قاطع طريق مفقود

قاطع طريق مفقود

القصيدة قد تضيع إذا لم تجد ذلك الخيط الخفي والراوي لن يعرف القصة. هذه توصيات سركون بولص لنا وليست توصيات يوسا. والخيط الخفي هو الشيء الضال والصامت والموحي والغائب عن حياتنا دائمًا. وإذن علينا البحث عن ضالتنا وهو جار وصديق وزميل عمل قديم ضاع مني فجأة مثل غزال شارد أو مثل حكاية ضائعة. وصار الآن خيطًا خفيًّا نحتاج إلى استعادته مثل الزمن الذي ضاع. أعرف أنه ليس صديقًا للحياة الصاخبة، لكنه مثلي صديق الظل والهدوء وأنا الآن أبحث عن خيط خفي قد يقود له.

في تلك الأيام كنا موظفين صغارًا حين اقترضت منه مبلغًا صغيرًا لم أستطع رده في ذلك الوقت. تغيرت الظروف والأحوال وعصفت العواصف ثم وقعت الواقعة فافترقنا. تركت الوظيفة بعد سنوات من الملل وسنوات ضائعة في مهب حياة عاصفة. وحين استقرت الأحوال قليلًا بحثت عنه لأعطيه حقه. سألت عنه فقالوا لي: إنه ترك الوظيفة وعمل قاطع طريق. ضحكت من عمله الجديد. وقال لي زميل سابق له: إنه يقطع الطريق على الناس وسط الرياض ليبيعهم ثمار مزرعة صغيرة لعمه، ستجده قرب ميدان القاهرة في تقاطع طريق مكة مع شارع العليا الشهير.

كنا في حالة يأس غير معلن وكنا بلا طموح وظيفي، نبحث عن مستقبل داهمنا فجأة فصرنا كبارًا بلا تاريخ وبلا ذكريات مفرحة نستمتع بإعادتها. أتذكر تلك الشوارع التي قطعناها معًا أنا وصديقي قاطع الطريق الجديد، وهذا لقب جميل لموظف صغير سابق. كنا نفطر في الصباحات الشتوية اللذيذة عند فوال الأفراح قرب الجوازات في شارع فرعي من شارع الوشم المشهور ثم نذهب إلى العمل، ننهي أعمالنا ونشرب الشاي حتى موعد الغداء فنوقع الانصراف ونذهب لبيوتنا نتفرج على مباريات كرة القدم أو نتمشى في أسواق طيبة أو نسهر عند أصدقاء جدد.

في ذلك الوقت، قالوا لنا: إن صغار الموظفين لا يكبرون إلا في حالة قدموا خدمات جليلة للكبار، لكننا لم نكن نعرف مكان الكبار حتى نهديهم خدماتنا الجليلة، ولهذا صرنا نلتقي كل مساء لنفتخر بهدايا جليلة لم نقدمها لأحد، وبخسائر بسيطة في عمر داهمه المستقبل فجأة، وهو يقضي حاجته في دورات مياه قديمة في أسواق طيبة أو وهو نائم يتم حلمًا قديمًا.

حكيت له ذات ليلة صيف حارة، حين كنا نسهر في سطح بيتي بحي المروج، وكان هذا الحي في ذلك الوقت يعتبر براري ومنطقة نائية ومظلمة، قلت له: إني منذ ولدت حتى هذه اللحظة سكنت في حوالي عشرين بيتًا ودرست في عشر مدارس موحية، قبل الانتقال إلى الأحياء الجديدة في البديعة ثم شمال الرياض، وما زالت تحتفظ ذاكرتي بصورة ما زالت عالقة في ذهني، صورة مدخل طويل في مقدمة كل بيت، قبل الوصول إلى ساحة البيت الطيني، وفي نهاية هذا الممر أو المدخل تجد على اليمين ما يمكن أن يطلق عليه حمام، والغريب أنه دائمًا مكان معتم بلا باب وبلا كرسي، ثم عرفت فيما بعد أن جميع أو أغلب بيوت الجيران فيها هذا الحمام الناقص، أو هذا الشيء الذي يشبه الحمام الذي يقع في المدخل إلى اليمين وبلا باب أيضًا.

