الشعبوية الأوربية الانعزالية… طريق إلى الردة الحضارية

الشعبوية الأوربية الانعزالية… طريق إلى الردة الحضارية

هل باتت أوربا على موعد مع أزمنة التفكيك والتفخيخ، العزل والإقصاء عوضًا عن الوحدة والتجميع، اللقاء والاتفاق، بعد أن حلق الحلم الكبير، حلم الاتحاد الأوربي، لنحو عقدين من الزمن في الآفاق؟ قبل وفاته مؤخرًا تحدث شاعر فرنسا الكبير «إيف بونفوا» إلى مجلة Monde des Religions الفرنسية عن حال العالم عامة، وأوربا خاصة بالقول: «أرى كيانات دولية تقترب من الانهيار، وبات يسيطر عليها شعور القيامة الغامض، ذلك الشعور الذي يمكن رؤيته بالعين في تهدم المناخ، وارتكاس الأراضي، وتفوق السكان على المصادر في الماء بنوع خاص، والانتشار الفوضوي، والصور غير المسؤولة، وحركات الانفصال الاجتماعي، ورايات الانعزالية الفوقية، وجميعها تربك العقل، وتخنق الضمير، وتشل الحركة، ما سيجعل البشرية قبل نهاية القرن الحادي والعشرين، تكاد أن تفقد مكانها على الأرض، وتذوب في حروب البشر، وانفجار غضبة الطبيعة».

في هذه القراءة يعنّ لنا أن نتوقف مع مفردة من مفردات الفزع الإنساني المعاصر، إن جاز التعبير، التي تحدث عنها «بونفوا» ألا وهي فكرة الانعزالية والشعبوية، وليكن الحديث عن أوربا، رائدة التنوير في العالم القروسطي، تحديدًا، وما يحتاجها اليوم من ردة حضارية تتعالى فيها أصوات القوميات المتعصبة، وتنتشر بين ثناياها وحناياها رايات الهويات العرقية والدينية القاتلة.

الشعبوية طريق الانعزالية: ما الذي نقصده بداية حين نتحدث عن فكرة أو لفظة الشعبوية؟ باختصار غير مخلٍّ، تذهب الحركة الشعبوية الأوربية إلى التركيز على هموم الناس العاديين، أولئك الذين يضحون «شعبويين» عند ممارستهم مهام حياتهم ولا سيما في إطار العمل السياسي حول العالم. والثابت أن جوهر الشعبوية كما يذهب الكاتب الألماني «بان فيرنر مولر»، يكمن عند البعض في الموقف المعارض للمؤسسة الحاكمة، لكنه يرى أن التعريف على هذا النحو ناقصًا؛ إذ يجب علاوة على معاداة النخبة، إضافة عنصر آخر هو المتمثل في معاداة التعدد، وعليه تظهر الانعزالية في أسوأ صورها، ذلك أن ما يمثل جوهر كل الشعبويين يكمن في التعبير عنه تقريبًا كالآتي: «نحن ونحن فقط من يمثل الشعب الحقيقي».

والشاهد أن الحركات الانعزاية الشعبوية حول العالم اليوم، تعكس خلافات سياسية في الكفاح من أجل ما تطلق عليه «الأفق الشعبوي»، ذاك الذي يتمثل في فكرة يوتوبية طهرانية، «البلد الموعود»، و«محو الذنوب»، عطفًا على عودة الشعب إلى نقائه الأصلي والأمر هنا لا يتعلق بالحاجز فقط، بل هو نتاج أفكار سريالية ماضية، ولا سيما فكرة الكفاح الأبوي للخير ضد الشر، وحتمية الانتصار التاريخي للطهرانية، وإن كلف ذلك المرء الكفر بالواقع، بل محاولة تعديله واستبدال أدوات عنيفة به.

الانعزالية وأخطاء الليبرالية: ما الذي فتح الباب واسعًا لعودة الشعبويين، أصحاب الدعوات الانعزالية أول الأمر وآخره، وهل للأمر علاقة بإخفاقات الليبرالية في العقود التي تلت الحرب الكونية الثانية بنوع متميز؟

في عددها الصادر في يونيو/ حزيران 2018م، خصصت مجلة «الفورين بوليسي» الأميركية ذائعة الصيت ملفًّا بأكمله عنوانه: «انهيار النظام العالمي المعتدل»، قدمت فيه نقدًا آنيًّا واعيًا لأحوال الليبرالية والمآسي التي جرتها حركاتها المغرقة في التطرف الأيديولوجي على العالم من خلال التطبيقات الخيالية، عطفًا على مآلات الدمقرطة القسرية، تجاه الآخرين حول العالم، والغلو والتطرف فيها في الداخل الأوربي والأميركي عامة.

القراءة الرصينة للفورين بوليسي، تراجع أخطاء الليبرالية الذين أسرفوا في الحديث عن مبادئها واتجاهاتها ونسوا أو تناسوا هويات الأمم، وروح الشعوب، وفات المروجين لطرح الليبرالية أن شيوعها وذيوعها يعتمد على التزام واسع وعميق بالقيم الأساسية للمجتمعات الليبرالية، وفي مقدمتها التسامح، والمواطنة والإخاء والعدالة، وهي معايير لا يمكن فرضها بالطائرات بدون طيار أو بالجيوش الجرارة، وأدوات العنف الأخرى، ولهذا باتت صحوة القوميات، وعودة القبليات وكارثية الأصوليات وصولًا إلى الانعزالية، واقع حال يغني عن السؤال، وأضحت إخفاقات الليبرالية الطريق المؤدي إلى تمكين الانعزاليين من الترويج لبضاعتهم والنتيجة الحتمية هي أن الديمقراطية الغربية باتت اليوم معرضة لحالة الاختطاف من جانب القوميين والانعزاليين وفي أوربا على نحو واضح.

أوربا الشعبية… مخاوف قومية: هل تنشأ الانعزالية من رحم الخوف؟ عند البروفيسور فرانسوا دوبيه أستاذ علم الاجتماع في جامعة بوردو الفرنسية، أن التيار الشعبوي هو جماعة قومية، وهوية يزعم القوم أنها مهددة يتهددها انعدام الأمن أو «اللا- أمان» وبخاصة «عدم الأمان الثقافي، ومهاجرو ما بعد الاستعمار والغرباء والأجانب، فالشعب هنا هو أمة متجانسة ثقافيًّا، «بيضاء»، قد تكون مؤمنة، أو غير مؤمنة، ولكنها من الطائفة الكاثوليكية (الحديث عن فرنسا) وهي شعب قومي مهدد في فن العيش الذي يعيش، وفي عوائده، وهويته، حتى لو كانت هوية متخيلة، أي فكرة «نحن في ديارنا»، وفي هذه الثلمة تتغلغل أو من هذه الثغرة تلج أطروحة «الإحلال الكاسح، أو الاستبدال الكبير»، أي استبدال المهاجرين بالشعب، وحلولهم محله، هل الخوف من الآخر إذن هو السبب الرئيسي في تنامي الانعزاليين الجدد، وتصاعد الشعبويين القدامى والمحدثين؟

لقد رأينا نجاحات -ولو سلبية- لعدد من زعماء اليمين الأوربي المتطرف في الأعوام الماضية، صعدوا إلى مراكز الحكم المتقدم في ألمانيا وهولندا، وعدد من الدول ذات مستوى الحياة المتميز «الإسكندنافية»، بل هو الذي دفع البريطانيين إلى مسار البريكست، والنأي عن الاتحاد الأوربي.

إشكالية الحقيقة المطلقة: حتى نضع أيادينا على بعض أعماق الظاهرة الشعبوية الانعزالية القاتلة في أوربا، ولا سيما تلك التي تدّعي التمثيل السياسي الأخلاقي والحصري، أي مُلَّاك الحقيقة المطلقة، أو هكذا يدعون بالقول أنهم يمثلون «المئة في المئة»، لا بد لنا من أن نطرح سؤالًا أكثر دقة وتحديدًا: «كيف لنا أن نعرف الانعزاليين والشعبويين بدقة؟ وأين تمر الحدود الفاصلة بين الشعبوية والظواهر السياسية الأخرى؟ يمضي علماء الاجتماع الألمان بنوع خاص إلى القول: إن الشعبوية ليست مطلبًا لطبقات واضحة المعالم وليست قضية عاطفية، كما أن قيمة العروض السياسية لا تكفي للقياس، إذا كان شيء ما شعبويًّا. وعليه فإن بعضًا منهم يخلص إلى أن الانعزالية الشعبوية تصوُّرٌ سياسيٌّ محدد، يرى أن شعبًا خالصًا ومنسجمًا يقف دائمًا ضد نخب غير أخلاقية، فاسدة وطفيلية، ويرى أن هذه النخب لا تنتمي البتة إلى الشعب. من أمثلة ضيق المسار الانعزالي للانعزاليين الأوربيين تحديدًا، ما جرى ويجري في دولة مثل فنلندا، وكيف بات هناك سباق وسياق للتفريق بين «الشعب الحقيقي» و«الشعب العادي» الأمر الذي نراه منعكسًا، وبقوة في أسماء الأحزاب، فالحزب الفنلندي ومعنى اسمه «الفنلنديون العاديون»، كان يريد أن يترجم إلى اللغات الأخرى بـ «فنلنديو القاعدة»، و«الفنلنديون الحقيقيون»، والآن يريد الحزب أن يترجم اسمه فقط إلى «الفنلنديين».

هنا تظهر على السطح إشكالية أخرى، فالنخب وبخاصة في تصور الشعبويين الانعزاليين من اليمينيين، تدخل في تحالف مشؤوم مع ما يطلقون عليهم «الطبقات الفقيرة الطفيلية» التي لا تنتمي إلى الشعب الحقيقي، ويمكن أن نلاحظ مثالًا على هذه الرؤية اليوم في شرق أوربا، حيث يُدعَم الضجر، في الرؤية الانعزالية الشعبوية، من طرف نخب ما بعد الشيوعية المناصرة لأوربا.

الانعزاليون والشعبويات اليمينية

هل كان ظهور الانعزاليين الأوربيين بطبعتهم الشعبوية قدرًا مقدورًا في زمن منظور؟ الشاهد وكما يقودنا البروفيسور «مارك لازار» مدير مركز التاريخ في معهد العلوم السياسية في باريس في تحليله لحديث شعبويات اليمين وشعبويات اليسار في أوربا، أن القرن العشرين أوربيًّا كان قرن المواجهات بين التوتاليتاريات والديمقراطيات، وانتهى بظفر الأخيرة، بتدعيمها بعد عام 1945م خصوصًا في الجزء الغربي من القارة العجوز، وبخاصة بعد إنشاء الاتحاد الأوربي.

