أدونيس كما تراه أخته فاطمة في مناسبة بلوغه الـ90: بلا أسلاف، يمشي في الهاوية وله قامة الريح

أدونيس كما تراه أخته فاطمة في مناسبة بلوغه الـ90:

بلا أسلاف، يمشي في الهاوية وله قامة الريح

تفتح الفنانة فاطمة إسبر كتاب الماضي الحاضر المستمر، منجزةً عالمها المتخيل عن شقيقها الشاعر أدونيس. هي الرسامة التشكيلية والباحثة الأكاديمية التي انتزعت رسالة الدكتوراه في نقد الشعر الحديث، مبحرةً في محيط الشاعر المترامي، لتأتي رسالتها بعنوان: «الرفض في شعر أدونيس».

من هنا تروي لنا فاطمة عن (علي أحمد سعيد إسبر) في مناسبة بلوغه التسعين من العمر، فتقول لـ«الفيصل»: «الكتابة عن أدونيس ليست بالأمر السهل عليّ، وبخاصة أن حياته كشعره تغلّفها سهولة فاتنة، غير أنها ممتنعة على الوصف الذي يوازيها، وثانيًا أنه تفصلنا مسافة زمنية، فهو الولد البكر لأمي وأبي، وبعده وُلِدَ أشقائي الأربعة، وتُوفيت لي أخت، وفقدتْ أُمي توأمًا، لدرجة أن والدتي -رحمها الله- يئست من تعويض أختي التي رحلتْ وهي لا تزال في السابعة من عمرها، فكانت تبكيها دائمًا، إلى أن جئتُ أنا الأخيرة في ترتيب إخوتي. أذكر أن أمي أخبرتني بأن حزنها خفَّ قليلًا بعد مجيئي إلى هذه الدنيا؛ غير أنها كانت تصف لي شقيقتي الراحلة، فيزداد حضورها في تفكيري ولا يزال، لدرجة أنني كتبتُ لها مرة وأخبرتها بأنني أحبها جدًّا».

«أخبرتني أمي أنها كانت يائسة من أن تلد بنتًا تتمناها بعد صبيةٍ أربعة، لكن أبي قال لها بأن الله سوف يعوضها، وجئتُ أنا بعد هذا اليأس، فحظيتُ بدلال أكثر قليلًا من المألوف وبخاصة عند أبي. هذه المسافة الزمنية التي تفصلنا جعلت من الطبيعي ألّا أعرف أخي (عليًّا) وألا يعرفني، إلا من خلال ما يُحكى. لم يكن (عليّ) قد اتخذ اسم أدونيس بعد، وكما قلت الفارق في العمر بينه وبيني جعلنا بعيدين في مرحلة الطفولة، فقد خرج أدونيس من القرية وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره ليدرس في طرطوس، ولا أعرف شيئًا عن تلك المرحلة إلا فيما بعد ومن خلال الأحاديث التي سمعتها، أو التي طلبتُ من أمي أن تحكيها لي، فمعرفتي الفعلية لأدونيس بدأت بعد أن خرج إلى بيروت واستقر فيها».

عرزال التوت

زيارات صاحب «احتفاء بالأشياء الواضحة الغامضة» للقرية كانت قليلة وقصيرة، كما تخبرنا فاطمة: «أحيانًا لم يكن يكمل يومه فيها، لكن في المرحلة التي ذهب فيها ليخدم العلَم في كلية ضباط الاحتياط بحلب بدأتُ أتتبع أخباره. كان ذلك حين كانت أمي تتحدث وإخوتي عنه، وكنت أستمع بشوق كبير، فإخوتي كلهم حولي وأعرفهم إلا هو فقد كان بعيدًا دائمًا». (عليّ) اسمه الذي تردده أمي كثيرًا وتتحدث عنه، وعن شوقها لرؤيته- تعقب فاطمة وتقول: «كثيرًا ما كان يأخذني الشوق إلى سماعها، فقد كنتُ تلك الطفلة التي تتعرف على شقيقها الغائب من خلال حديث الأم، وكثيرًا ما كانت تروي لنا الوالدة عنه حين يريد أن يلعب أنه كان يحاول أن يشيد بناءً ثم يهدمه، ليعيد بناءه من جديد، وبعد أن كبر عليّ قليلًا أذكر أنه بنى عرزالًا في شجرة التوت الكبيرة التي كانت تغطي بحجمها الفِناء الخارجي لبيتنا في قصابين. أتذكر أنه كان يوجد شجرتا توت كبيرتان جدًّا، وظلهما كان يغطي مساحة مستطيلة كبيرة أمام ذلك البيت، لقد بنى أدونيس عرزاله في الشجرة الأكبر، وكلما كان يجيء في إجازة يوم أو يومين لرؤيتنا ينام فيه».

تروي فاطمة عن تلك الأيام الخوالي، وتقول: «أذكر، حين كان يجيء إلى قصابين، يمتلئ البيت ولا نجد مكانًا، فقد كان عليّ يدير السهرة بطريقة يكون الجميع فيها مشدودي الانتباه لكل كلمة وحركة ، لكني حين أستيقظ في اليوم التالي يكون أخي قد عاد إلى حيث يجب أن يكون.. ما زلت أتحدث عن الطفولةِ غائبةِ العلاقة بين أخي الكبير وبيني، فأنا لم أكن وقتها أعرف كيف سأحدِّثه، ولا ماذا أحدّثه. فقط أنظر إلى المكان الذي يكون فيه، وأنا لا أعرف أن أعبّر عن مشاعري نحوه، ولا عن الحالة التي يضعنا فيها كلما جاء من غيابه، فقد كنت أشعر أن المكان والجيران وأهل البيت وشجرات التوت، وكل شيء يتخذ حُلةّ جديدة بحضوره ويبدو البيت وكأنه يضحك احتفاءً به».

ما أذكره الآن عن تلك الأيام، تتابع الدكتورة فاطمة، وتقول: «حين كان في كلية الضباط الاحتياط في حلب، وجاء لزيارة الأهل في القرية أحضر لي معه ثيابًا كثيرة، منها ثوب بلون زهري، ما كنت أتمنى أن يفارق جسدي وحذاءً أذكر أن لا شبيه له، والأهم من ذلك أحضر لي مجموعة أقلام مختلفة، مع قلم حبر ليس أطول من إصبع اليد. سحرني يومها هذا القلم وأذكر أنه قال لي مشجعًا بأنني سأذهب إلى المدرسة وسأكون الأولى، لكن القلم الذي سحرني لم ينم معي سوى ليلةٍ واحدة، وما زلت حتى الآن أذكره ولا أعرف كيف ضاع مني. لكن الذي عرفته وأثّر في وعيي أن أخي كان يعرفني، ويجلب لي أشياءً في غاية الجمال يغبطني عليها الجميع».

سجن المزة

سيرة الشاعر السوري في ذاكرة شقيقته الصغرى تومض في مخيلتها، وتعطي ظلالًا من عطر تلك الأيام: «أمي -رحمها الله- كانت بحدسها، أو بحكم تعودها على مجيئه، كانت تقول اليوم سوف يأتي أخوكِ عليّ، ودائمًا يكون وصوله في مرحلة الغروب من النهار، ومن أمام بيتنا القروي كانت توجد زاوية مفتوحة تطل على الطريق، ويظهر القادم قبل وصوله إلى البيت بمدة كافية لأن تترك قلب المُنتظر في حال من التوتر والقلق إلى أن يصل. وفجأة من غير سابق عِلم أو معرفة أو ظن انتقل أدونيس من كلية الضباط الاحتياط في حلب إلى سجن المزة العسكري في دمشق. غيومٌ من الحزن والتساؤل والألم والقهر خيمت على أمي وإخوتي والبيت والجيران، فقد كان عليّ يملأ قلوب الجميع، ما من أحدٍ إلا وبكى.

نحيا ومن أعماق الأشياء الفانية نعلن الحب

بدا البيت كما لو أنه صار عيونًا ودموعًا، والجميع كان يردد: قُتل شخصٌ في دمشق، ما ذنب طالب في حلب؟ تعلق فاطمة على حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي واعتقال كوكبة من القوميين السوريين على رأسهم أدونيس على خلفية عملية الاغتيال التي حدثت في 22 إبريل من عام 1955م في الملعب البلدي بدمشق، وتضيف: «لم تشغلني أحاديث المجتمعين، بل شغلني وجه أمي ودموعها التي لم تكن تتوقف، لدرجة لم أجرؤ على سؤالها عن المقصود بأنه في السجن، ولماذا، ويبدو أن إخوتي الأكبر مني أدركوا المسألة أكثر مني وقتها، مع أنني لم أذكر أنهم تكلموا أو سألوا أي سؤال، ولم أدرك معنى بكاء أمي إلا بعد مدة طويلة. حين أعود بالذاكرة إلى ذلك الزمن أتفهم سر بكاء أمي وسر تلك الدموع التي لم تكن تتوقف، فقد كان فقدُ أبي ليس ببعيد، وإخوتي صغار وكلهم في مراحل مبكرة من الدراسة، وأخي محمد وهو الثاني بعد عليّ لم يتخرج بعد من دار المعلمين، ولم يكن الوضع صعبًا فقط، بل شديد الصعوبة وبخاصة بعد اعتقال أدونيس بتهمة وُجهت إلى الحزب القومي السوري بكامل أعضائه».

سُجن أدونيس مرتين، وفي كل مرة كان يخرج من دون محاكمة، ومع أن أسئلة كثيرة وُجهت إليه حول هذا الموضوع، فإنه يؤثر رفض الحديث عن هذه التجربة، وتركها ليكتب عنها في سيرته الذاتية؛ تضيف فاطمة وتقول: «بالنسبة لي لا أذكر سوى أمي حين كانت تسافر إلى دمشق كي ترى أدونيس، وتمضي أيام بقائها في بيت خالي، وأنا أبقى مع إخوتي في القرية كنا نجتمع مع بعضنا. لا يمكن أن أتخيل حنوًّا وحبًّا وتلاصقًا أكثر من ذاك الذي كان يجمعنا، والآن أفهم قول أدونيس في إحدى قصائده: «افهمني أيها البيت المليء بأجنحة السنونو» فهو لم يقصد طيور السنونو التي كانت تعشش بكثرة في سقف بيتنا وحدها، بل كانت هي ونحن إخوته الصغار، ومعها كنا نشكّل تلك الأجنحة. تعيدني هذه الكلمات إلى أصابع يديه وهو يمررها على رأسي. كم تشبه تلك اللمسة التي أذكرها الآن أصابع أبي عندما كان يمررها في شعري، وإلى عينيه اللتين كانت تفيضان بريقًا وهو ينظر إليّ».

لم أكن أعلم ما الذي سيكون عليه أخي؛ تضيف فاطمة: «لم يكن بمقدوري التنبؤ بمستقبل عليّ، لكن الآن أعتقد أنه هو الذي فكّر في مستقبلي، ولعله تلمّس بعض جوانبه، لم أكن قادرة على رصد العلاقة بينه وبين إخوتي، وبيني وبين أدونيس على وجه الخصوص، فما عرفته في مرحلة الطفولة المبكرة أغلبه من أحاديث أمي وبيت عمي الملاصق لبيتنا، والجيران حين كانوا يجتمعون عندنا ويتحدثون عن أبي الذي كان شديد القلق على مستقبل إخوتي العلمي، وعاقبة من يتخلف عن الذهاب إلى حلقة شيخ الكتّاب لم تكن وقتذاك أمرًا سهلًا، فالعقوبة كانت هنا لا غفران لها، فهو العلم، الطموح الذي يرفض العوائق».

جسدانا زارع وحاصد

لا بد من تجاوز بعض المراحل التي لم أكن على وعي فيها بالعلاقة مع أدونيس؛ تكمل فاطمة: «بعد سجنه في المرة الثانية، وكان قد اتفق مع خالدة على أن يكونا معًا دائمًا طوال حياتهما. خالدة كانت بديلًا رائعًا في غياب أدونيس، ورغم أن اللقاء بها في مدينة اللاذقية كان قصيرًا دائمًا، فإنها كانت تملأ تلك الدقائق بحب جعلني أشعر بها وكأنها الأم في بعض تجلياتها، وما زالت تلك الصورة لها في قلبي. ذهب أدونيس إلى بيروت، ونحن بقينا في (قصابين). إخوتي جميعهم كانوا لا يزالون في المراحل الدراسية الإعدادية، إلا أن أخي محمدًا وهو الثاني بعد أدونيس كان في دار المعلمين، وأنا أصغرهم. من هنا بدأ دور أدونيس، ومن هنا بدأ فهمي لأخي الكبير. وكيف صار أبًا وأخًا وصديقًا لنا ولأولاد إخوته فيما بعد، أما أنا فقد بدأتُ أكبر، وأمسك قلمًا وورقة، وأصوّر وجوه الذين يجيئون إلى بيته، لكن وجه أدونيس ظل أكثر الوجوه التي جذبتني، فرغم الصعوبة التي كنت أجدها في إبراز ملامحه بدقة، فإنه شجعني بحب كبير، وتابع تعليمي إلى أن تخرجت من دار المعلمات، دون أن يتخلّٓ يومًا عن وجوده إلى جانبي في أي وقت».

