«زيارة أخيرة لأم كلثوم» لعلي عطا كميتا رواية: الصوتُ رجعُ الصدى

«زيارة أخيرة لأم كلثوم» لعلي عطا كميتا رواية: الصوتُ رجعُ الصدى

الصدى هو رجعُ الصوت. بديهيةٌ يغدو عكسها، بجعل الصوت هو رجع الصدى، مدخلًا للجنون. تنفتح رواية علي عطا الأحدث «زيارة أخيرة لأم كلثوم» (الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة) على اعتماد هذه الفرضية، أو هذا الجنون، بالذات كواقع، إذ تحلّ أصواتٌ متجسدة، هي ترجيع أصداء بعيدة لأشخاصٍ غابوا أو على وشك الغياب: «تكرر استيقاظي فجأة على صوت واضح لشخص أعرفه. يبدو من صوته أني أعرفه. يأتي الصوت من ناحية الباب، فأفزع، وأنظر صوبه، فلا أجد أحدًا سواي». مدخلٌ يُرجِّع بطريقته كفافيس: «أصوات خفية، أصوات من رحلوا أو من هم على وشك الرحيل» الذي يطل برأسه متقاطعًا مع مدخلٍ روائي لا يعوزه العُمق الشعري، يؤسس لخطابٍ سادرٍ في الرواية، هو خطاب الجنون.

خطاب الجنون

«ما الكارثة التي يمكن أن يرتكبها إنسانٌ يفقد عقله لبعض الوقت، ثم يعود إليه ثانية أو لا يعود مطلقًا؟ سؤالٌ جوهري، يكاد يكون عصب «زيارة أخيرة لأم كلثوم» في خطابٍ لا يكف عن إعلان إدانته لمنطق مفلس، يحاصر الذات الإنسانية من كل اتجاه، ليعزلها وليُحوِّل الاختلاف إلى مرادف للجنون. من هنا تنطلق الرواية؛ إذ يربط الراوي «حسين» أصواته المتوهَّمة، بفضاءين، سيمسكان بالخطاب السردي كله: تاريخه المرضي المتصل بالذاكرة وموت الخالة المتصل بالحاضر، في روايةٍ هي تهجين لا ينفصم بين الاسترجاع والمشاهدة والاستشراف.

علي عطا

«تكرر ذلك، ففكرتُ أنها ربما رسائل تنبهني إلى ضرورة مراجعة المصحة. أو ربما تكون إشارات إلى قرب رحيل خالتي»: يصدق الحدس بقرب رحيل الخالة، وتُثبت «الإشارة» الباطنية جدارتها بالتصديق، لتكون رواية عطا انتصارًا حاسمًا من سطورها الأولى للباطني/ الغريزي على حساب الظاهري/ العقلاني، مقيمةً تصالحًا مع الفطرة، الفطرة التي خانها الجميع: الواقع، والحب، والصداقة، والمهنة.

الراوي، الذي ينتمي للمفارقة لحي تحتل بؤرة اسمه «عزبة عقل»، المفردة التي خاصمها أو خاصمته، ويخوض – في بحثٍ رمزي، عن مصدر الاسم والشخص «عقل» الذي نُسب إليه اسم مسقط رأسه – رحلة من الغريزي للثقافي على المستويات كافة، تنتهي بردته العنيفة وانقلابه على المؤسسة العقلانية لتوسم هذه الردة بالجنون. يده تتحوّل من تمتين الأقفاص (فعل جسدي) لتمتين الكلمات (فعل ذهني)، مثلما يتنقل من طفولته ابنًا لطبيعة «جزيرة الورد» إلى نضجه في اصطناعية مدينة الخرسانة، ومثلما يتحوّل من حب الغريزة لمؤسسة الزواج، التي تجسدها الهوة بين تحية الدنيا «صباح الخير» وردها بتحية السماء «وعليكم السلام». انتقالاتٌ هي مرايا لنفسها، تنتهي بزيارات متتالية لمصحة «الكوثر»، قابلة دائمًا للزيادة.

