تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)

تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)

نذير-الماجد

نذير الماجد

كم من الشعر مدفون تحت ركام اللغات؟ العطش قدر الكائن الجمالي، كأن عليه لكي يقبض على الجوهر الشعري أن يتقن لغات العالم. في كل لغة يختبئ جوهر شعري، والمهمة الأساسية تكمن في اكتشافه. اكتشف هيدغر جوهرًا شعريًّا في لغة غير لغته، فعمل على استدعاء الشعرية الإغريقية لتدشين فلسفة حديثة. الإغريق هم الأسلاف الطبيعيون للفلسفة المعاصرة. التراث الإغريقي هو تراث الغرب الذي كان وراء نهوضه من سباته الطويل. في كل تراث ثمة مادة لا تنفد ولا تشيخ، من يعمل على اكتشافها في تراثنا العربي؟ من يتجشم عناء هذه المهمة الشاقة التي تراوح مكانها مشكّلةً صداعًا ثقافيًّا مزمنًا؟ سؤال إشكالي له مذاق الهزيمة وتبجح الآخر، فتراثنا ليس لنا. لم نحسن القراءة. مهمة اكتشاف الذات لم تستكمل. تشوه التراث باختزال مزدوج: اختزال الذات واختزال المركزية الغربية. استبطنت الذات العربية الصورة الدونية التي رسمتها المركزية الغربية فصارت تمتهن ذاتها التراثية، ينبغي هنا استحضار إدوارد سعيد.. كل صيحة تحديثية موشومة بالغرب. أصبحت الدعوة إلى الموسيقا والشعر وحرية القول والفلسفة وفن الحياة دعوة تغريبية. قصائد النثر والسرد منتجات غربية، الغرب علمنا ذلك ولا بد من الاعتراف بتفوقه أو باغترابنا. الغرب! ذلك النعت الذي يجلب البركة أو اللعنة.

ثمة استعادة للتراث لكن على نحو أحادي وبنكهة دينية، أصبح التراث رديفًا للتراث الديني، ابتلع الجزء الكل. شُطِب مكونه الشعري الأعم من القصائد وأغراض المديح أو الهجاء أو المهاترات القبلية، اختفت هرطقات الفلسفة وضلالاتها، وسُحق وجه الثقافة الشعبي ليظل الوجه الرسمي المعتمد كجوهر أزلي أو شاهدة قبر. إنه تراث ممزق عانى كثيرًا من خطايا أبنائه، تراث لم يعد تراثًا بصيغة الجمع.

لولا هذا الاستشراق

مارسيل بروست

مارسيل بروست

غارسيا ماركيز

غارسيا ماركيز

أليس من السخرية أن تحقيق النصوص الأكثر نبوغًا قام به الاستشراق نفسه الذي أدانه محقًّا إدوارد سعيد؟ غيبوبة الذات من جهة والتثبيت الغربي لشرق رومانسي حالم حينًا، وديني أصولي حينًا آخر جعل من التراث الحي جثة هامدة. لم نكن نعرف -مع ذلك- التصوف و«ألف ليلة وليلة» وكل النصوص المهمشة لولا هذا الاستشراق. كان يحفر ويستخرج الكنوز فيما نحن غارقون في تفاهات الماضي وتمثلاته الثيولوجية، في سذاجات الحقيقة الأحادية ونرجسية الطائفة. هذا الانشغال أجهز على تعددية التراث. «ألف ليلة وليلة» الذي تشكل واستقر قرونًا هو نص محرم ومحكوم بالإدانة. تخدش الليالي نقاء الصورة المتخيلة للذات. الليالي محض هراء وتفاهة. تحاط الليالي بنظرة ازدرائية. كل نتاج ذاتي محتقر. لا تليق بنا الليالي، شغلتنا عنها مماحكات المِلَل والنِّحل. ليس بمقدورنا اكتشاف الشعرية في ألف ليلة وليلة. هي غريبة في بيتها، عليها انتظار عبقرية أجنبية لكي تعود. قرأ ماركيز «ألف ليلة وليلة» فكانت قراءة العمر. اكتشف حكايات شهرزاد فاكتشف ذاته. القراءة كانت لها «قوة الحدث». ما بعد الكتاب ليس كما قبله. يقال: إن الشيء نفسه حصل مع بروست صاحب «البحث عن الزمن المفقود». الليالي ألهمت كثيرين قبل عودتها. بالمناسبة هل ما زالت مدانة في محاكم مصر؟ كم ماركيز وكم بروست نحتاج لكي تكرم الليالي في بيتها ويعود السندباد البحري من سفره الطويل؟