كنت أدخل هذه المكان وقت انشغال الأهل بإدخال الأثاث إلى هذا البيت الجديد. أتامل اتساعه وأشعر برغبة في خلع ملابسي والجلوس تحت ماء الحنفية البارد. ثم بعد السكن تكتمل الصورة فأعرف أنه ليس حمامًا، ولكنه أقرب إلى غرفة فيها حنفية ماء ودش فقط، ثم فيما بعد يتم تزيين هذا المكان المعتم بزير ماء ويضعون تحته بعض الخضار والفواكه.

أتذكر أن حارتنا حين كنّا في المرحلة الابتدائية مائلة مثل حارة الروائي الألباني إسماعيل كاداريه في روايته مدينة الحجر، وكنت أشعر في بعض الأحيان أنها تتأرجح بنا، وفي بعض الليالي أحلم نائمًا أن البيوت سوف تنقلب على وجوهها فأصحو من نومي هلعًا. حارة معبأة بالجبال الصغيرة والسفوح والهضاب والأدوية الجافة، تقع غرب مدينة الرياض، يحدها شمالًا شارع الخزان المشهور، وغربًا شارع العصارات حيث تقع أندية الهلال والنصر والشباب، وهو الشارع الذي منه انطلقت موضات سنوات الطفرة الشبابية، وسينما الأندية في السبعينيات الميلادية، وإلى الشرق تبدأ الأرض في الاستواء شيئًا فشيئًا حتى تستقر وسط المدينة القديمة.

وعندما تصعد إلى أعلى جبل في هذه الحارة، قبل غروب الشمس بدقائق فإنك لن تستطيع أن ترى شيئًا؛ لأن الحارات والشوارع تحولت إلى ملاعب لكرة القدم، فأثارت كل تراب الأرض وصار غبارًا عظيمًا، وأصبح من المتعذر أن ترى مخلوقًا واضح المعالم. يخرج الرجال والنساء والأطفال والشباب من منازلهم عصرًا، ثم يعودون وقت أذان المغرب مشيًا في رحلات وزيارات يومية مكوكية بسيطة ومعتادة. ولا تعلم في الحقيقة من يزورون إذا كان الجميع قد خرجوا من بيوتهم في مثل هذا الوقت الممتع. وحين يحل الظلام يعود الجميع إلى بيوتهم بهدوء العصافير.

عرفت فيما بعد أن صديقي المفقود قاطع الطريق يوقف سيارته الوانيت داتسون هناك وسط الميدان. يزيح الغطاء من صحن السيارة ويعرض أنواع التمور الرطب الطازج للبيع مثل الخلاص والسكري والسلج. هذا هو ناتج مزرعة عمه في شقراء. ذهبت إلى المكان عدة مرات أبحث عنه ولم أجده. قالوا لي: إنه نقل سيارته إلى مواقف أسواق طيبة شمال شارع العليا العام مقابل مصرف الراجحي ومحل واحد فول. سوف تجده في آخر الليالي يبحث عن زبائن ضالين. بحثت عنه كثيرًا ولم أجده. ولهذا تركته وشأنه وصرفت المبلغ على ملذاتي الصغيرة. قلت سوف أجده مصادفة في شارع خلفي من شوارع حاراتنا الداخلية التي ما زالت ذاكرتها تنبض بالحكايات. سوف أجده حين نقرر معًا في وقت واحد البحث عن بعض، ربما في لحظة، نلتقي في شارع صغير أقلعت منه طائرتنا الورقية الأولى.

الرياض 2021م

جلطات خفيفة وعابرة تتمشى فوق رؤوسنا

جلطات خفيفة وعابرة تتمشى فوق رؤوسنا

كنت أتمشى في شوارع شمال الرياض وحيدًا، كانت السيارة تسير بهدوء وكأنها تقودني وتختار لي شوارع ومقاهي الذكريات الجميلة. وكانت نجاة الصغيرة تغني من الإذاعة عيون القلب سهرانة، حتى وصلني اتصال يقول لي: إنه أصيب بجلطة عابرة وخفيفة، وإنه الآن في المستشفى. غيرت الطريق وأنا في حال من القلق والأسئلة المعلقة بلا إجابات واضحة، كنت أفكر في كلمة (عابرة).. وماذا تعني، كلمة: عابرة لا تتكرر كثيرًا، أسمع أحيانًا عبارة: عابرة للقارات مثلًا. وبدأت أشعر أن الجلطات الخفيفة والحديثة تتجول الآن في الأجواء فوق رؤوسنا ونحن لا نعلم.

