المرأة العربية والكتابة الروائية

المرأة العربية والكتابة الروائية

يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس في بناء الأسـرة وتـربيـة الأطفال واكتـساب التـعليم والمعرفة… فـمنذ نـهاية القرن التاسع عشر ارتـفعت أصوات تنبّه إلى ضرورة الاعتراف بدور المرأة المتعلمة، المواطنة، في تـشيـيد صـرح النهضة المرجوّة بعد عصور مديدة من الانحطاط. ومن أبـرز تلك الأصوات، رفاعة الطهـطاوي في مشاهداته وتأملاته عـن رحلته إلى باريس، وكتاب قاسم أمـين «تـحــريـر المـرأة» (1899م)، وهما صوتان ألحّا على أهمية دور المرأة في بناء المجتمع، وعلى ضـرورة الاعتراف بإنسانيتها وقدرتها على الاضطلاع بـمهامّ جوهرية على دربِ تـرقية المجتمع وتـربية الـجيل القادر على النـهوض.

علوية صبح

عالية ممدوح

ومـثل هذا الخطاب، سـيـجد صـدى لـدى نـخبة النساء العربيات الـلائي بـادرن إلى الدعوة إلى تـحرير المرأة العربية مــن الـحِــجـر والـحجاب والـوصاية الذكورية الأبـدية. نذكر من بينـهن على سـبيل المثال، هـدى شـعـراوي ودريــة شـفيق. يمكن القول، إذن، بـأن بدايات تـكـوُّن الـخطاب النسـوي العـربي الحديث كانت في حضـن الخطاب السـياسي الـنهضـوي والوطني المقاوم لـلاحتلال الأجنبي، وكانت بـتـأيـيـدٍ من طلائع الرجال الذين أدركوا أن كل نـهضة تـحتاج إلى مساهمة النساء ضمن قـيـمٍ تـرفض عقلـية الحريم والوصاية والتـنـقيص من كـيان المرأة… وكان من الـطبيـعي، منذ بدايات الحركات النسائـــيـــة الـعربية حتى مـا بـعد الاستــقلالات عن الاحتلال، أن يكون أفـق المـطالب عـنـدها هـو «الـمساواة» مع الرجل في الحقوق والواجبات، لكـي تصبح فعلًا مـواطنة مـحـمـيّـة من العـنف الذكــوري والـتهـميش الاجتماعي والسياسي ووصاية الأزواج. ولـعـلّ هذا الأفـق الأوّلـي يـلـتقي مع أفـق جميع الخطابات والحركات النسائيـة التحـريـرية في العالم؛ لأن تـغـيـيـر الوضع الاعـتـباري للمـرأة، واكتـساب حقوق مُـعـتـرَف بها في القـوانين، مُـرتـبطــان بالـنـضال السياسي الذي يخوضه الجِـنســـان معًا. وما يمكن أن نلاحظه طوال الـقرن العشـرين، هو أن جـلّ الحركات الـنسائية وما أنــتـجـتْـه من خطابات، كانت على اتصالٍ وثـيـق بالأحزاب السياسية التي أصبحت حريصة على كسـبِ أصوات النساء بعد حصولهن على حق التصويت في بعض الأقطار العربية… ويمكن القول بأن الخطاب النسائي، عمومًا، جاء حاملًا بصمات الأيديولوجيات التي سادت الساحة طوال القرن الماضي؛ بيـن لـيـبرالية واشتـراكية وسـلفية وماركسية. ولا يمكن القول بأن الحركات النسائية المـستـنيـرة قد كان لها التأثـيـر الحاسم في تحقيـق مطالب المرأة العربية؛ لأن مجال العمل السياسي والاجتماعي، بـعد الاستقلالات، كان فاقدًا لــشروط الصـراع الـديمقراطي الذي يسمح بـإنجاز التـغـيـيـرات الـبنــيوية والثقافية المؤدية إلى تحقيق نهضة عربية قادرة على الانخراط في العـصـر، وتـمـثــُّـل أسـسه العقلانية المجــدّدة للقـيم والمـمارسة؛ لأجـل ذلك، لا تـزال أوضــــاع المرأة الـعربية إلى اليوم، تـعاني الــلامسـاواة والتـهميش والـعـنف الرجالي والوصاية من كل الأطراف. وعلى الرغم من ذلـك، فـإن ما حـقـقـته نـساء عربـيات من مكاسب وإثـباتٍ للـذات، يـؤكــد أن الحركات النسائية وخطابها قد أثـبتا جدارتهما وضـرورتهما لحماية حقوق المرأة وضمان الشروط المطلوبة لتحقيق المساواة وتصحيح قيم الفكـر الماضـوي.

