرًا ما تختلف معه، في نواحٍ كثيرة مما ذكرت، لكنك تظل محتاجًا إليه لكونه يشكل مرآة لك، فضِدِّيَّتُه تبقى مفيدةً ونافعةً تكشف لك ما لا تراه في نفسك وإن كان ذلك يحدث بشكل عنيف، وهناك الصديق من خارج الوسط الإبداعي وهذا غالبًا ما يكون بعيدًا منك قريبًا منك في الوقت نفسه، هو في الغالب معجب بك، يتلقاك بمحبة فائضة ويفخر بصداقته لك، وهذا النوع من الأصدقاء يكون في معظم الأحيان صديقًا أكثر قدرة على تقديم العون في الشدائد».

علوان الجيلاني

الكاتبة المصرية هالة البدري تقسِّم صداقات المبدع مستويين: «الأول بينه وبين العاديين من الناس، والثاني بينه وبين أقرانه من المبدعين». وتقول: «الصداقة علاقة أساسية من علاقات الحب، علاقة ليست قائمة على التملك، ففكرة أنك تختار صديقك غير فكرة أن لك شقيقًا، فالاختيار هنا قائم على الأمزجة القريبة، وليس على علاقات القربي، هذه القدرة على الاختيار تعطي زخمًا للحياة، وتساعد الإنسان على أن يعيش في أمان، وهذا هو مستوى الصداقة بين المبدع وغيره من الناس العاديين، أما المستوى الثاني وهو الصداقة بين اثنين من المبدعين، فهذه تنعكس على الإبداع لأنه يحدث تبادل للمعلومات والأفكار، وأحيانًا صناعة تيار. مع الأصدقاء يمكن مناقشة الأعمال حتى التي لم تصدر؛ إذ يمكن تبادل الآراء والخبرات، وهذا أعلى مستوى، فعلى المبدعين أن يتابع بعضهم بعضًا».

هالة البدري

وتعبِّر البدري عن رفضها أن تتحول صداقة المبدعين إلى شلة، «على مدار حياتي الإبداعية رأيت الكثير من الشلل والصداقات التي تجمعها مصالح، لكنني لم أَنْتَمِ لشلة ما، فأنا ضد الشللية، ومع كل الموجودين على الساحة. ولكني أيضًا مع فكرة أن تتكون جماعة لتشكيل تيار فكري مؤثر، وأحيانًا تكون هناك كتابات تشكل مدرسة إبداعية أو فكرية، ويمكن أن تكون هناك معارك ثقافية بين مدرستين أو جماعتين، أما المعارك الوهمية فتخلقها نفوس ضعيفة، ومن لا شيء لديه فإنه كالنار التي تأكل نفسها».

صداقتي‭ ‬مع‭ ‬إيميلي‭ ‬نصر‭ ‬الله‭

نسرين‭ ‬بلوط- شاعرة‭ ‬وروائية‭ ‬لبنانية

عندما نقرع نواقيس الصداقة الحقيقية، التي تمهّد للإنسانية الحقة، فنحن كمن نشيّد هيكلًا ثابتًا لا يتزعزع في أنواء الصحارى أو شحوب الغيوم أو تراكمات الهموم. فكيف إن كانت تلك الصداقة تتعبد في محراب القلم وتشغل حيّز الحروف؟ نعم لقد كانت صداقتي مع الأديبة الكبيرة إيميلي نصر الله رغم فارق العمر لا تقاس بالسنوات أو المرّات التي يرى فيها بعضنا بعضًا. هناك تسرّبٌ ميتافيزيقي للأرواح يشبه تسلل زخات المطر للأجساد، يُحدِث حالةَ توحُّدٍ ويجلو الارتباك في العلاقات التي تقوم على أسس الثقة والمحبة.

نسرين بلوط وإيميلي نصرالله

بدأت صداقتنا عندما توجّهت إليها لإجراء حوارٍ لجريدة الجمهورية في بيروت، ثم استمرّت رغم مرضها الذي كان يؤرق راحتها وقلمها. إيميلي نصر الله كانت تلقائية إلى أبعد الحدود، ولتخوم عالمها مجالات واسعة للبحث والتملّي، ولذكرياتها العنصر الأول في حديثها وتقرّب الآخرين منها. لقد أخبرتني عن ذكرياتها في القرية، كيف تَحَدَّتْ ذكورية المجتمع والمصير المحتم المشؤوم لزواج الفتاة وهي صغيرة. كيف قاومت وناضلت حتى أنهت دراستها المدرسية وتركت القرية لتستقرّ في المدينة وتعمل، ثم تتابع دراستها الجامعية بتحدٍّ وجهد حتى التقت زوجَها الذي تلاقت أفكاره مع أفكارها.

ربما أحسست لظلالها المائدة والسائحة في بيادر النور بامتدادٍ لظلالي.. فالمبدع الذي يلتقي مبدعًا يشبهه روحًا وفكرًا يتجرّد من نفسه ويتحرّر من أغلالها ليستحيل طائرًا مغرِّدًا التقى طائرًا ثانيًا فحلَّقَا معًا في سماء الحرية.. والإبداع هو هذه الحرية الميثيولوجية التي لا ترضى بالقليل ولا تقتنع بحدود المساحة. هناك الكثير من الكُتاب المزيّفين المتملّقين الذين يبنون صداقاتهم على أساس المصالح الشخصية الفردية ويوهمون الآخرين بالمحبة والعذوبة والرقة وهم يلقون عصاهم في إبداعٍ زائف كالسحرة الذين حاولوا خداع النبي موسى (عليه السلام)، ويسرقون الحبيب من حبيبه والصديق من صديقه ولكنهم في النهاية، ولو طال الزمن قليلًا، يقعون في شرّ ما يقترفون، أما الصداقة الحقيقية التي تبنى على الإبداع الحقيقي وبخاصة بين كاتبتين، فهي احتشادٌ للأحاسيس الفائضة الرائقة التي تتهافت لإشراقة صبح وخفق نور. وهكذا كانت صداقتي بالروائية الكبيرة إيميلي نصر الله، انحسارًا للأنا وامتدادًا للتجلِّي واستنباط الذات واحترام النفس.

تقارب‭ ‬الأرواح‭ ‬المتنافرة

عبدالرحمن‭ ‬موكلي-‭   ‬شاعر‭ ‬سعودي

عبدالرحمن موكلي

الحياة بالناس، والناس هم مجموعة اللقاءات والعلاقات، التي تمتد وتقصر حسب الزمان والمكان، وكل علاقة لها أسبابها مثل: (العلاقات الزوجية، واللقاءات المشتركة، والاهتمام المشترك بقضية ما، والدراسة، والعمل الجماعي، واللعب الجماعي). إذا انقطعت الأسباب وبقيت العلاقة بين اثنين، فقد تحولت العلاقة إلى صداقة أو بمعنى آخر ارتقت العلاقة إلى صداقة، حيث غابت المصالح واستقام الجاذب الإنساني، هذا الجاذب قد يصل لمرحلة الحب والشغف والجنون كما عند الصوفيين والشعراء العذريين، وقد يصل بالتضحية بالروح فداءً للآخر كما في الحروب!!