وصلت إلى المستشفى وبقيت معه في الغرفة حوالي الساعة حتى أفاق. نظر في وجهي بابتسامة صغيرة وهادئة، ثم سألني باستغراب: كيف عرفت أنني هنا؟ لم أجد إجابة. قلت له: كيف حالك؟ قال: أنا متعب وأريد أن أخرج من هنا. في هذه اللحظة دخلت الممرضة وأخذته وهو على سريره لعمل الأشعة، وبعد عودته تمشينا أنا وهو على أقدامنا في الممرات، كان يبحث عن باب للخروج من المستشفى ولم يجده حتى تعب فعاد إلى الغرفة محبطًا. بقي في سريره حوالي نصف الساعة يلعب في جواله ثم نام. في هذا الوقت حضر الطبيب مع الممرضة التي أخذت قياس الضغط والحرارة. سألتُ الطبيب عن الحالة. قال لي: جلطة حديثة وعابرة. وأضاف: الوضع الآن مستقر وسوف نعطيه علاجًا لتنظيم دقات القلب، وهنا عادت نبرة صوت نجاة تتردد في رأسي عن عيون القلب. سألت الطبيب عن المقصود بجلطة حديثة وعابرة. قال: هذا يعني أنها ليست قديمة وليست متوقفة وهذا يعني إمكانية علاجها.

آخر الليل تركته في المستشفى نائمًا، وتوجهت بسيارتي إلى البيت، يصحبني إحساس حاد أن الجلطات الخفيفة والعابرة صارت مثل كائنات حية تتمشى في زماننا ومكاننا بطريقة حديثة وبأريحية تامة، صارت تتجول فوق رؤوسنا مثل العصافير أو البعوض، شيء يريد أن يتمشى في دمائنا، يقطف الأرواح والأجساد ويحيلها إلى شيء تالف مثل خردة.

استمرت حالة الحياد والقلق والأسئلة المعلقة، وأظن أنني نمت في الطريق، وصلت شارع أنس بن مالك الواسع والمزدحم والقريب من بيتي. لكني ذهلت لمنظر الناس وهم يوقفون سياراتهم على جنبات الشارع ويتطلعون في السماء باهتمام وكأنهم يبحثون عن قوس قزح أو عن هلال رمضان أو هلال العيد. أوقفت السيارة إلى يمين الشارع جوار الرصيف، وبدأت أتطلع مثلهم في السماء. حولي نساء ورجال وأولاد وبنات من كل الأعمار وكأننا في حفلة، منظر مبهج وغريب في نفس الوقت. توقفت بجانبي سيارة جيب مازدا سوداء ونزلت منها امرأة ومعها صديقاتها، وأخذن يتطلعن مثلنا في السماء. سألت المرأة المتحمسة عن الموضوع، قالت بجدية واضحة: هناك جلطات صغيرة بعيدة تحلق في الفضاء والنَّاس يريدون أن يعرفوا أين سوف تسقط. بدأت أنظر في السماء بجدية مثلهم، سألتها: أين؟ قالت: هناك.. ومدَّت يدها ناحية الغرب. قالت: بقع سوداء صغيرة هناك. شعرت كأنها تتحدث مثلًا عن قنابل صغيرة لا نعرف أين سوف تسقط إلا حين يخرج لنا دخانها من بعيد، من إحدى الفيلات الجديدة في ذلك الحي الجديد مثلًا.

ضحكت لكن ضحكتي لم تعجبها.

سألتني بغضب: لماذا تضحك؟

قلت لها: موقف مضحك.

سألتني: الجلطة؟

قلت: أقصد منظر الناس برؤوسهم المرفوعة.

قالت: لا تسخر حتى لا تسقط جلطة تائهة على رأسك، وأشارت بإصبعها الجميل إلى رأسي. وهنا شعرت بالخوف وأردت أن أمشي. وحتى لا تكتشف خوفي منها ابتسمت لها قبل أن أتركها وسألتها سؤالًا عابرًا وخفيفًا: هل تعرفين سارة؟ قالت: سارة من؟ قلت لها: أختي.. كأني رأيتك عندها، قالت بهدوء وهي تشير بيدها علامة النفي: لا أعرفها.. خلاص مع السلامة.