خطاب مغاير ومساند

رجاء عالم

حنان الشـيخ

لـكن مـا يسـترعي الانـتباه ونحن نـعـايــِنُ حصـيلة ما حقـقـته الحركات النسائية والخطابَ المصاحبَ لها، هـو بـزوغ خـطاب مُسـانـِد ومُـغاير لـدى الكاتبات الـعربيات، مـنذ ثـلاثـينيات القرن العشـرين، وصولًا إلى الحقبة الراهنة، يطـرح أفـقًا مختلـفًا للـمـرأة الـمبدعة، وبــخاصـةٍ في مجال الـرواية. ولعل مي زيادة (1886-1941م) في كتاباتها النقدية، ومن خلال صالونها الأدبي (1913- 1933م)، كانت حاملة لشـعار المساواة بين الرجل المبدع والمرأة العربية المبدعة مع مراعاة خصوصية كــلٍّ منـهما: «إنــما نحن في الذات الإنسـانية الـواحدة الـجـهـة ُالمــاثــلة ُإزاء جـهةِ الرجـل، فـنـخـتـبـر إذن بـفـطـرتـنا ما لا يـستــطيع الرجلُ أن يـعـرفه، كما أن اختـبـارات حـضْـرتِـه تـظل أبـدًا مُــغلقة علينا».(في كتابها: عائشة تيـمور، شاعرة الطليعة). يمكن أن نـفهم من كلام مي زيادة أنه رفضٌ لاستـمـرار الرجل الكاتب في الاضطلاع بمــهــمــة التـعبـيـر نـيابةً عـن المرأة؛ لأن هناك تجارب خاصة بها لا يستطيع إدراك كُـنـهِــهـا؛ ويمكن أيضًا أن نـجد في ثنايا هذا الرأي دفـاعًـا عن مبـدأ المساواة بين المبدع والمبدعة على أساس من التكامل بـينـهما. لكـن هذا المـستـوى من الخطاب سـرعان ما سـيـأخذ في الـتبـدّل منذ خمـسيـنيات القرن الماضي، عـنـدما اتسـع عدد الروائيات، وبخاصة في الشرق العربي (مصر، وسوريا، ولبنـان، والعراق)، وبـعد أن حققت المرأة في تلك الأقطار وجودًا لافِــتًا في معظم مـرافق الحياة (التعليم الجامعي، والوظائف الحكومية، والمهــن الـحرة…). ويمكن أن نشـيـر في هذا السـياق، إلى روايتـيْـن أثارا جـدَلًا ولفتا النظر إلى تجديد نـسـبيّ في الخطاب الروائي النسائيّ: رواية «أنا أحــيـا»، لليـلى الـبعلبكي، و«الباب الـمفتوح» لـلطيفة الزيات. في هاتيْن الـروايتـيْـن نسـمع صوت المرأة عالـيًا يـريد أن يـنـبّـه إلى وجودِ ذاتٍ أنـثــوية، لها رَغباتها وعواطفها وإرادتها التي تـقـبلُ وتـرفض، بل تـتمـرّد على بـطريركية الأب وسطوة العائلة… والخطاب في الروايتـيْـن لا يجـتـرّ ما تدبـّجه الحركات النسائية والأحزاب السياسية، إنما يفسح المجال للذات النسائية لتـعـبـر عن وجودها من منطلق جـوّاني، له خصوصيته التي تـجاهلتها الخطابات الأخرى، أو استـوحاها روائيون رجال من موقع بـرّاني لا يتـغـلغل إلى سـويداء قلوب النساء المحمّلة بعذابات العنف الذكوري وتهميش المجتمع…