وللزمان والمكان دورهما في نشوء الصداقة، فإذا كان الزمان يمثل أفقًا، والمكان عمقًا، فإن غياب أحدهما (الزمان/ المكان) يعني غياب الصداقة.

لذلك فإن الانكسارات الكثيرة فيما يسمى «صداقات» العالم الافتراضي سببها قيام هذه «الصداقات» على العامل الزمني من خلال مواقع التواصل وغياب المكان الحاضن كعمق يحفظ هذه الصداقة، وهو ما خلق خوفًا، وقلقًا وجوديًّا في حياة الأفراد وعلاقاتهم، انعكس سلبًا على قلة الصداقات بشكلها الإنساني الأجمل.

إذًا هل ستحولنا مواقع التواصل «الاتصال» إلى مجتمعات قائمة على العلاقات فقط (ربما نعم، وبشكل كبير) وستتلاشى الصداقات القائمة على عاملي الزمان والمكان، لذلك من المهم جدًّا خلق حواضن مكانية للقاءات والعلاقات الإنسانية مثل: (المقاهي، والمسارح، والسينما، والرحلات السياحية، وتجمعات الفرجة) بعيدًا من العلاقات المصلحية ومواقع التواصل. 

 في الختام السفر الطويل هو ما يصقل وينقي الصداقة من الشوائب، ففي السفر الطويل تحصل المعرفة وتتقارب الأرواح المتنافرة ويفضي بعضها لبعض. 

أغنية‭ ‬المنسي‭ ‬الرهيفة

جار‭ ‬النبي‭ ‬الحلو-‭   ‬قاص‭ ‬وروائي‭ ‬مصري

جار النبي الحلو ومحمد المنسي قنديل

كان حلمي وأنا في الصف السادس الابتدائي، أن أرى الصبي الذي يشبهني – كما قال مسعد ابن عمتي- فهو يحب القراءة والكتابة مثلي، وأخذت أتابع أخباره وأتخيله، حتى فوجئت أنه سيدخل مدرسة الأقباط الإعدادية معي، انتظرته بشغف حتى أشار لي مسعد زميل الدراسة: ها هو.. محمد المنسي قنديل.. وهالني أن أرى صبيًّا نحيلًا رقيقًا إلى حد الرهافة، والتقينا ولم نفترق حتى الآن. أخذني من يدي وعرَّفَني إلى باعة الكتب القديمة في شارع العباسي، وفتحت له مكتبة أخي بكر. في المرحلة الإعدادية قرأنا كل ما وقعت عليه أيدينا، لكنه الأسرع في القراءة والأكثر تحديدًا لذوقه وأفكاره. معًا اقتربنا من حلقات الصبا فقمنا معًا بتكوين فرقة مسرحية وقدمنا ليلة مسرحية على سطح بيتنا – بعد أن ساعدنا أخي الأكبر في تأسيس خشبة المسرح، ومعًا ارتكبنا حادثة الحمار الشهيرة، فقد كانت سيدة فلاحة تأتي لبيتنا على حمار، تأتي بخيرات الريف لأمي، وتربط الحمار أمام البيت، في نزوة مني فككت الحمار من ربطته وركبته ومضيت به إلى بيت محمد المنسي قنديل، ناديت: يا محمد، فهرول إليّ وركب الحمار خلفي ومضينا نغني ونلكز الحمار بأرجلنا، وانطلقنا إلى شارع البحر وهو الشارع الرئيسي في مدينتنا المحلة الكبري، حتى دخلنا شارع العباسي المزدحم، تلكأ الحمار، ثم بدأ يتوقف تمامًا، ثم يمشي ببطء، ثم ينحرف تجاه العربات الكارو، وأخيرًا دخل مقهى ورفض الخروج، حتى تمكن الزبائن من إنقاذنا.

 وحين أقمت بحجرتي فوق السطح كان المنسي وفريد أبو سعدة، أول من شاهدا بناء الحجرة، ودخلنا في تلك الحجرة حياة جديدة مختلفة، عالم الفكر والسياسة والفن والتعرف إلى العالم الخارجي، لكن ما جعلنا نرفع هامَاتِنا لأعلى ونمسك بأحلامنا هو فوز المنسي بالجائزة الأولى في نادي القصة عن قصة «أغنية المشرحة الخالية» عام 1970م. ثم انخرطنا في طريق الكتابة الصعب، بل طريق الحياة الصعب، وهو الذي دفعني للكتابة للطفل بعد أن اكتشف خمس قصص للأطفال لم أنشرها فأرسلها هو، لأصبح كاتبًا للأطفال، بل تنازل عن كتابة سيناريو للتليفزيون للأطفال لأكتبه فصرت كاتبًا للسيناريو.

 وحين غادرتني شلة المحلة للقاهرة، كانت شقته بالقاهرة هي بيتي، شاركت في الندوات، ودخلنا المسرح والسينما، دائمًا أرمقه بعين فرح، وهو أبدًا لم يتخلَّ عني، لم ينسني، يدور في بلاد الدنيا ويرجع لألقاه، وقد صرنا عجوزين، لكنني معه أظل نفس الصبي والشاب الذي تجلجل ضحكته، ويظل هو الذي يضحك حتى يدمع.

 كلما غاب عني أعيش في حالة انتظار غريبة، المنسي على أي حال عاش عمري كاملًا، وفرحي وأحزاني، معًا ودعنا الأباء والأمهات والأخوات لمثواهم الأخير، نتكئ على بعضنا حتى لا نقع، نبتسم ونطبطب على بعض قدر ما نستطيع، إنني في الحادية والسبعين من عمري أخاف ألا يعود، وأرتجف حين أتخيل أنه سيرجع ولا يراني.

جلال أمين.. المزاوجة بين الشرق والغرب

جلال أمين.. المزاوجة بين الشرق والغرب

هل كان جلال أمين (1935- 2018م) يعيش أزمة المزاوجة بين الشرق والغرب؟ لعل هذا السؤال أكثر ما يشغلنا ونحن نطالع مسيرته الطويلة، تلك المسيرة التي انطلقت من بيت والده المفكر الكبير أحمد أمين، الذي استحوذت أعماله «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» وسيرته الذاتية «حياتي» على اهتمام الكثيرين في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد ولد جلال عام 1935م ضمن ثمانية من الأشقاء، وحصل عام 1955م على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، لكنه سرعان ما تجاوز هذه البداية الشرقية المرتبطة بفجر الإسلام وضحاه لينتقل إلى الغرب، حيث أقام مدة عشر سنوات كاملة في عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، حيث لندن عاصمة الضباب، وحيث حصل من مدرسة اقتصادها الشهيرة على شهادتي الماجستير والدكتوراه، وزاد في توثيق علاقته بها إلى حد المزاوجة فتزوج من إحدى فتياتها، ليعود بها فيما بعد إلى الشرق، متوقعًا أن يكون ذلك الجسر الرابط بين الشرق والغرب.