تروي فاطمة عن ذكرياتها مع أدونيس، عائدةً بنا إلى التماعات بين المخيلة والذاكرة، مخيلة كتبها الشعر وذاكرة دبجتها السنوات الطويلة بحنين لا ينضب: «كبرتُ أكثر وتزوجت. زوجي كان دبلوماسيًّا، ولم يلتقِ أدونيسَ إلا بعد زواجنا، لكنه كان يحب أخي بطريقة لا تصدق، وقد أحبه أدونيس أيضًا، وكان يصفه بـ «صديقي» صحيح أنني تزوجت دبلوماسيًّا، ولم أكن بعد قد أتممت دراستي العليا، ولكن لم يكن هذا الزواج ليخفف رغبتي في الدراسة ومن غير المعقول ألّا أتمّها، فانتسبت إلى جامعة القاهرة، قسم اللغة العربية التي أحببتها، وتخرجت منها. ذهبت إلى القاهرة ولم أمضِ شهرًا فيها حتى زارني أدونيس هناك، وكان يشعر بأنه يريد أن يطمئن عليَّ. ذلك الحنان الذي كان يَبُثّه وهو يضع يده على كتفي، وألمحه في عينيه، لا أنساه ما حييت. كان قلبي يقول لكل خلية فيّ: أنتِ الآن أسعد كائن على وجه الأرض، يكفي أنكِ أخت أدونيس، وهو أكثر من ذلك. إنه أبٌ وأخٌ وصديق.. وقد أدرك زوجي هذه الحقيقة، وفي كل لقاء يزداد حبه لأخي».

ترويض الرعد

كان لأبي مع أخي عليّ علاقة خاصة ومختلفة؛ توضح فاطمة وتضيف: «كان والدي -رحمه الله- يبني مثل كل أب آمالًا بحجم مساحة الخيال، إلا أن رغبته في تعليمنا كانت تتفوق وتزداد لدرجة المخاطرة في إرسال الأولاد في أيام المطر والبرد الشديد إلى المدرسة في بلدة تفصلها عن قريتنا مسافة تقارب الساعة سيرًا على الأقدام، فلم يكن هناك مواصلات، بل كان هناك نهر يفصل بين قريتين، وكان على الأولاد أن يعبروا هذا النهر مرتين في اليوم، وفي أيام المطر الشديد كان النهر يفيض، ويذهب رجال من القرية لمساعدتهم على العبور.

فاطمة إسبر في معرضها بدمشق

أذكر أنه في يوم غزير المطر من أحد الشتاءات تعرض عليّ لهجوم من النهر، أو لعناق خطير، فقد كانت مياهه أعلى وأعمق من قدرة أخي على اجتيازه «لأبي عباس المختار وجه زيتونة.. للدركي قلب عوسجة.. وبكى عباس مرةً حين كاد النهر أن يغلب عليًّا ويأخذه السيل إلى نهاياته.. لم يكن لوجه أمه أن يوقف المطر.. لم يكن لصوتها أن يروّض الرعد» أسباب كثيرة منعت وجود مدرسة في قريتنا أهمها النظام الإقطاعي وتدخل الزعامات أيام الفرنسيين ودعمهم للإقطاع مدةً طويلة، ولعلهم كانوا يدركون أن العلم هو العدوّ المؤكد لهم، والبقاء من دون معرفة سيبقي الناس تحت سيطرة المتحكم، لكن أبي وهو الذي حصل على لقب الشيخ نظير علمه ومعرفته، وليس بالوراثة، فقد كان شديد الاهتمام بالعلم ومن هنا كانت تلك المغامرة اليومية بإرسال أطفال صغار إلى مدرسة بعيدة من القرية يقطعون في الشتاء نهرًا كبيرًا مرتين يوميًّا، وما تبقى كان سيرًا على الأقدام.

هم أخي عليّ وأخي محمد وطفل أو طفلان من القرية كلها، بل من عدة قرى مجاورة كانت تابعة لسلطة إقطاعي كان يتحكم في عقول الناس وتعليمهم وأرزاقهم، وفي قصيدة «مفرد بصيغة الجمع» كتب أدونيس في وصف حدث في حياة والده: «قالوا مرةً وصفَ قدميه.. لم يمشِ بهما إلى باب سلطان». وهذه كانت إشارة من أدونيس إلى حادثة وقعت مع أبي، فقد استولى أحد الإقطاعيين أيام فرنسا على جزء كبير من أرض أبي بطريق الرهن. المهم في الأمر أن الإقطاعي أرسل شخصًا ليقول لأبي أن يذهب إلى بيت هذا الإقطاعي، وسوف يعيد له ما أخذه من أرضنا غيلة وبهتانًا، لكن وكما أخبرتني أمي أنه قال له: «والله لو يأخذ رزقي كله فلن أذهب إليه».

هذا الحادث ترك في نفوسنا أثرًا كبيرًا ولا أزال في كل لحظة تمر هذه الذكرى تعبر روحي وجسدي قشعريرة زهو وفخر؛ تعقب فاطمة وتضيف: «عرف أدونيس تلك المسارب الروحية العميقة التي جعلت من والده صديقه الأول، والتي وضعت قصابين في حزنها العميق «حين أخذه الموت بكت عريشةٌ، ووضعت قصابين خدها على الأرض» .ذلك الوهج من جهة والده، الذي ما انطفأ يومًا في قلب علي :«كان لي معه أن أكتب الريح، وأقرأ شيخوخة الحجر … كان لي أن أرفع الحلم سقفًا، وأن أتزوج الحياةَ لونًا لونًا، كان لي أن أتشمّل الزمن وأرسمَه». على فكرة هذا الإقطاعي هو نفسه الذي منع عليًّا من إلقاء قصيدته أمام رئيس الجمهورية الراحل شكري القوتلي.

القصيدة التي تمكن من قراءتها بمساعدة واحد من أعيان الجبل وغيرت حياته، وقصتها رواها أدونيس أكثر من مرة، وبعد بلوغه الرابعة عشرة من عمره اتخذ اسم أدونيس، وكان الجميع يناديه به، وأنا عرفته باسم أدونيس أكثر، ومنذ البداية ورث أدونيس عن أبي أيضًا ألّا يهادن في الحق، الحق الذي يؤمن به، وشجاعته في نقد ما لا يرضى عنه، ورغبته الشديدة في الاطلاع على كل ما كُتب ويكتب، وأنا شديدة الإعجاب بتلك القدرة التي يتمتع بها على القراءة والكتابة من دون تعب أو ملل.

مفرد بصيغة الجمع

حين أسألُ عن أحب كتب أدونيس لديّ، فإنني أدخل في حيرة شديدة؛ تبوح فاطمة: «لا أذكر مرة أنني فتحت كتابًا له إلا وجدت فيه ما يجعله الأهم، إن كان ذلك في النقد أو في قراءة التراث أو الشعر، إنه يمسك بالقارئ المهتم، فله لغةٌ تشبه سريان الماء الصافي في مجرى لا عائق فيه، وأجد نفسي أمام جديد لم أمر به من قبل، لكن «مفرد بصيغة الجمع» تزداد عاطفتي أمامه لأنني أرى فيه أبي وأمي وإخوتي وبيتنا و«قصابين» وأشجارها التي عرفها أدونيس أكثر مني، وأسماء عِشنا معها، مع اعترافي بأنني لم ألامس إلا احتمالًا واحدًا من الاحتمالات الشعرية الممكنة التعدد. والشواهد التي اعتمدت عليها بالتأكيد مفتوحة على احتمالات أخرى. حين أقرأ لأدونيس أجد نفسي أمام جديد لم يطرح سابقًا، أو طُرح وأعيد قراءته بطريقة مختلفة أو بقيم مضافة، وحين أقرأ من شعره تمرّ عليَّ جُمَل شعرية أقف أمامها، فعلى أي مستوى يمكن أن نأخذها، وهي جمل شبكية تُدخل القارئ فيما وراء الاحتمالات، ويبقى الكلام خجولًا في التفسير «يُعطي وقتًا لما يجيء قبل الوقت. لما لا وقت له، يجوهِر العارضٓ ويغسل الماء». كيف يمكن أن نشرح هذا القول حين نشعر بأن الكلام قد يأخذ بعضًا من ذروة الجملة الشعرية؟! هنا، أتذكر الماء.. الهواء.. الموسيقا.. كيف لنا أن نشرح تلك النشوة التي تولدها هذه العناصر؟ أظن أننا كلنا يعرف أن لذتها تعادل الدهشة وتفوق أي كلام، فذاك هو جنون الشعر وعبقريته في البحث عن الدهشة والقبض عليها، في محاولة وضعها أمام المتلقي. وفي محاولة إيجاد علاقة تربط بين فهم الشعر كما نفهم عناصر الطبيعة.

فاطمة إسبر برفقة شقيقها الشاعر أدونيس في بيته ببيروت

اللوحة تستلهم أدونيس

«البحث عن الدهشة».. لا أعرف لماذا جذبتني هذه العبارة، وشدتني لأن أعود إليها مرةً ثانية؛ تتساءل فاطمة وتضيف: «ربما أرادت مني أن أقول شيئًا فأنا أومن بأن الأشياء والكلمات والحروف تشعر بطريقة ما، ولها علاقة تواصلية قد تكون خفية وعصية على بعض، وقد يشعر بها بعض آخر، والفن هو المجال الأوسع لالتقاء تلك التموّجات الشيئية، وارتباط الإشارات الخفية ببعضها، ومن هنا كان على الفن أن يكون باحثًا كاشفًا وقابضًا على الخفي ووضعه أمام المتلقي، وبقدر ما يكون الباحث مخلصًا تكون الدهشة حاضرة آسرة؟ يا الله ما الذي يمكنني فعله! أنا البنت التي تحب الرسم كثيرًا، لكن لا مكان لتعلم الرسم. التعلم الحقيقي يكون بالحصول على شهادة جامعية، والشهادة تحتاج إلى دراسة، أما الرسم فإنه يكون في أي وقت وعند الرغبة، لكن الرسم لم يغب لحظة عن قلبي، وكان أدونيس يشجعني جدًّا، وبخاصة حين أرسم أشخاصًا يأتون لزيارته، أو أرسمه هو نفسه. كان بعض أصدقائه من الفنانين يشجعونني جدًّا، لكن خطوات حياتي اتجهت نحو الدراسة بعيدًا من الفن. إن أشعار أدونيس واسعة وعميقة، محيطات من صورٍ ولوحات ودهشة، تجتمع في القصيدة الواحدة، في المقطع الواحد، بل في الجملة الواحدة».

أما عن تأثير أدونيس في أعمالها الفنية ورسمها، فتقول: «هذا يحتاج إلى رؤية غيري أيضًا، وأنا مهما تحدثتُ فلن أكون أكثر من نقطة على طرف محيطه، والذي يتحدث عن تأثير أدونيس لا بد أن تكون لديه خطة البحث عن الجديد والمدهش، إنني أحلم بأن أمتلك شيئًا من هذه الخطة، غير أنني مؤمنة بعوالمه الساحرة، ولذلك أسعى أن أقارب بعض لمحاته، فقد رسمت لوحات من وحي بعض جمله الشعرية مثل قوله: «ملكٌ، ومملكتي خطواتي»، «من أعماق الأشياء الفانية نعلن الحب». هذه أعمال رسمتها من جملته الشعرية، لكن مما لا أشك فيه أن الروح المتأثرة تظهر في أعمالي بالوعي أو باللاوعي، في رموز الإنسان المتطاول الذي يتماهى مع الفضاء، الشجرة، النهر، وربما منحدرات قصابين، البيدر والغدران، وتلك الطفولة المعششة في الذاكرة، والوجوه المنقسمة بين الغياب والحضور، وهذه كلها تعبير عن مشاعر في داخلي، ولستُ أعلم مدى نجاحي في التعبير عنها».

أدونيس ليس أخًا فقط، تقول فاطمة وتضيف: «في بيروت بدأت معرفتي به تنمو وتتسع؛ لأنني كما أشرت سابقًا لم يكن بيننا في الطفولة المبكرة لقاءات تخلق معرفة بمعناها الحقيقي بحضوره ونظرات عينيه، وذلك الحنان الذي يبدو فيهما، لم أشعر إلا بروعة ذلك العالم الذي بناه هو وخالدة.. عالم فيه حب الأمهات والآباء جميعًا. وعلى ذكر الأمهات، فإن ما بين أدونيس وأمه ما أتمناه لجميع أمهات العالم، فأمي كانت تتنفس ذكره، وتبدو وكأنها في نعيم الله في حضوره.. أجل لقد تعرفت إلى أدونيس إنسانًا خلاياه مأخوذة من الحب، وأظنه قد منح الحب معناه الحقيقي في علاقته بعائلته وبكل من عرفه من قرب.. ولو أراد الحب أن يتكلم لقال: كونوا مثل أدونيس. نعم هو ظاهرة وعرفتُ ذلك من نقل شعره إلى جميع اللغات الحية في العالم، ومن محبيه عن طريق معرفتهم به وبشعره، وعن طريق المقالات النقدية لكتّابٍ غربيين التي جُمع بعضُها في كتاب بعنوان: «الضوء المشرقي»، وهذا مثال فالمتابع الذي يحب قراءة أدونيس يعرف أن هناك ما يفوق الأربع مئة من الدراسات عنه. ولا أخفي أنني أحب أن أسمع صوته يوميًّا، فلا بد من تحيتي صباح الخير ومساء الخير له ولخالدة، وما يكون مما أريد قوله له وحده.. في المساء، وفي الصباح».