هكذا تتحقق «زيارة أخيرة لأم كلثوم» من رحلةٍ نهائية، يوارى فيها جثمانُ الخالة – التي تحمل اسم أشهر مطربة مصرية، وتنتمي لمسقط رأسها نفسه – ثرى التاريخ نفسه، وتصبح تُكَأةً لرواية مراجعةٍ، للذات والتاريخ معًا. نحن أمام رواية سيرية، يكاد فيها الراوي الفني يتطابق مع المؤلف الفعلي في غير موضع، مضيِّقًا المسافة لأقصى حدٍّ ممكن بين الوجه والقناع، مثلما تكاد في بعض تماساتها مع الواقع أن تحيل صراحةً، حتى في أسماء شخصياتها المتخيلة، إلى شخصيات حقيقية، من شخصيات عامة وأدباء وصحفيين. كذلك الأمكنة التي حصلت على أسماء «تمويهية» كجريدة «عرب اليوم» أو «وكالة أنباء المحروسة»، لا يصعب ردها لأسمائها الحقيقية. «التمويه بالتخييل» هو حيلة رواية التأريخ السيرية، ونحن هنا أمام رواية لا تتأفف من مزج التخييلي بالتقريري والتوثيقي، لتكوّن بنيةً مراوحة، لن تلبث أن تتجاوز الإيهام الروائي إلى التعرية الميتا روائية.

البنية تحاكي الذاكرة

تنهض «زيارة أخيرة لأم كلثوم» على الفتات: فتات واقع وفتات بشر، فتات تاريخ وفتات سيرة وفتات ذاكرة. ليس ذلك فقط ما يمنحها مادتها، وإنما يُكسبها بنيتها نفسها.

نحن أمام نصٍّ يجافي، عمدًا، بنية المحكية المنسجمة، يخاصم التماسك، النقلات المنطقية المتوقعة، والاطّراد الخطي للحدث. كل محكية هنا تُبتر في موضع لتستعاد في موضعٍ لاحق، فلا وجود لمحكيةٍ تكتمل في حينها. حكاياتٌ مبذورة في عشوائيةٍ ظاهرية، ما تلبث أن تلتمّ في سياق فسيفسائي لتعكس صورة واسعة، ليس فقط لتحولات البطل/ السارد وإنما لتحولات مدينة هي المنصورة، ومن ثم لتحولات بلد هو مصر، وبالذات منذ وصول السادات للسلطة حتى الآن. الحدث المركزي (موت الخالة) ليس إلا خيطًا نحيلًا يمشي عليه السارد فوق حشدٍ من شخوص ووقائع. وبين قوسي توجُّه الراوي للمنصورة لدفن خالته المفضلة، ودفنها، (ما يجعل الزمن الروائي بعض يوم) تفيض المحكياتُ على ضفتي الحدث، لتغذيه بمجمل سياقاته، ولتوسّع عمل الرواية من رواية سيرة إلى رواية تأريخ.

ثمانية وستون فصلًا قصيرًا موزعة على أقل من مئتي صفحة، إنها ترجمةٌ تكوينية لفكرة الفتات. فصولٌ مثل ضربات سريعة لفرشاة، بنقلات زمانية ومكانية حادة ومفاجئة، تكاد تكون محاكاةً لطريقة عمل الذاكرة: نقلاتها وفجواتها، فجائيتها وابتساراتها، تقنية «المزج» التي تؤلف بين وقائع لا يربطها رابط ظاهريًّا، وطريقتها الخاصة في الاستعادة بانتقائيةٍ خاصة لا يحكمها قانون الزمن التعاقبي بل قانون العلاقات المكانية بين واقعة وأخرى، ليصبح التجاور وليس التعاقب هو البطل في طريقة تشكل الحدث، وهو بالضبط المنطق الشعري. حتى يوميات الراوي المؤرخة بتواريخ كتابتها، لا تحضر روائيًّا حسب تواريخ تدوينها.