لكنه عام 1965م يعود إلى القاهرة، ليصبح مدرسًا للاقتصاد في كلية الحقوق بجامعة عين شمس، وسرعان ما حلق نحو الشرق أكثر، فكان مستشارًا للصندوق الكويتي للتنمية عام 1974م، ويظل هناك حتى يناديه الغرب من جديد عام 1978م، فيسافر إلى ولاية كاليفورنيا الأميركية ليعمل أستاذًا زائرًا في جامعتها، إلا أنه في العام التالي يعود لكن ليصبح أستاذًا للاقتصاد بالجامعة الأميركية في القاهرة، ويظل في هذا الموقع حتى رحيله في 25 سبتمبر الماضي.

هذه المسيرة التي امتدت ثلاثة وثمانين عامًا شهدت العديد من المحطات، وقدمت الكثير من المنجزات، لكنها قامت على ركيزة أساسية هي العلاقة التي تجمع بين الشرق والغرب، فتعددت الكتب التي انطلقت من هذا المرتكز، وسعت لفهم وتحليل هذه العلاقة، ومن بينها (وصف مصر في نهاية القرن العشرين، وعولمة الفقر، وعصر الجماهير الغفيرة، وعصر التشهير بالعرب والمسلمين، وخرافة التقدم والتأخر، وماذا حدث للمصريين، وفلسفة الاقتصاد، ومصر والمصريون في عهد مبارك، والمثقفون العرب وإسرائيل، وثلاث سير ذاتية (ماذا علمتني الحياة- رحيق العمر- مكتوب على الجبين). هذه الأعمال التي شغلت بمعرفة ما حدث لمصر تحديدًا، مصر التي سعى الخديو إسماعيل لجعلها قطعة من أوربا، ودرج خلفاؤه من بعده على هذا النهج، حتى وهي بلد محتل من الإنجليز، فما الذي حدث لها ولأهلها من تغيرات اجتماعية واقتصادية أثرت فيهم وأخرجتها وأخرجتهم من المضمار الذي كانت وكانوا يسيرون فيه.

لم يتوقف سؤال جلال أمين عما حدث للمصريين فقط، لكنه امتد للشرق ككل، الشرق المسلم العربي، الذي كان من الصعب السؤال عما حدث له، ولكن ما الذي يمكنه الدفاع به عنه، فجلال أمين لم يكن غربيًّا بامتياز، فقد جذبته أصوله المحافظة، وجعلته في مواجهة الغرب حين أعلن حربه على الإسلام، فكتب «عصر التشهير بالعرب والمسلمين»، وسعى لإنهاء أسطورة التقدم والتأخر من جذورها، فرفض أن يكون هناك أمة متأخرة وأخرى متقدمة، فلكل أمة مقاييسها في التقدم والتأخر، ومن ثم فكل ما يدور عن التقدم والتأخر بين الأمم هو خرافة.

ظل جلال أمين يراوح طيلة مسيرته بين الجذور والآفاق، وبين الأب المثقف الشهير برؤيته الإسلامية والعروبية، وبين الابن الساعي للخروج من هذه العباءة، الذي اتصل بالغرب وتعلم على أيديهم وتزوج من بينهم، ومارَس دوره بوصفه الجسر الرابط بين الشرق والغرب في الاقتصاد والاجتماع، هذا المأزق الذي كشف عنه جلال أمين نفسه في سيرته التي تعددت إلى ثلاث سير، والتي أعلن فيها أنه لم تعجبه سيرة والده «حياتي»، وفضل عليها سيرة طه حسين «الأيام»، وأن والده كان يمليها عليه بعدما ضعف بصره، والده الذي مثل له فكرة الدكتاتور، والذي لم يحب أمه، أمه التي لم تحب والده بقدر ما أحبت ابن خالها، أمه ووالده اللذان لم يحب أحدهما الآخر وفقًا للمقاييس الغربية لكنهما أنجبا عشرة أولاد، عاش منهم ثمانية، كان من بينهم جلال، جلال الذي لم يرث والده في الأدب، لكنه سعى للتوفيق بين ما تعلمه في علم الاقتصاد وبين رغبته في أن يكون مفكرًا كوالده، فأنتج نموذجًا جديدًا في علم الاقتصاد، هو علم الاقتصاد الاجتماعي أو علم الاجتماع الاقتصادي، فلم يقدم لنا عالم الأرقام الجافة الميتة بحسب تعبيره، لكنه قدم أثر الاقتصاد في البشر، وكان معنيًّا بالتغير البشري الاجتماعي عبر خلفية اقتصادية.

لكن ذلك كله لم يكن كافيًا ليكون هرمًا موازيًا لأحمد أمين، فعالم الأدب أكثر إغراء؛ لذا كان لا بد أن يكتب في الأدب، يكتب عن الأعمال التي أحبها، واتفقت مع ذائقته وروحه، وتغازله جائزة البوكر العربية وتأتي به رئيسًا للجنة تحكيمها عام 2013م، ويزداد ولع المفكر الاقتصادي الكبير بالأدب، ويروج لكتابات عادية وربما سطحية، ويسعى لأن يكون ناقدًا أدبيًّا إلى جانب كونه عالمًا في الاقتصاد، ليكشف عن ذوقه الإسلامي المحافظ في الأدب، وهو ما جعله في مواجهة المثقفين.

في حواره مع الفيصل تراجع عما كتبه في مذكراته، وتفضيله «الأيام» لطه حسين على «حياتي» لأحمد أمين، وبرّر ذلك بأن هذه كانت وجهة نظره وهو شاب، وزاد في الأمر أن قال: إن طه حسين كان عميدًا للأدب في زمن كان فيه الاهتمام باللفظ أكثر من المعنى، ورفض أن يقال عنه مفكر لأن الجميع يفكر. حاز الراحل جلال أمين في عام 2013م جائزةَ الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، ومنحه مبارك وسام الاستحقاق في العلوم والفنون، كما فاز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عام 2017م، وجائزة سلطان العويس عام 2010م.

