تزفيتان تودوروف: الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم

تزفيتان تودوروف: الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم

تزفيتان-تودوروفلطالما كنت أشعر أن مسار حياتي، مهنيًّا وفكريًّا، كان يتشابه مع مسار حياة تزفيتان تودوروف (1939- 2017م) المُنظِّر الأدبي البارع والمفكر الإنساني الكبير. كنت معجبًا به، بل مشدودًا إلى كل ما يكتب منذ أن قرأت له. والمفارقة أني تعرفت إلى تودوروف، أول مرة، من خلال كتابه «فتح أميركا: مسألة الآخر»، الذي نقله إلى العربية بشير السباعي بترجمة بديعة ومتمكنة (صدرت الترجمة عن دار سينا في عام 1992م). كنت وقتها أدرس الأدب والنقد في كلية الآداب بجامعة البحرين، ومولعًا أشد الولع بالتحليل الأدبي ونظريات النقد الحديثة من بنيوية وشعرية وسيميوطيقا أسلوبية وتفكيكية ونظرية القراءة والتلقي وغيرها.

لا أتذكر الآن حجم التأثير الذي تركه فيّ هذا الكتاب، لكني حين أسترجع مسار الأحداث أراني كنت مأخوذًا بتودوروف وكتابه الذي غيّر مجرى اهتمامي إلى حد أني قررت أن أوسّع دائرة تخصصي لما هو أبعد من الأدب ونصوصه ونظرياته، وتحديدًا إلى قراءة لحظة الاشتباك بين ثقافتين: الأولى تحتلّ موقع الهيمنة بحيث تصيّر الثانية مهيمَنًا عليها ومغلوبة ومهمَّشة. كان كتابي «تمثيلات الآخر: صور السود في المتخيل العربي الوسيط» الذي كان أطروحة الدكتوراه، مشبوكًا بـ«فتح أميركا» ومسألة الآخر ولحظة الاشتباك بين حضارة متقدمة وآخذة في التوسع، وثقافات أخرى وبشر آخرين جرى اختزال وجودهم إلى وضعية أدنى من الإنسان، بل وضعية الشيء كموضوع (وليس ذاتًا) قابلة للاستعمار والاستعباد والبيع والشراء وحتى الإبادة.

منذ هذا اللقاء بتودوروف وأنا ألاحق كل جديد يصدره أو حوار يجريه وكأني أقرأ مستقبلي وانعطافاتي، إلا أني في كل مرة أقرأ لتودوروف أشعر بفرادته كمفكر تأسرك قدرته على قراءة مجريات العصر بعيون مفتوحة على آخرها، وبروح كبيرة تتسع لكل الاختلافات بين البشر، وتنتصر للإنساني فينا دائمًا. ولقد كان عالمنا العربي وثقافتنا وإسلامنا ومشكلاتنا ومعضلة علاقتنا بالغرب والعالم من بين المشاغل الأساسية التي اهتم بها تودوروف. وربما هذا ما جعله حاضرًا بقوة في الثقافة العربية المعاصرة، ويشهد على ذلك عدد كُتبه التي تُرجمت إلى العربية.

بيت مزدحم بالكتب

بدأ تودوروف حياته وسط الكتب والمكتبة، ويحكي عن طفولته أنه وُلد في بيت مزدحم بالكتب، وكان وهو طفل يحبو وسط أكداس من الكتب التي كان والداه يقتنيانها، ويضعان باستمرار رفوفًا جديدة لاستيعابها. نشأ تودوروف في أحضان هذه الكتب؛ مما جعله شغوفًا بها، فما إن تعلَّم القراءة حتى راح يلتهم القصص الكلاسيكية مثل ألف ليلة وليلة، وتوم سوير، وأوليفر تويست، والبؤساء. يَذكر أنه، ذات مرة وهو في سن الثامنة، قرأ رواية كاملة من 223 صفحة في ساعة ونصف وهو مستلقٍ على «ركبة جده». واستمر معه هذا الشغف بالكتب إلى مرحلة التلمذة في المدرسة الإعدادية والثانوية؛ إذ أخذت قراءاته تتسع شيئًا فشيئًا لتشمل كُتّابًا كلاسيكيين ومعاصرين، بلغاريين وأجانب. لم يكن هذا النوع من الشغف المتصل بالقراءة وعالم الكتب ليترك صاحبه يقرر مصيره بنفسه في حياته وفي تخصصه الجامعي. يذكر تودوروف أنه حاول أن يكتب الشعر ومسرحية في ثلاثة فصول، بل شرع في كتابة رواية، لكنه أحس سريعًا أنه لم يولد ليكون شاعرًا أو مسرحيًّا أو روائيًّا، بل ناقدًا لكل ذلك ومُنظّرًا أدبيًّا، وحتى هذا الاستنتاج لم يكن صحيحًا تمامًا؛ لأن تودوروف سيغادر، منذ الثمانينيات من القرن العشرين، هذه الأرضية بعد أن يكتشف، مع اشتغاله على كتاب «فتح أميركا» أنه لم يولد ليكون مُنظّرًا أدبيًّا. لكن ذلك الاستنتاج كان صحيحًا بالنسبة لطالب في السابعة عشرة من عمره في بلد محكوم بالدكتاتورية الشيوعية وجزء من الكتلة الشيوعية آنذاك.