المسرح في اشتباكه مع السياسي وأحوال المدينة العربية خشبة خلاص واحدة أو منصة إعدام جماعية!

المسرح في اشتباكه مع السياسي وأحوال المدينة العربية

خشبة خلاص واحدة أو منصة إعدام جماعية!

ينوء المسرح العربي اليوم بحمولات سياسية عديدة، تضع فَنَّانِيهِ أمام مسؤوليات متجددة في قراءة أحوال المدينة العربية التي تشهد اليوم موجة جديدة من الغضب، متطلعة نحو غد أكثر عدالة وكرامة. من هنا تبدو منصة المسرح وجهًا لوجه مع منصات السياسة التي تتكاثر كالفطر تحت ذريعة الحوار السياسي بين الأفرقاء، لكن ماذا بمقدور المسرح أن يفعل إزاء كل هذا الطوفان من الغاضبين والحالمين بأوطان توفر لهم العيش الكريم..

من هنا يبدو الفن المسرحي أهم مساحة لثقافة الحوار، ولتأسيس حلم المدينة لا باعتبارها أسواقًا ومجمعات تجارية، بل باعتبارها نموذجًا إنسانيًّا فريدًا للاشتباك مع الهم السياسي والاجتماعي، والتعبير بوضوح وجرأة ودونما مواربة عن هواجس وهموم عشرات الآلاف من البشر المسحوقين بسياط السياسة ومتاهاتها العجائبية.

«الفيصل» استمزجت آراء بعض المخرجين المسرحيين:

ندى حمصي: المسرح غريب عن محيطه العربي

في المجتمعات العربية؟ دعني أتحدث عن المجتمع السوري، لم يكن رواد المسرح السوري سوى تلك القلة من المثقفين والفنانين الذين حاولوا أن يقودوا المجتمع باتجاه ثقافاتهم هم؛ ولكن المجتمع السوري مجتمع تقع فيه قوى متناقضة ومرهقة؛ وفوق كل ذلك؛ فإن خيبات من تحقيق العدالة -سواء العدالة الداخلية أو العالمية- جعلت الإنسان السوري يتقهقر باتجاه التدين بأمل أن ينقذه الله وأن يكون لعذابه معنى. الإنسان العربي عمومًا لا يضع المسرح أو الفن في أجندته، والفرد في سوريا يتابع ما تمليه عليه الدولة؛ وما يتلاقى مع برنامج العائلة ككل، فتراه كان يتابع فيما مضى بنشاط معرض دمشق الدولي ومهرجان بصرى؛ فهنا يمكن له أن يذهب ويأكل ويتحدث وتتحرك مشاعره وغرائزه من دون أي جهد فكري أو تحليلي، ولكنه لا يتابع مهرجان المسرح العربي أو مهرجان السينما العالمية؛ لأن هذه المتابعات ليست بالضرورة ممتعة له؛ فهي متابعات ثقافية تتطلب الصمت والصبر والمتابعة والتحليل والشعور بالقلب والتفكير بالرأس؛ وهذه مهمات مرهقة وفوقها لا تستطيع أخذ الأطفال وأكل الساندويتش والثرثرة، وهو ما يجعل هذه الأنشطة الثقافية بحلتها الاستعلائية أثقل دمًا، أضف إلى ذلك أن هذه المتابعة ستضيع جهدًا ووقتًا ومالًا عليها!

الثقافة بقالبها الذي تقدم فيه في سوريا غير موجودة أصلًا في برنامج الإنسان العادي؛ مثلما توجد النشاطات الدينية في برنامجه؛ ومثلما يوجد المسلسل التليفزيوني مثلًا. الكثير من الناس لا يعرفون أصلًا ما هو المسرح؛ وكثيرون جدًّا ومنهم يقع على رأس سلطة آمرة يظنون أن الفنان المسرحي إنسان نطاط مخبول يستمتع بالتمثيل كالأطفال.

لطالما سمعتُ عبارة «أنا أساعدك» حين كنت أجهِّز لعمل فني، كانوا يساعدونني، وأحدًا منهم لم يخطر له أن هذا ليس بمشروع لمتعتي الشخصية؛ وإنما أنا أسخّر نفسي وخبرتي التي اكتسبتها بجهد من أجل مشروع فني. بصراحة لا.. لا أعتقد أن المسرح يمكن أن يغير ويخلخل، إلا إذا صاحبته رؤية جادة من الجهات الرسمية؛ بحيث ندرّب أطفال المدارس على احترام الفن وعلى ضرورته في الحياة البشرية والحضارية للمجتمع، لهذا يبدو لي المسرح السوري والعربي عمومًا غريبًا عن محيطه، حتى في أكثر عروضه جرأة وتناولًا للشأن السياسي، ما زلنا نحبو!

سرعان ما ربّيتُ سمعةً طيبةً كمسرحية سورية؛ وأصبحتُ جزءًا من الوسط المسرحي في «أونتاريو» حيث أقيم اليوم طورت علاقة المسرح بالسياسي، وخصوصًا بعد ثلاثة أعمال قدمتها في هذا السياق؛ الأول والثاني كانا من إنتاج «تجمع الثقافات المتعددة»، وهما «آخر خمسة عشرة ثانية»، و«الجسد رقم 13»، العمل الأول تناول موضوعة الإرهاب في حادث تفجيرات عمان ومقتل مصطفى العقاد وابنته ريما عام 2005م. أما العمل الثاني فتناول موضوع القابلية للتغير واكتساب الحياة الجديدة والحب عبر الاختلاف؛ ولا سيما ما يخص المهاجرين إلى كندا، في حين كان عرضي الثالث هو «سلطان باشا» وهو عملٌ كتبته وقدمته باللغة الإنجليزية وترك أثرًا لدى الناس حيث أعيش. أقول في نهاية هذا العرض بعد أن أترك شخصية (زوجة السلطان) ذكرتُ كل تلك التفاصيل لكي أبين ماذا أريد أن أقول للجمهور الذي هو الآن جمهوري، تلك هي مسؤوليتي في المسرح، أن أُوصِلَ رسالة حيثما حط بي المسرح. كنتُ دائما أقول: إن المسرح نبوءة صغيرة، وإن الفنان نبيٌّ صغير!

ممثلة ومخرجة مسرحية سورية

شريف خازندار: ضرورة الفن المسرحي

علاقتي مع المسرح لم تتوقف بل استخدمت هذا الفن كأداة للتجربة والبحث عن أصالة الهوية، حيث أخرجت مع الراحل «علي بن عياد» مسرحية «لعبة كراكوز» عن نص الكاتبة اللبنانية- المصرية «أندريه شديد» محاولًا نقل الكراكوز من الدمية إلى الشخصية المسرحية، وبعدها ليقدم مسرحيته «الحلاج 1984» عن نص عز الدين المدني على مسارح تونس وفرنسا، محاولًا هذه المرة أن أشتغل على المسرح الغنائي الملحمي.

ظللت منكبًا على مشروعي بالبحث في ذاتية شعوب العالم، في حين غبت تقريبًا عن المسرح لصالح عالميته التي استقيتها من محليات مختلفة من شمال العالم وغربه إلى جنوبه وشرقه، إلا أنني بقيت مسكونًا بعشقي الأول، منافحًا عن ضرورة الفن المسرحي وعن أصالة هذا الفن في تاريخ العرب في وجه كل المقولات التي تمضي إلى اعتبار العرب أمة ليس لها مسرح.. لا يمكننا أن نقول: إنه لم يكن هناك مسرح عربي، فمفهوم كلمة المسرح اليوم تعني بالضرورة -ولا سيما في الأوساط الثقافية- الخشبة المسرحية وفق النموذج الغربي، أو ما يمكننا تسميته العلبة الإيطالية أو الإطار، وأنا لا أوافق على ذلك، فكل شعب لديه نوع من المشهدية، وأفضل هنا أن أتكلم عن المشهديات لا عن المسرح.

كلامي سيصب في مشروع آخر بدأته منذ خمسة عشر عامًا في معهد ثقافات العالم بباريس الذي كنت أديره لسنوات، فبالتعاون مع جامعة باريس الثامنة أحدثتُ قسمًا خاصًّا في المعهد لدراسة ما يعرف بـ(الإثنوسينولوجيا) أو علم الدراسات المشهدية؛ إذ يجب على كل ثقافة أن تستمد مسرحها من مراجعها الخاصة، من مشهدها الفريد.. كما في مسرح النو الياباني، أو الكاثاكالي الهندي وغيرها، ونحن أيضًا يجب أن نبحث في مراجعنا التي يعتبر الشعر العربي من أهمها؛ خذ مثلًا جلسات سلاطين الطرب الحلبي، والحضرة الصوفية، والدراويش، والمولوية، وأمسية شعرية يستمع فيها الجمهور لأدونيس مثلًا.. أليس كل هذا مشهديات مسرحية يجب أن نأخذها بعين الاعتبار..؟

الحكواتي في المغرب يكون في وسط حلقة من المشاهدين، أليس هذا مسرحًا دائريًّا؟ الحكواتي الدمشقي في مقهى النوفرة أيضًا يأخذ هذا الشكل، حتى في الغرب هناك اليوم رغبة في الخروج من هذا الشكل السياسي المباشر للمسرح، فلكل ظاهرة مكانها ومرجعيتها، خذ مثلًا بقايا المسارح الحجرية في سوريا التي تدل على المسرح المستدير؛ المسرح في قلب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة؛ لذلك أرفض أن تكون بدايات المسرح العربي بمارون النقاش الذي دخلت معه المشهدية الأوربية إلى المسرح العربي، فالمشهدية الأوربية شيء موجود، ويجب أن نستخدمه، لكننا يجب أن ننتبه إلى أنواع أخرى من المسرح وهي موجودة لدينا، أنواع قادرة على قراءة ما يحدث بعين مختلفة وأكثر دقة، وعدم التهور في الانزلاق إلى المفردات السياسية المباشرة، فهذا ما سيفسد المسرح والفن جميعًا.

مشروعي في الإثنوسينولوجيا لاقى قبولًا في المكسيك والبرازيل والهند، فبدأت عبر هذا النوع من الأبحاث تحقيق نتائج واكتشافات مهمة في مشهديات الشعوب، من حيث خصوصيتها وفرادتها الثقافية. في سوريا لا يوجد اهتمام بهذا النوع من البحوث، على حد علمي يوجد في الجامعة اليسوعية بلبنان اهتمام أكبر، المطلوب من المعهد المسرحي في سوريا الاهتمام بالإثنوسينولوجيا، وهذا أمر لا أستطيع القيام به بمفردي!

مخرج فرنسي من أصل سوري.

غسان مسعود: مسرح ينشأ مع الأزمة

هناك نوعان من المسرح أفكر فيهما اليوم؛ الأول هو مسرح ينشأ مع الأزمة، من الحرب، حيث أراقب بعض أقلام الشباب والشابات الصغار؛ وهم يكتبون أشياء لافتة للغاية؛  وقد تكون رؤية لأدب مسرحي عن سوريا في هذه المرحلة، هو مسرح أعتقد أنه يقترب من مسرح الحرب الأهلية بلبنان التي أنتجت تجربة مسرح زياد الرحباني كظاهرة فنية في المجتمع اللبناني- الحرب الأهلية، وكيف قرأ زياد الحرب في وطنه؛ أعتقد أن هناك خطًّا في هذا الاتجاه، وبتُّ أتلمسه اليوم وأقرأ منه ولا أريد أن أذكر اسم من يكتبه اليوم، لكنني دعني أقول: إنني متفائل به جدًّا؛ فالأزمة سيولد من رحمها نصوص وعروض مسرحية جديدة ومفارقة لكل ما قدم في الريبرتوار السوري المعاصر، وهذا أمر طبيعي في تجارب الشعوب التي تخوض حروبًا، وإن لم يكن هكذا فعلينا أن نخلقه؛ هذا تجلي طبيعي للحرب السورية التي أعتقد أنها ستفرز مسرحها وأدبها وشعرها وفنها التشكيلي. طبعًا لا أعني إطلاقًا ما يشتغل اليوم، فما يشتغل اليوم هو فن دعائي رخيص بالنسبة لي؛ سواءٌ كان مع أو ضد، هو فن لا يعنيني ولا أحترمه، فهناك قاعدة في الإبداع المسرحي تقول التالي: لا تستطيع أن تضع قانونًا للتجربة وأنت تخوضها، أو تضع منهجًا لها، فالتجربة هي التجربة؛ هي لقاء بين العقل والعاطفة، هي اختلاط وتلاقح غريب عجيب بين الجانب الوحشي الغريزي في الدماغ الإنساني، وبين جانب الوعي العقلي؛ كي تنتج ناتجًا يراه المواطن العادي والمثقف في آنٍ معًا؛ وليأتي النقاد ليقرظوه ويحكوا عنه ومن ثم لتبدأ قوننة هذه التجربة لنظرية قادمة تستفيد منها الأجيال في قادم الأيام، وهذا ما حدث في تاريخ المسرح، وبناءً على هذه القاعدة التي أفهمها في الفن قمتُ بتعليم ذلك لطلابي في معهد التمثيل، واشتغلتُ معهم على أساسها عشرات العروض المسرحية، أما أن نعمد على الفور لتقديم عروض مسرحية عن المأساة التي نحياها فهذا أظنه ما زال مبكرًا؛ أعتقد أن تجربتنا المريرة اليوم في سوريا لا يحكى عنها بهذه البساطة وبهذه الخفة؛ وبهذه اللغة الدعائية السمجة؛ علينا أن ننتظر لكي نرى ماذا ستفرز هذه الأزمة كي يكون ما نقدمه فنًّا مسؤولًا وإبداعًا راقيًا؛ لا أن يكون دعائيًّا لأجل الجيب مثلًا؛ وقليل من كلمة «برافو» من هذا الجمهور وذاك الجمهور! سواء كان جمهور الموالاة أو جمهور المعارضة؛ المسائل ليست كذلك، ولهذا السبب الذي يقدم اليوم عروضًا لا يعنيني، وغير مهتم به؛ ولا أشتغله؛ لكنه يمكن ملاحظة بعض الأصوات أو بعض الأقلام التي تنضج اليوم؛ والتي ستكون في تناولها لما حدث في سوريا أكثر وعيًا وعمقًا من كل الارتجالات التي نراها في الصحف أو المسارح أو التليفزيونات هذه الأيام؛ وهذه هي فنون المرحلة السوداء في تاريخ سوريا في السنة التاسعة من عمر هذه الحرب الملعونة.