مـنـذ سـبـعـيـنيات القرن العشــرين، تـكـاثـر عـدد الروائيات العربيات، في نـوعٍ مـن التـصــادي مع الـحظـوة التي صاحبت جـنس الـرواية في وصفها شكلًا أدبـيـًّا ملائمًا للتـعـبـير عـن التـبدلات المتـسارعة داخل المجتمعات العربية، والتـعبير أيضًا عـن الجوانب الحميمة من حياة الـفـرد الطامح إلى إثـبات وجوده وقيـمتـه. ويمكن القول: إنه منذ الـثمانـينيات، أصبحت الرواية في مجموع حقول الإبداع العربية، لا فـرق بين مـركزٍ ومحيط، بمنزلة شـكل تـعـبـيري يـلجأ إليه الكُتاب والكاتبات الشباب للـتــنفـيس عن احـتقـانات القلق والحيرة والعلاقة مع الذات ومع المؤسسات المجتمعية. وهذه المعاينة لا تعني أن جميع تلك الروايات تـنطوي على العناصر الـفنية والشكلية المطلوبة في جنس الرواية؛ إنما هي ظاهرة أسـفـرت عـن فـرز عددٍ لا بأس بـه من الروائيين والروائيات الذين منحوا ـهذا الجنس التـعـبيـري وضعًا اعتـباريًّا يُـدرجه ضمن مقاييس الرواية ذات الأبعاد العالمية. من هذه الـزاوية، نجد أن الروائيات العربيات نـقـلْــنَ الرواية إلى مـستوى أعـمق قياسًا إلى الخطاب النسوي الذي ظـل يـسـيـر في ركاب الخطاب السياسي والأيديولوجي الـسائــد.

وقـبل أن أورد أمثلة من نصوص الروائيات العربيات، أودّ أن أبـدد التــبـاسًا صاحب الـنـمـوّ الـروائي النـسائي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو مـا يـتـعـلـق بالتـرويج لـمـصطلح «أدب المـرأة» على اعـتــبـار أن ما تكـتـبه مُبدعاتٌ نساء هو أدب لا يـشـبه ما يكتبه الرجال، ولا يسـتحق هذه التسـمية إلا إذا كان مقطوع الصلة بالأدوات والأشكال الفـنية التي سـبق أن بلورها مبدعون من قـبـل. وإذا لـم تـخُـني الذاكرة، فـإن دعاة خلق أدبٍ نسائي محض، كانوا يـتوخون أن يجري تجديد الأدب العربي أساسًا من خلال إبداعات الـمرأة العربية التي صُـنـفت حركاتها الإصلاحية ضمن الاحـتيـاط الثوري الذي تـفـتـقـر إليه المجتمعات العربية، لـتجديد اللغة والمعنى والـقـيَم… إلا أن مدة الالتباس هذه التي أثـرت في  مقاييس التحليل والنقد، سرعان مـا جرى تصحيحُها من خلال إنتـاج روائيات موهوبات، أدركن أن الأدب بوصفه تـعـبـيرًا عن مشاعر وتجارب ومواقف من خلال شـكل فـني، هـو مجال مشـترك بين جميع البشـر، لا فـرق بين ذكـرٍ أو أنثى، وأن مـا يُـمايــز بين مبدع أو مبدعة هـو اســتــثمار الخصوصية التي يـتـوفر عليها كل منهما، فـسيولوجيًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا. بل إن خصوصية التجربة الأدبية مطلوبة من كل مبدع، لكي لا تأتي النصوص تـكرارًا واستـنساخًا لـما سـبَقَ. ويظلّ الأداء الفني المتوارث منذ أجيال والمتجدد ضمن شروط الإبداع لكل عصر، هو ما يميزُه من بقيـة الـخطاباتِ التي يـتـغذى منها فـكرُ المجتمع ووجدانُـه.