أما القرن التالي (الحادي والعشرين) فيبدأ وكأنه قرن عودة القوميات وصعود نجم الشعبويات وظهوره وسطوعه. هذه الظاهرة المزدوجة، التي بدأت اعتبارًا من سنوات 1980م، عادت فتنامت وكبرت بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في أوربا الوسطى والشرقية، ثم في روسيا، وهذا في الحين الذي بدأت تقوم فيه عولمة جديدة، ثم تعاظمت بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001م، أي بعد ذلك «الحدث العالمي» الذي انعكست آثاره على أوربا، لجهة تركيز السجال حول الإسلام.

وأخيرًا بدأت المرحلة الأخيرة في عام 2008م مع الأزمة المالية، ثم الاقتصادية التي ضربت العديد من البلدان الأوربية، ثم تبعها بعد ذلك بسنوات، دفق من المهاجرين الوافدين من الشرق الأوسط ومن إفريقيا جنوب الصحراء، واعتداءات إرهابية ادعتها القاعدة ثم داعش. هل كانت العوامل المتقدمة طريقًا مؤكدًا للانعزاليين الأوربيين براياتهم الشعبوية والقومية، التي يمكن لها أن تجرف أوربا التنوير إلى مسارات ظلامية؟

لا يمكن القطع بأن الانعزاليين الأوربيين قد دانت لهم أوربا عن بكرة أبيها بعد، فعلى الرغم من انطلاقتهم القوية والمثيرة للملاحظة، فإن الأحزاب والحركات التي تنتمي إلى هذا التصنيف تمر في تقلبات وتأرجحات، فتقدمهم الانتخابي المفاجئ قد تتبعه أحيانًا تراجعات تُراوِح بين التراجع المباغت والتقهقر غير المتوقع، وهو ما سيجعل خصومهم، ومعهم العديد من المعلقين يقولون عنهم: إنهم مجرد «نوبة حمى عابرة». والحال هو أنه خلافًا لاندفاعات الماضي التي كانت عابرة إلى هذا الحد أو ذاك، فإن الانعزالية المعاصرة تمثل طابعًا غير مسبوق نتيجة تعمم حضورها وديمومته. وهي تستقى بقوة في قلب أغلبية المجتمعات الأوربية، وتقلب نظم الأحزاب رأسًا على عقب، وتعدل ولا ريب من أسس الديمقراطية الغربية.

في ملامح الانعزاليين الأوربيين: لعل المتابع لتطورات المشهد السياسي الأوربي في الأعوام الأخيرة، يستطيع أن يرصد كيفية تحقيق العديد من شعبويي اليمين معدلات انتخابية مرتفعة على نحو خاص، في فرنسا وفنلندا، وفي إيطاليا وهولندا والنرويج، وعطفًا على ذلك، رأينا صعودًا موازيًا في ليتوانيا والسويد وألمانيا أيضًا، وهذه هي كلها أوضاع تولدت عن شبكة واسعة من العلل والأسباب. يعنُّ لنا في هذا السياق التساؤل: «هل من رابط عام يحمل ويجمل معالم وملامح تلك الشعبوية الانعزالية المحدثة في قارة التنوير الأصلي؟

الثابت أن شعبويات وانعزالي اليمين، تشترك في العديد من النقاط، فهي تطرح مجمل النخب القيادية (وليس الطبقة السياسية وحدها) أو بقية الأحزاب السياسية المهتمة بمصادرة الديمقراطية، وهي تبدي بدرجات مختلفة حذرها من العولمة، وتؤكد على ضرورة السيادة الوطنية، التي تعلو ولا يجوز أن يعلى عليها، وهي غالبًا ما تدعو إلى «الأفضلية الوطنية».

والمقطوع به كذلك أن أساس قومية هذه الانعزاليات الشعبوية ومعتقداتها، التي تقوم عليها، هو تصور للأمة مبني على العرق والهوية، وعلى هذا فإنهم يرفضون الأجانب والمهاجرين، كافة، ويخلطون عامدين، بين الهجرة النظامية والهجرة غير الشرعية، وبين الهجرة الثابتة والهجرة العابرة، وهم لا يترددون في تضخيم عدد هؤلاء السكان على أراضيهم، وإظهار القلق من فكرة الإحلال والاستبدال، أي من حلول هؤلاء الأجانب والمهاجرين محلهم في بلادهم، ويرون أن هذا هو جار وقيد البحث في زعمهم، وهم مجمعون على التنديد بالديانة الإسلامية التي يرونها مهددًا للإرث الثقافي الأوربي… ماذا عن تلك الجزئية تحديدًا؟

الإحلال الكبير وأسلمة أوربا

حين نتناول بالقراءة المعمقة إشكالية النزعات الانعزالية التي تجتاح أوربا، يبقى فرض عين علينا أن نتوقف مع الرايات الفاقعة التي تعزو تنامي هذا التيار إلى ما يعرف بالإسلاموفوبيا أو إرهاب الإسلام، والمخاوف التي يمكن لها أن تدعم وتزخم الانعزاليين الجدد. تحتاج قضية «أسلمة أوربا» إلى قراءات معمقة قائمة بذاتها، غير أن منطلقها الرئيس هو فكرة «الاستبدال العظيم» أو بالفرنسية Le grand remplacement التي تذهب إلى أن السكان الفرنسيين الكاثوليك البيض في فرنسا كمثال، والسكان الأوربيين المسيحيين البيض عمومًا، يستبدل بهم بشكل منتظم غير الأوربيين، وبخاصة السكان العرب والبربر والشرق أوسطيين والإفريقيين من خلال الهجرة الجماعية، والنمو السكاني وجميع هؤلاء وأولئك مسلمو الديانة، وبذلك ستأتي لحظة بعينها تتحول فيها كفة الديموغرافيا لصالح المسلمين في أوربا. صاحب هذا الطرح الكاتب والناشط السياسي الفرنسي رينو كامو، الذي أصبحت آراؤه تمثل ركنًا أساسيًّا وجوهريًّا في أبجديات تفكير اليمين الأصولي الأوربي بنزعته الشعبوية الانعزالية بنوع متميز.

يتساءل «فرانسوا بورغا» الباحث الفرنسي الشهير في مجال عالم الإسلام السياسي مؤخرًا… هل الإسلاموية مجرد فكرة شعبوية انعزالية أم ماذا في الأمر؟ ضمن سياقات التحليل لفهم أبعاد الظاهرة الشعبوية يرصد المرء بعض الآراء التي تتناول فكرة ردود أفعال الخوف من الآخر وهو هنا تحديدًا العربي أو المسلم، ورغم انفتاح القارة الأوربية على العالمين العربي والإسلامي منذ قرون بعيدة، فإن ظاهرة المد الأصولي في العقود الأخيرة قد ولدت ردود أفعال أبرزت من دور وحضور الأحزاب الشعبوية الانعزالية في القارة الأوربية.

أحسن كثيرًا جدًّا البرفيسور يورغا، حين أشار إلى أن مقارنة الإسلاموية بالشعبوية توفر فرصة مفيدة ولو لم تكن سهلة لمحاولة الإحاطة بجذور وتعابير الظاهرتين اللتين باتتا اليوم كُلِّيَّتَيِ الحضور في المشهد السياسي العالمي، حيث يظل تنوع الزائدات التي نمت عليهما وتبعت عنهما، يعاني سوءَ المعرفةِ بها وسوءَ فهمها، وفي أغلب الأحيان سوءَ قبولِها. والتعبئات والتحشيدات الأخيرة التي شهدتها الإسلامويات وجرت تحت تسميات مختزلة، وكان مجالها كامل الطيف السياسي في العالم الإسلامي.

أما الباحث الإيطالي توماس فيرجلي، مدير البرامج في المؤسسة الأوربية للديمقراطية في إيطاليا، فيرى أن أحد أخطر الأوتار التي عزف عليها الانعزاليون الأوربيون كان ذلك المقابل لفكر الأصولية الجامع المانع، وغير القابل للآخر، حتى بين أوساط المجتمعات الإسلامية عينها، وعنده أن الأيديولوجيات الشمولية على اختلافها تقوم على الولاء المطلق، مقابل الخوف من الآخر، وغياب التنوع بأي صورة من الصور. وتزيد هذه الأيديولوجيات التي تنتشر وتتمدد أكثر وأكثر من تفشي التطرف. يتساءل فيرجلي: لماذا يُتجاهَل التهديد الذي تمثله بعض جماعات التطرف الإسلاموي، -ولا نقول الإسلامي- في بعض الأحيان؟ يلفت الباحث الإيطالي إلى جزئية تستحق التأمل وهي أن بعض جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمته حاضنة الكل، أي الإخوان المسلمين، تمكنت من تصوير نفسها كمعبر وممثل عن التيار الإسلامي المعتدل، فيما يرى آخرون أن بعض الجماعات الإسلامية في أوربا اليوم كانت سببًا مباشرًا في دفع الشعبويات للأمام؛ إذ إن بعضها يتخذ من فكر «التقية الشيعي»، وإن كانوا من أهل السنة، منطلق للحياة في الداخل الأوربي، فيكفون ظاهريًّا عن استخدام العنف البدني، أو الحديث بعنف لفظي، من أجل كسب تعاطف واستقطاب مزيد من المؤيدين لهم، وفي الوقت ذاته يحتفظون في صدورهم وقلوبهم بذات الأفكار الأحادية والاستبدادية.

ولا ينسى المنظرون في واقع الأمر للشعبويين الأوربيين الوقوف أمام مشهد مهم للغاية، وهو العمليات الإرهابية البشعة التي جرت في السنوات الفائتة، على الأراضي الأوربية، ودفعت قطاعات عريضة من الأوربيين المصنفين في خانة المعتدلين للتصويت لصالح الشعبويين. لكن السؤال: «هل تبرر أفعال هذه القلة، حالة الهوس الديني للانعزاليين جهة الإسلام والمسلمين في أوربا، أم إن الأخبار السيئة كما يقال إعلاميًّا هي التي يعتد بها، وهي بذات القدر القادرة على استيلاد المزيد والمزيد من نغمات السؤال الذي لا يقل أهمية: هل يجد التيار الانعزالي الشعبوي الأوربي مددًا من الجانب الآخر من الأطلسي أي من قلب الولايات المتحدة الأميركية؟

أميركا ويمين الانعزاليين

أحد الأسئلة المثيرة للجدل التي طالما طرحت على موائد النقاش؛ هل أميركا دولة علمانية كما يذهب دستورها أم هي دولة دينية كما يبين هواؤها إن جاز التعبير؟ باختصار غير مُخلٍّ، أميركا دولة علمانية الهوية، لكنها غارقة في الهوى الديني وهذا غالبًا ما يكون الأقرب للتيارات المحافظة، المنادية بحفظ النوع ونقاء السلالة، وبأفكار أميركا الأولى، صاحبة الاستثنائية المميزة، تلك القريبة بدرجة أو بأخرى من فكر «ألمانيا الآرية».