مخرج وممثل مسرحي سوري.

موسى أسود: حصانة فكرية وجمالية تنويرية

بالتحليل التاريخي أعتقد جازمًا أن المسرح في سوريا خاصة، وفي العالم العربي عامةً؛ لم يؤسس بعد لعلاقة عضوية مع المتلقي؛ بمعنى آخر أنه كان حالة شكلانية أكثر منه حالة بنيوية، فلقد كان المسرح على مرِّ سنوات طوال تمظهرًا لحضور دون فاعلية في فلسفة المعرفة المسرحية، فالمسرح التجريبي أحبط المسرح السوري، ناهيك عن الحركة النقدية التي لم تجد لها فسحةً للتعبير عن مقولتها بما في ذلك تدمير الحياة المسرحية، فعلى سبيل المثال نحن اليوم في سوريا بحاجة إلى عشرات عروض الأطفال أكثر منها عروضًا للراشدين؛ إذ إننا أمام كارثة وطنية كبرى؛ فالحرب ستترك آثامها وآثارها التدميرية على جيل بأكمله، طبعًا ليس المسرح التفاعلي الذي نريد؛ فذاك كان من أسخف المشاريع التي طُرحت؛ لكونه تجربة استجلابية، تجربة لا تنم عن حالة عضوية بالعلاقة مع الطفل السوري؛ بل حالة شكلانية كرّست عشرات الأسماء التي تنتمي إلى المشروع التدميري؛ وهناك إشارات استفهام كثيرة على الذين كانوا قائمين عليه وقتذاك.

أجل.. سعد الله ونوس استقى مفاهيمه عن المسرح السياسي من المسرحي الفرنسي (جان فيلار)، والمسرح الفرنسي كما يعرف الجميع له تقاليد، حيث أراد ونوس أن يشاغب معرفيًّا بالعلاقة مع المتلقي، لكنني أعتقد جازمًا أن «ونوس» قد فهم عميقًا الدراما في مرحلةٍ متأخرة من حياته؛ خصوصًا علاقة هذه الدراما بالإشكاليات العضوية التي تمس المجتمع. التأسيس كان في الكم؛ فإلقاء المصطلحات على أي ظاهرة مسرحية هي جديرة بالدراسات الأكاديمية والدراسات الاجتماعية والأيديولوجية؛ بمعنى آخر لا يمكن للثقافي أن ينفصل عن حركة التاريخ في أي مجتمع؛ فإذا انفصل عنه، سيكون حالة تجميلية وليس حالة عضوية بالمعنى المعرفي؛ لذلك وقعنا في إشكالية فيما يخص تأسيس علاقة مع المتلقي بالفنون عامة وفي المسرح خاصةً.

هذه ليست إشكالية الجمهور؛ بل إشكالية المؤسسات على المستويين الأيديولوجي الخاص بالمعرفة، وعلى مستوى النسق المعرفي الخاص بالمثقف الأكاديمي، ومن ثم المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي، أي المثقف الذي ينتمي إلى إشكاليات المجتمع، وبالتالي المثقف عندما ينفصل عن اللحظة العضوية فيما يخص المجتمع يصبح شكلانيًّا، ويذهب في اتجاه ثقافة الاستجلاب لظاهرة الفن، بدلًا أن يكون واعيًا لمضمونها وقيمها الأخلاقية والتنويرية. لقد كان هناك في سوريا طبقة وسطى، لو أنها مُنحت الفرصة لصنعت من سوريا بلدًا أقرب إلى العالم الأوربي المعاصر، لكن هذه الطبقة لم تُمنح حقها، فالطبقة الوسطى السورية هي من أهم الطبقات الوسطى في العالم العربي؛ بل تتجاوز الطبقة الوسطى في مصر، وهذه الطبقة الوسطى ستكون الخلية الكبرى لحل الأزمات التي تَحِيقُ اليوم بالوطن السوري، وهي المناطة بإعادة تكريس مفهوم الدولة؛ لكونها اليوم هي من يدفع الثمن.

عندما لا يفقه الفنان المسرحي العالم؛ لا يفقه الكون، لا يفقه الإشكاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لن يستطيع أن يفقه الآخر بمشاريعه التدميرية، وأقصد هنا بالآخر هو هذا الوافد من هذا العالم الكوني المدجج بفلسفة الصناعة والحضارة المتسارعة، بالتأكيد المثقف المسرحي لن يستطيع أن ينتج أنساقًا فنية مقاومة؛ ولا أعني المقاومة هنا بالمعنى الأيديولوجي البحت، وإنما بالمعنى العضوي الذي يجعلنا ننتمي كمثقفين ومسرحيين إلى حصانةٍ فكرية وجمالية تنويرية.

ناقد ومخرج سوري.

سامر عمران: صياغة اليومي برؤية جديدة

الوصول إلى الحوار يأتي من ضرورة الحديث عن هموم الناس، عن آلامهم وآمالهم، وهذا ما يحققه المسرح لكونه ظاهرة اجتماعية قبل كل شيء، ظاهرة تدفع الناس نحو الاجتماع الذي يجعلك تبوح لي وأبوح لك، فالفنان على الخشبة يعيد صياغة هذا اليومي برؤية جديدة، ومشاركته مع الآخر هنا هي مشاركة كل هواجسه، فالألم المشترك يجمعنا كسوريين مثله مثل الحب؛ لذلك عندما نصنع طقسًا جماعيًّا في المسرح بحرفية وصدق ومن دون فزلكات وفبركات، سنصل إلى تطهير أرواحنا من البغضاء العمومية، فالمسرح لم يكن في يوم من الأيام أيديولوجيا ولا سياسة، الفن عمومًا عندما يكون أيديولوجيًّا سيبتعد من الحوار، المسرح هو رؤية للعالم وتكثيف للواقع، لقد مضت حقبة طويلة أغرقنا فيها المسرح بالأيديولوجيا، ولا يمكن اليوم الاستمرار في عدم إنتاج عروض تشارك فيها الناس همومهم لخلق حالة من الحوار، حيث يجب على الفنان أن يبحث دومًا عن لغة مشتركة بينه وبين الجمهور، عن طقس مشترك يستفيد فيه من كل طقوس الحب والموت التي يحفل بها مجتمعنا السوري، كل هذا يخلق حالة اجتماعية وصلة مع الآخر، فكثير من الأحيان تكتشف أن هناك هُوَّةً مختلفة بيننا وبين الآخرين، فلا أحد يعرف الآخر كما يجب، بل لديه أفكار مسبقة عنه، وعند سؤال الطرف الآخر والجلوس إليه نكتشف أننا لسنا مختلفين، لكننا لا نتكلم بعضنا مع بعض، فيظل كل واحدٍ منا يحمل وجهة نظر عن الآخر، وعمومًا تكون المشكلة في عمقها اجتماعية، وهنا تبرز أهمية الفن، وخصوصًا المسرح الذي يمتلك قدرةً على صناعة العيد، فنحن كسوريين من المعيب علينا في مجتمع قدم للبشرية أول أبجدية في التاريخ ألَّا يكون لدينا القدرة على إيجاد طقس من الحوار المشترك، وبخاصة في المسرح، شريطة أن تمتلك أدواتك الإبداعية كفنان من عمق فكري وحساسية عالية وثراء نفسي، وامتلاك لتقنيات قادرة على نقل هذه المشاعر وتساعدها على الظهور بشكلها احترافيٍّ راقٍ.

المسرح وسواه من الفنون في رأيي الشخصي أكثر قربًا من الناس في هذا الظرف الذي نعيشه اليوم، فالطقس الإنساني أكثر قدرةً على خلق حوار مع الآخر أكثر من الأيديولوجيا، ولا سيما أن حياتنا اقتربت من شكل «علك أيديولوجي» يتدفق علينا يوميًّا وعلى مدار اللحظة من عشرات الفضائيات عبر جهابذة التاريخ وجهابذة رؤيا المستقبل والتنجيم السياسي والاستجمام الأيديولوجي، فنحن بحاجة إلى صياغة طقس بعيد كل هذا الطنين، صياغة مشهد أشترك فيه مع الآخر المختلف معي في التفاصيل، ومتفق معي على سوريا الوطن والدولة والمؤسسات، وهي هنا تشبه صناعة مشهد أشترك فيه مع الآخر بصناعة رغيف خبز من طحينٍ نعجنه معًا، مثلما تحصد قمحه من الحقول السورية، وهذا في رأيي أهم من كل الدروس الأيديولوجية.

مخرج مسرحي سوري.

فنان سوري قال إن المسرح مهان في معظم البلاد  العربية .. فايز قزق: كل واجهة ثقافية صلبة أُبيدت ووضعت مكانها نُخب تلفزيونية!

فنان سوري قال إن المسرح مهان في معظم البلاد العربية .. فايز قزق: كل واجهة ثقافية صلبة أُبيدت ووضعت مكانها نُخب تلفزيونية!

عشرات العروض المسرحية التي كان قد بدأها ممثلا بعد تخرّجه من دمشق عام 1981م؛ بمسرحية «رأس المملوك جابر- 1984م» مع جواد الأسدي؛ ليكملها بعشرات العروض التي قام بإخراجها للخشبة بعد حصوله على ماجستير في الإخراج المسرحي من جامعة «ليدز» في بريطانيا؛ كان أبرزها: «رجل برجل- 1990م»، و«موكب السمك- 1999م» لبريخت، إضافةً إلى مسرحية «حلم ليلة صيف- 1988م» لشكسبير، وعروض أخرى راهن هذا الفنان من خلالها على فصاحة فن الخشبة في مواجهة توحش الميديا؛ متنبئًا بكارثة بلاده الماضية – المستمرة، فكان أهمها: «النفق- 2005م؛ النو- 1989م؛ وعكة عابرة- 2004م، حكاية السيدة روزالين- 2010م».

مراس انتزع فايز قزق عبره جوائز عديدة في فن التمثيل، كان أبرزها جائزة أفضل ممثل مناصفة مع الراحل نضال سيجري عن دوره في مسرحية «حمّام بغدادي- 2008م» -تأليف وإخراج جواد الأسدي، لتبدأ بعدها جولته على مسارح العالم في كل من دمشق ولندن ونيويورك وواشنطن وباريس وأمستردام بعرض «ريتشارد الثالث- مأساة عربية» التي لعب فيها شخصية الطاغية الشكسبيرية الأشهر مع المخرج البريطاني- الكويتي سليمان البسام، والفرقة الملكية البريطانية.