عامر التوني: المستقبل للموسيقا الصوفية فقط أغنياته جمعت ما بين التراث الفرعوني والإسلامي والصوفي

عامر التوني: المستقبل للموسيقا الصوفية فقط

أغنياته جمعت ما بين التراث الفرعوني والإسلامي والصوفي

عُرِفت‭ ‬المولوية‭ ‬بأنها‭ ‬طريقة‭ ‬الأداء‭ ‬الصوفي‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬مولانا‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬قونية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬وانتشرت‭ ‬بوصفها‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬السماع‭ ‬والأداء‭ ‬الحركي‭ ‬حيث‭ ‬الدوران‭ ‬حول‭ ‬الجسد،‭ ‬بما‭ ‬يمثله‭ ‬من‭ ‬رمزية‭ ‬الأحادية‭ ‬والتوحيد‭ ‬حين‭ ‬يقف‭ ‬الراقص‭ ‬رافعًا‭ ‬يديه‭ ‬بشكل‭ ‬متقاطع‭ ‬مع‭ ‬جسده‭ ‬وسط‭ ‬الحضرة،‭ ‬ورمزية‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭ ‬حين‭ ‬يرفع‭ ‬الراقص‭ ‬يدًا‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬كأنه‭ ‬يأخذ‭ ‬منها،‭ ‬ويده‭ ‬الثانية‭ ‬تميل‭ ‬نحو‭ ‬الأرض‭ ‬كأنه‭ ‬يعطيها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬عُرِفت‭ ‬العباءة‭ ‬السوداء‭ ‬بأنها‭ ‬القبر،‭ ‬واللبدة‭ ‬الصوف‭ ‬كشاهد‭ ‬للقبر،‭ ‬والملابس‭ ‬البيضاء‭ ‬بوصفها‭ ‬النقاء‭ ‬الذي‭ ‬ينتقل‭ ‬إليه‭ ‬المُريد‭ ‬أو‭ ‬الراقص‭ ‬حين‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬علائق‭ ‬الدنيا‭ ‬وأسبابها‭. ‬وبينما‭ ‬يدور‭ ‬المريدون‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬فإن‭ ‬الشيخ‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬المنتصف‭ ‬منشدًا‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬أو‭ ‬نافخًا‭ ‬في‭ ‬نايه‭ ‬ليهذب‭ ‬الروح‭ ‬وينميها،‭ ‬ليمضي‭ ‬الثلث‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬السلام‭ ‬الملفوف‭ ‬حسبما‭ ‬يقول‭ ‬الفنان‭ ‬عامر‭ ‬التوني‭ ‬مؤسس‭ ‬المولوية‭ ‬المصرية،‭ ‬الذي‭ ‬أقام‭ ‬عشرات‭ ‬الحفلات‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بلدان‭ ‬العالم،‭ ‬وأدخل‭ ‬إضافات‭ ‬تأثرت‭ ‬بها‭ ‬المولوية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان‭.‬

يقول عامر التوني لـ«الفيصل»: إن المولوية تبدأ حلقة ذِكْرها بالسلام الملفوف، حيث الإنشاد من دون إيقاع، ثم الإنشاد على إيقاع بطيء يعرف بالصمودي الكبير، بعده يرتفع الإيقاع إلى ما يعرف بالإيقاع المقسوم، ثم تزداد سرعة الإيقاع إلى نهايته، وهو ما يعرف بالإيقاع الملفوف، وهذا التركيب بتصعيداته يعرف بالسلام المولوي. هكذا كانت المولوية التي أسسها صاحب المثنوي جلال الدين الرومي، أو حسبما قيل إنه تعلمها من أستاذه شمس الدين التبريزي، ومن ثم انتقلت كطريقة صوفية قائمة على السماع من قونية إلى الهند وسوريا ومصر والمغرب، وظلت تعرف في التكايا وحلقات الذكر بالمولوية، نسبة إلى مولانا جلال الدين.

وفي الوقت الذي بدأ يتقلص فيه حضور المولوية حتى في تركيا نفسها، إذ حظرت الأخيرة الطرق الصوفية على أراضيها، ولم تبق إلا على المولوية كنوع من الفلكلور، في ذلك الوقت، وتحديدًا في منتصف التسعينيات، ظهرت فرقة المولوية المصرية التي أسسها المغني والملحن عامر التوني، والتي احتفت بتراث المولوية وانتشرت به في مختلف بلدان العالم، حتى إنها أقامت حفلات في أكثر من ستين دولة، بداية من الهند وبنغلاديش وباكستان وتركيا وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر وتونس وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها، وأنتجت وفق ما قال أكثر من ثلاثة أقراص مدمجة محملة بعشرات الحفلات التي غُنِّيَ فيها لكبار المتصوفة، بداية من الحلَّاج والسَّهْرَوَرْدي والرومي ورابعة العدوية وغيرهم.

الدوران حول الجسد

أصرَّ التوني على تسمية فرقته بالمولوية المصرية، موضحًا أن مصر عرفت المولوية قبل جلال الدين الرومي وزمنه بمئات السنين: «فقد عرف المصريون القدماء الدوران حول الجسد في رقصاتهم التعبدية في المعابد، كما عرفوا السماع سواء لآلات النفخ كالمزمار أو الإيقاع كالدف والرق، فضلًا عن التراتيل التي كانت تتلى لإرضاء الآلهة. وكان ذلك كله يدور في مكان مخصص للعبادة أو التعبد بشكل احتفائي، وهو الشكل نفسه الذي وضعه الرومي في جلسات ذِكْرِهِ، بداية من استخدام أدوات الموسيقا وصولًا إلى الذِّكْر وقصائد الوَجْد مرورًا بالرقص والدوران حول الجسد، ومن ثم فهذا التراث به جانب مصري، ولم يبتكره جلال الدين الرومي وقتها، لكنه استقاه من الحضارات السابقة عليه، والمعاصرة له في وقته، ومن ثم فنحن لا نقدم المولوية التركية ولكن المولوية المصرية».

ويذهب التوني إلى أنه أضاف للمولوية الجانب الأصيل الذي لعبت عليه الحضارة المصرية القديمة وهو اللون، «تم تفكيك اللون الأبيض إلى الألوان السبعة المشكِّلة لقوس قزح المصري، حيث شعاع الشمس المحتفى به في الثقافة المصرية، ومن ثم حملت تنورات الراقصين وصدرياتهم ألوان قوس قزح، ولاقت قَبولًا في مختلف بلدان العالم، حتى إن الأتراك أنفسهم تأثروا بها، وأدخلوا الألوان على ملابس راقصيهم». من ناحية، يرفض التوني القول: إن المولوية هي التنورة، موضحًا أن التنورة ليست للتعبد ولا التصوف، «لكنها شكل استعراضي يؤدى في الشارع حيث افتتاح المعارض والمحلات وحفلات الزواج وغيرها، أما المولوية فهي شكل صوفي تعبدي، لا بد أن يكون للمكان خصوصيته، فالمُنشِد أو المغني أو الراقص يسعد بحال وَجْده، والجمهور الذي يشاهده لم يأتِ ليراه ولكن ليسعد معه بحاله، ومن ثم فهو لا يقوم على إمتاع الجمهور كما في التنورة، ولكنه يقوم على السعادة بحاله الصوفي، والجمهور يسعد معه بهذه الحال».