«الذاكرة»: إنها سؤال هذا النص المؤرق، الذي أفسح لنفسه مكانًا بدءًا من عبارة التصدير المجتزأة من غابرييل غارسيا ماركيز: «من لا ذاكرة له، فليصنع له ذاكرة». ونحن أمام بطلٍ لا ذاكرة له، يبحث عن تفاصيله فلا يعثر عليها: «بالتأكيد تقبع التفاصيل في مكان ما في الذاكرة التي تستعصي الآن على التداعي». سيحصل على نصيحة من صديق، أقرب لتأكيدٍ على مقولة ماركيز: «ستقول: استعن بالخيال لسد الثغرات. وسأضحك، قبل أن أنتبه إلى وجاهة الاقتراح». يخشى الراوي التذكر: التذكر «يحتاج بذل جهد. وحتى ذلك لم تكن نتيجته مضمونة». حتى في التفاصيل التي لا يمكن لشخصٍ أن ينساها، كعامٍ وقع فيه طلاقه، ينسى الراوي. إنه يقطع بنسيانه، هو العاجز عن القطع بأي شيء: «يقينًا: لا أتذكر».

الراوي يبحث عن ذاكرته إذن، سواء بإيجادها أو باختراعها، لكنه بالقوة نفسها، للمفارقة، ومع تقدمه في محاولة التذكر عبر الكتابة (التدوين في رحلة مستميتة للانتصار على الشفاهة)، سيفاجئنا باعترافٍ نقيض تمامًا: «بالطبع تؤرقني إلى الآن أمورٌ فشلتُ في نسيانها». بين جحيم التذكر وجحيم النسيان يتحرك حسين، عالقًا بين الرغبة المستحيلة في التذكر والرغبة المستحيلة في النسيان. الراوي، الذي يتساءل «هل كان على أبي أن يترك لي شيئًا مكتوبًا؟»، سيدفعه ذلك للبحث عن ذاكرةٍ بديلةٍ في المدوَّن، مثلما سيدفعه لتحويل ما سيعثر عليه لدى الآخرين إلى تدوينٍ جديد: يوميات ورسائل، ستكون هي العمود الفقري لهذا النص، بقدر ما ستنحو به نحو الميتا سردي.

ميتا رواية تأريخية

«لم أتوقف عن انشغالي بإجراء تحقيق صحفي…. ليس مهمًّا أين سأنشره، ربما أجد له مكانًا يا صديقي في رواية أكتبها أنا». نحن أمام رواية هي في جوهرها تساؤل حول الكتابة نفسها، هي نسخٌ لكتابة، وتعليقٌ على كتابة، وكتابةٌ على كتابة. نصٌّ واعٍ بذاته، وذاتي الانعكاس، وهو ما يجعل من «زيارة أخيرة لأم كلثوم» دون مواربة «ميتا رواية»، تستبدل بإيهام التخييل عكسَ أسئلته وكشف تقنياته داخل النص نفسه.

في موضعٍ مبكر، يخاطب الراوي صديقه «طاهرًا»: «أعلم أن ذلك قد يربكك أنت شخصيًّا، فلربما تفضل اتصال السرد من دون إحالات مربكة». إنه وجهٌ لتعرية البنية التقنية داخل النص الميتا روائي نفسه، لن تلبث أن تغذيه وجوهٌ أخرى، تجعل من عملية تشكيل النص نفسها موضوعًا روائيًّا: «التفاصيل فاتني تسجيلها أولًا بأول في يوميات». من دون أن ينسى الراوي/ الشاعر بالأساس، أن يجعل من سؤال الشعر سؤالًا داخل الرواية عن مدى إمكانية استفادة أحدهما من الآخر وتوظيف أسئلته في لُحمته. إجمالًا، نحن أمام نصٍّ لا يكفُّ عن تعريف نفسه، ومن أجل ذلك فإنه يعمل على نصوصٍ أخرى، ليجعل منها موضوعًا روائيًّا، مذيبًا الثنائية النظرية بين ما هو تخييلي وما هو غير تخييلي، حيث لا يتعالى النص الميتا روائي على الخطاب النظري، بل إنه لا يتحقق من دون جعله جزءًا من السياق التخييلي نفسه. لذلك لا يمكن فصل «زيارة أخيرة لأم كلثوم» عن مجمل النصوص التي تتقاطع معها لتصبح جزءًا من نسيجها، بالتضمين الصريح أو الإحالة أو الإشارة. هذا نصٌّ يمثل التناص عنصرًا جوهريًّا في تكوينه، ومن ثم في قراءته.