«الفيصل» التقت الفنان السوري فايز قزق وكان معه الحوار الآتي:

مؤخرًا كنتَ بصدد إخراج عرض للمسرح القومي بعنوان «رجل برجل» لماذا توقفت عن تقديم هذا المشروع في آخر لحظة؟

لم أتوقف، لقد أوقفتني الرقابة، ورفضت النص، ناهيك عن الظروف الحالية التي من الصعوبة أن يكون هناك وقت لدخول الممثلين في عرض مسرحي جديد أو قديم، فحتى في الظروف العادية كانت دومًا الأمور ليست جيدة للبدء بنشاط مسرحي، بمعنى أن يكون هناك فرق مسرحية على مدى العام؛ وفي كل الأماكن؛ ليس في دمشق وحسب، بل في حلب وحمص واللاذقية ودير الزور والحسكة؛ وكل مكان كان يشهد حراكًا مسرحيًّا قبل الحرب كان من المفترض أن توطّن فيه فرقة مسرحية؛ خصوصًا بعد أن بدأ المعهد العالي للفنون المسرحية بإنتاج ذلك الممثل القادر على الوقوف على خشبة المسرح؛ قبل الوقوف أمام كاميرا تلفزيونية أو سينمائية؛ فالمسألة لها علاقة بسياسة وزارة الثقافة، كما هي الحال في وزارات الثقافة في معظم البلدان العربية؛ فهم لا يعون وليس في ذهنهم بناء مسرح بالمعنى الحقيقي؛ وإنما يحرصون كل الحرص أن يكون هناك ما يشبه نزيزًا مسرحيًّا، أو نزيزًا سينمائيًّا؛ إما لإرساله لمهرجان أو لترتيب حفلة لقادم أو زائر للبلد؛ إضافةً لما يمكن أن يناله الفساد من وقت وزارة الثقافة وترتيب الفواتير عبر مجاميع إدارية مترهلة تتحكم بالمفاصل هنا وهناك وبصالات العرض وميزانياتها، سواء على مستوى مسارح المراكز الثقافية في المدن والبلدات؛ أو حتى على مستوى الأبنية التابعة لوزارة الثقافة في هذا الحيز «القُطري» أو ذاك، أعني في هذه الدولة أو تلك من العالم العربي، فالمسرح كان مهانًا ومزدرًى في معظم البلاد؛ ليس المسرح حالة خاصة هنا؛ بل أيضًا السينما واللوحة التشكيلية والرواية. المسرح مزدرًى وكذلك الموسيقا المتوازنة والموزونة، كذلك الإنسان مزدرًى بما يكمن فيه من وجدان وحساسيات إنسانية قادر على أن تتفتح على آفاقٍ جديدة وبتفكيرٍ جديد، وبالتالي هذا الإنسان غير قادر على تكوين سياقٍ لغوي جديد؛ يستطيع من خلاله أن يُدْخلَ عناصر الطبيعة، وأن يعجنها في صيغة محرّك وزجاج وما إلى ذلك.

هل تعتقد أن الثقافة اليوم وبخاصة المسرح قادر على معالجة المأساة السورية؟

هذا التفكير بعيد كل البعد عن مؤسسات الثقافة، التي تعتقد أن الثقافة هي مجموعة من الأبنية العقارية، ووضع تسمية ولافتات على هذه الأماكن من الداخل أو الخارج؛ فالناظر من الخارج إلى هذه الأبنية يمكن أن يسقط في الخديعة؛ لدرجة أن يعتقد أن الثقافة تجري في المكان، لكن الواقع ليس هناك من ثقافة على الإطلاق؛ فالثقافة هي أماكن رُبطت إلى جيشٍ من الموظفين لا يعرفون شيئًا عنها؛ ولا يودون أن يعرفوا معنى كلمة «ثقافة» بالأساس، وماذا تعني، فلو عُدنا إلى كلمة «ثقافة» في اللغة العربية الفصحى، لوجدنا أنها مشتقة من الفلاحة؛ وبهذا المعنى الفلاح هو الفيلسوف الأول؛ هذا الفلاح عندما يضرب الأرض بمحراثه ينبتُ عن يمينه الأخضر وعن يساره الفلاسفة؛ لذلك الفلاح الشامي كان من أقدم فلاحي الأرض؛ فهو شخص لا يقول لابنه أو لابنته: «بلا فلسفة»! لأنه يدرك من حيث يدري أو لا يدري أنه فيلسوف يفلسف الأرض، ففلح الأرض أو ثلّم الأرض، أو كلّم الأرض أو جرّحها، هي نفس المفاهيم في أن أكلّمكَ أو أجرّح حميميتكَ أو باطنك، فتستجيب عبر أربعة أو خمسة أفعال: تسمع؛ تنصت؛ تستدرك؛ تفهم؛ وتستجيب، وهذه كلها تحدث في جزءٍ من الثانية، هذا النمط من التعريف يمكن أن نراه في اللغة الإنجليزية فكلمة «culture» مستدرجة من «agriculture» أي الزراعة؛ أو الفلاحة؛ وهذا النمط من الفهم أيضًا غير مطروح في وزارة الثقافة، لا في سوريا ولا في غيرها من وزارات البلدان العربية؛ ولذلك يهان كل من يمكن أن يكون منتجًا من الفلاح أو العامل، أو كل ما يمكن أن يكون قادمًا من الفنون ذات الطابع الاجتماعي؛ أي تلك التي تحقق التواصل الاجتماعي؛ وهو هنا غير ذلك الذي درجنا على تسميته عبر شبكة الإنترنت؛ فذاك خديعةٌ كبرى.

لكن لماذا برأيك كل هذا الخوف من المسرح؟

كل ما يؤلّف بين البشر ويجمعهم في المدن وزارات الثقافة كانت ضده في الوطن العربي؛ وهناك وزراء كانوا لا يأبهون لهذه الفنون خوفًا من أن يجتمع الناس، وبالتالي البدء بتكوين حوار، واليوم العالم العربي يبحث عن حوار، وهذا الحوار مفتقد، في الوقت الذي كان من الممكن أن يوجد فيه هذا الحوار من خلال فنون الأدب والفن الأصيلة؛ هذه الاجتماعات الحرة في المسرح والسينما هي ضرورةٌ قصوى لأي مدينةٍ قيد التكون؛ بل هذه الفنون هي عقل المدينة الذي يفكر ويتأمل ويفلسف ويشكّل منطقًا لأشكال المنطق التي بين أيدينا من هواتف محمولة وتلفزيونات ووسائل اتصال؛ كل هذا النمط من التفكير لجمع الناس «ألغي» ليس في سوريا وحسب، بل في كل أرجاء الوطن العربي؛ وفي كل بيتٍ وضع فيه السجان المحبوب، أي «التلفزيون» فالواقع أن هذا الجهاز هو أخطر من السجان الكلاسيكي بالمعنى الذي يقول: إن إنسانًا ما سجن إنسانًا آخر، ففي هذه الحالة هناك حوار قد ينشأ بين السجان وسجينه، أما السجان الحديث فهو سجان يطلب منكَ أن تخرس نهائيًّا، فقط استمع إلى أحد ما أثناء مشاهدته لمباراة كرة قدم أو لمسلسل أو برنامج؛ فإذا ما شوّش عليه ابنه أو ابنته أو زوجته ستسمعه يقول العبارة التالية: «اسكت أو انصرف خارجًا» فهو يريد أن يكون «ريسيفر» – مستقبل مئة بالمئة، هو لا يريد أن يكون على الإطلاق ذاك الإنسان الفاعل؛ والواقع أن هذا السجان الحديث، لا يسمح لكَ وهو ليس وارد أن يناقشكَ في أي موضوع على الإطلاق، مع أنه يطرح موضوعات مهمة جدًّا كتسميات، لكنه لا يطرح الحوار اللازم، وليس في وارد أن يكون هناك حور بينك وبينه، إذ عليك أن تكون مُنصتًا لتعاليمه ومقدّسًا لما يقوله هذا «التلفزيون- السجان»، عليك أن تمشي خلف إرشاداته بدقة؛ عليكَ أن تخرس، وأن تصمت وأن تتزجج عينًا وعقلًا وروحًا ودماغًا؛ أي أن تصبح من زجاج؛ وعندما يصبح الإنسان من زجاج سيكون سهل الكسر وسهل الاحتراق، وهذا ما يجري اليوم، خصوصًا مع دخولنا مرحلة الهجوم الثاني لجيلٍ من هذه الإلكترونيات التي اصطادتنا بشبكتها؛ فما اخترعه الإنسان الذكي على مستوى الكوكب من نظم معلوماتية رقمية فائقة التطور؛ حوّلت المبدع من كاتب بالقلم إلى طبّاع، والطبّاعون اليوم بالملايين في هذا العالم العربي، هؤلاء لا يدركون كيفية الكتابة، والفارق بين الكتابة والطباعة برأيي فارق ضخم؛ فالكتابة ملكةٌ عقلية تحتاج للإنسان أن يتعلمها منذ الصغر، أو أنه سيفقد القدرة على رسم الحرف ومعرفة هذا المخلوق اللغوي الذي يمكن أن يضحي بجزءٍ منه في الجملة ليتصل بما يليه من الحروف؛ وذلك لتشكيل المعنى ضمن مجتمع الكلمة الواحدة، أما الطبّاع فيمكن له أن يستمر في النقر على «لوحة المفاتيح والفأرة» مع متابعة مباراة لكرة القدم، لأن من يكتب هو الكمبيوتر، العادة الحركية لا الكاتب، وهذه العادة تشكل لي وحشًا يفترس كل حساسيةٍ إبداعية خلّاقة، لتجعل من الكائن إنسانًا «مقوّرًا»- مفرّغًا كما «تقوّر» أو تُفرّغ الباذنجانة تمهيدًا لطبخها! أجل الإنسان تم «تقويره» من خلال هذه العادات الكمبيوترية ليوضع في دهليز الضياع، لكن صاحب هذا الكمبيوتر الكوكبي الضخم يحافظ على لمعان هذا «المقوّر»، فيتراءى لنا أننا مُشعون من الخارج، لكن إشعاعنا كما إشعاع قميص «اللوكس- المصباح» القديم؛ فما أن ينفخ علينا طفلٌ صغير، حتى نتهاوى رمادًا لا حياة فينا.

نشر الكراهية بين الشعوب

ما زال البعض يقول: إن المثقف العربي يستمرئ دور الضحية إزاء علاقته بالسلطة العربية ولا سيما وزارات الثقافة؟

ببساطة لأن التلفزيون في سوريا خصوصًا والبلدان العربية عمومًا، جرى تجنيده كي يكون بديلًا عن كل ما من شأنه أن يكون ثقافيًّا؛ والتلفزيون كما يعرف الجميع إعلام وإعلان ليس إلا؛ ببساطة لأن التلفزيون حُشرت فيه الشعوب العربية كافةً؛ ولأن هذا الجهاز فُعّل لنشر الكراهية بين الشعوب في لحظةٍ من اللحظات؛ وذلك من أجل تمجيد الدراما الفلانية والتطبيل للدراما العلانية، والتقليل من شأن الدراما الفلانية؛ التلفزيون يحتوي على كل شيءٍ على الإطلاق لا يستطيعه فنان السينما؛ ولا يستطيعه فنان المسرح أو الروائي في الظروف العربية الراهنة؛ فالرواية لا يمكن أن تُكتب إلا باللغة العربية الفصحى، ولا يمكن كتابة رواية بلهجة «الموصل»، ولا بلهجة «السويداء» أو بلهجة «مرسى مطروح» أو «القيروان»، الرواية تُكتب باللغة العربية الفصحى؛ وما فعله التلفزيون أنه فعّل اللهجات المستدرجة من لغة فقدت قواعدها فأصبحت لغات لا قاعدة لها.

لكنك قمت بصياغة عروضك المسرحية مشتغلًا على اللهجات السورية، كما حدث في أعمال من قبيل: «النفق- 2006م» و«وعكة عابرة- 2008م»؟

في المسرح تنتقى الكلمة، وهذا ما كان في عروض مثل «النفق» و«وعكة عابرة» كلاهما باللهجات السورية المحكية، لكنّ هناك فارقًا ضخمًا بين الكلمة في «النفق» والكلمة في «وعكة عابرة» إذ إن هناك شخصيات كانت في الجامعات السورية وأصبحت في أماكن أخرى، أما في «وعكة عابرة» فهي شخصيات تنتمي للشارع في درجة متدنية من السلم الاجتماعي السوري، كونها تنتمي إلى القاع بمعظمها؛ وإن وُجِدَ بينها شخصية طبيب فهو من عقليتها ولن يخرج من إهابها، فالطبيب في هذا العرض كما شاهدته هو لا يستطيع الكلام ولا التعبير، أقصد هنا الشخصية طبعًا لا الممثل الذي قام بأداء دور الطبيب، فشخصية الطبيب هنا عاجزة عن أن تجاري الشخصيات الأخرى في العرض في طرق تعبيرها وعباراتها ذات البيئة القاعية. إذًا المسألة كانت خطرة عندما استُدرجنا إلى هذه اللهجات الشعبية عبر التلفزيون، فكلنا مستدرجون إلى هذه «القمامة اللغوية» أو النزع الأخير للغة العربية، أو «رميم» اللغة العربية ألا وهي اللهجات؛ هذه مرحلة للوصول إلى مرحلة تقعيد هذه اللهجات وبالتالي حدوث الانشقاق النهائي لهذه المحكيات عن اللغة العربية الأم، وجعلها لغات مستقلة في كل زاوية من زوايا ما يطمح إليه الغرب من تحطيمٍ لهذا المكان عبر لهجات شعوبها، هذه المعضلة اللغوية ستوصلنا- إن لم نستدرك هذه المسألة – إلى «لغاتٍ- لهجات» وسيكون لكلٍّ منها سيبويه خاص بها كي يقعّدها.

أين المسرح اليوم من كل هذا السديم التلفزيوني؟

المسرح يحتاج إلى موافقة الدولة، وعلى تقديم ما سوف يكون دون أدنى جدال ضد سياستها، فالمسرح ثورة مستمرة، تاريخًا ومعاصرًا هو ثورة مستمرة، المسرح اجتماع حر يتواطأ الناس للوجود فيه بذريعة العرض، فعندما أُقدِّم عملًا مسرحيًّا لا أريد من هذا العرض إلا أن يكون سببًا من أسباب الاجتماع؛ المسرح والسينما في المدن هي الاجتماعات الحرة، فليس هناك تقييد على من يدخل، وليس هناك تمييزٌ لمن يحق له الدخول أو لا يحق. إذًا فالمسرح اجتماعٌ وحوار حر، ولا يمكن لأي مسرح في سوريا أو غير سوريا أن يكون اجتماعًا مقيّدًا، أو مسيّسًا، لأنه عند ذاك سيصبح المسرح ألعوبة في يد رجال الدين والسلطة.