المولوية التركية مجرد تنورة

ويقول التوني: إن المولوية التركية الآن أصبحت تنورة وليست مولوية؛ «لأن الأتراك حظروا عمل جميع الطرق الصوفية، وحين سمحوا للمولوية أن تعمل كان من باب الفلكلور وليس التصوف، كما أن الذين يقومون بالمولوية هناك الآن هم رجال ليسوا من المتصوفة، ومن ثم فالحال الذي نبحث عنه في المولوية غير موجود، ولم يبقَ سوى الشكل الاستعراضي، أي التنورة». ويشير إلى أن الحفلة لديه يشارك فيها ما بين سبعة عناصر واثني عشر عنصرًا، وذلك حسب اتساع المكان وضيقه، وأنهم يتوزعون ما بين موسيقيين وراقصين فضلًا عنه هو بوصفه المُلحِّن والمغني والقائم على اختيار القصائد المغناة ومؤسس الفرقة ودليلها الرُّوحي. ويوضح أنه بصفته أحد أبناء الصعيد فقد نشأ على السماع في حلقات الذِّكْر، حيث تنتشر الطرق الصوفية في الصعيد ما بين الشاذلية والرفاعية والبيومية وغيرها، وحيث يُستعمَل الجسد في أثناء الذكر بالتمايل والدوران حوله، وحيث تتنوع أساليب كل طريقة في أدائها وطقوسها، كل هذا جعله ينتبه إلى القصائد الصوفية وإلقائها وسماعها وغنائها، فلما دخل الجامعة حرص على أن يكون في قسم اللغة العربية، وكانت القصائد والمعلقات التي عليه حِفْظها كثيرة. ويذكر أنه حصل على دبلوم دراسات عليا من أكاديمية الفنون، ثم ماجستير في المسرح العراقي، ثم دكتوراه في المولوية من أكاديمية الفنون أيضًا. وفي عام 1994م كان مالكًا لشركة إنتاج أعمال فنية، ولم يكن في مخيلته أنه سيبتكر المولوية المصرية، لولا أن المشيئة الإلهية أرادت أن تتوقف شركة الإنتاج، ويظهر له في الأفق فجر المولوية، فاستدعى تراثه المصري القديم والصوفي في الصعيد، والثقافي في تركيا وإيران إبَّان القرون الوسطى، وقدراته على الغناء والتلحين ومعرفته الجيدة بالشعر وقصائد المتصوفة الكبار، فكانت بداية الطريق التي عوضته عن كل شيء، وفتحت له آفاق العالم أجمع.

ويلفت عامر التوني إلى أنه يسافر بفرقته إلى الخارج عبر ثلاث طرائق هي، إما دعوة رسمية له من وزارة الثقافة لتمثيل مصر بالخارج، أو دعوة مباشرة له من الخارج لإقامة حفلة، أو أن يذهب هو فيؤجِّر مسرحًا ويعلن عن حفلته ويبيع تذاكره لجمهوره، وهذه الطريقة هي الأمتع والأسهل والأربح بالنسبة له. لكنه في كل الحالات ليس باحثًا عن الربح، كما يقول، بقدر ما هو باحث عن السعادة بحاله في أي مكان. أما الآلات الموسيقية التي يستخدمها، فهي: «كولة» (آلة مصرية تشبه الناي)، والعود، والقانون، والدف، والطبل، و«كاخون» ( آلة إيقاعية)، و«دجمبي» (آلة ذات صوت عالٍ بديلة عن الدرامز). ويؤكد التوني في ختام حديثه أن المستقبل سيكون للموسيقا الصوفية؛ «لأن كل الفنون التي تُقدَّم الآن هي فنون مادية، ولا يوجد محتوى روحي إلا في الموسيقا الصوفية».

التحول من الشفاهية إلى الكتابية لدى كتاب القرون الوسطى العرب وضعوا البذور الأولى للرواية والقصة القصيرة

التحول من الشفاهية إلى الكتابية لدى كتاب القرون الوسطى

العرب وضعوا البذور الأولى للرواية والقصة القصيرة

يعتقد الكثيرون أن الرواية التاريخية بدأت مع السير والتر سكوت (1771 – 1832م)، لكن الروائي والمؤرخ الإنجليزي روبرت إروين يرى أنها بدأت بكتاب ابن زنبل الرمال «انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان». هذا الكتاب الأقرب إلى فكرة الرواية التاريخية وفقًا لمفهوم لوكاتش عنها، وفيه رصد ابن زنبل زوال دولة المماليك وبداية حكم العثمانيين لمصر. لكنه رغم احتفائه برومانسية المماليك في الحرب، وفكرتهم التي تنتمي إلى بداية القرون الوسطى عن الأسلحة واستخدام الرسول والصحابة لها فإنه لم يخفِ تقديره للعثمانيين. وأخلص في عمله لرصد الدوافع النفسيه لأبطاله أكثر من إخلاصه لذكر الحقائق والوقائع التاريخية، واهتم برصد الحوار الشفاهي بين الشخوص، كأنه كتب عمله من أجل أن يقوم بتمثيله حَكّاء في مقهى، ولم ينسَ كثيرًا من الموضوعات والثيمات التي انشغلت بها ملاحم كالإلياذة أو السير الشعبية، وهو ما جعله أول عمل روائي تاريخي، يمكن أن تنطبق عليه مواصفات لوكاتش عن الرواية التاريخية، كما يتفق مع مواصفات إي. إم. فورستر عن الرواية في ولعها ورومانسيتها واهتمامها بالشخصية والحوار، وميلها للتوضيح لا الإخبار، واستخدام الحدث الدرامي والقدرة على تلوين الصورة اللفظية، فوظيفة الكاتب هي كشف الحياة الخبيئة في مصدرها، كأن يحكي عن الملكة فيكتوريا أكثر من المعروف، وأن ينتج شخصية ليست الملكة فيكتوريا التاريخية، وهو ما فعله ابن زنبل في كتابه «انفصال».