العودة تعني الاحتفاء مجددًا وإعادة الاكتشاف. العودة ليست نستولوجيا إنما خروج من وضعية الاغتراب. ليست المسألة حنينًا لهوية مفقودة. تكمن المسألة في وعي الذات بضرورة المشاركة في بناء الكوني، يبنى الكوني في الوقت الذي تتقوم فيه الخصوصيات. لا يتعلق الأمر بقطيعة مع الكوني أو الدخيل أو الآخر. على العكس، يتعلق الأمر بحوار داخل الكوني ومعه. ينبغي الحوار مع الآخر، لكن أيضًا مع الذات نفسها. مع الذات في ماضيها عبر إعادة الاكتشاف الدائم لعبقريتها الماثلة في الشعر. تبيت الكينونة في الشعر. والشعر هو الكنز المنثور والمخبوء في التراث. ينبغي البحث عنه واكتشافه عبر إقامة الحوار ليس مع الثقافة الرسمية بل عبر المقموع فيها. الحوار مع المهمش في هذه الثقافة، مع الشعبي، الضاحك، الخرافي، مع المقامة التي احتقرها محمد عبده وشطبها وهو الإصلاحي الكبير. المطلوب إعادة استنتطاق هذا الموروث، استنتطاقًا أبديًّا ودائمًا ومستمرًّا. تتحول الذات ويتحول معها الموروث. تعريف الموروث هو نفسه عمل متحول ومفتوح. تهرب التعريفات وتنسحب، وليس النقد بصفته فنًّا ضد الفن أو معه إلا محاولة دائبة للإمساك بالتعريفات الهاربة كما قال يوما كونديرا.

في هذا السياق تُفهم أعمال عبدالفتاح كيليطو الناقد الأدبي والقارئ الحداثي للتراث، وهو المقتفي خُطا باختين وتودوروف، وبخاصة في قراءة النص المهمش، لا ننسى أن روسيا المنحدر منها باختين كانت مهجوسة هي الأخرى بهويتها السلافية، كانت مسكونة برعب الآخر الغربي. من الواضح أن عبدالفتاح كيليطو مشغول بردم الهوة، تسكنه هواجس التجسير، ضرورة الحوار ليس مع الآخر، بل مع الذات نفسها قبل ذلك، مع الذات الكلاسيكية والتراثية. يلح كيليطو على إعادة قراءة التراث والحوار معه وترجمته ليكون معاصرًا وحديثًا. المطلوب قراءة معاصرة للتراث لإنجاز وعد مصالحته مع الحداثة.. والحداثة هي هكذا: «مادة تقليدية مستعملة في منظور جديد». لكن جهده النقدي تركز حول فن المقامة. عد المقامة سلف الرواية العربية والأب الشرعي للسرد العربي المعاصر تمامًا مثلما عد أدونيس نصوص النفري قصائد نثر مبكرة.

المقامة وانتهاك القاعدة

محمد عبده

محمد عبده

إنها والله مقامة!.. المقامة خطاب في مجلس، ما يعني وفرة الأصوات وتشابكها وتداخلها وتقاطعها، المقامة خطاب روائي بالمعنى الذي عناه باختين، هناك إذن تعددية في الأصوات: صوت العقل إلى جانب صوت الجنون.. لكن في المقامة ومن ناحية الشكل تحديدًا تحتشد وفرة من الأنواع أيضًا، الشعر إلى جانب النثر المسجوع غالبًا، المديح إلى جانب الهجاء. هي مثل الرواية شكل هجين بلا أب، كتابة حديثة تائهة في القرن الرابع الهجري. غير أنها شكل يقبل المحتوى ونقيضه. ففي المقامة يوجد الرسمي والشعبي، المعتمد والمهمش، الهزلي والجاد، القاعدة وانتهاكها. الجهد الشكلاني والبنيوي الثقافي الذي بذله كيليطو بحاجة إلى من يستكمله بترجمة معاصرة لمنطوق المقامة وجملتها التأويلية التي لا تختزل بحسب تعبير «بول ريكور». المقامة كالتراث متعددة، يمكن القول: إن المقامات تختصر التراث، وإن الأخير كله مقامة. تتنازع الكلمة استعمالات متشابكة، المقامة شكل أدبي لبنية سردية، لكننا نلحظ أيضًا أن مفردات كالقيامة والمقام تستمد أيضًا من الجذر نفسه، المقام عند المتصوفة رتبة وجودية في حين أن المقامة فسحة وجودية أو كرنفال، أما القيامة بمفهومها الخلاصي فتمثل أمامنا بمعنى العودة لكن في حلة جديدة. تعني قيامة المخلص عودته المكللة بالمجد. بهذا المعنى يمكننا استعادة التراث: أن يقرأ مجددًا، أن يخضع للنقد، والنقد تعليم فن القراءة كما يقول الإستطيقي الإيطالي كروشته.

كان أبو الفتح الإسكندراني يتنكر في كل مقامة تحت قناع، إلى أن يقوم الراوي «عيسى بن هشام» بفضحه بشيء من الدهشة والمرح. مع كل مقامة – وأنا هنا أخص مقامات الهمذاني- يتكرر هذا الاكتشاف المدهش في صورة لازمة: «إنه والله أبو الفتح الإسكندراني». الفضيحة تختتم المقامة، أما قراءة التراث فتبدأ بها. ثمة من ينتظر خلع أقنعته العديدة ليدهشنا نحن أيضًا بلازمة تتكرر: إنه والله تراث، إنها والله مقامة.