سؤال الانعزالية تزايد في الأعوام الماضية ولا سيما مع وصول الرئيس «دونالد ترمب» إلى سدة الحكم، فالرجل مهموم ومحموم بإشكالية عودة بلاده للقبض على مجريات الشأن الدولي، وتوسيع الفجوة مع روسيا والصين، حين يبقى لها قصب السبق كما يقال في إطار الصراع القطبي. الرئيس ترمب يرى أن بلاده لا يتوجب عليها أن تكون شرطي العالم أو شريفه، وللرجل في ذلك الحق، أن يختار لبلاده النسق السياسي الذي يلائمها، غير أن تأثيراته وأفكار مستشاريه الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض، ولا سيما مستشاره الخاص «ستيف بانون» كان لها رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر في الداخل الأوربي، الذي ارتحل العام الماضي ليقدم خلاصة خبراته للانعزالين من الأوربيين، وليضيف إلى الشعبويين الأوربيين الكثير من أفكار الفوقية الإمبريالية.

ولعل الأصوات التي تحذر من الانعزالية، ومخاوف تنامي الشعبوية في الداخل الأميركي، قد ألقت بالمزيد من الضوء على خطورة ما يجري في القارة الأوربية العجوز؛ ولهذا لم تحقق التيارات اليمينية الانعزالية الشعبوية الأوربية، النتيجة التي كانت تصبو إليها في انتخابات البرلمان الأوربي في مايو/ أيّار الماضي… ماذا عن أهم تلك الأصوات؟

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرد جميعها؛ لذا نختار عملية فقط من الأعمال الفكرية المهمة للسيدة «مادلين أولبرايت»، وزيرة الخارجية الأميركية، في زمن إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون. عمل أولبرايت الأول عنوانه: «إمبراطورية الخوف»، وفيه تتحدث عما جرى لبلادها في إدارة جورج بوش الابن، وكيف أن زراعته للخوف بعد 11 سبتمبر 2001م، قد ولد تيارات انعزالية، وأعطى قُبْلة الحياة لجماعات شعبوية يمينية، ما أنزل الله بها من سلطان، يقول بعض: إنها قد تعود إلى تفكيك الاتحاد الأميركي المعروف حاليًّا خلال عقد أو عقدين على أكثر تقدير… لماذا؟ لأن بوش الابن وصحبه، قد تلاعبا على المتناقضات وصعدا من وتيرة الانعزاليين الأميركيين حين ضخوا وأشاعوا مشاعر الخوف من الآخر في جنبات الحياة الأميركية، غير أن هذا العزف النشاذ ارتدّ سلبًا على المجتمع الأميركي، ذاك الذي بات يعاني حالةَ تمزقٍ في نسيجه بصورة غير مسبوقة.

تقول أولبرايت: «إذا كان الأميركيون عاجزين عن الخروج من مملكة الخوف، فسيضلون الطريق، وبما أن الخوف يتعلق بالإدراك لا بالواقع؛ لذا يستطيع الإرهابيون الفوز دون إطلاق طلقة واحدة»، والنتيجة الحتمية هي أن من ينادون بالانعزال والتمترس وراء محيطين سيكونون هم أصحاب الصوت الأعلى في الحال والاستقبال.

أما العمل الثاني الذي صدر لها في إبريل 2018م، فكان تحت عنوان «الفاشية… تحذير»، وفيه تتساءل عن مصير الديمقراطية، وتقلقها أوضاع المواطنة الدولية، وتطرح السؤال الصريح غير المريح: «هل نحن بصدد عودة مقنعة للفاشية السياسية التي خبرتها أوربا في نصف القرن الماضي بنوع خاص؟ تساؤل وزيرة الخارجية الأوربية الأصل، حيث إنها ولدت في تشيكوسلوفاكيا في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، يقودنا والأوربيون معنا إلى مخاوف جدية من أن تكون الشعبوية المحدثة، الوجه الآخر لعملة الانعزاليين الجدد، أمام استحقاقات كارثية لتنامي العنصرية والأصولية، مخاوف تتبدى الساعة من خلال عودة تيارات كالنازيين الجدد في ألمانيا، وحزب النجوم الخمسة في إيطاليا وبقية الجماعات التي تشكل البنية الهيكلية للانعزاليين الأوربيين.

تضع أولبرايت الأوربيين والأميركيين معًا أمام حقيقة مخيفة، وهي أن المحافظين الأوربيين في ثلاثينيات القرن الماضي ولا سيما في إيطاليا وألمانيا، قد اعتقدوا أنهم قادرون على السيطرة على الفاشية، ولكنهم فشلوا في ذلك فشلًا ذريعًا، وكانت كارثة الحرب العالمية الثانية، والآن ومنذ نهاية التسعينيات يندفع المحافظون الأميركيون في طريق مشابه، وإنْ تَوارَوْا عن الأنظار لبعض الوقت في زمن باراك أوباما.

الكارثة أن بِذار الشعبوية اليمينية الأميركية، يكاد حصادها يظهر بقوة في معسكرات اليمين الانعزالي الأوربي، عبر صور حياتية متباينة ثقافية ودينية، عرقية واجتماعية، وهو ما يعني أن طريق الشوك الأوربي سوف يجرح الكثيرين في الداخل، قبل أن يمتد أثره السلبي على العالمين العربي والإسلامي، حيث الجيران الأقرب جغرافيًّا، والنسيج الإنساني المتلاحم ديموغرافيًّا تاريخيًّا،…

ما الذي يتبقى قبل الانصراف

السؤال الأخير… ما مستقبل الانعزاليين الأوربيين؟ قد يصعب الجواب في الحال، ولا سيما في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تنتاب العالم من جهة، ولحظة ولادة أقطاب دولية جديدة من ناحية أخرى، لكن وفي كل الأحوال يمكننا القول: إن الديمقراطيات الغربية أمام استحقاق تاريخي ومفصلي، فإما التمسك بالأنساق الإنسانوية التنويرية، الديمقراطية الليبرالية، رغم سلبياتها النسبية، أو ترك الساحة فارغة للشعبويين والانعزالية الذين يدعون أنهم وحدهم القادرون على الوفاء بالوعد الأصلي للديمقراطية والمتمثل لتحقيق «الأتونوميا» الجمعية (الاستقلال الذاتي)… وهم عاجزون عن ذلك.

هل من صداقة في عالم السياسة؟ من قيصر وبروتوس إلى جيفرسون وآدمز تناقضات تاريخية وقصص واقعية

هل من صداقة في عالم السياسة؟

من قيصر وبروتوس إلى جيفرسون وآدمز تناقضات تاريخية وقصص واقعية

أحد‭ ‬أهم‭ ‬الأسئلة‭ ‬المطروحة‭ ‬على‭ ‬دائرة‭ ‬النقاش‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ ‬هو‭ ‬ذاك‭ ‬المتعلق‭ ‬بالعلاقة‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والصداقة،‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬مجال‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬لضرب‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬الصداقة‭ ‬بوصفها‭ ‬علاقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وإنسانية‭ ‬تربط‭ ‬شخصين‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬الثقة‭ ‬والمودة‭ ‬والتعاون‭ ‬بينهما؟‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬السياسة‭ ‬بوصفها‭ ‬فعلا‭ ‬براغماتيًّا‭ ‬ذرائعيًّا‭ ‬نفعيًّا،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬الصداقة‭ ‬اليوتوبي‭ ‬المنزَّه‭ ‬عن‭ ‬الدسائس‭ ‬والمؤامرات‭ ‬التي‭ ‬تزخر‭ ‬بها‭ ‬سياقات‭ ‬السياسة‭ ‬وأفعال‭ ‬الساسة؟‭ ‬ربما‭ ‬نكون‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬مبدئية‭ ‬لإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬والصداقة‭ ‬على‭ ‬حدة‭ ‬أول‭ ‬الأمر،‭ ‬ثم‭ ‬نحاول‭ ‬تبيان‭ ‬إمكانية‭ ‬نشوء‭ ‬وارتقاء‭ ‬علاقة‭ ‬ما‭ ‬بينهما،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬بعض‭ ‬المصطلحات‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬مسامع‭ ‬العالم‭ ‬مؤخرًا‭ ‬من‭ ‬عينة‭ ‬‮«‬النيران‭ ‬الصديقة‮»‬،‭ ‬و«الدول‭ ‬الصديقة‮»‬‭.‬

الصداقة وماهيتها بداية

الشاهد أن فكرة الصداقة المجردة قد حظيت باهتمام بالغ عند معشر الفلاسفة والمفكرين والمثقفين، وكذا علماء النفس منذ زمن طويل، ومردّ ذلك، إلى أنها الجسر الذي يمر من خلاله الآخرون في علاقاتهم الاجتماعية، ويتواصلون نفسيًّا وفكريًّا، اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، إيمانيًّا وروحيًّا، كسمات أساسية رئيسية في حياة الكائن البشري. عدَّ أفلاطون الصداقة علامة محبة متبادلة بين الأنا والغير، وعلى هذا فهي أساس التكامل في الحياة. أما أرسطو فعدَّ الصداقة الحميمة من الأمور الإنسانية المهمة لتحقيق حياة مليئة بالهناء والأفراح والسرور، حيث الصداقة عنده تعني علاقة التفاعل والانسجام المتبادل بين طرفين، ويدل من ناحية أخرى على الرغبة والألفة والمعاشرة في التعاون مع الآخرين في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والشاهد أن التعريفات تطول وليس هنا مقام تفصيل الكلام عنها، وإنما التعريف فقط يقودنا إجمالًا إلى ثلاثة أشكال من الصداقة هي:

الصداقة المبنية على أساس المنفعة: وقد تكون هذه بالفعل أقرب الأشكال للصداقات السياسية، وأبعدها من النماذج المثالية للعلاقات الإنسانية؛ لأنه تُحدَّد قيمتُها في نظر الأفراد بمقدار ما يستطيع الفرد أن يحصل مقابل ما يعطي غيرَه.