تنفتح الرواية على منحيين واسعين: نصوص تخييلية، وأخرى غير تخييلية. على الجانب التخييلي، تحضر نصوص مثل: «صورة عتيقة» لإيزابيل الليندي، «1Q84» لهاروكي موراكامي، «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، «حادث النصف متر وفساد الأمكنة» لصبري موسى، «أنا وهي وزهور العالم» ليحيى الطاهر عبدالله. وعلى الجانب غير التخييلي، هناك مذكرات رفعت السعيد، موسوعة ويكيبيديا، منظمة مراسلون بلا حدود، تقارير إخبارية ومقالات لمؤرخين. بالتداخل مع هذين المنحيين، هناك نصوص الراوي نفسه «غير التخييلية» التي تصبح موضوعًا لروايته، من تحقيقات صحفية، وتقارير إخبارية، ويوميات، وشهادات أدبية، ومنشورات على الفيسبوك، ورسائل إلكترونية.

علينا ألا ننسى أن تكوين الراوي نفسه موزعٌ على المنحيين، فهو الشاعر وهو الصحفي. بل إن الشكل الفني للرواية كلها مبني على كونها مجموعة من الرسائل الإلكترونية للصديق «طاهر»، السوداني المهاجر لأوربا، وبدرجة أقل لشخصيات أخرى منها دعاء وماهر وحسين نفسه الذي ينقسم في بعض المواضع إلى أنا وأنت، أي أن الرواية كخطاب فنّي تنهض بوصفها رسالة، وهو شكل غير تخييلي بالأساس، في تقويضٍ حاسم لهذه الثنائية بين ما هو تخييلي مادته التوهم وما هو توثيقي مادته الحقيقة. من هنا أيضًا تكتسب الرواية ضميرها المهيمن وهو «المخاطب»؛ إذ تبدو أقرب لمناجاة بطلها الدائم هو البعيد، في المكان أو الزمن.

من الليندي يحل سؤال «الذاكرة» مجددًا، عبر اختيارٍ دالّ لرواية موضوعها الذاكرة، ليدعم تساؤلات الراوي: «إن الذاكرة خيال، نختار أكثر ما فيها تألقًا وأكثر ما فيها قتامة، متجاهلين ما يخجلنا». إنها تعريةٌ جديدة للتصور الروائي لهذا النص، تتجاوز حدود الاقتباس أو التضمين إلى كشف الآلية النصية في إنتاج المعنى. «محفوظ» يحضر أيضًا في إحالة لنص محدد هو «أحلام فترة النقاهة»، حيث تمثل الأحلام جزءًا من نسيج نص عطا، وتطل برأسها في مواضع عدّة، كاشفةً عن الوعي الباطن للراوي من دون وسيط. ومثلما يرى الراوي (في رأي نقدي يحتفي به الميتا سرد) أن أحد أحلام محفوظ يوجز رواية «حضرة المحترم»، فإنه بدوره يوجز روايته في أحلامه الكثيفة المنثورة هنا وهناك، وهو فعل تعرية جديد.

ولا يمكن إغفال «صبري موسى» الذي يشير الراوي إلى تهميشه ككاتب، كأنما هو مرآة تهميشه الشخصي، في سياقين نخبويين هما الثقافة والصحافة، ينتصر فيهما أمثال «فخري» الناقد الانتهازي. النصوص غير التخييلية، تمثل بضوئها إضاءات عميقة للتخييلي. تعريف الجنون وفق التخييل، لن يلبث أن يجد دعمًا في مقال: «الجنون شيء آخر غير كونه بؤرة للشر والفساد، ولكل العيوب وكل الاعتداءات على الأخلاق». ومذكرات رفعت السعيد (ابن المنصورة) تدعم الخلفية التاريخية للأحداث، حيث علينا ألا ننسى أن ذاكرة الراوي في استدعاء المناخ الساداتي ملتبسة تمامًا مع الخالة، التي شاهد في تليفزيونها، وبرفقتها، العرض العسكري الذي كان لحظة النهاية لحقبة حاسمة، شهدت بالتزامن، وبرمزية فادحة، احتفال الراوي المراهق لأول مرة بعيد ميلاده. رمزية تجد صداها في الحاضر، حيث تحاصر مخارج محطة مترو «السادات» الراوي من كل اتجاه في قلب المدينة.