الاصطدام بأيديولوجيا الدولة

ابتدأ اهتمام تودوروف بالشعرية البنيوية بحيلة لجأ إليها مضطرًّا في بحث التخرج من أجل تجنب الاصطدام بأيديولوجيا الدولة المهيمِنة؛ إلا أن هذه الحيلة قد رسمت مساره على مدى عقدين كاملين بقي خلالهما وفيًّا للتحليل البنيوي والشكلاني حتى بعد أن غادر بلغاريا بظروفها المشلّة والمحبطة ليحط رحاله في فرنسا، حيث كل الظروف مهيأة للكتابة بحُرّية لا من أجل الاحتيال تجنبًا لنظام قمعي. أنجز تودوروف بحثه حول التحليل اللغوي، ولكن فاته أن يدرك أن المسلك الذي سار عليه لم يكن أسهل المسالك لتجنب الرقابة وتحاشي المواجهة مع الأيديولوجيا المهيمنة فحسب، بل هو، كذلك، أسهل الطرق للتنصّل من المسؤولية السياسية والأخلاقية، وأسهل الطرق لاعتزال العالم وقضاياه وصراعاته.

في فرنسا، وبمعية جيرار جينيت ورولان بارت الذي أشرف على أطروحته للدكتوراه، انغمس تودوروف في التحليل الأدبي النصوصي والشكلاني والبنيوي. ثم لاحقًا تنبّه تودوروف إلى أن هذا الاهتمام الكلي بتحليل الأسلوب والتركيب والتقنيات السردية التي كان منغمسًا فيها، قد انتهى إلى حبس الأدب والنقد معًا في «غيتو شكلاني» أدى إلى عزل الأدب ونقده عن الحياة والعالم، وتحويلهما إلى «ألعاب شكلانية» عاطلة وعدمية وبلا جدوى وبمنأى عما يسميه تودوروف «السجال العريض للأفكار» والأحداث والتجارب التي تجري من حولنا. ولهذا كان مصممًا على الإفلات من مدار هذه العزلة والاعتزال والحبس. كان كتاب «فتح أميركا» هو نقطة التحول من تودوروف الناقد والمُنظّر الأدبي إلى تودوروف المفكر الإنساني والتنويري واسع الأفق الذي تترامى اهتماماته -إضافة إلى نصوص الأدب ونظرياته– على مساحة واسعة من العلوم والتخصصات والاتجاهات من التاريخ وتاريخ الأفكار إلى الفلسفة والسياسة والأنثروبولوجيا والأخلاق.

مفكر عصري

كانت هذه الانعطافة باديةً في تلك المقدمة التي وضعها تودوروف للترجمة الإنجليزية والعربية لأهم كتبه في حقبته الأولى وهو كتاب «الشعرية»، حيث كان يتساءل عن موقعه وسط الاهتمامات والاتجاهات الأدبية الكبرى؟ ليجيب بصرامة بأن «الكتاب الذي أُعطيه الأهمية أكبر من بين إنتاجاتي المتأخرة يتعلق باكتشاف أميركا وغزوها». والمعنى أن تودوروف كان، منذ عام 1982م أي العام الذي صدر فيه كتابه «فتح أميركا»، يضرب في كل اتجاه، ويلقي ببصره واهتمامه وشغفه على عالم لا يخلو من الأدب بالتأكيد، لكنه لم يعد حكرًا عليه ولا حبيس نصوصه ومشاغله وتقنياته، عالم منفتح على مشاغل واهتمامات هي، في الصميم، مشاغل واهتمامات مفكر «عصري» ونقدي وإنساني وتنويري قرَّر أن يعيش عصره بكل إنجازاته وويلاته، ويكتب لأنه يريد أن يتحدث، كما يقول، مع معاصريه عن المشكلات التي تهمنا جميعًا كمسائل: التسامح، وكراهية الأجانب، وصراع الهويات، والاستعمار، وتعدد الثقافات، وتقبل الآخر، والخوف من البرابرة الذي يحولنا إلى برابرة، والشمولية، والديمقراطية وأعدائها، والعولمة والنظام أو الفوضى العالمية الجديدة، والحياة المشتركة مع الآخرين، وروح الأنوار، والأمل في أن يكون المستقبل أفضل من الخلاصة المتوترة والصراعية والدموية التي تركها لنا القرن العشرون.

عام 2000

يذكر تودوروف أنه تساءل، وهو صبي في الحادية عشرة من عمره، عما إذا كان سيبلغ اليوم نفسه من عام 2000م. كان ذلك هو اليوم الأول من ديسمبر 1950م الذي يتباعد عن عام 2000م بنصف قرن كامل. كان تودوروف يتصور أن هذا العام لن يأتي إلا وهو في عداد الأموات، لكن الأقدار تشاء أن يدرك تودوروف هذا العام، ويمتد به العمر إلى فجر الثلاثاء 7 فبراير 2017م، حين توقف قلبه، وسكنت روحه إلى الأبد من دون أن تموت تلك القضايا التي شغلته وانخرط في النضال من أجلها.

إنه لمن الجدير أن نتذكر في هذه اللحظة أن تودوروف هو الذي قال بأن «الحياة لا تستطيع أن تصمد في وجه الموت، لكن الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم». لترقد روحك في سلامها الأبدي، وليبقَ اسمك وذكرك وفكرك ونضالك وإنسانيتك الكبيرة، ليبق كل ذلك حيًّا في ذاكرة تقاوم الموت والنسيان، وتنتصر لواحد من مبادئك الخالدة: «إن الإنسان يجب أن يبقى غايةً للإنسان مهما كلّف الأمر».