غادرت مرتبكًا، مشيت للأمام قليلًا لأجد الناس يزدادون كثافة، فتعثرت برجل على الرصيف، كان قريبًا من الأرض لأنه قصير ولا تلتقطه العين بسهولة. وكان أيضًا ينظر في السماء البعيدة بقلق. دفعني فاعتذرت له مبتسمًا ثم سألته: هل سقطت الجلطة. استغرب سؤالي ونظر لي بعينين حمراوين وحادتين ثم سألني: من أنت؟ كان هذا السؤال القوي والمباغت مثل قنبلة انفجرت في وجهي فجأة. شعرت أنه سؤال وجودي عميق ومخيف، فاستيقظت مذهولًا وخائفًا. شربت من كأس الماء المجاور على الطاولة فارتحت قليلًا. وفِي هذه اللحظة فكرت في الخروج من البيت والذهاب إلى شارع أنس بن مالك القريب لأعرف هل ما زالت الرؤوس المبهورة والعيون الجميلة مرفوعة إلى السماء من دوني.

الرياض/ 2019م

يمضي مثل عابر سبيل

يمضي مثل عابر سبيل

قرأت حكاية ممتعة عن الحياة الجديدة، عن مادة مظلمة فوق رؤوسنا العظيمة، هناك في الآفاق البعيدة، كيان موحٍ ومعتم يريد أن يخبرنا شيئًا طازجًا وجديدًا، شيئًا يناقض نظريات الجاذبية الكونية، هناك حياة هادئة تنادينا، شيء غامض وموحٍ مثل قصيدة سردية، يقول لنا: إن الحياة متجددة دومًا، فهل سوف نذهب لذلك الكيان بعد أن نسلم أرواحنا؟ لكنني الآن على أرض الواقع المتغير والمتبدل مثل ماء نهر، أتأمل في الأشياء المحيطة، أوراق، كتابات، أفكار، تواريخ، أحلام، هموم، كأنها أطلال متناثرة، أو أجساد ضائعة مستسلمة، داخت تحت ضربات قدر موجعة، أطيل النظر فأرى فيها حياة جديدة تريد أن تنهض، حياة جديدة بداخلها ألسنة نار لا أراها، لكن أشعر بحرارتها تلفح وجهي، كل شيء يريد أن يتحرك، أو يموت ميتة أبدية، لهذا أحاول بوهن أن أفتح بعض العيون الغافية، أو أقترب قليلًا لأرى ألسنة النار قبل أن تستقر أو تخمد إلى الأبد، كنت في غفوة يقظة حين حلمت بتلك الحياة الضوء، يحملني كظل إلى زمن بعيد إلى لوحة تحلم بنص آخر، نص يدق الباب مثل روح موحية، فإذا قمت له أفتح الباب أراه يمضي مثل عابر سبيل أو مثل قطط آخر الليل الحزينة، نص أعرفه ويعرفني منذ زمن بعيد، يأتي مثل تيار هواء صغير يمسح وجهي ببرودة، أو يأتي ناعمًا مثل موسيقا، أو حدقة في جدار تطل على وقت جديد، نص مثل لوحة أو برتقالة أو ضوء أو حلم أو صباح يفيق باكرًا ثم يمضي سريعًا، أتقدم إلى الريح الغاضبة مثل ند يخفي ضعفه، أسكن في ماضٍ وأعيش في حاضر مضى، أسكن روحًا مفككةً أجمعها حينًا في قبضتي وأبعثرها في زمن جديد.

أتذكر الآن حصاة رميتها في الصحراء القريبة من بيتنا حين كنت طفلًا، كتبت عليها اسمي المكسور لغة وروحًا، وحين كبرت قليلًا وضعت أفعالي في كفتي الميزان، تأرجحت إحدى الكفتين طويلًا، أفقت فلم أعرف المكان، ولم أعرف أي ميزان هذا، كان الميزان يتأرجح، وقفت أمامه، درت حوله طويلًا، اخترت إحدى الكفتين فوجدتها قد ارتفعت، لكني لم أعرف هل هي كفة الخير أم الشر، تركت الميزان ونمت، وفي داخلي كبر إحساس أني لم أكن عادلًا مع نفسي في أشياء كثيرة، يقابل ذلك إحساس آخر بأني واجهت، أيضًا، أفعالًا غير عادلة، فهل تساوت الكفتان.