«زيارة أخيرة لأم كلثوم» نص نصوص، يضيء كل منها جانبًا في الآخر، يعكسه، ويمتح منه. حتى اللغة الروائية تمتلك مستوى تقريريًّا بقدر ما تمتلك مستوى إيحائيًّا، وتبدو شغوفة بالتسجيل قدر شغفها بالاختلاق، رهط أسماء ووقائع، كأنه إحصاء لا تتخلى الرواية عن حشده داخل فضائها أيًّا كانت هامشية الأشخاص أو مراوحة أدوارها الروائية، فجميع أشخاص هذه الرواية يملكون أسماءهم وصفاتهم ووظائفهم.

تحتمل «زيارة أخيرة لأم كلثوم» الكثير من المداخل، بتعدد أبوابها، لكنها تبقى رواية مراوحة، وهذا أبرز ما فيها، لكونها لا تنقل قلق سؤالها عبر بنيةٍ مطمئنة، وهو ما جعل شكلها الفني انعكاسًا لطبيعة موضوعها، وحيث الوجه الواحد للفرد قابل للتكثير، بعدد مراياه.. ربما يعثر، في نفسه، على جماعته.

«شحاذون نبلاء» كرواية مصوّرة .. قصيري يدخل «الكادر»

«شحاذون نبلاء» كرواية مصوّرة .. قصيري يدخل «الكادر»

نادرون هُم الكُتاب الذين اقترنت أسماؤهم بعنوان واحد كما لو كان طفلهم الوحيد، حتى صار وجهًا آخر لوجودهم، أو ربما الوجه الحقيقي لهذا الوجود. «شحاذون نبلاء» فعلت ذلك مع ألبير قصيري، أو فعل ذلك معها، حد أنها صارت شهادة ميلاده وموته معًا، ميلاده ككاتبٍ مختلف، وموته كصاحب نصٍّ بلا إخوة، رغم أن «شحاذون نبلاء» ليست الرواية الوحيدة للكاتب المصري الفرانكفوني. الرواية «المحظوظة» وجدت طريقها لشاشة السينما المصرية قبل سنوات في فلم أخرجته «أسماء البكري»، وها هي، بعد «الفن السابع»، تجد لنفسها موطئ قدم في «الفن التاسع» أو الكوميكس، عبر روايةٍ مصوّرة كتب لها السيناريو ورسمها الرسام الفرنسي الشهير «جولو»، وصدرت في دار النشر الباريسية الأشهر «غاليمار»، قبل أن تصدر نسختها العربية، بترجمة «د. منى صبري».

النسخة العربية من «شحاذون نبلاء» صدرت في إطار الاحتفال بمرور عشر سنوات على وفاة قصيري، وتزامنت مع احتفالية كبيرة به أقامها المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة، الذي دعم نشر الطبعة العربية بالاشتراك مع برنامج طه حسين لدعم النشر بالمعهد الفرنسي بباريس، لتصدر عن مطبوعات «الفن التاسع»، المؤسسة المستقلة المعنية بنشر ثقافة القصص المصورة، التي تُصدر مجلتي «توك توك» و«الفن التاسع»، ويشرف عليها رسام الكوميكس المصري المقيم بباريس «شناوي»، الذي صمم النسخة العربية من الكتاب وأخرجها فنيًّا.