الصداقة من أجل المتعة: وهذه قد لا تتسق كثيرًا مع موضوع البحث، أي علاقة الصداقة بالسياسة، اللهم إلا إذا كانت الحروب والدسائس، المكر والخديعة، متعة عند البعض، وهذه تظهر قيمتها بدرجة الشعور بالسعادة عند ملاقاة الآخر.

الصداقة من أجل الفضيلة: وهي التي تنشأ بين العناصر الصالحة في مجتمع بعينه، يدفع بعضهم دفعًا في معارج المجد الأدبي، وسلم الأخلاق والفضيلة، وهو منبت الصلة بعالم السياسة.

شارل ديغول

ماذا قالوا عن السياسة؟

تأتي لفظة سياسة في اللغة العربية على وزن «فعالة»، وساسَ الأمرَ أي تدبَّرَ أمرَه، وساس الرعيةَ أي تولَّى شؤونَها، وعليه فهناك علاقة بين طرف وأطراف، بين الواحد والجماهير، واصطلاحًا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية وتعبر عن عملية صنع قرارات ملزمة لكل المجتمع، تتناول قيمهم مادية ومعنوية، وترمز لمطالب وضغوط وتتم عن طريق تحقيق أهداف ضمن خطط أفراد وجماعات ومؤسسات ونخب حسب أيديولوجيا معينة على مستوى محلي أو إقليمي أو دولي.

ولعل أبرز التعريفات السياسية التي تظهرها الموسوعات الدولية إنما تشير إلى أن السياسة هي العلاقة بين الحكام والمحكومين من جهة، وإنها الدولة وكل ما يتعلق بها من شؤون مختلفة، وهي بالقدر نفسه السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية وكل ما يتعلق بظاهرة السلطة.

ولعله من المثير حين نصنف أنواع السياسة ألّا نجد أي حديث موصول بينها وبين الصداقة، فهناك على سبيل المثال السياسات المرتبطة بنوازع أيديولوجية ونظريات فكرية كالشيوعية أو الرأسمالية، وكل منها يسعى لتوجيه الإنسان إلى طريق بعينه، وهناك سياسة التكتلات كما الناتو ووارسو في زمن الحرب الباردة، ومن بينها سياسات الاحتواء والردع، وسياسات اقتصادية وأخرى إستراتيجية، غير أن البعد الإنساني، وجزئية الصداقة تكاد تتوارى إلا عند رجالات الفلاسفة المُسَيّسين أو الساسة المتفلسفين.

الصداقة والسياسة والمصلحة المشتركة

أحد أهم عمالقة الفكر والفلسفة الذي توقف طويلًا عند الإشكالية التي نحن بصددها هو الفيلسوف العلامة «توما الأكويني» (1225 – 1274م)، الذي عَدَّ المصلحةَ المشتركةَ ينبغي أن تكون غاية ما هو سياسي، وحديث المشترك يفتح الباب فلسفيًّا واسعًا لمعاني ومباني الصداقة… لماذا؟ لأنه دائمًا ما نجعل الحياة السياسية موضع تفكيرنا من حيث إنها صراعات تخاض وتنتهي بالغلبة لطرف على الآخر.

وإذا نظرنا إلى السياسة من زاوية الفيلسوف الألماني «جورج هيغل» سنجد أنها جدلية «السيد والعبد»، وليس الصديق وصديقه، بل أكثر من ذلك يبدو لنا ما هو سياسي كموضوع للنزاع على أتم وجه، وصراع محتدم إلى ما لا نهاية إلى أن تتجذر، من دون إمكانية لفضها، وكأن في التعارض بين الصديق والعدو تجميعًا لكل تلك التعارضات التي هي بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وبين الخير والشر، وبين ما يعود بفائدة وما لا يعود بفائدة. يضع الأكويني أيادينا منذ ثمانية قرون تقريبًا على إمكانية أن تكون هناك صداقة في عالم السياسة، وعنده أن تعيين المصلحة المشتركة كغاية لما هو سياسي، يقودنا للإيمان بأن لقاء الآخر ضرورة حتمية، واللقاء بداية طريق الصداقة حتى في عالم السياسة، فهو وحده الذي يتيح للإنسان أن يتخذ موضعه حقًّا، وبالتمام.

يعرف الأكويني الصداقة السياسية بأنها أرقى أشكال السعادة الأخلاقية، غير أنها لكي تتحقق لا بد من توافر شروط، منها وجود فعلي للسعاة الأخلاقية، ومفادها أن الناس عندما يشعرون بالصداقة، لا يكونون في حاجة إلى العدالة، فهي قائمة في نشيد الصداقة كما يقول عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي «روبير مونتاني»، ومنها المواطنة، بمعنى أن الذي يتخلى عن مواطنته لا يمكنه أن يصنف نفسه من الذين يمكنهم أن يكونوا أصدقاء في السياسة. والشاهد أن الأكويني عاش متأثرًا جدًّا بأفلاطون وأرسطو، والأخير يقول: إن الصداقة بين المواطنين هي أحد الشروط الأساسية للرفاه المشترك، لكن كيف تستقيم الصداقة في عالم مليء بالدسائس والشرور غير الأخلاقية، تلك التي تبطل فعل الصداقة في المبتدأ والخبر؟

العلاقة الدولية ومفهوم الصداقة: لا يمكننا بحال من الأحوال تناول مفهوم الصداقة والسياسة في القرن الحادي والعشرين بمنأى عن مفهوم ومعنى العلاقات الدولية؛ ذلك أن تطور الكيانات السياسية في حاضرات أيامنا، اختلف اختلافًا جذريًّا عما كان عليه المشهد السياسي قبل ألف عام أو ألفي عام، فوقتها ربما كان البعد الشخصي للحكام هو الذي يحدد علاقات الأمم بعضها ببعض، فيما تغير المشهد اليوم، استنادًا إلى رؤى مغايرة للحياة المتطورة بشكل متسارع. بات من غير اليسير الحديث عن صداقة مجردة في عالم معقد، توجد فيه فواصل وحواجز بين الأمم والشعوب، ويتطلب التعاون بينهما تمييزًا واضحًا له مرجعياته في القانون والشرائع الدولية، ومن ثم تبدو الشؤون الدولية كأنها تتعلق بأحداث منفصلة في طبيعتها، ولا رابط بينها، فهذه الأحداث قد تكون ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو رياضية، ولكل منها مجال خاص وميدان مستقل تتحرك فيه، وبالتالي له آلياته وقواعده الخاصة.

السؤال هنا: من الذي باتت مسألة الصداقة معلقةً في رقبته في هذا الكون الواسع المترامي الأطراف؟ باختصار غير مخلّ لم تعد المسألة فقط متعلقة بالرؤساء أو الزعماء، بل بات هناك فاعلون دوليون جدد، أصبحت أصابعهم تحرك العالِم، وتأثيرهم في مجمل التفاعلات الدولية لا يقل أهمية وخطورة عن دور الحكومات وتأثيرها، بل أصبح للمبادرات الفردية والخاصة، وتحركات الأفراد والجماعات العابرة للحدود، والدوافع السياحية أو الثقافية أو الهجرة أو غيرها، دور فاعل ومؤثر على نحو متزايد في التفاعلات الدولية.

الصداقات السياسية في زمن العولمة

تطرح السطور المتقدمة السابقة علامات استفهام عن أزمنة العولمة والأبعاد الشخصية لهؤلاء الفاعلين اليوم على الساحة الدولية، بمعنى أنه حال المقارنة بين زمن الأمبراطورية الرومانية، والصداقات التي كانت تربط القيصر مع من سواه من حكام دول العالم، وبخاصةٍ التابعون له، وبين رؤيتنا على سبيل المثال اليوم لدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية التي ينظر إليها على أنها روما العصر مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فإن تغيرًا جذريًّا لا بد أن يطرأ على شكل ومفهوم العلاقة في الصداقة السياسية.

كان المشهد في زمن القيصر سلطويًّا بالدرجة الأولى، بمعنى أن الأضعف يخضع لسيطرة الأقوى والأكبر والأفعل عسكريًّا واقتصاديًّا. لكن اليوم وفي الحق منذ نشأت عصبة الأمم المتحدة بدأت لوائح الصداقة الأممية وتوجهاتها تأخذ منحى جماعيًّا، له ميثاق وآليات، ولم تعد المسألة –ولو بشكل نسبي- شريعة غاب، حتى إن شذ بعضٌ عن القاعدة في بعض الأحيان. في هذا الإطار لم تعد الصداقة فكرة مجردة بين حاكمين أو بين دولتين بل أضحى المفهوم أوسع ويتصل بما نعرفه اليوم بالنظام الدولي، أي مجموعة الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان، ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معها، والنظام الدولي كذلك نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية.

هنا ينبغي علينا الإشارة إلى اختلاف مفهوم النظام السياسي الدولي، عن مفهوم المجتمع الدولي، من عدة نواحٍ، فالمجتمع الدولي هو المجتمع الذي تنتظم الدول كافة في عضويته، وهو الذي يمنحها الاعتراف، كما أنه يتعامل معها جميعها على قدم المساواة من دون تفرقة أو تمييز، وهو الذي يقر لها بصلاحيات السيادة الوطنية الكاملة وغير المشروطة على أراضيها، وهنا فإن وحدات المجتمع الدولي يمكن أن تنشأ بينها وبين بعضها صور متباينة من الصداقة ذات الدرجات المختلفة.

أما النظام السياسي الدولي فإنه أكثر تحديدًا في مفهومه وكذا في الأسس التي يرتفع فوقها بنيانه، وعليه فمسألة الصداقات الثنائية فيه غير ممكنة عبر التجريد المطلق.

صداقات دائمة أم مصالح متصلة: في سياق البحث والتنقيب عن جذور قضية الصداقات في عالم السياسات، يجد المرء عبارة تكاد تكون من قبيل المصكوكات الفكرية إن جاز التعبير وهي: «أنه في عالم السياسة لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة مشتركة». وفيما ينسب بعضٌ هذه المقولة لرئيس وزراء بريطانيا الأشهر ونستون تشرشل، يرى بعض آخر أن قائلها هو الرئيس الفرنسي مؤسس الجمهورية الخامسة «شارل ديغول». ومهما يكن من أمر قائلها، فإن ما يهمنا هو المحتوى أولًا وقبل كل شيء، ولا سيما أن نخب البراغماتية السياسية حول العالم، أولئك الذي مضوا بعيدًا في عالم تسليع الإنسان ضمن أطر الرأسمالية المعولمة المتوحشة، وكذا النيوليبرالية بما جرته على العالم من ويلات، جعلوا منها مرجعية مقدسة لما يجري حول العالم، وبهذا المفهوم انتفت الصفات الأخلاقية من المجتمعات البشرية، وفي المقدمة منها، صفة الصداقة ورباطات الأخوة، وبات الإنسان «ذئبًا لأخيه الإنسان» كما يشير الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» (1588- 1679م)، أو بات الآخر هو الجحيم، بحسب توصيف الفيلسوف الوجودي الفرنسي الأشهر «جان بول سارتر» (1908– 1980م).