لهذا أتذكر تلك الحكاية الصغيرة والقديمة، كانت هي على وشك نوم وهو كان على وشك انتشاء، قال لابنته الجميلة كأنه يقصّ رؤيا: بعد أحداث الحرم السوداء، انغلق المجتمع على ذاته، في صندوق أسود، عظيم الأسرار، وغرقت المرأة في سواد هائل، لا نعرف كيف كانت تتنفس من خلفه، وصارت الموسيقا حرامًا يتم الاستماع لها في البراري خلسة أو في غرف مغلقة، وصارت الحياة متقشفة وغامضة، وبعد غزو الكويت انفتح جزء من الصندوق فشممنا رائحة موسيقا خفيفة، تنبعث من أبواب مواربة لبيوتهم الحزينة، وخرجت المرأة من بعض عتمتها مجروحة الروح، فارتفعت عصا الوعاظ عالية تطاردها وتطاردنا في كل مكان. وبعد أحداث سبتمبر انكسر باب الصندوق الأسود فتفرق الجمع، هربت المرأة من بؤسه وهرب الواعظ إلى الإرهاب وبدأت أشياء أخرى تتحرك على إيقاع موسيقا حرة، فانهمرت الأسرار الرائعة لأرواحنا الجميلة التائقة للجمال والحرية والثقافة والمرأة والفن والسفر والإبداع، انهمر سيل روايات عطشى للحرية وللحب وضد الإرهاب والفساد والغموض، وبعد سنوات انهمرت ثورات، ثم ثورات مضادة، فنامت ابنته الصغيرة، وهو يواصل هذيانه، فصمت يتأمل لوحة قديمة معلقة على الجدار الذي أمامه، قال هكذا تسربت حكايته، ثم انطلق في متعة خيال النص المفتوح على لوحة لها روح الأشياء، روح تاريخ يختصر عمره في هذا البيت القديم.

قال في نفسه وهو يتأمل اللوحة القديمة على الجدار المقابل له: أنت بحاجة إلى نوم طويل من أجل رؤية صافية، بحاجة إلى أن تبتعد عن الصورة قليلًا لكي تراها بشكل أكثر وضوحًا، بحاجة إلى تلك الموسيقا القديمة التي كانت تعيد لك روحك وبهجتك الطفولية الحالمة، تعود للوراء تسأل حالك عن أحوالك، تسأل أوقاتك عن عمر مضى وانقضى، وعن قلبك المعلق بقبضة مرتعشة، هل تستطيع أن تسمع تلك الدقات الخافتة والمتتالية، القادمة من أغوار سحيقة في صدرك؟ هل تستطيع أن تلمس مشاعرك الغامضة؟ كنت تشعر كما لو أنك تطل عليهم من ثقب صغير في الجدار الخارجي لبيتك، كانت الظلمة تتكاثف وكنت تسمع أحاديثهم واضحة، يفتشون ويتحدثون ثم يصمتون، ثم فجأة تأتي أحاديثهم من مكان آخر في البيت، ربما من غرفة الجلوس أو غرفة النوم، وكنت ترى نورًا ضئيلًا يتحرك أحيانًا في أماكن مختلفة، لكن المكان بدأ يضيق والنفق الذي وجدت نفسك فيه بدأ يضيق أكثر، وأطرافك بدأت تموت بجانبك، والبيت الذي تعرفه صار شيئًا آخر تحاول تذكر ملامحه، وأنت تتشجع بالهدوء والصمت لمحاولة الفهم، تمتد عيناك إلى دولاب الصالة الخشبي، تتذكر أوراقك وكتبك ومشاريعك الصغيرة المؤجلة، وفجأة تراهم بهدوء يخرجون من وقتك واحدًا واحدًا وهم يبتسمون وأنت ترى أن في داخلك أسئلةً قديمةً، ترى أنك تحولت إلى ثقب صغير في جدار، يطل على ساحة الإجابات الغامضة.