شهدت الكارثة السورية انقسامات حادة بين النخب، هل تعتقد بدور قادم للمثقف السوري في المرحلة المقبلة؟

وهل كان للمثقفين فعلًا مكان في الواجهات الثقافية؟ هل كان بمقدورهم أن يكونوا أصحاب قرار في الأماكن التي كان عليهم أن يكونوا مبدعين خلاقين لمصلحة شعوبهم فيها؟ أقول: لا.. أنت تتحدث عن شيء أبيد منذ زمنٍ بعيد؛ هناك مظاهر وظواهر «ثقافية» في سوريا كما في كل بلد عربي، هذا صحيح.. فتجد قصاصًا هنا، وروائيًّا هناك؛ مسرحيًّا هنا؛ وتشكيليًّا هناك؛ لا أكثر ولا أقل؛ أما أن تتحدث عن نهضة ثقافية لو قامت على مستوى واحد من البلدان العربية؛ فهذا من قبيل أحلام اليقظة. لو كان لدينا مثقفون لتفادينا كل هذا الخراب؛ لا على الإطلاق.. أنت تتحدث عن نخب ثقافية قد تكون في ذهنكَ كمن في ذهن من يقرأ كلماتي الآن؛ موجودة فقط في الواجهات التلفزيونية؛ لقد تمت إبادة كل ما يمكن أن يكون واجهة ثقافية صلبة في كل بلد عربي؛ ووضع مكانها نخب تلفزيونية قوية وشرسة في مسألة الدفاع عن مناصبها وأرباحها؛ وتستطيع أن تقول ما تشاء على كل التلفزيونات وفي كل المقابلات والمناسبات وغير المناسبات، فهي تُفتي اليوم في كل شيء لأنها المعروفة والمضاءة؛ ولأنها الأكثر شهرةً وسطوةً، فلو قلت مثلًا إسماعيل فهد إسماعيل فإن ثمانين بالمئة من هذه الواجهة التلفزيونية لن يعرفوا هذا الروائي العريق الذي كتب رائعته «في حضرة العنقاء والخلِّ الوفي» هم لا يعنيهم ذلك؛ بل لا يرغبون في إعادة قراءة عباس محمود العقاد، والمعركة الإبداعية التي دارت بينه وبين طه حسين؛ ولا يستدركون معنى أن يُطمر اسم شخص كالسنباطي تحت ركام «الفيديو كليب». هم ليست لديهم أي رغبة في أن يستمعوا إليك، لكونهم يمنحون أنفسهم المصداقية لقول أي شيء، فقط لأنهم مشهورون جدًّا على مستوى الوطن العربي؛ ويدركون أن لهذه الشهرة إمكانية النفاذ إلى عقل الإنسان وإبادة ما يمكن أن يكون مهمًّا وحقيقيًّا من كلمة وشكل ولون وفعل؛ وهذا ما تبغيه كل الأنظمة العربية؛ بل قل الأنظمة على مستوى الكوكب؛ لقد خلقت الولايات المتحدة الأميركية حوضًا هائلًا من الأُميين على مستوى الأرض؛ وكان لا بد لها أن تخلق واجهات تستطيع من خلالها أن تنفذ إلى عقول هؤلاء؛ فالأمية هي الحوض الذي تستثمر فيه الولايات المتحدة على مستوى العالم بأسره؛ وأقول الولايات المتحدة هنا كنظام سياسي وليس كبلد؛ إذًا كان على كل إعلام أمةٍ من الأمم أن ينضوي تحت راية الإعلام الأميركي؛ وأن تقوم الأمة بتشكيل واجهة تلفزيونية لتستطيع من خلاله النفاذ إلى سياسة وجمهور هذا البلد أو ذاك؛ وطبعًا ساعد على هذا الأمر وجود وزارات ومجالس ثقافية في سوريا وخارجها من البلدان العربية تواطأت على هذه الفكرة.

في دور ريتشارد الثالث- 2009 نيويورك

هؤلاء لا عقيدة لهم

أين المثقفون هناك أين الفنانون؟ وما موقفهم من هذا السلوك؟

كنتُ أقول لبعض مسؤولي الثقافة في المهرجانات التي كنتُ أشارك فيها: لماذا لا تدعون أعمالًا مسرحية للعرض لديكم، ادعوني أنا وفرقتي ولن نطلب منكم أجورًا، فقط أمّنوا لنا إقامتنا وطعامنا.. أحدهم قال لي عندها: «والله يا أستاذ سيكون لدينا عجقة» هم لا يريدون أن يشاركهم أحد في أمكنتهم، يريدون فقط أن يبقوا مع فناجين قهوتهم وسياراتهم الفارهة وحسناوات مكاتبهم! تسألني عن النخب الثقافية؟ ماذا تعني بالنخب الثقافية؟ أقول وأكرر: اليوم النخب الثقافية والفكرية والفنية والفلسفية والتاريخية والمعرفية والمعاصرة والقادمة والمستقبلية للمواطن العربي هم «التلفزيونيون» وهؤلاء لا عقيدة لهم سوى عدِّ المال، والمال دمٌ مجفف من شعوب الأرض؛ فلو جرّحت الدولار بشفرة ورفعته من زاويته لنزَّت منه دماء الهنود الحمر والفلسطينيين والعراقيين، والأفغان، واليوغسلاف، والفيتناميين، واليابانيين، والسوريين، والليبيين، واليمنيين، وكل الأماكن التي نهبتها الولايات الأميركية المتحدة.

ولكنك تسلمت فيما مضى منصب مدير مديرية المسارح والموسيقا لمدة تسعة أشهر في سوريا؟ ألم يكن بإمكانك فعل شيء؟

عندما دعيت من الكويت لهذا الشأن سألني كل من الفنان مانويل جيجي والفنان الراحل نعمان جود أين تذهب يا فايز؟ فقلت لهم ربما إلى المقصلة؛ قالا لي: لماذا وافقت؟ فقلتُ لهم: على الأقل ليكون لي فضيلة أن أقول نعم لهذا المكان وأحاول فيه؛ وإذا لم أستطع سأقدم استقالتي. في النهاية قدّمتُ استقالتي، فلم تُقبل، فأُقلت! المسألة خطرة جدًّا، هناك مكان عفن كما كل الأماكن والمؤسسات الثقافية؛ فالحفرة كبيرة للغاية، ولذلك ترى أن الانهدامات كبيرة جدًّا؛ فالحفر الموجودة في العالم العربي في جزءٍ منها مُصهينة بامتياز وتحت يافطات وأعلام ورايات، وكل الربيع العربي هو ناتج ما كان موجودًا من تهميش وإلغاء وظلم؛ هذه مقدمات كانت محسوسة لمن يريد أن يعرف أو يقرأ ويرى ويتبصّر. هذا كله كان ماثلًا أمامنا على صدور الشباب والشابات والكيفية التي تحولوا فيها إلى حيطان إعلانات متنقلة لكلمات وألوان وماركات وصور وعبارات يضعونها على قمصانهم ولا يعرفون معناها، وهي تباع لهم وهنا النكتة؛ لقد كان ذلك أيضًا من خلال ما يقدم من برامج تلفزيونية والطريقة التي تم فيها تهييج الملايين من الشباب العربي عبر كرة القدم وشراء لاعب من هنا وراقصة من هناك ومغنية كليب من هنا؛ هذا النوع من المقاولات على مستوى الفنون والآداب وتحويلها إلى القناة الإعلامية كان خطرًا للغاية، فلقد غابت شوارع الثقافة في معظم العواصم العربية، لتتحول إلى محال ومتاجر لبيع ماركات الألبسة والأطعمة ومجلات «الأوفست» ذات الأغلفة اللماعة والمزينة بنساء الموضة والكليب من شتى الأشكال والألوان. إذًا ما الفائدة من أن تكون مديرًا للمسارح أو مديرًا للسينما؟ وقتذاك سيكون أمامك خياران لا ثالث لهما: إما أن تكون فاسدًا وتقبض من المكان؛ أو أن ترحل..! شخصيًّا اخترت الرحيل والكثيرون ممن لم يقبلوا بهذا الأمر رحلوا، فلقد قبلتُ بإدارة المسارح السورية لكي أطوّر وأدفع بالأمور باتجاه أن يكون في سوريا مفهوم آخر للمسرح، كان بودي أن يكون كل مسرح من مسارح سورية وعددها 450 مسرحًا؛ أن يكون في كل منها فرقة موطّنة للمسرح، أي لها ميزانيتها وتستدرج الممثلين والممثلات من مدينتها والمدن الأخرى.

ورغم ذلك رصيدك يحفل بعشرات العروض التي مثلت فيها أو أخرجتها للمسرح القومي؟

المسرح القومي لا يعنيني في يوم من الأيام فكلمة القومي كلمة مطاطة، كان يعنيني المسرح الوطني على سبيل المثال، يعنيني مسرح الطفل بكل معنى الكلمة، أي أن يكون هناك علماء نفس وعلماء اجتماع ومعلمون من المدارس ومختصون من وزارة التربية ليدرسوا إمكانية إقامة هذا النوع من المسرح، وهو من أصعب أنواع المسارح، ولا يستطيع أي شخص أن يدّعي أن ما يُقدم اليوم للأطفال من سخف الشكل والمضمون على حدٍّ سواء أو الابتزاز من خلال مناسبات الأعياد وغيرها إلا عروض تهييجية لهؤلاء الأطفال؛ فهناك تأسيسات علمية صرفة لمسرح الصغار، كان يعنيني مسرح المرأة، هذا الإنسان المهضوم الحق، المقمط بالسواد طيلة الوقت، الملفوف بآلاف الأحزمة الداخلية والخارجية؛ المرأة المرمية على قارعة الطريق مهانةً ومُذلّة، كان يعنيني هذا الأمر؛ لقد بدأت ثورة أوربا عندما بدأت ثورة المرأة في النرويج والسويد والدنمارك، هناك بقناعتي بدأت ثورة أوربا الحديثة في القرن التاسع عشر، فعندما تحررت المرأة هناك؛ تحررت كامل أوربا، واليوم تقيد المرأة في أوربا وأقول لك ستكون أوربا قريبًا في مشكلة كبيرة جدًّا؛ لا من قِبل من يهاجر إليها من العرب أو الأفارقة، بل لأن المرأة بدأت تتقيد هناك بشكلٍ أو بآخر وتظلم بشكلٍ أو بآخر، وإن بطريقةٍ غير كلاسيكية.

صورة المثقف العربي والتدخين.. نصوص النيكوتين! من سجائر إمبريالية وأخرى اشتراكية إلى الطقس والأبخرة

صورة المثقف العربي والتدخين.. نصوص النيكوتين! من سجائر إمبريالية وأخرى اشتراكية إلى الطقس والأبخرة

لا تمر معظم صور الكتّاب العرب على المجلات الثقافية والجرائد من دون مرافقة سيجاراتهم المشتعلة في الصورة، حتى لتتخيل أن القراء العرب مصابون بكُحةٍ مزمنة من سحابات الدخان المنبعثة من صور كتّابهم، والأمثلة كما سنرى في هذا التحقيق كثيرة جدًّا، فسيجارة الكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان كانت لازمة لا تنطفئ في يده اليسرى وسعاله الذي كان يلاحقه ككلب تراه إشارةً لحضوره في الندوات واللقاءات الثقافية. لازمة لا تنقطع أخبارها في أحاديث يجري توقيتها حسب عدد السجائر المتبقية في علب التبغ المتناثرة على طاولات المثقفين العرب، نوع من النرجسية والاستعراض الذي يرافق الكاتب في ليالي الكتابة الطويلة، أو في المقهى والحانة ومحاضرات النقد الإقليمية.

ممدوح عدوان

هناك كتّاب عرب كثيرون لا يمكنهم أن يكتبوا من دون أن يدخنوا: محمد شكري، محمد زفزاف، محمد الماغوط، غسان كنفاني وغيرهم كثير. كتّاب كثيرون لا يستغنون عن السيجارة في حياتهم، فهي باتت جزءًا من معيشهم اليومي وقلقهم وفرحهم وتفكيرهم، بل في أحيان كثيرة يعتبرون السيجارة (مُلهمتهم) الأقرب إليهم من حبل الوريد. مرافقتهم في أسئلتهم وتفكيرهم وانشغالهم بالكتابة والحياة. صور كثيرة لكتاب والسيجارة في فمهم- تقول الأديبة المغربية رجاء الطالبي وتضيف: «أتذكر في أحد اللقاءات الثقافية كيف وقفتُ وزمرة من الأصدقاء مع الشاعر سعدي يوسف نتحدث، أتذكر دهشتي وأنا أراه يدخن سيجارته بنهم كبير يمجها بين شفتيه بينما في شروده ونظرته البعيدة كان يفكر وهو يحدثنا، يمجها كأنها مُقَدَّسه المتبقي أمام أفول المقدسات وانسحابها».