والثابت أن المصالح تختلف اختلافًا جذريًّا عن أخلاقية الصداقة فالمصالح قائمة على إستراتيجيات واضحة كل الوضوح في أعين أصحابها، قد يذهبون إليها مباشرة لتحقيق أهدافهم، أو أنهم يلتفون من حول التضاريس الجبلية الوعرة ويبقى الهدف باقيًا ماثلًا أمام أعينهم. أما الصداقة ففيها شيء كبير من التسامح والتصالح مع الآخر ومع الذات، وعادة ما تكون بعيدة كل البعد من تلك الدائرة الجهنمية المعروفة باللعبة السياسية

أو الألعاب حال الجمع، تلك البعيدة كل البعد من الملهاة، وبعيدة أيضًا من البراءة، ولا تمت بِصِلَة من قريب أو بعيد إلى الرهان الشفاف، إنها لعبة يصفها بعضٌ بأنها شيطانية، لعبة ذكاء ورهان ومصير، ربما تسبب أنهارًا من الدماء، وربما تغير مسار التاريخ، تهدم دولًا وتبني غيرها، وربما تشلّ الحياة، ولكن ليست ككل الألعاب، لعبة قد تكون أداتها القنابل الذرية، أو أرقى المعادلات الرياضية، لعبة قد تكون في علوم الأولين والآخرين، لعبة قد تكون أدواتها الانحلال والإباحية.

هذه المقدمة تقودنا إلى أن هناك احتمالات لأن تحوي السياسة في طياتها عداء وصداقة معًا في الوقت نفسه، صداقة في ضوء مصلحة معينة، وعداء في ضوء تنازع وتصارع مصلحة أخرى مناهضة ومقاومة في اتجاه مضاد، لقاء هنا بسبب مصلحة مسماة، وفراق هناك من جراء مصلحة مسماة أخرى، توافق هنا بضغط، ثم مصلحة مشخصة، وشجار هناك بضغط من مصلحة مشخصة، تبادل خبرات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية هنا لضرورات براغماتية دقيقة، وتمويه وتضليل سياسي وعسكري وأمني ومخابراتي هناك لضرورات مغايرة… هل يفهم من هذا الطرح أننا أمام ما جرى بعضٌ على تسميته مؤخرًا النيران الصديقة؟

النيران الصديقة عسكريًّا وسياسيًّا

تخبرنا الموسوعة العالمية ويكيبيديا أن النيران الصديقة هي رمي بالأسلحة بين جند الجيش الواحد أو بين الجيوش المتحالفة بقصد إلحاق الأذى بالعدو، وتتسبب النيران الصديقة في سقوط عدد من الجرحى ومن القتلى، غير أنه في العلوم العسكرية، لا يصنف هؤلاء القتلى على أنهم قتلى معركة ولا جرحى حرب، والسببان الرئيسان لحوادث النيران الصديقة هما، الموضع الخاطئ، وتحديد الهوية الخاطئ.

حديثًا تحفظ الذاكرة عدة حوادث جرت بها المقادير في الحروب المعاصرة، فخلال الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003م حدثت معارك أطلق فيها الأميركيون نيران أسلحتهم على جنودهم، وهو الأمر الذي تكرر في أفغانستان أيضًا.

المشهد نفسه حدث في صفوف القوات الإسرائيلية خلال عدوانها على غزة عام 2012م، ومثله في ليبيا حين أوقع الثوار الليبيون طائرة من طراز ميغ 23 تابعة لسلاح الجو الخاضع للثوار. قبل ذلك وفي زمن الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري اشتبكت فصيلة من المظلات مع قوة من الهجانة ليلًا، والسبب كان سماع قوة الهجانة لإطلاق أعيرة نارية من بندقية الكلاشنكوف، التي لها صوت مميز يختلف عن بنادق الجيم 3 التي كانت تستخدمها معظم وحدات الجيش. هل في إشكالية النيران الصديقة ارتدادات ما لها صلة بعالم الصداقة مع الآخر أم إنها مفاهيميًّا تنسف فكرة الصداقة من الأصل في عالمي السياسة والعسكرية؟ أهم الأبعاد التي تجعل النيران الصديقة واقعًا معاصرًا معيشًا، هو الإنسان نفسه، أي أن المقاتل في ساحة المعركة هو السبب الرئيسي في ارتكاب هذا الفعل؛ ذلك أن جو المعركة ذاته وحالة التوتر والقلق والخوف التي يعيشها هذا المقاتل، والتشويش الفكري والنفسي، تجعله عرضة للتصرف العشوائي والمتهور فيطلق النار أحيانًا من دون تمييز، وعند أقل حركة دفاعًا عن نفسه، وخصوصًا في الليل.

هل غياب الإحساس بالآخر دافع رئيسي في تكرار مثل هذه الحوادث؟ المؤكد أنه عند غياب الحس بالآمان، الذي تولده الصداقات الإيجابية العميقة والخلاقة، يضحى البديل هو الخوف من الآخر، ويصبح بالفعلِ الآخرُ هو الجحيم وهو العدو.

قيصر وبروتوس.. نيران الأصدقاء

لا يقتصر مصطلح «النيران الصديقة» على أرض العمليات العسكرية وميادين ضرب النار فحسب، بل هناك أيضًا نيران صديقة في عالم السياسة المدنية، بمعنى وجود طغمات من السياسيين الذين يذكرهم التاريخ، قد سارعوا إلى قتل أصدقائهم، أو خيانتهم، إما بدعوى أن هناك بلادًا تحتاج إلى بناء بقتلهم أو خيانتهم، أو بدعوى أن هناك ثورة تنتظر صنعها، أو تحت ذريعة وجود حرب ما لا بد من ربحها أو أحيانًا حتى من دون دعوى، فقد تحدث صراعات داخلية في عالم السياسة تفسد سنوات طوالًا من عالم الصداقة. ولعل حدثين بعينيهما في العالم العربي يدللان على كارثية النيران الصديقة التي جرت بعيدًا من ميادين ضرب النار. أما الحادث الأول فقد عرفته مصر الكنانة في أعقاب حرب الخامس من يونيو حزيران من عام 1967م.

ذلك أنه بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها الجيش المصري، حدث خلاف عميق للغاية بين القيادة السياسية المتمثلة في جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية، وبين قائد الجيش المصري، وزير الحربية، صديق العمر لجمال، المشير عبدالحكيم عامر، ورغم أن الرواية الرسمية تشير إلى أن عبدالحكيم قد انتحر، إلا أن أسرته، وكثيرًا جدًّا من روايات المسؤولين المصريين، تؤكد أنه لم ينتحر.

المثال الثاني للنيران الصديقة في عالم السياسة العربي، حدثت به المقادير في عام 1971م في العراق، عندما قام صدام حسين بحملة تصفية لمعارضيه وخصومه داخل حزب البعث بدعوى خيانتهم؛ لينفرد بمقدرات السلطة في العراق، وليبدأ مسيرة من الحكم المنفرد التي قادت العراق والمنطقة العربية إلى حالها الأليم. هل النيران الصديقة المدنية لم تعرف طريقها للإمبراطوريات القديمة، هادمة بذلك هياكل من الصداقة بين السياسيين دامت طويلًا جدًّا؟ المؤكد أن ما جرى في قصة القيصر الروماني الأشهر «غايوس يوليوس قيصر (عام 100 ق.م)، يؤكد أن الظاهرة كامنة في أضابير التاريخ، فيوليوس قيصر الذي كان من أبرز الشخصيات العسكرية في التاريخ، وصاحب ثورة تحويل روما من جمهورية إلى مملكة، كان لديه صديق مقرب، ويقال أن له ابنًا ولو بصورة غير شرعية يدعى بروتوس، هذا قدم له القيصر يوليوس في حياته العديد من المناصب والألقاب، وعينه حاكمًا لمقاطعة «غاليا»، غير أن هذا كله لم يمنع بروتوس من أن يشارك في حملة لاغتيال القيصر.

قصة بروتوس والقيصر تظهر لنا التضادات والإشكاليات المعقدة التي تلف قضية الصداقة في عالم السياسة؛ إذ تدور تفاصيل المؤامرة على أن يوليوس قيصر حاول تحسين ظروف حياة المواطنين الرومان، وزيادة فعالية الحكومة، وجعلها تتبنى مواقف تنم عن صدق وأمانه، وأعلن في عام 44 ق.م، عن جعل دكتاتوريته المطلقه حكمًا دائمًا على روما. أفقد هذا التوجه يوليوس قيصر أصدقاءه من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني، الذين دبروا له مؤامرة كانت نتيجتها اغتياله في مارس من عام 44 ق.م. تفاصيل الاغتيال وخيانة السياسة للصداقة نجدها ضمن ما جرى في ذلك النهار؛ فقد اتفق أصدقاء القيصر على انتظاره في المجلس، وما إن جلس حتى قاموا جميعًا بطعنه بخناجرهم في بطنه وصدره، وكان الاتفاق أن لكل شخص منهم طعنة حتى يموت على أيديهم جميعًا من دون أن تقع التهمة على شخص واحد، وتوالت الطعنات على القيصر، ويقول المؤرخون: إن الرجل الذي كان مقاتلًا صنديدًا، دافَعَ عن نفسه دفاع الأبطال، وقاوم قاتليه مقاومة شرسة، غير أنه حين جاء دور آخر الطاعنين انسحق يوليوس وانهزم في داخله، فقد كان بروتوس، ابنه السري، وصديقه العلني المقرب.

الحوار القصير الذي دار في تلك اللحظات الرهيبة بين الاثنين يبيِّن لنا بجلاء تام، كيف يمكن للصداقة في عالم السياسة أن تضحي وبالًا:

القيصر يوليوس وهو ينازع: حتى أنت يا بروتوس.

بروتوس في نشوة القتل: إني أحبك ولكني أحب روما أكثر منك، وجذب سلاحه من أحشائه ليموت القيصر بهذه الصورة البشعة.