الرسام جولو

يتضح من اللحظة الأولى أن جولو قرر تقديم «نصه» الخاص من داخل «شحاذون نبلاء»، محاولًا الاقتراب من «البصري» و«المشهدي» في عالم قصيري ذي النزعة التأملية الاستبطانية، ليقدم العالم البصري الصريح الذي يمثل البطولة في رواية مصورة من دون أن يُفقد النص وهج اللغة الأدبية. فعلها جولو من قبل مع رواية أخرى لقصيري هي «ألوان العار»، التي صدرت ترجمتها العربية في القاهرة قبل عامين. لكن «جولو» بدا هذه المرة أكثر إصرارًا على تقديم «قاهرة» ألبير قصيري وتعميق شخوصها معًا، تاركًا المدينة تبسط نفوذها على العالم البصري من خلال استعراض «توثيقي» يتناص مع رسوم المستشرقين ذات الدقة الفوتوغرافية وإن وفق قانون الكوميكس الأكثر تبسيطًا على مستوى الخطوط والتلوين. المدينة المفتوحة، والمقسمة عنصريًّا وطبقيًّا بين مدينة للمصريين الفقراء وأخرى للأجانب الأثرياء، تُقدِّم نفسها في نص «جولو» الذي بدا كأنما يتجول فيها تاركًا الشخصيات الرئيسية، في أحوال كثيرة، تذوب في زحامها، وتغيب في كتلتها التي تقدم دلالةً بصرية شديدة الأهمية حول ذوبان الفرد في آلة المدينة التي تفرض في النهاية نفسها ككتلةٍ وحيدة قادرة على ابتلاع ألوان الجميع في لونها.

قراءة بصرية

من الواضح أن «جولو» أعد قراءة «بصرية» لشخصيات الرواية الأصلية، ليعيد تكوينها في نصه الدرامي المتقاطع مع النص الأدبي، محافظًا على الخط الدرامي الأصلي لرواية قصيري ولأفكارها العميقة (العدمية والهزلية) حول الحياة الإنسانية. يستيقظ «جوهر» مدرس التاريخ السابق والمحاسب الحالي في بيت مشبوه بقاهرة الأربعينيات، بعد حلمٍ بالغرق، لتبدأ معه رحلة الرواية. تترى الشخصيات: «الكُردي أفندي» الموظف الشاب الثوري والحالم بتغيير العالم، و«يكن» الشاعر الصعلوك دميم الخلقة الغارق في عالم المخدر، وتلميذ «جوهر» المخلص. في لحظة يتورط جوهر في جريمة قتل، يخنق إحدى فتيات البيت المشبوه ظنًّا منه أنها ترتدي أساور ذهبية قد يحقق ببيعها حلمه بالسفر إلى الشام، غير أنه ما إن يقترف جريمته حتى يكتشف أنها مصوغات رخيصة مقلدة، وهي المعلومة التي يعرفها غير أنه نسيها في غمرة احتياجه للمخدر. في هذه اللحظة دراميًّا يظهر ضابط البوليس «نور الدين» ليحقق في مقتل الفتاة، وتبدأ حياته في التقاطع مع حياة «الشحاذين» الثلاثة، كمشتبه فيهم أولًا، قبل أن يغيروا نظرته للعالم، ليقرر مع نهاية الرواية أن هدفه لم يعد العثور على القاتل، بل العثور على ذاته، ولينتهي النص به وهو يتجول في شوارع القاهرة، مقررًا أن يتحول بدوره إلى شحاذ، لكن يفتقد النبل ولا يعرف السبيل لاكتسابه.