تذخر الثقافة العربية في القرون الوسطى بالعديد من أشكال التعبير التي ابتكرها العرب، لينتجوا من خلالها فنونهم وأفكارهم ومواقفهم من العالم وقضاياه، هذه الأشكال والفنون التي تَوفَّرَ مجموعة من الباحثين الغربيين على دراستها في مختلف المنجز الثقافي العربي، منتجين واحدًا من أهم المراجع التي درست العقلية العربية في القرون الوسطى، وهو كتاب «الكتابة وأشكال التعبير في إسلام القرون الوسطى – آفاق المسلم» ترجمه مؤخرًا الشاعر المصري عبدالمقصود عبدالكريم عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، وقد عقدتْ محررتُه جوليا براي اجتماعًا أو أكثر مع الباحثين المشاركين للتأكيد على ما تريده من الكتاب وهو «ماذا رأى مسلمو القرون الوسطى حين تطلعوا إلى عالمهم وتأملوا مجتمعهم وتاريخهم وثقافتهم، وكيف وصفوها، وكيف أدركوا النمط والمعنى، وكيف ناقشوا المحاور التي سيعكف كل منهم على دراستها، وأوضحوا لقرائهم الفارق بين الظاهر والحقيقة الكامنة وراءه؟».

الحقيقة والاختلاق

توقف المؤرخ والأثري روبرت هولاند في دراسته للتاريخ والقصة والتأليف أمام فكرة الحقيقة والاختلاق، وذهب إلى أن العقلية العربية فضلت الحقيقة على الاختلاق، قائلًا: إن تجمعًا من رواة الشعر التقوا في قصر الخليفة المهدي، فسألوا كلًّا من المُـــــــــفَـضَّل الضَّبِّيّ وحَمَّاد الراوية عن السبب الذي جعل زهير بن أبي سُلْمى يبدأ قصيدة له من منتصف موضوعها، فقال المُـــــــــفَـضَّل: إنه ما سمع بهذا، في حين قال حَمَّادٌ: إن هذه ليست بداية القصيدة، وأنشد الخليفةَ ثلاثةَ أبياتٍ على أنها الافتتاحية الحقيقية، لكنه تحت ضغط من المهدي اعترف بأنه مختلِق الأبيات، فأمر المهدي له بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأمر للمفضل بخمسين ألف على صدقه وصحة روايته.

استخدم هولاند هذه الحكاية للتدليل على تفضيل العقلية العربية للحقيقة أكثر من الاختلاق، وهو ما جعل رؤاهم الإبداعية تتسرب في كتابات من المفترض أنها تتعامل مع الحقيقة لا الخيال، في رواية الشعر الذي توثق المعرفةُ -من خلاله- البلاغةَ القرآنية، ثم رواية الأحاديث عبر تتبُّع سِيَر رواتها الثقات، ثم سرعان ما ظهر رواة الأخبار الذين يستخدمون منهج الأسانيد نفسه وربما المصادر نفسها كي يُقبِلَ الناسُ على بضاعتهم. لكن إذا كان ثمة شَعرة بسيطة بين الحقيقة والاختلاق أو الخيال فإن هذا لا يعني عدم وجودها، كما لا يعني أيضًا أنها تَحُولُ بينهما، وهذا ما تجلى في تدوين العرب لأساطير الخلق وبداية العالم ونهايته، وهو ما جعل من التاريخ لدى المؤرخين العرب الذين عمل أغلبهم مسؤولين حكوميين في بلاط الملوك والأمراء مصدر إلهام سياسي وأدبي أكثر من كونه رصدًا لحقيقة واقعية. ومن ثم تجلَّت فيه الكثير من عناصر القص كالحبكة الدرامية والبنية التفسيرية والأبعاد الملحمية والشخصيات البطولية كخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهما، وهو ما نجده في كتابات الطبري وابن كثير ومحمد بن عبدالله الأزدي في كتابه «فتوح الشام».

ومن أكثر الأعمال التي اقترب فيها الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال كتاب «البخلاء» للجاحظ، فقد طلب منه أن يذكر نوادر البخلاء واحتجاج الأشحاء، فأنجزه بشكل رائع، عارضًا حشدًا من الشخصيات الغريبة للبخلاء المضحكين. ومن المفترض أنه مجموعة من الأخبار الحقيقية عن هؤلاء البخلاء، لكن من يقرأْه يعرفْ كيف استخدم الجاحظ هذه الروايات أو الأخبار للنيل من الطبقة الغنية الناشئة في العراق، وذم العجم الذين يتقابل اهتمامهم بالثراء مع فضائل العرب في الكرم وحسن الضيافة، وهو ما يجعل المسافة بين الحقيقة والخيال قِيدَ شَعرةٍ، ويجعل من أسانيد الروايات ستارًا لتقديم رؤية إبداعية خاصة. وعلى هذا النهج أو ربما أكثر تطورًا جاء كتاب «الغرباء» المنسوب إلى أبي الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني، والمرجح أنه لكاتب آخر مجهول، وفيه حكايات عن الذين عاشوا في الغربة، ومن ثم حكاياته ليست عن مشاهير، وليست سوى فكرة دفعت مؤلفها لإعمال خياله تحت ستار الحقيقة لإنجازها، ليقدم كتابًا عن الغرباء وحكاياتهم، وقد نسبه الناس للأصفهاني نظرًا لتشابه المنهج الذي اتبعه في كتابه الأغاني، لكن صاحب «الغرباء» تخلص من كثرة الأسانيد التي طالما استخدمها الأصفهاني لمراعاة الشَّعرة الفاصلة بين الحقيقة والخيال.

مكتبة بيت الحكمة .. أعظم مكتبات العصور الوسطى

كتابات المرأة

لعل أبرز ما يؤخذ على الثقافة العربية في القرون الوسطى أنها لا توجد بها كتابات للمرأة، فالمرأة كمؤلفة غير موجودة في هذه الثقافة، لكن أستاذة الأدب الفارسي في جامعة أوكسفورد جولي سكوت ميسامي تنفي هذا الاتهام، وتعدّه غير واقعي؛ لأن المرأة لعبت دورًا كبيرًا في رواية العديد من الأخبار، بداية من شهرزاد في ألف ليلة وليلة وغيرها من الأعمال التي مثلت التيار الرئيس للخطاب العربي الإسلامي بحسب فدوى مالطي دوغلاس مؤلفة كتاب «جسد المرأة كلمة المرأة»، ومن هذا التيار كتاب ابن البتنوني «مكايد النسوان»، وكتاب ابن طفيل «حي بن يقظان». وترى سكوت أن ما حدث من فتنة أهلية في بداية الدولة الإسلامية في موقعة الجمل، نقل مفهوم الفتنة من الحضور الجسدي للمرأة إلى الحضور السياسي والاجتماعي، ومن ثم استبعاد المرأة من الواجهة السياسية، لكن ذلك لا ينفي حضورها كعامل محرك للأحداث ومؤثر فيه على الدوام.