يقول كتاب سيرة القياصرة الرومان أن يوليوس قيصر كان أحد أفراد أسرة من الأشراف الرومان برزت منذ عهد طويل اكتنفه الغموض، وكانت تتجلى فيه معالم ومواهب ومقدرات الشخصية الأرستقراطية الرومانية، فكلمة «شرف» غالبًا ما كانت على شفتيه، والشرف تطلب منه أن يكون مخلصًا وفيًّا إلى أبعد حدود الإخلاص والوفاء إلى أصدقائه ومعاصريه ومؤيديه حتى إلى أولئك الأوضع مقامًا ممن يردون له خدمة… فهل مات قيصر مغتالًا من جراء إخلاصه في صداقاته لسياسيين لا يقيمون وزنًا لمثل تلك الصداقة؟ مهما يكن من أمر الجواب فإنه يدفعنا إلى البحث عن نماذج أخرى ربما تكون أكثر حظًّا في علاقاتها، ورموزًا للوفاء والصداقة بين السياسيين.

توماس هوبز

عن توماس جيفرسون وجون آدمز

لم يخلُ التاريخ من قصص صداقات طيبة بين سياسيين كبار حول العالم، مثل توماس جيفرسون، وجون آدمز. أما الأول فهو السياسي والرئيس الأميركي الثالث (1743– 1826م)، الذي تجلَّت عبقريته في أنه امتلك تفكير الفلاسفة ودهاء السياسيين واستطاع استخدام هاتين المَلَكتين ببراعة، وهذا هو فن السلطة.

أما جون آدمز (1735– 1826م) فهو الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية، كان محاميًا ودبلوماسيًّا ورجل دولة ومنظِّرًا سياسيًّا وهو أحد الآباء المؤسسين، وكان زعيم حركة الاستقلال الأميركية عن بريطانيا العظمى، وكاتب يوميات ورسائل، وبالأخص مع زوجته أبيجيل. الذين لهم علم بتاريخ الولايات المتحدة يعرفون أن صداقة عميقة نشأت بين الاثنين وهما قد تقلَّدا منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وقد تعمقت تلك الصداقة خلال الحرب الثورية الأميركية عام 1770م، ورغم اختلافاتهما السياسية، فإن ذلك لم يزعزع تلك الصداقة، وظل جون آدمز وتوماس جيفرسون أصدقاء مقربين، وقد ساهمت تلك الصداقة في تقوية أركان الدولة الأميركية الوليدة في صورة جمهورية، ولا سيما أن جيفرسون هو الكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال، واليوم وفي ظل حالة الانقسام التي تعانيها الولايات المتحدة، والتي تبدت في نتائج انتخابات التجديد النصفي الأخيرة، يقول الثقات من الأميركيين: إنهم في حاجة لإعادة قراءة سطور قصة حياة جيفرسون الفريدة، ليس فقط لأنه قادَ الأمة في وقت التحزبات الشرسة والصراع الثقافي، والتغيرات الاقتصادية والمخاطر الخارجية، ولكن لأنها تجسد الكفاح من أجل قيادة أمة لتحقيق العظمة في عالم صعب ومعقد، وقد كانت الصداقة جسر جيفرسون إلى أغلبية السياسيين إن لم يكن كل سياسيِّي بلاده، ولهذا يبقى علامةً بارزة في تاريخ الولايات المتحدة حتى الساعة.

الحاجة إلى الصداقة دوليًّا: هل يمكن للحياة الإنسانية أن تمضي من دون صداقات إنسانية حتى على صعيد الحياة السياسية الدولية؟ عند الفيلسوف: إن العواطف جوهر الحياة والصداقة القلب منها، حتى إن تراكمت أغلفة البراغماتية السياسية، فمن دون المشاعر نضحي روبوتات حرفيًّا، ننتظر غيرنا ليبرمجنا كي نقوم بأفعال ميكانيكية. الأمر الآخر الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن الاختلاف لا يجب أن يعني بالضرورة والحتمية التاريخية الكراهية أو العداء للآخر، وعليه فالذين قالوا بفكرة الحوار كأحد أسس العلاقات الدولية في ثوبها القشيب، خلصوا إلى أنها بداية الطريق لصداقة تجنب العالم والدول والأفراد كثيرًا من المتاعب، وتعود على الشعوب بالخير والنفع الكثير، بخلاف الدولة أو القيادة السياسية التي تستجلب العداء لشعبها، نتيجة سلوكياتها وممارساتها السياسية الخاطئة.

كذلك القائد والحاكم الذي يحسن التصرف بإدارته، ويحتوي الجميع بأسلوبه الإنساني، يكسب كثيرًا من الأصدقاء، وبذلك يكون قد جنَّب نفسه، ودولته الكثير من المشاكل والفتن الداخلية. في هذا الإطار كان من الطبيعي أن تخصص الجمعية العامة للأمم الممتدة في 2011م يومًا للاحتفال بالصداقة الدولية في الثلاثين من يوليو من كل عام. فكرة هذا اليوم العالمي هي أن الصداقة بين الشعوب والبلدان والثقافات والأفراد، يمكن أن تصبح عاملًا مُلهِمًا لجهود السلام، وفرصة لمواجهة أسّ صورة نمطية مغلوطة، والحفاظ على الروابط الإنسانية واحترام التنوع الثقافي… الخلاصة.. الصداقة بين السياسيين طريق مؤكد لتجنيب العالم ويلات الأسوأ الذي لم يأتِ بعد.

صحوة اليمين الأصولي الأميركي .. قراءة في الجذور التراثية والاختراقات التي جرت للعقلية الأميركية

صحوة اليمين الأصولي الأميركي .. قراءة في الجذور التراثية والاختراقات التي جرت للعقلية الأميركية

هل بات العالم على موعد مع عودة التيار اليميني الأصولي الأميركي الضارب جذوره في ذاك المجتمع، الذي يعرف أحيانًا عند البعض بتعبير «الصهيونية المسيحية» من جديد؟ ينبغي بداية الإشارة إلى أن هذه القضية الفكرية شديدة التعقيد لأسباب شتى، في مقدمتها تداخل ما هو سياسي مع ما هو ديني، عطفًا على اختلاط التاريخي بالعوامل الثقافية، وامتزاج الجذور الأوربية مع التربة والبيئة الأميركيتين. أمر آخر لا بد منه في مفتتح الكلام وهو إشكالية ضبط المعاني والمباني والكلمات، فعلي سبيل المثال أضحى من الخطأ الجسيم إلصاق الصهيونية تلك الحركة العنصرية، بالمسيحية الديانة التي جوهرها الرحمة وباطنها الحب والسلام، لا اغتصاب أراضي الآمنين المطمئنين، بالقوة المسلحة، وطرد سكانها كما الحال في فلسطين.

ولعل أحد أهم أسباب تناولنا لقضية اليمين الأصولي الأميركي وصحوته غير المحمودة هذه، هو الآثار السلبية التي يتوجب على العرب والمسلمين عامة، وعلى الشعب الفلسطيني والمقدسات في فلسطين ولا سيما المسجد الأقصى خاصة دفعها من جراء استعلاء اليمين الأصولي الأميركي مرة ثالثة، وفي ظل إدارة أميركية لا تؤمن إلا بالقوة الخشنة، أي حسم المعارك بقوة السلاح، ولا دالة لها على طريق القوة الناعمة، حيث المثالية الأيديولوجية والنماذج الأخلاقية والمعايير الأدبية هي النبراس والمشاعل على الطريق. من أين للمرء البداية في سياق فض الاشتباك وتخليص الخيوط وترسيم الخطوط لشرح أبعاد الأزمة وانعكاساتها بنوع خاص على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وفيه من الجوانب الدينية الكثير، مما لا يمكن أن يوارى أو يدارى؟ الشاهد أنه للتخفيف على القارئ غير المتعمق في الأبعاد الثيولوجية سنحاول بلورة القراءة برمتها في سطور معدودات وفقرات شبه مستقلة، غير أنها جميعها تمضي في سياق واحد.

أميركا علمانية الهوية دينية الهوى

حين يختتم رئيس الولايات المتحدة خطبته بكلمات «فليبارك الله أميركا GOD BLESS AMERICA» فإنه يستحضر تراثًا طويلًا جدًّا لدولة رسميًّا هي علمانية، في حين أنها في العمق دينية حتى النخاع، والعبارة المتقدمة ليست سوى عملة سياسية لمكافأة كل من يستجلب ما هو إلهي ومقدس باستمرار. بكلمات أخرى يحظى المكون الديني في الولايات المتحدة الأميركية بنفوذ كافٍ لصياغة اللغة السياسية، والعبارة وما ورائياتها هي جزء من التراث الإنساني والإيماني الذي أثر في تطور الولايات المتحدة منذ بداياتها.

هذا هو التراث المسيحاني الذي جعل «أميركا» تعبيرًا مشحونًا بالدلالة، ومحملًا بالمعاني إلى هذا الحد. ففي المعنى الكامل تعد «أميركا بلدًا ضخمًا يحمل رسالة عظيمة، كيانًا تاريخيًّا منح وعدًا استثنائيًّا». والشاهد أن الولايات المتحدة الأميركية ولدت في الأصل كمشروع «مسيحاني»، ولا سيما أن مواطنيها الجدد من الأوربيين كان جلهم من الهاربين من عسف السلطة الدينية في أوربا في القرون الوسطى، أولئك الذين حين وصلوا إلى شواطئ العالم الجديد، بعد رحلة طويلة ومرعبة ومحفوفة بالمخاطر، اقتنعوا في أعماقهم بأن مشروعهم يحظى بهداية وحماية الله. فبين عام 1619 – 1640م، وصل أكثر من عشرين ألفًا من المتطهرين «البورتيانيين»، وعدوا أنفسهم شعب إسرائيل الجديد، وأطلقوا على الأرض التي تركوها من خلفهم «بريطانيا فرعون»، أو «أرض العبودية»، مستعيرين بذلك المفاهيم والقصص التوارتية عن خروج بني إسرائيل من مصر، إلى أرض كنعان الجديدة، أي فلسطين. والمثير أن العقلية نفسها التي حكمت اليهود الذين خرجوا من أرض مصر في تهجير سكان كنعان الأصليين من العرب، هي التي فعلت فعلها في الأراضي الأميركية الجديدة، على يد المهاجرين الأوربيين المدفوعين بدافع ديني مهلك، ذلك أن ما شاهدوه أمامهم كان أرضًا جديدة ونقية لم ينخرها الفساد وتعد بداية جديدة. ومثلما اضطر اليهود القدماء الى محاربة الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم، كذلك رأى المهاجرون الجدد أنفسهم مفوضين بخوض المعركة مع الشعوب والقبائل الوثنية لامتلاك ما عدوه أرضهم الموعودة، حتى إن كلفهم ذلك إبادة مئة وأربعين مليون هندي أحمر.