محمد الماغوط

حبر كثير أريق في الموضوع، روايات وقصص وقصائد لم تخلُ سياقاتها من استحضار السيجارة والدخان في تأملات للواقع وكتابة مشاهده ومناقشة أسئلته.. توضح الروائية المغربية طالبي وتضيف: «تحضرني صورة الماغوط وسيجارته المشهورة بين شفتيه وهو يمج امتعاضه من واقع ومن مهنة للعيش لم تعد تعجبه، وصورة غسان كنفاني وهو يكتب بينما السيجارة بين أصابعه، ومحمود درويش واضعًا رأسه على راحته والسيجارة بين أصابعه مفكرًا متأملًا شاردًا. كتّاب عرب كثيرون مدمنون على سيجارتهم -أو غليونهم لا يفارقونه- لا يفارقونها، هي عصب تفكيرهم واشتغالهم، كتاب كثيرون لا يستطيعون الكتابة من دون أن يدخّنوا، أذكر المفكر العدمي إميل سيوران الذي صرح أنه ألّف كتُبَه بمساعدة القهوة والتبغ، وأن كتابته سقطت نحو الصفر بمجرد ما استحال عليه أن يدخن».

كاتبات غربيات مشهورات صرّحن بأنهن يخفنَ من استعصاء الكتابة عليهن إذا انقطعن عن التدخين، شاعرات وروائيات مثل: فرانسواز ساغان، ومارغريت دوراس، وأناييس نين وغيرهن- تتابع الطالبي وتقول: «كثيرون يتحاملون على التدخين، ويعتبرونه مضرة، ويسخرون من المدخّنين وبخاصة الكتّاب منهم لتبعيتهم للسيجارة واعتبارها مصدر إلهامهم! فهل سنفرح أو سنشجب هذا الفعل، باعتبار أن السيجارة في طريقها للاختفاء من المشهد، حتمًا ستختفي مرحلة بكاملها، زمن حيث كنا نمنح أشياء الفكر قيمة كبرى بدل الحفاظ على الأجساد، التي نعرف أنها فانية».

جان بول سارتر

يحكي بيرنار بيفو في برنامجه «أبُستروف» أن معظم ضيوفه من الكتّاب كانوا يدخّنون ويلبسون رابطة عنق، بينما في برنامجه «حساء الثقافة» كان الكتّاب يشاركون فيه من دون سيجارة مبعثري الملبس، تنقصهم الأناقة. كثيرًا ما كانت السلطة صارمة تجاه سيجارة الفنان والكاتب هكذا جرى حجب سيجارة مارلو من طابع بريدي، كما أسقطت سيجارة سارتر من ملصق عرض ما. هل يمكن أن نتخيل شاعرًا كغينسبرغ من دون سيجارته Gitane؟ تتساءل رجاء الطالبي وتضيف: «هل ستقشّر يومًا ما إدارة المتاحف سيجارة ودوائر الدخان الزرقاء من بورتريه مالارميه بفرشاة مانيه؟ أو ستحذف غليون بودلير من لوحة كوربيه؟ غليون بودلير الذي كان هناك يدخّنه وهو يواجه كآبة باريس والعدم الذي تفتحه القصيدة أمام خطوه! هل سيتخلى مالارميه عن قُبل سيجارته الصيفية أو عن غليونه، سيجارته التي كانت تساعده على العمل، وكانت هناك وهو يحفر البيت الشعري ويتوغل في الحفر ليلتقي هواياته الصعبة التي تغرقه في اليأس، من كان معه وهو يواجه العدم (غياب الإله وموته)، أو وهو يحفر البيت الشعري ليواجه زمن الشدة، حيث تغيب الآلهة وتنمو ضرورة اقتفاء أثرهم بالحفر عميقًا في القصيدة، والعودة بهذه اللغة المدهشة، الهاربة مما هو موجود كيقين، لتواجه العدم»؟

يتفق الجميع على أن المغالاة في التدخين مضرة كما هي المغالاة في كل شيء، بينما يسخر المدخنون من الأيديولوجيا الوقائية للمجتمع، من يغامر من يتجرأ على المخاطرة بهذا الجسد الفاني بإحراقه وتجريب كل ما يدمّر، في مقابل فك الأسرار، واختراق الصعب، واكتشاف المناطق العذراء في الكتابة، ورؤية الحياة بمنظار مختلف… يحاربون السيجارة كشيطان كريه، لينسحب المدخن بعيدًا في الشرفة للتدخين، بينما هناك ممن لا يدخنون يحبون صحبة المدخنين ويختارون المقاهي حيث التدخين مسموح ليكونوا مع رفقة طيبة.

كان فرويد أبو التحليل النفسي مرتبطًا بسيجاره وهو يقول: «أدين لسيجاري بتنامي قدرتي على العمل والتحكم في ذاتي» هل سينضم الكتاب المدخنون في نادٍ ليكتبوا على بابه «قبل الإجابة عن أي سؤال يجب إشعال غليون»؟ الجملة المشهورة لأينشتاين هي السيجارة إذن بمثابة ثدي أمومي، مصدر للتمتع باللحظات، والحماية ضد التوتر المتولد من عنف المحيط.

نار الكليشيه

محمد شكري

أدونيس

بينما كانت احتفالات الولادة والتنسيب تتقلص، مع انتشار المجتمعات الحديثة وضغطها على الحياة القبلية، جاءت الحداثة باحتفال تنسيبي جديد ذي طابع كوني هو التدخين. كثير من المدخنين بدؤوا هذه العادة سرًّا أو علنًا باعتبارها احتفالًا بعلامات بلوغ مرحلة الشباب. حصة التمرد موجودة في السعي لأول سيجارة، حصة التحدي وإشهار الرجولة. يقول الروائي المصري عزت القمحاوي ويضيف: «جرّبت إقامة حفلي التنسيبي، لكن من دون نجاح يذكر. كل سيجارة أدخنها يستمر ثقلها على صدري يومًا أو أكثر. ليست لدي مشكلات في التنفس، لكن يبدو أن رئتيَّ تعيشان على الصراط الرفيع بين الصحة والمرض، ولأنني ممن دخلوا الحياة على طمع، لم أصر على التدخين بثمن يبدو فادحًا على صحتي، بالإضافة إلى أن حصة الاستعراضية التي ينطوي عليها التدخين في العمر الصغير لا تتواءم مع تطلعات شخص شبح، راحته القصوى في ألا يكون مرئيًّا. بهذه الروح أيضًا بدأتُ الكتابة، وفي سبيل هذا الخفوت للوجود الفيزيائي، صرت ضد كل الكليشيهات التي يتمسك بها الكاتب حديث الولادة: التدخين، والقهوة السوداء، والشعر المُرسل، والملابس الصادمة. بعض الشباب يستكمل كل هذه الإكسسوارات، حتى لا يعود ينقصه إلا الكتابة! من أجل مناقضة صورة هؤلاء، صرت أقصّ شعري بتهذيب الموظفين، ولا أستنكر ارتداء البدلات ورابطات العنق الأنيقة عندما تتطلب المناسبة ذلك. أكره قيادة السيارة، لكنني تعلمتها وكان دافعي الأساسي مناقضة صورة الخارجين من عباءة نجيب محفوظ؛ صورة الكاتب الذي لا يتقن أمور الحياة العملية. لم أتقدم في قيادة السيارات؛ إلى درجة أنني أخشى قيادة سيارة أخرى غير التي تعرفت عليها للمرة الأولى، لكن على أي حال لست عاطلًا من هذه الموهبة، بما يجعلني أكثر حرية، لكن إن وجد من يقود عني فهذه هي النعمة الكاملة. وإذا كنت عاديت التدخين لضرره المبالغ على صحتي، ولما ينطوي عليه تدخين الكاتب من كليشيه؛ فإنني لم أحرم نفسي من معنى الاحتفال المضمر في السيجارة أو الشيشة. السيجارة كمكافأة بعد وجبة كتابة مثمرة أو كمُتمِّم لسهرة، أو عشاء حب، والشيشة كصديق يحاورني في جلساتي القليلة جدًّا على المقاهي».

الالتزام بالتدخين

نجيب محفوظ

لعلّ نماذجنا الجماليّة في معظمها موروثات نسقيّة، اخترعها الأدب، والشعر خاصّة، وغرسها في البنية الثقافيّة الاجتماعيّة، أو في النسق الثقافيّ، تحت ما يسمّى بشعرنة القيم، وصرنا بناءً عليه نحبّذ هذه الشخصيّة، ونمقت أخرى بقياسها على النموذج الذي قرّره الأدب. الشعر يقرّر بدكتاتوريّته، والرواية تقدّم نماذج متعدّدة، لك أن تحبّها أو أن تنبذها وفقًا لميولك الأيديولوجية وللضغط الجماليّ الذي يمارسه الروائيّ عبر الراوي في وصف شخصيّته، حسب ميله الأيديولوجيّ أيضًا، الذي قلّما ينجو من الانحياز، فيتّسم بالحياديّة، وإذا ما راجعنا المدوّنة الروائيّة العربيّة منذ خمسينيّات القرن العشرين، سنجد الشخصيّة الثوريّة اليساريّة، غالبًا ما تُرسم لذيذة، في حين ترسم الشخصيّة المتطرّفة الدينيّة بريشة المقت، والتردّد، والعلّة السيكولوجيّة، ومن أهمّ سمات هذا النموذج الثوريّ اليساريّ، أو الوجوديّ التزامه التدخين؛ تقول الروائية السورية شهلا العجيلي وتضيف: «يزداد التأكيد على هذه السمة لدى المرأة الثائرة؛ لأنّ التزامها الأيديولوجيّ يتّفق مع مواجهتها للتقاليد الاجتماعيّة، ويستطيع الشعر أن يقلب ظهر المجنّ للنماذج أو يسيّدها، خارجًا على القيم النسقيّة، كاشفًا عمّا أسمّيه جماليّات الوصمة، كما فعل نزار قبّاني في نصّه الذي تحكيه امرأة حبلى عن رجل نذل، وكما فعل كلّ من بشارة الخوري، والسيّاب، في نصيهما عن المومسات».

نزار قباني

في أيام دراستنا الجامعية ساد نموذج الرجل المدخّن- تتذكر العجيلي ساردةً: الرجل المدخّن هذا فرضته على جموع المثقّفات والمثقّفين، قصيدة نزار قبّاني «صديقتي وسجائري»، إنّها نصّ ضدّ الصحّة، وضدّ البيئة، وضدّ الحداثة الكونيّة، لكنّها غواية الشعر التي تقرّب البعيد، وتبعد القريب: (واصل تدخينك يغريني/ رجلٌ في لحظة تدخينِ/ ما أشهى تبغك والدنيا/ تستقبل أوّل تشرينِ/ والقهوة والصحف الكسلى/ ورؤًى، وحطام فناجينِ…/ أشعل واحدة من أخرى/ أشعلها من جمرِ عيوني/ ورمادك، ضعه على كفّي/ نيرانك ليست تؤذيني/ فأنا كامرأة يرضيني/ أن ألقي نفسي في مقعد/ ساعات في هذا المعبد/ أتأمّل في الوجه المُجهَد/ وأعدّ أعدّ عروق اليد/ فعروق يديك تسلّيني/ وخيوط الشيب هنا وهنا/ تنهي أعصابي، تنهيني…).

آنذاك أُغرِم جلّ الصبايا بالمدخنين- تتابع العجيلي وتقول: «أُغرِمت الصبايا بالذين يشعلون سجائرهم بنزق ويطفئونها بنزق، وإذا غطّوا وجوههم بصحيفة كان الغرام أشدّ أُوارًا، وإذا صفّوا فناجين القهوة اشتعل أكثر، ويبلغ الجَوَى ذروته في أوّل تشرين، حيث تستقبل الدنيا رذاذًا عذبًا، وإذا منّ الله على شعر الرجل ببعض الشيب خالط سواده كان ذا حظوة، وإذا ما اعرورقت كفّاه، وبرزت الأوردة فيهما لنحول، أو مزاج عصبيّ، وربّما فقر، أو كدح، فيكون قد أودى بلبّ الصبيّة، حتى إنّ إحداهنّ كانت تتمرّن على نفض رماد السجائر في كفّها، حتّى إذا ما التقت حبيبها، فتحت كفّها بطريقة بطوليّة، ثمّ سفّت ذلك الرماد، بحجّة أنّه مفيد لحرقة المعدة! لا أعرف ما إذا كانت المراهقات أو الصبايا ما زلن ينجذبن نحو ذلك النموذج، أو أنّ الشباب ما زالوا يتمثّلونه، لكنّني أراهم يدخّنون كثيرًا في الجامعات، وفي المقاهي، رغم التحذيرات كلّها! ما أعرفه أنّه لم يعد نموذجنا بوصفنا جيلًا، فقد تحوّلنا عنه، مع وعينا مضارّ التدخين، ومع ما انتابنا من أمراض الحساسية، والوعي البيئيّ، والتنمية المجتمعية، والتفاتنا الصحيّ أكثر من الجماليّ بمشاكل الفم والأسنان…ولعلّنا هرمنا، وهزم زمانُنا الشعر فينا، إنّنا بصراحة نفضّل نماذج جمالية بلا تدخين»!