شاءت جوليا براي لكتابها أن يكون في جزأين؛ الأول رصدت فيه العلاقة بين الحقيقة والخيال، والثاني منحته اسم «المظهر والحقيقة»، ليكون ظاهر الكتابة غير باطنها، ومن أبرز كتابات هذا المنحى «البيان والتبيين» الذي اهتم به أستاذ اللغة العربية بجامعة كمبريدج جيمس مونتغمري، الذي وصل إلى أن اللغة العربية لدى مفكري القرون الوسطى لغة مقدسة، فقد كان النحو شقيقًا للفقه، فكلاهما محاولة للمشاركة في الإلهامات الدينية، وقد نشأ النحو لمنع الأخطاء في اللغة، لأنها لغة القرآن، فالخطأ فيها يعد مروقًا، ومن ثم ظهر النحو، كما ظهرت فيما بعد الرسائل التي تفضح لحن العوامّ، وتعددت أسماء النحويين، وقدموا أعمالًا في هذا السياق، وكانوا يعدُّون من يَلْحَن في اللغة غير مكتمل الأخلاق، ومن ثم ترك الجاحظ في كتابه «البخلاء» أخطاء البخلاء في اللغة من دون تصحيح؛ لأنهم غير مكتملي الأخلاق، ومن ثم فإنهم يلحنون في اللغة.

تعامل مونتغمري مع الجاحظ بوصفه نموذجًا بلاغيًّا، ووصف «البيان والتبيين» بأنه خلاصة موسوعية وافية عن العرب والعلوم الإنسانية العربية، وأنه يهتم بتوضيح البراعة اللغوية والبلاغية للعرب، وكانت نية مؤلفه إبراز أن العرب متفوقون من دون شك على غيرهم في مجالي الشعر والبلاغة، وهدفه هو تعليم الذوق العربي للجميع، ووضع أسس للتعبير عن مبادئ النقد الأدبي، ومن ثم فهو عمل جدلي في احتفائه باللغة العربية وتوجهه ضد الشعوبية، ويحفل بالدفاع عن التيار الديني الذي ينتمي له الجاحظ، وهو المعتزلة، في مواجهة الجبرية والجهمية، ومن ثم أفرد فيه مساحات للحديث عن واصل بن عطاء ووصفه بالغَزَّال، كما أفرد مساحات أكبر للحديث عن حروف الهجاء التي من المحتمل أن يكون بها لثغة كالتي يعانيها المؤلف نفسه، وعلى عكس ما يرى الناس كون البيان والتبيين كتابًا أدبيًّا فإن مونتغمري يرى أنه ينتمي إلى الأعمال السياسية الدينية، وهدف منه الجاحظ إلى الدعاية للعباسيين والعرب من جهة، ومناصرة المعتزلة ومذهبهم من جهة أخرى.

المقامة

لم يكن لمرجع مهم عن أشكال التعبير في القرون الوسطى التي سيطرت عليها الثقافة العربية أن يتجاهل وجود المقامة، كأحد أهم الفنون التي ارتبطت بالثقافة العربية، والتي بدأت مع بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، لتشهد ذروة نشاطها الإبداعي بعد قرن ونصف على يد الحريري، وما بين الرجلين مر العديد من الكُتاب الذين اندثرت أعمالهم، ومن ثم توقف أستاذ اللغة العربية بجامعة نيويورك فيليب كيندي أمام ما كتبه المغربي عبدالفتاح كليطو في كتابه «المقامات»، ومن خلال التداخل النقدي بين ما كتبه كليطو وما كتبه جيمس مونرو في «فن بديع الزمان الهمذاني بوصفه قصة تشرد» يتضح لنا أن المقامة هي فن القصة القصيرة، ولكن في فجرها الأول، وأنها إما كانت على لسان الكاتب نفسه أو على لسان راوٍ يروي عنه الكاتب، وأن موضوعاتها تبدو كعِظَةٍ أخلاقية لكنها في حقيقة الأمر قصص إنسانية، بعضها احتلت البطولة فيه الرحلة أو المكان أو الحج وطقوسه أو الاختلاط الجنسي أو غيره، وأنها حملت ثقافة كاتبها وانتماءاته الفكرية والمذهبية.

الأكثر دهشة من المقامة وحيلها في السرد هو كشف محررة الكتاب جوليا براي عن أن الثقافة العربية عرفت القصة العلمية والطبية التي اشتهر بها بعض الكتاب مثل «التنوخي» الذي جمع ما بين الكتابة والطب، وسعى إلى نشر ثقافته عبر قصص وحكايات تفننت في عرض ثقافته الطبية، عبر شخوص وروايات وحالات طبية متنوعة، لكنها لم تكن تتمتع بالحبكة الدرامية الواسعة، فضلًا عن تمسكها بستار الحقيقة عبر الأسانيد والمشاهدات.

من الصعوبة القول بأن المخيلة العربية هي التي وضعت أسس كتابة القصة والرواية والمقال في الحضارة الإنسانية، لكنها وضعت إضافاتها على هذه الفنون، منتقلة بها من الخطابة والإنشاد الشفاهي إلى التدوين، والتفكير عبر الكتابية لا الشفاهية، وهو ما جعل العصر الحديث يفتتح أعماله بإنشاء المطبعة، وتسهل عملية النشر، هذه الآلية التي نقلت الثقافة الإنسانية من الأدب الشعبي المجهول المؤلف إلى الأدب الحديث المعلوم المؤلف وعصره وأهدافه ومذهبه الفكري، ومن ثم لا تعود أهمية كتاب (أشكال الكتابة والتعبير في القرون الوسطى) إلى كونه يرصد المسارات التي اتخذها الفكر الإبداعي العربي، ولكن لأنه يوضح كيفية انتقال الفنون الإنسانية من العصور القديمة إلى العصور الحديثة، وهي مرحلة النزول من السماء للسير على الأرض، والتحول من البطل الملحمي إلى البطل المعنيّ بنقد بخل الأثرياء والدفاع عن هويته وقِيمه في مواجهة أفكار الشعوبيين والعجم.

المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث

المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث

لا تكاد الديانات السماوية الثلاث يختلف بعضها عن بعض في الأطر الأساسية لجميع المؤمنين بها، فجميعها تعامل مع أتباعه بالمنهج نفسه؛ أنهم خير الأمم، وأنها خير الرسالات، وهو ما منحهم نوعًا من التميز عن التابعين لأي من هذه الرسالات الأخرى، لكنه أيضًا وضعهم على طريق التصادم الحتمي مع الآخرين، كما جعلهم يبدون للمتابع من الخارج كما لو أن بعضهم تأثَّر ببعض في حركات الإحياء والعودة إلى الأصول، وفي مقدمتها الحركات السياسية التي قامت على مبادئ دينية.

هذا ما انتهى إليه الباحثان هدى الفيتوري وعبدالرحمن فرحات في كتابهما المهم «التأثير اليهودي على الحركات الإسلامية – الإخوان المسلمون والسلفية الجهادية نموذجان» الصادر حديثًا عن دار أروقة للنشر بالقاهرة.