يمين أصولي يخترق الروح الأميركية

كانت الخطوة التالية التي تجذرت فيها الروح والمفاهيم التوراتية في النفس الأميركية، عطفًا على بقية مؤسسات الدولة، تتمثل في الإيمان بأن عظمة أميركا لا بد أن تستدعى تاريخيًّا وروحيًّا من حياة الشعب العبراني، وهنا يمكن للعالم العربي والإسلامي بنوع خاص، أن يفهم السر الحقيقي للعلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية، وبين دولة إسرائيل، إنها علاقة المطلق وليس النسبي، فالمطلق هو الديني العقائدي، ذاك الذي لا يمكن له أن ينقسم أو ينفصم، إنه كل واحد لا يتجزأ، فيما النسبي هو السياسي والأيديولوجي، ذاك الذي يمكن تقديم بعض التنازلات من حوله، ويقبل فلسفة المواءمات. والشاهد أن هذا الاختراق للروح المسيحانية لم تجر به المقادير على الأراضي الأميركية بادئ ذي بدء، بل في أوربا، في القرن السادس عشر في زمن «مارتن لوثر» (1483 – 1546م) الراهب المنشق عن المؤسسة الكاثوليكية الذي خلق التيار المعارض، الذي عُرف باسم «البروتستانت».

كانت البابوية هي العدو الأكبر ليهود أوربا، ولذلك عمل «لوثر» على استمالتهم إليه قدر المستطاع وأزيد، عبر اعتماد العهد القديم كوثيقة أصيلة وحيدة للإيمان وعدّ تجارب بني إسرائيل وقصصهم هي نبراس الأمم والشعوب سياسيًّا. وثانيًا عبر تقريظهم من خلال كتابه المسمى «عيسى وُلد يهوديًّا»، غير أنه بعد نحو عشرين عامًا، اكتشف خلال علاقته معهم كيف أنهم هم الذين اتخذوه مطية لتحقيق رغائبهم وإدراك أهدافهم، فجاء بكتاب آخر لينسخ الكتاب المتقدم، وأسماه «اليهود وأكاذيبهم»، غير أن السهم كان قد نفذ، وباتت الاختراقات اليهودية للروح الأوربية والأميركية فاعلة ونافذة. كان في عمق تلك الاختراقات فكرة العودة إلى الوحي، أو التوراة، العهد القديم، من دون التفات يذكر للعهد الجديد، بما فيه من مفاهيم السلام والتضحية بالذات، وإعلاء شعار «المحبة الخادمة». كان خط الدفاع الذي اختطه البروتستانت بمختلف شيعهم رفض العقلانية، والتخندق بإصرار في خندق الوحي، على النحو الذي يعبر عنه ما كتبه اللورد «شافتسبري» السياسي الإنجليزي البارز، في يومياته عام 1871م: «إن الوحي موجه إلى القلب لا إلى العقل، فالله لا يهتم لعقل الإنسان، لكنه يهتم بقلب ذلك الإنسان، فمثقال ذرتين من الإيمان والمحبة أعظم قيمة لدى الله، بما لا يقاس من أي خزانة إنسانية مكتظة بكنوز الفكر والمعرفة». والشاهد أن الحديث المتقدم، وإن كان ظاهره طيبًا، إلا أن باطنه كان يسعى لإيقاف التفكير على نحو عقلاني، وبما يقطع الطريق على إعمال العقل في النقل، ومنع تأويل أو تفسير أي نصوص، ليحدث الاختراق الأكبر للعقلية الأميركية، وتحديدًا لجهة أرض فلسطين.

المجيء الثاني وقيام الدولة اليهودية

كان حديث اللورد «شافتسبري» جميلًا مفعمًا بالإيمان والطيبة بغير شك، لكنه في أواخر القرن التاسع عشر، كلام إنسان مأزوم ومحاصر قد تخندق وقرر إبطال العقل، وذلك فيما يكشف عنه مسار الأصولية اليمينية الجديدة، وهو ما فعله البروتستانت سواء في إنجلترا أو في القارة المكتشفة حديثًا «أميركا الشمالية» تخندقوا، وبالحقيقة انكفؤوا وراء غائصين في الإيمانيات المعبرنة (من العبرانيين) أكثر فأكثر، كأنما في رمال متحركة، وبمفارقة لم تفقد غرابتها. كان الغوص في الإيمانيات هربًا من مواجهة اجتياح العلم والعقلانية للقلاع القديمة التي بدأت تتكشف عن معمار من رمال، لواذًا بأمل المجيء الثاني للمسيح الذي انتظره وتعجله المؤمنون المحاصرون بالعقلانية، كيما ينقذهم وينقذ العالم من الشيطان الذي تربع على عرشه في العقل البشري اللعين. في الولايات الأميركية المكتشفة حديثًا، باتت البروتستانتية المخترقة يهوديًّا أكثر سطوة أكبر بكثير مما تمتعت به في إنجلترا وهي سطوة بلغت التيارات الأصولية الأميركية بفضلها ذروة تمثلت في ثقافة شعبية واسعة الانتشار، تدامجت فيها بوضوح كثرة من المفاهيم الروحية والدينية المكونة للموقف الصهيوني، من هذا المنطلق وجد في التاريخ الأميركي منذ بدايته الأول ميل مسيحي قوي للاعتقاد بأن المجيء الثاني متعين أن يظل رهينًا بإنشاء الدولة اليهودية التي يلتئم فيها شمل اليهود. وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد لم يكن رأيًا أجمع عليه كل اللاهوتيين المسيحيين في الولايات المتحدة، فإنه شكل جزءًا مهمًّا من مكونات التاريخ الفكري الأميركي، وشمل شيوع تيار قوي ولحوح من التطلع إلى العصر الألفي السعيد في الفكر المسيحي الأميركي.

من ذلك التراث الذي أينع، وُلِدت الأصولية الأميركية التي يشير إليها الكاتب المصري الأصل شفيق مقار في مؤلفه: «المسيحية والتوراة بحث في الجذور الدينية وصراع الشرق الأوسط». كانت أهم الطوائف الدينية التي شملها التيار الأصولي في الولايات المتحدة من مبدأ الأمر طائفة المعمدانيين، والبروتستانت اللوثريين، وبعض الشيع المشيخية. والواقع أن الأصوليين، الذين جمع بينهم الأخذ بالتفسير الحرفي للنبوءات الواردة بالعهد القديم والإيمان بحتمية الإحياء القومي للشعب اليهودي، شكلوا جانبًا كبيرًا من البروتستانتية الأميركية قرب نهاية القرن التاسع عشر، وجعلتهم صهيونيتهم (التي سبقت صهيونية اليهود) ينظرون إلى اليهود بوصفهم مفتاح المستقبل لأميركا وشعبها. من هنا رسخ إيمان عقائدي لا يقبل التفاوض أو الشراكة بأن اليهود هم مفتاح مستقبل أميركا، وأن إسرائيل هي أمل المستقبل كذلك، ومنبع البركة للولايات المتحدة، ولهذا، فإنه لم يكن من المستغرب أن يكون أول قنصل أميركي في القدس درويشًا دينيًّا من طائفة الكويكرز، التي أسسها «جورج فوكس» (1624 – 1691م)، ذلك الإنجليزي المُتهوِّس الذي أشاع أن السماء تحدثه مباشرة لنيل التنوير بمعزل عن الوساطة البشرية.

الستينيات والإحياء الجديد للأصولية الأميركية

عاشت الأصولية الأميركية المتهودة لقرون طويلة تحت الجلد الأميركي ظاهرة تارة ومتخفية تارة ثانية، وبينهما ظلت أميركا تعيش إشكاليتها الأشهر وهي «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة» أي الصراع، بين الديني والدنيوي، تفعل شيئًا وتتكلم عن نقيضه، تنادي بالحرية والديمقراطية، وتدعم الانقلابات والأنظمة القمعية، ترى في ذاتها «مدينة فوق جيل»، وفي الوقت عينه تسعى لإطفاء أنوار الأمم والشعوب الساعية للتخلص من ربقة العبودية الجديدة، عبر أدواتها العصرانية، مثل البنك والصندوق الدوليين، والهيئات الأممية المختلفة. غير أن لحظات بعينها في ستينيات القرن الماضي استدعت إعادة وقراءة جديدتين لمعين أميركا الأصولية، ولا سيما خطاب الأب المؤسس جورج واشنطن (1732 – 1799م).

كان عام 1967م عامًا غير اعتيادي في تاريخ الولايات المتحدة، ففي هذا العام الحزين وتحديدًا في شهر يونيو منه، استطاعت إسرائيل أن تحتل مساحات شاسعة من الأراضي العربية في مصر وسوريا والأردن، عطفًا على احتلالها القدس الشرقية، وقد حدث ذلك كله في ستة أيام فقط لا غير. ولعله من مفاجآت القدر أن الولايات المتحدة بسطوتها ونفوذها السياسي والعسكري وبكامل قوتها الخشنة، كانت تعيش في عمق واحدة من أسوأ أزماتها، المستنقع الفيتنامي، الذي ألحق بها عارًا عسكريًّا وإنسانيًّا لا يزال باقيًا حتى الساعة. في تلك الأوقات نفذ التيار اليميني الأصولي الأميركي الجديد إلى السطح الأميركي من جديد، وروج أشياعه وأتباعه صيغة قوامها أن روح الرب عضد وساند اليهود في إسرائيل، ولهذا حققوا نصرًا كبيرًا على العرب والمسلمين، وفي الوقت ذاته فإن روح الرب قد فارق أميركا ولهذا فإن الهزائم تلاحقها على نحو غير مسبوق، كما تجري الحال في فيتنام.