رموز القضية الفلسطينية يدخنون المارلبورو

غسان كنفاني

أغلب الأوقات كنا ننبذ التبغ الرأسمالي أو الإمبريالي حسب مفهومنا لمصدر المُنتَج؛ بل نبحث عن آخر يتوافق مع ما نتبناه من أيديولوجيات، كأننا نريد ردّ الجميل أو ندعم مواقفنا بإحراق سجائر اشتراكية. كانت المقولة الدارجة أنكَ تدعم الكيان الصهيوني حين تدخن (المارلبورو) مثلًا؛ وأنكَ كلما دخنت لفافة من هذا النوع فإنك ستساهم في قتل طفل فلسطيني.. كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتنا نقلع عن هذا النوع حتى اكتشفنا أن بعض القيادات الفلسطينية لا تدخن إلا (المارلبورو) يقول الشاعر والقاص السوري لؤي سلمان ويضيف: «اكتشفنا أن بقية الأنواع الأجنبية غالبيتها إنتاج شركة (فيليب موريس). المضحك أن هذه الشركة لديها فروع في عدة دول عربية وغربية، ولم يبقَ غيرنا يحاول الموت بسجائر عربية حتى لا نساهم في قتل طفل فلسطيني، ربما كان الأجدر بنا أن ندخّن الحشيش حتى ندعم الأفغان، أو نلوك القات من أجل دعم اقتصاد اليمن السعيد».

سعدي يوسف

كأن دعم إسرائيل متوقف على التبغ الذي ندخنه- يتابع سلمان ويقول: «مع كمِّ الإعلان الهائل الذي انتهجته شركات تصنيع التبغ باتت السيجارة في ذاكرة كل مواطن عربي؛ ولا سيما أنها ارتبطت بالرجولة والجنس والمغامرة؛ الأشياء التي حُرمنا منها في بلادنا العربية، كما كانت بعض المجلات العربية تساهم في هذه الدعاية والإعلان، لكن مع انتشار ثقافة حماية البيئة ومهووسي الصحة والتحذيرات المتتالية من التدخين وأضراره؛ بدأت المكتبات العمومية تمنع التدخين في البلاد العربية؛ وهذا أحد أهم أسباب ابتعاد رواد الثقافة عن تلك المكتبات».

يعتقد بعض أن النص الإبداعي يكون في الأغلب محصلة ارتباط المثقف بعادة التدخين، وذلك من خلال بعض الشخصيات المنتجة التي شاهدناها والكاريكاتيرات التي كرّست نفسها كحالات إبداعية أو فكرية خاصة؛ فكانت أغلبية صورها التي رأيناها لهؤلاء مع لفافة تبغ أو بايب، حتى اعتقد بعض أن التدخين سبب الإبداع، وجزم العامة أنه من غير نسبة النيكوتين التي تدخل جسد المثقف لا يمكن إنتاج النص، ويعقب الشاعر السوري سلمان مضيفًا: «حتى إن الروائي حنا مينا أعلن ذات مرة أنه مستعد للتوقف عن التدخين بشرط أن يتوقف عن الكتابة، وكلنا يعرف أن محمد الماغوط لم يترك لفافته دقيقة حتى في أثناء ظهوره على شاشة التلفزيون، والشاعر إيليا أبو ماضي أيضًا لم يكن يحتاج إلى أن يشعل لفافته إلا مرة واحدة وتبدأ رحلة إشعال السيجارة من أختها، وغيرهم كثر من مفكرين وأدباء وشعراء عرب وأجانب».

محمود درويش

في المقابل هناك كثير من الأدباء أقلع عن التدخين، واستمر في مسيرته الإبداعية، ومنهم: أدونيس، وسارتر، وماركيز، ومنهم من لم يدخّن إطلاقًا، حتى إن جبران خليل جبران لم يكن معروفًا عنه أنه يدخّن؛ وله لقطة واحدة تعتبر نادرة وهو يمارس طقس الهندي الأحمر؛ غير أن التدخين في حدِّ ذاته لا ينتج إبداعًا، وإلا لم يكن بإمكاننا السير في الطرقات من كثافة النتاج الثقافي والإبداعي من علب الليل وباعة الخضار وسائقي السيارات وغيرهم من أصحاب المهن، والعكس صحيح، يعقب الأديب سلمان ويضيف: «ليس كل مبدع مدخّنًا بالضرورة؛ بينما يرتبط الإبداع بالتدخين من الناحية الفطرية؛ إذ يمكن أن تكون مبدعًا بالفطرة أو حشاشًا وأحيانًا كثيرة يتحول التدخين إلى هواية أو عادة؛ حيث يكون مجرد فعل ولا طعم بعد عدة لفافات، فالتفاعل مع التبغ ليس دائمًا لخلق فكرة أو استدعاء الوحي، لكن من الممكن أن يعطّل نفاد التبغ طقس الكتابة؛ كونه طقسًا من الطقوس عند البعض ولا يمكن التركيز في غيابه».

عبدالقادر عبداللي.. ترجمان الألسنة يغيب في روايته الأخيرة

عبدالقادر عبداللي.. ترجمان الألسنة يغيب في روايته الأخيرة

أورهان باموق

ناظم حكمت

لا يعرف أورهان باموق كيف سيتدبر أمره بعد الآن، فقد غاب الكاتب لا المترجم، ربما اختلط الأمر على الأديب التركي، ربما راوده السؤال: من فينا الكاتب ومن فينا المترجم، أنا أم عبدالقادر عبداللي؟ سؤال لا نبالغ إن كرّسناه في هذا التقرير، ملتفتين إلى إرث صاحب «اسمي أحمر» وقد دخلنا سوق النقاشين التركي، حاملين معنا لغو الألسن وعجمتها، فليس اللسان هنا شيئًا أمام براعة تقليبه وتقمص حركاته وأحرفه اللثوية، ليست الشفاه ولا مخارج الحروف ولا نبرات الكلام وتصاعده وهذيانه، بل هي الترجمة بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية التي نقلها المترجم السوري الراحل من التركية إلى العربية، ناقلًا معها أقصى خلجات أدبائها وأشد حالاتها المفارقة، متمثلة في ترجمة السخرية.

مهلًا.. وهل نستطيع ترجمة السخرية؟ أجل لقد فعلها عبدالقادر عبد اللي، الذي انطفأ مؤخرًا عن ستين عامًا قضى جُلَّها في الترجمة، لا تنطحًا ولا تطاولًا على أدب عزيز نيسين، بل من باب معرفته بالشيء، وغوصه العميق في الشيفرا الثقافية التركية التي كان خبرها عن قرب أثناء دراسته فنون المسرح والمشهد في «جامعة المعمار سنان» في إسطنبول. من هناك اقترب ابن مدينة إدلب (شمال غرب سوريا) من المعيش التركي، مقتحمًا أسواقه وجلسات مثقفيه وشوارعهم، مطلًّا على الثراء الحياتي للشعب التركي، وناهلًا من معين حِرَفهم وتقاليدهم وطرفهم اليومية، ليتبلور هذا الوعي لا باللغة وحسب، بل بالكلام كمادة تصوغ الفكر والمنطوق، وتوازن بين الفصيح والشعبي، بين المكتوب والمحكي.

هكذا فعلها (عبد اللي) هو الترجمان الصميم الذي ما فتئ يصيغ خيمياء اللغة على ميزان ذهب، مصدِّرًا أدب الأناضول إلى المكتبة العربية، كاشفًا الحجاب عن روايات وقصص (نيسين) ويشار كمال، وخلدون طانر، وإليف شافاق، وذلك بعد أن ترجم العديد من أشعار تلك البلاد، كان رأسها الأعمال الكاملة لناظم حكمت. تراجم حملت تلك التوازنات النصية المعقدة والمركبة بسلاسة ولين، وجرأة فنية لافتة في إيجاد حلول لغوية وتراكيب ماهرة، سبك (عبدالقادر) عبرها جواهر الأدب التركي، منافحًا عن روح ساخرة ومريرة في البنية النصية التي قدمها، مجاهِرًا مع كل ترجمة يخترعها باللغة عن معين فياض ودفق لا نهائي في إعادة تأليف هذه النصوص للقارئ العربي، لا خيانتها بل توضيبها من داخلها للنفاذ إلى ظرف زمان ومكان الأدب التركي، إن كان قصة أو رواية أو قصيدة.

صنعات أدبية وفنية

عزيز نيسين

إليف شافاق

هذه الحرفة التي أتقنها (عبد اللي) كما يعرف الجميع لم تكن الوحيدة في رصيده؛ بل جمع المترجم الراحل بين صنعات أدبية وفنية عديدة، فعمل بصمت على لوحته التشكيلية، مستنبطًا زيت وزيتون مسقط رأسه ليكون مرادفًا لأجواء أعماله التشكيلية التي نستطيع أن نرى تقاطعاتها مع عبقريته في الترجمة، وإدراكه الرهيف أن توزيع عناصر اللوحة وتوازنات بؤرها اللونية، وتوليف مناخاتها بين الرطوبة واليبوسة، لا يقل شأنًا عن مادته الأصلية في فن الترجمة الذي خبر دهاليزه، مستوحيًا ذلك من تمارينه اليومية في الكتابة للصحافة، مطوِّرًا بذلك نمطًا جديدًا من المترجمين دائمي السعي نحو رشاقة الجملة والتنويع عليها والخروج بها من سجنها اللغوي الأم -إن صح التعبير- إلى لغته العربية. لقد أبعد هذا الرجل مخاوف عديدة تكتنف الكثير من مترجمي العربية، متكئًا في ذلك على الأديب الذي في داخله، فلم يكن تقنيًّا ينقل حذافير العبارات ميكانيكيًّا، بل شدد على روح النص، مسترشدًا بسيمياء عالية الجودة، ليشتغل على طزاجة غير معهودة في تنميق تراجمه وتخفيف غلظتها عبر الاستعانة بعلوم الإشارة والدلالة، لكن بعفوية نادرة واطّلاع واسع على مرادفات الجمل والتراكيب، وصولًا إلى الوقت الذي أصبح فيه هذا المترجم الأديب (شيخ المترجمين) من التركية إلى العربية، محتلًّا المرتبة الأولى عند أدباء أتراك كبار، آثروا أن يكون (عبد اللي) سفيرهم المخلص إلى لغة الضاد.

قد لا نسوق مديحًا هنا إن قلنا: إن (عبدالقادر) كان بحق سفيرًا فوق العادة للأدب التركي في العالم العربي، ومرشدًا نزيهًا لرواياته، فالثقة التي حازها الراحل الكبير جعلت منه رجلًا بحجم مؤسسة، لا سيما مكانته التي انتزعها لدى الأكاديميين الأتراك في بحوثهم الجامعية التي تعمل اليوم على دراسة تجربة (عبد اللي) والتمحيص في مختبرها اللغوي الهائل، الذي استطاع تنقية هذا الكَدَر بين ثقافتين، لَطَالما كانتا على طرفي نقيض بفعل النزعات القومية والتاريخ الاستعماري الطويل منذ الاحتلال العثماني للبلاد العربية، فالجهود التي بذلها هذا الرجل الموهوب لم تتوقف على لغة المنقول عنه، بل دراية عميقة حصلها الراحل في لغته الأم، منصاعًا إلى جذور الأسماء والأفعال، ومهندسًا لكنايات واستعارات وتوريات حاذقة، أعاد عبدالقادر إحياءها في النص المترجم، خالصًا إلى اشتغالات عدة نقلته فيما بعد إلى ترجمة أعمال سينمائية ودرامية (أبرزها وادي الذئاب) إلى محطات البث العربية.

موسوعي يختفي

بهذا يكون عبدالقادر عبد اللي واحدًا من هؤلاء الموسوعيين الكبار الذين اختفوا في عصور التخصص، عصر ثقافة التخصص تلك التي كرّست الأميّة الثقافية، وجعلت من ثقافة العمق قفصًا للمعارف الجزئية، مطلقًا لم يكن هذا الكاتب والمترجم والفنان والصحفي لينضم إليها، غير قانع بمعارف التكنوقراط الجديدة، بل مثابرًا على الدوام على أبحاثه اللغوية العميقة، مطوِّرًا معارف اجتماعية من خلال معمله اللغوي والتشكيلي الذي أفل باكرًا ليغيب في قبرٍ بعيد من بلاده في مدينة أضنة التركية.

يبقى أن نقول ما وصل إليه عبد اللي كان غيضًا من فيض أنشطته السياسية، وعمله الدائب على تحقيق مطالب التحرر والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتشهد لذلك مقالاته الجريئة ونزعته الدفينة ببلاد أكثر عدلًا ومساواة، فالمترجم الذي أمضى سحابة عمره خلف أوراقه ونصوصه، لم يكن يدعي أدوارًا لنفسه، بل كان عمله لافتًا في ترجمة نتاج العديد من الأدباء الأتراك، ومن المشارب السياسية كافة. من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مع ميله عقائديًّا لهذا الأخير، فلا تحزب لتيار محافظ وليبرالي أو شيوعي، ولا إهمال لأدب الهامش التركي، بل كان المتن لدى عبد اللي هو النص، بغض النظر عن اتجاهات كتّابه. النص بريئًا من كل هذه الإحالات والإنشاءات العقائدية، وهذا برأيي ما جعل منه مترجمًا مستقلًّا، ولعله يستحق بذلك مناصفة باموق على نوبل، ويفتح الباب عريضًا على حقوقه المهدورة لدى الأوساط التركية السياسية والثقافية التي لم تصنع ما يليق بوداع رجل من هذا الطراز الرفيع.