في هذا الكتاب استعرض الباحثان تاريخ الحركات الإسلامية السياسية، مؤكدين أن التاريخ الإسلامي مليء بالعديد من الحركات السياسية التي قامت على أسس دينية، في مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج في العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة ظهرت الوهابية في الجزيرة العربية، والسنوسية في شمال إفريقيا، والمهدية في السودان، والدهلوية في الهند، لكن هذه الحركات لم تكن الأساس الذي قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات، فقد كان التعانق بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية أساس ظهور جماعات الخروج المتوالية في العصر الحديث، بداية من الجهاد والتكفير والهجرة وصولًا إلى القاعدة وداعش وجيش النصرة، فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت منها هذه الجماعات التكفيرية في سبعينيات القرن الماضي، وما زالت تؤتي أكلها حتى الآن في الجسد العربي الذي تحلل من كثرة الخروق فيه.

الجماعات الأكثر تشددًا

قسم الباحثان كتابيهما ثلاثة فصول: درسا في الفصل الأول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات «الدين» و«الأصولية» و«السلفية» و«الإصلاح»، مقارنين بينها من المنظورين العربي والغربي، ففي الوقت الذي تعارف فيه الغرب أن كلمة أصولية تعود إلى المتمسكين بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، سواء لدى البروتستانت أو الكاثوليك، وهو المفهوم الذي تحول إلى مذهب باسم الأصولية المسيحية في بداية القرن العشرين، وأخذ على عاتقه معاداة المجتمعات العلمانية، فإن المنظور العربي لا يكاد يوجد في معاجمه اللغوية مقابل واضح لكلمة أصولية، وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»، وقد اختلف العلماء في تفسير المصطلح؛ إذ ربط بعضهم دلالته بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي، لكنهم في العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه على الجماعات الأكثر تشددًا.

أما مصطلح السلف فقد قصروه على القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، ومنه جاء مصطلح السلفية التي عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى منابعها الأولى)، ومن ثم فكل ما يعود إلى هذه القرون هو من قبيل السلف، لكن هذا المصطلح لم تظهر بوادره إلا في القرن الرابع الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص على التأويل والقياس والرأي، وكان أولهم الإمام أحمد بن حنبل الذي يُعَد حجر الأساس فيما عرف بالسلفية النصوصية، تلك التي تطورت مع ابن تيمية إلى السلفية العقلانية، ثم جاءت السلفية النجدية على يد محمد بن عبدالوهاب، التي رفضت البدع والخرافات التي طرأت على الإسلام، لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت نوعًا من الحذر الشديد من المدنية ومفرداتها.

في الفصل الثاني رصد الباحثان تطور فكر الإسلام السياسي وجماعاته، بداية من جمال الدين الأفغاني الذي سعى إلى إنجاز عمل سياسي عبر الإصلاح الديني، وقد تأثر به مفكرون كثر في مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بين عباءة الأزهر من جانب وعباءة الفكر الأوربي الذي عايشه مع أستاذه الأفغاني، فقدّم رؤية خرج منها من أراد التقدم على أساس الشك والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسين وعلي عبدالرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم، كما خرج أيضًا المتشددون الذين رأوا في منهج السلف طريقهم القويم، في مقدمتهم الشيخ رشيد رضا الذي فتن به حسن البنا، فظهرت على يديه جماعة الإخوان المسلمين في ظل سقوط الخلافة في تركيا، فغازل البنا الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق الأول بأن يكون خليفة المسلمين، لكن ثورة يوليو التي قامت على أكتاف الشيوعيين والإسلاميين معًا سرعان ما انقلبت على الجميع، فدخل الإخوان السجون وكتب سيد قطب كتابة «معالم في الطريق» الذي استقاه من أفكار أبي الأعلى المودودي في باكستان، هذا الكتاب الذي آمن بأفكاره الكثيرون، فظهرت في مصر جماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والفنية العسكرية وغيرها من الجماعات التي رأت في السبعينيات ضرورة الخروج المسلّح على المجتمع، وانتهى الأمر بظهور جماعة القاعدة في الثمانينيات، ثم وصول الإخوان إلى الحكم في مصر عقب ثورة 25 يناير، لكنهم سرعان ما فقدوه لأخطاء عديدة في التجربة وعدم التماسّ مع أرض الواقع.

في الفصل الثالث سعى المؤلفان إلى إيجاد تماسات بين الديانات الثلاث وأتباعها فيما يخص العمل السياسي القائم على أساس ديني، وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه الحركات، فقد نشأت في البدء كحركة علمانية تسعى إلى إقامة وطن لليهود، وهو الأمر الذي يناقض المعتقد اليهودي بأن الشتات سيستمر إلى أن يظهر المسيح اليهودي ويطهر الأرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأتي القيامة، لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم من الحاخامات والمفكرين اليهود المرتبطين بما جاء في التوراة والتلمود، وساعدت الهولوكوست الصهاينة في التفوق على خصومهم الذين أضعفتهم المحرقة، فتحول المعارضون إلى موالين متشددين، ثم إلى حركات متشددة داخل الإطار الصهيوني، هكذا قامت الدولة الصهيونية، وهكذا تحول الجدل بين العلمانيين والدينيين إلى إقامة دولة تمزج ما بين العلمانية والدين المتشدد في إطار واحد.

الغرب ليس بعيدًا من الأصولية

لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية والأصولية، فقد نشأت البروتستانتية على أساس العودة إلى النص الإنجيلي فقط، ولا حاجة إلى تفسيرات وتأويلات البابوات والكهنة، وانتصر البروتستانت نظرًا لرغبة الأمراء والملوك في تقليص سلطات الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت الثوريين تحولت رؤاهم فيما بعد إلى تكلس حرفي في شرح النصوص والتعامل معها، وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إلى التمسك الحرفي بالنص، وكان الطرح المشترك لدى المتشددين في الديانات الثلاث هو الإيمان بأنهم خير أمة، وأن فكرتهم هي الفكرة الجامعة المانعة، وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات، وأن ما سيأتي هو المهدي أو المسيح الذي سينتصر على الظلم ويقيم العدل، وأن النص ليس بحاجة إلى تأويل أو قياس.

هكذا تشابهت اليهودية مع المسيحية مع الإسلام في البنيات الأساسية المنتجة للمتشددين الراغبين في إحياء أصول الدين، والعودة إلى السلف الصالح، لإقامة دولة العدل القوية، وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد، والرغبة في بعث السلف الصالح من مرقدهم عبر تمثل أقوالهم وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة، لكن ذلك كله لا يقول بأن ثمة تأثيرًا واضحًا من اليهودية والمسيحية في حركات الإسلام السياسي، وإن كان ثمة تشابه في المقدمات والنتائج التي ظهرت مع أتباع كل ديانة.