من هذه «الحبكة» يقدم جولو نصه في ثمانين صفحة من القطع الكبير، بأسلوبه الفني الذي يميل للخطوط التبسيطية من دون أن يغفل التفاصيل وبمسحةٍ واقعية لا تميل كثيرًا للمبالغة أو التضخيم الكاريكاتوري. مبدئيًّا، سجن جولو مظاهر كل من شخصياته في رداء واحد، يمثل العلامة «اللونية» في الإحالة لعمق الشخصية، رغم أن زمن السرد لا يتحقق في يومٍ واحد. يرتدي جوهر بذلة بنية كابية تمنحه مذاقه البصري كشخصيةٍ خريفية لم تترك فقط الحياة خلفها، بل أفكارها القديمة أيضًا. في المقابل يحل «الكردي» طيلة النص في بذلة رمادية فاتحة، إنه لونه، هو الثائر على النظام الذي ينخرط في آلته في الوقت نفسه، الذي يحب إحدى فتيات البيت المشبوه من دون أن يقدم شيئًا سوى انتهاكها كالآخرين، مع فارق واحد، أنه يفعل ذلك مجانًا باسم الحب. أما «يكن»، ابن الظلمة، الذي يخشى الضوء لأنه ينير قبحه، فيرتدي بذلة رثة سوداء، حالكة، تعمق ظلمته ككائن يتمنى في أعماقه أن يكون غير مرئي، ويقطن العتمة. قبالة السواد الرث ليكن، ينهض سوادٌ آخر، هو السواد السلطوي للضابط، فهو أيضًا يرغب في أن يكون غير مرئي، لكن لسبب مختلف يخص ميوله المثلية. كلاهما يختبئ من عيون الآخرين، رغم أن أحدهما خارج على القانون (تعرّض يكن للحبس أكثر من مرة بسبب حيازة الحشيش) والآخر يمثل القانون نفسه. ولذلك لم يكن غريبًا أن ينهي جولو نصه بلقاء يجمع الضابط بيكن في قسم الشرطة، يعذبه ثم يطلق سراحه، كأنه يطلق سراح نفسه من خلاله، فهو بعد هذا المشهد مباشرة يخرج في أعقاب يكن ليذوب في شوارع القاهرة وقد قرر أن يصبح شخصًا آخر.

اتجاهان متواشجان

بين غرقين تتحدد شخصية «جوهر» كشخصية في رواية مصورة، فبين حلم نوم بالغرق تُفتتح به الرواية، وحلم آخر بالغرق في حقل/ بحر المخدر لحظة إقدامه على قتل الفتاة، يحركه جولو، محافظًا على الغرقين باللون الأخضر، ليقدم اللون نفسه في قيمتين مختلفتين: الخضرة كنوع من ركود الماء، والخضرة كشروق الحصاد الذي يتناقض واللون البني الذي يحيا فيه جوهر. في المقابل، يكاد «يكن» لا يظهر بألوانه الطبيعية إلا نادرًا، فهو دائمًا معتم، بألوان تذهب من الأسود للأزرق والبنفسجي، ولا يقدم سوى في الليل، كأنه عدو النهار باعتباره المرادف الأعظم للضوء. أما «الكردي» فهو ابن العوالم المغلقة للبرجوازية الصغيرة، عالمه هو الحوائط، من حوائط العمل لحوائط المقهى لحوائط بيت البغاء، كأنه بصريًّا أسير العوالم المغلقة، حتى عندما يقرر في مرة السطو على محل مجوهرات لإنقاذ حبيبته، يتراجع بسرعة عن شوارع المدينة المفتوحة لائذًا من جديد برحم عالمه المغلق.

بنائيًّا، تحرّك «جولو» في اتجاهين متواشجين: النص البصري الحواري، مدعومًا بتعليق هيمن على النص، كمقتبسات سردية مجتزأة من سطور الرواية الأصلية لقصيري، ليحفظ الحس الأدبي الروائي للنص، وليجعل من «لغة» قصيري شريكًا أصيلًا مع لغة «جولو». وبدورها قدمت الترجمة (التي اعتمدت العامية المصرية في الحوار وأبقت على الفصحى في التعليق السردي) التفاتة حيوية لعامية مصر الأربعينيات، التي حفظتها السينما المصرية، وربما أضفى ذلك طرافة مضاعفة على نص قصيري الساخر، وضاعف من دون قصد من هزليته حيث اغتربت لهجة تلك الحقبة المبالغة في تهذيبها عن اللهجة المصرية الآن، وبدت بتهذيبها المبالغ فيه متناقضة مع خطاب شخصيات تعاني جميعها الانحراف وتُجافي التهذيب.