من هنا كانت حتمية إعادة قراءة سطور «جورج واشنطن» في خطاب القسم، ومن هنا أيضًا سوف تثمر الأصولية الأميركية توجهات سياسية قاتلة وخرقاء. يقول واشنطن: «لا يوجد شعب يقر ويعترف ويعشق اليد الخفية التي تسير أمور البشر أكثر من شعب الولايات المتحدة، فكل خطوة تقدم بها نحو إقامة أمة مستقلة تبدو متميزة برمز دلالي يشير إلى العناية الإلهية». ويضيف فيما بعد: لأننا يجب أن نقتنع بأن ابتسامات السماء الميمونة، لا يمكن أن تنتظرها أمة تتجاهل القواعد الأبدية للنظام والحق التي قدرتها السماء ذاتها، لذا فإن الحفاظ على نار الحرية المقدسة ومصير نموذج الحكم الجمهوري، يعتمد حقًّا اعتمادًا عميقًا ونهائيًّا على التجربة الموكولة إلى أيدي الشعب الأميركي.

على أن السؤال: كيف وجهت تلك الصحوة أميركا في نهايات القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين؟

رونالد ريغان وتجليات الأصولية الجديدة

رونالد ريغان

باختصار غير مخلٍّ أيضًا يمكننا القطع بأن الأصولية الأميركية الحديثة قد مرت بمرحلتين تاريخيتين انعقد كل منها تحت لواء رئيس أميركي مختلف. كانت المرحلة الأولى في عهد رئاسة رونالد ريغان. لم يكن ريغان الآتي من شاشة هوليوود باحثًا أو أكاديميًّا مخضرمًا، ولهذا بدا كأنه «قشة» في مهب رياح الأصولية، وقد تلاعب به غلاة اليمين المتطرف من التيارات البروتستانتية على اختلاف أشكالهم وألوانهم. يروي السياسي الأميركي «جيمس ميلز» للمجلة الأميركية «سان دييغو ماغازين» أنه في عام 1981 وفي أثناء حفل غداء، انتحى به ريجان كما لو كان من الوعاظ المؤمنين ليوضح له أن كل النبوءات اللازمة لنشوب معركة هرمغدون قد تحققت، وذكره بأنه مكتوب في الإصحاح (38) من سفر حزقيال أن الله سيأخذ بني إسرائيل من بين الوثنيين الذين شتتوا في أراضيهم، وأنه سيجمعهم ثانية في الأرض الموعودة، ثم أكد له أن ذلك تحقق بعد ألفي سنة، وأن كل شيء أصبح بذلك لأول مرة معدًّا ومهيأً لنشوب معركة هرمغدون وحدوث المجيء الثاني للمسيح.

في المجلة عينها يذكر السياسي «ميلز» أنه عندما ذكر محدثه الذي كان يملك سلطة إشعال حرب نووية لا تبقي ولا تذر بأن الشيء الوحيد المؤكد والواضح في الكتاب المقدس عن المجيء الثاني هو أن أحدًا لا يعرف أو يمكن أن يعرف متى يمكن أن يحدث، احتد الرئيس الأميركي، وعلت نبرته ثانية وهو يردد على محدثه قائلًا: إن كل شيء بات معدًّا الآن، وإن الأمر لن يطول، وذكره بما قاله حزقيال (أحد أنبياء بني إسرائيل) من أن يهوه وعده بأنه سوف يمطر على جيش أبناء الظلام «حجارة برد عظيمة ونارًا وكبريتًا»، يدمر بها أعداء شعبه المختار، قائلًا له: إن ذلك يعني شيئًا واحدًا، وهو أن أعداء إسرائيل سوف يدمرون بالأسلحة النووية التي تنبأ بها حزقيال… كان رونالد ريغان ضحية ولا شك لعصبة من قادة اليمين الأميركي الديني الذين علا شأنهم دعائيًّا في ثمانينيات القرن الماضي، من أمثال «جيري فالويل»، و«بات روبرتسون».

وقد كان من نتاج هذه الأفكار أن سعى رونالد ريغان، الذي عدّه الأميركيون من أهم الرؤساء الذين رسموا صورة لأميركا القوية، إلى ابتكار البرنامج المعروف باسم حرب النجوم أو الكواكب الذي يعني إقامة مظلة نووية في الفضاء الخارجي، مظلة صاروخية، عمادها أشعة الليزر، قادرة على إبطال مفاعيل أية صواريخ توجه إلى القلب من الولايات الأميريكية من حدها الشرقي حيث المحيط الأطلسي، إلى جانبها الغربي على شاطئ المحيط الهادي.

الحادي عشر من سبتمبر وأصولية جورج بوش

جورج بوش

كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م على نيويورك وواشنطن فرصة ذهبية لإحياء المرحلة الثانية من الأصولية اليمينية الأميركية، إذ عبرت وعلى مستوى متضخم كثيرًا، كما يشير إلى ذلك البروفيسور «جيكوموللر – فاهرنهولتز»، الباحث الألماني اللاهوتي والكاتب المستقل في مؤلفه الشائق «الصراع على الله في أميركا»، إذ يرى أن الإرهاب الذي جرى على الأراضي الأميركية أفسح المجال واسعًا لأفكار الأمة المسيحانية، «الأمة المنقذة»، وتخليص العالم من الشر، برنامج يحمل المسيحانية الأميركية اليمينية إلى حدود قصوى متخيلة. استدعى «جورج بوش» في كلمته الأولى للتعليق على ما جرى تعابير وأوصافًا مغرقة في الأصولية والعداء والكراهية، مذكرًا العالم بزمن حروب الفرنجة كما سمّاها العرب، أو الحروب الصليبية كما أطلق عليها الأوربيون. وفي خطبته عينها، قسَّم بوش العالم تقسيمًا مانويًّا (نسبة إلى ماني الفارسي ومذهبه، حيث قال بإلهين يحكمان العالم أحدهما للخير وآخر للشر)، ووضع بوش أمم الأرض أمام خيار من اثنين؛ إما معنا وإما علينا. كان بوش نفسه ووصوله للرئاسة الأميركية، نتاجًا مغشوشًا لتبعات واستحقاقات الإغراق في الأفكار اليمينية الجديدة، حدث ذلك حين كانت الأسرة البوشية مجتمعة للصلاة ذات يوم من أيام الآحاد، في مجمع للعبادة التابع للفكر البروتستانتي عينه، حيث نظرت إليه والدته «باربرا بوش» التي ترعرعت في أوساط أصولية مسيحية، قائلة له: «أرى أنك تشبه موسى النبي، الذي قاد العبرانيين من أرض العبودية في مصر، إلى أرض كنعان… واختتمت تشبيهها «الأبوكريفي» ولا شك بالقول… يمكنك أن تكون مثالًًا جديدًا لموسى، لتقود أميركا والأميركيين إلى عالم آخر مغاير».

لم يكذب بوش الابن والدته، ذلك أن إدارته لم تمنح نفسها الوقت الكافي للتفكير في البدائل، ولم تسمح للشعب الأميركي بالتفكير في التأثيرات البعيدة المدى لسياسات الرد العنيف، فبعد مضيّ أقل من أسبوع على الحادي عشر من سبتمبر، كانت الحرب على الإرهاب في طور التخطيط النهائي وعلى وشك التنفيذ، بدءًًا من أفغانستان، مرورًا بالعراق، عطفًا على معارك أخرى لم يقدر لها أن تمضي قدمًا. كان بوش الابن في المطلق ضحية لليمين الأميركي المتهوّس، وقد وصف ذات مرة قراره الحرب على العراق، بأنه تكليف مباشر من السماء (وحاشا لله) والعهدة هنا على الراوي الفلسطيني الدكتور نبيل شعث المفاوض المعروف والقطب الفتحاوي اللامع، على هامش لقاء في البيت الأبيض مع الرئيس، المولود ثانية.

ترمب الحصاد الأخير لليمين الأميركي

دونالد ترمب

حين رحلت إدارة بوش الابن عام 2008م، وجاء باراك أوباما سيدًا للبيت الأبيض بخلفياته المتعددة، العرقية والدينية، خُيِّل لجميع الناظرين للمشهد أن أميركا قد ضربت صفحًا عن دعم أنصار اليمين الأصولي، الذي قادهم إلى مستنقعات ذكرت الجميع هناك بمأساة فيتنام التاريخية، لكن من الواضح أن المشهد لم يكن إلا تاثيرًا وقتيًّا، ومسكنًا موضعيًّا، سرعان ما انتهى مفعوله، وفقد قدرته على إبقاء الأميركيين في حالة ثبات انفعالي، إيماني وعقائدي. لعبت عناصر عدة أدوارًا بالغةً في إحياء الأصولية اليمينية التي جاءت بدونالد ترمب، منتصرًا على هيلاري كلينتون، في مقدمتها التشكيك في ولاء أوباما نفسه لأميركا، حيث طاردته الإسلاموفوبيا مرتكزة إلى جذوره العرقية الأبوية، عطفًا على أن الكثير جدًّا من سياسات أوباما فتحت الباب واسعًا لتيارات رأى الأميركيون أنها اختصمت من النفوذ السياسي للإمبراطورية الأميركية، ناهيك عن إحجامه عن اتخاذ قرارات كان لا بد منها. في هذه الأجواء استطاع «المتلاعبون بالعقول» العزف من جديد على أوتار الأصوليين واليمينيين في الداخل الأميركي.

كانت القوة الضاربة الفكرية لترمب تتمثل في «ستيف بانون»، ذلك الأصولي بامتياز، والمؤمن إلى أبعد حد ومد بأن للحرب تأثيرًا تطهيريًّا جيدًا، كما أن للعنف فاعلية في مواجهة الإرهاب، والمتبني لرؤية القطب الشيوعي السوفييتي الأشهر «لينين» بهدف الدولة القائمة وإقامة صروح جديدة، وهو الأمر الذي انعكس على شعارات ترمب في شأن «أميركا الجديدة»، أو أميركا من جديد، و«أميركا الأولى»، وجميعها منطلقات شوفينية من دون أدنى شك.

رسم بانون الخريطة الانتخابية لترمب، وعزف جيدًا على إيمان «البورتيانيين» من الأميركيين الجدد، ومن هنا طفت على السطح قضايا قديمة من عينة معركة هرمغدون، ثم الملك الألفي السعيد، وصولًا إلى القدس، التي غازل فيها ترمب أتباع ذلك التيار الذين يعدون بالملايين، ثم تبقى القضية الأكثر خطورة ووعورة أي قضية هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكل سليمان في موقعه وموضعه…

والآن وقبل الانصراف…

نجح ترمب في الدخول إلى البيت الأبيض، وقد بدأت ارتدادات وانعكاسات هذا الفوز تتجلى بشكل راديكالي غير مسبوق ولا سيما في الشرق الأوسط، وفيما يتصل بفلسطين والصراع الدائر هناك… ماذا يجري وإلى أين تمضي سياقات الأحداث وكيف نفك شيفرات القضايا المتقدمة؟