‭ ‬الـكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬والرمـزية‭ ‬النـسـائية

مـيّ التـلمساني

من خلال قـراءتي لـبعضٍ من روايات كـتبـتـها روائيات عربيات، ألاحظ أن الخطاب الروائي بأشكاله الفنية المتنوعة، قـد حـقـقَ درجة عالية من العمق والـتـغـلـغل إلى لـبّ الوجود الـنسائي داخل مجتمعات لا تـزال متشبـثة بالذكورية وتهميش الـمرأة. بـعبارة ثانية، إن الـتخـيـيـل وتـوظيف المعيش، وتـفاعل الروائيات العـربيات مع النظريات الـفرويدية، أضاف إلى دلالات نصوصهنّ أبعادًا تـمتـح من التحليل النفساني والأنثربولوجي والفلسفة، ما جعل خطابـهن يـتـعدّى الإطار الاجتماعي والسـيـاسي. وهذه الـفئة من الروائيات الـمـميَّـزات يُـمكن إدراجهن ضمن الفـئة التي وصـفـتهـنّ الناقدة جوليا كــريـسـتـيـفا بالباحثات عن علاقة ذواتهن بالـعقد الــرمــزي: «لـم تـعد تُـخاض المعركة من الآن فصاعدًا في ســعيٍ إلى المــســاواة؛ فـالمعركة تـنشـد الاختلاف والخصوصية (…) إن الاختلاف الجنسي، البيولوجي، الفسـيولوجي المتصل بـإعادة الإنــتـاج، إنما يـتـرجمُ اخـتلافًا في علاقة الـذوات بـالعَـقـد الـرمزي الـمتـمثـل في الـعقـد الاجتماعي (…) وهو يُـزاوج بين الجنسي والرمزي ســعـيًا إلى العـثور في هذه الـمـزاوجة على ما يـميز الأنثــوي في البداية، وكــل امـرأة في نهاية الأمـر» (مجلة ألـف، عدد 19، كريستـيـفا: زمـن النساء، ترجمة: بشــيـر الســباعي).

فـعلًا، نـعثـر في بعض النماذج الروائية العربية النسائية على خـطاب يـتـخطى أفـق الدفاع عن المساواة بيـن الجـنسيْـن إلى طـرح مسألة وجود المرأة داخل العـقد الاجتماعي الذي يحدد علائق المواطنين بـذواتهم وبالآخـرين، مع مـراعاة الاختلاف والخصوصية بين الرجال والنساء. ومن هذه الزاوية، نشـيـر إلى نماذج حقـقت هذا المستوى الدلالي العميق من خلال شكلٍ روائي جديد يـسـند المحمولَ الإنساني للنص:

في «اسـمُـه الـغرام» لعلوية صبح (2009م)، تُـطالعنا شخصيات نسائية من طبقة متوسطة، متعلمة، كلهن يعـشن مشكلة الـعـمر الذي يجري نحو الكهولة والشيخوخة. كل واحدة تتحايل لاستــدامة الشباب ومغـازلة الأزواج والـعشـاق… لـكن نهْلا المسلمة التي أحبت هاني المسيحي، جعلتْ من الحب طوق نجاة تقاوم من خلالـه الزمن والسأم ونزوات الجسد العابــــرة. وضمن قصص النساء الخاضعات لـدوامة الـمـوضة، المتهافتات على كوكتيلات الأمسيات الاجتماعية، تـبرز قصة نـَـهْـلا كـرمْـزٍ لـعالم مُـضادّ يكون الحبُّ فـيه تـريـاقًا ضـدّ الأفـول والـموت: «لا شيء يقاوم الشيخوخة غـير الحب». تقول بطلة «اسـمُـهُ الـغـرام». إنها رواية، إلى جانب استـيحائها من حياة النساء في المجتمع اللبناني، فهي تـفتح أمامنا مجالًا لـتأمل علاقة الإنسان بالزمن، ومسألة مواجهة الموت في عالم فــقــدَ الـيقـين… «المـحبوبات» لـعالية مــمدوح (2003م): في رواياتها الأخرى، حملت الكاتبة وطنها الـمـمـزق في كتابتها لـذاكرتها، وفي هذه الرواية نجدها تستوحي حياتها في المنفى وهي متـنقلة بين فرنسا وكنـدا، بين حبها لابنها وهجوم الزمن الغادر في فضاء المنفى… وإلى جانب ما هـو خاص في عاطفة الأمومة، تـنقلنا الروائية إلى «مجتمع» كوزموبوليتاني يضم نساء أجنبيات من أقطار شـتى، وجميعهن تُـحاصـرُهنّ سـطوة الزمن والشيخوخة الـظالمة، وهن يبحثن عن وسيلة للاستـمرار في حب الحياة. «مُـخـمَـل»، لحـزامـة حـبايب (2016م): على مـستوى آخـر، تـستـوحي الروائيةُ حزامة مأساة شعبها الفلسطيني في مخيمات عـَـمّان، لـتصور قسـوة العلائـق العائلية، وانعكاس البؤس على السلوك، جاعلة من المرأة مـركز الـثـقل في مواجهـة المأساة. واسـتـطاعت «حـوّا»، إحدى بنات الأسرة في المخيم، أن تـتحمل كل العنف والأعباء لتـسعف أمها وأباها وجدتها، وبذلــــتْ جهدًا لتـتـعلم الخياطة، لكنها عندما عثـرت على الحب مصادفة، تصدى لها ابنها وأخوها ليـحرماها من حب مشروع… وعلى هذا النحو، ارتـقـت مأساة أسـرة «حــوّا» إلى مســتوى مأساة إنسانية مـرسومة بحساسية أنثوية كاشفة للمسكوت عـنه.

والأمثلة كـثيرة لا يمكن الوقوف عندها في هذا المجال، وتشمل أسماء روائياتٍ راسخات؛ مثل: سـحر خليفة، ورجاء عالم، وحنان الشـيخ، ومـيّ التـلمساني، وسـلوى بكر، وسـمر يـزبك، ورضوى عاشور، وفاتحة مـرشـيـد، والقائمة تطول. وما يجــب التـأكيد عليه، هو أن الروايات النسائية التي تجاوزت حدود الخطابات السياسية والاجتماعية تـوسلت، إلى جانب المعرفة والموهبة، بابـتداع أشكال تـستوحي المنجزات الـفنية في الرواية العالمية، مع إصرار على إسماع صوت المرأة في تجاربها الـذاتية وصـراعاتها مع الموروث الـمُـجـحف بـحقوقها. ومثل هذه الخصائص هو ما يؤهل الإبداع الأدبي، النسائي والذكوري على السواء، لأن يكون مـرصدًا لتـحولاتِ الخطاب الإبداعي المُـجدّد للقيم في كل مجالات الصـراع.

 مـحمـد بـرادة – ناقد مغربي

هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)

هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)

على النقيض من تصريحات الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ونصوصه النظرية(1)، نفترض أنه في نصوصه التخييلية، والقصصية بالأخص، كان ينتصر للتحليل النفسي، وكان يتبنى السؤال الفرويدي «نسبة إلى سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي» بشكل من الأشكال، لكن من مرجعيات أخرى، أدبية وثقافية، فكرية وفلسفية، أوسع وأكبر ربما من تلك التي يستند إليها فرويد. وأقترح أن نعود في هذه المحاولة النقدية إلى بعض نصوصه القصصية الشهيرة.

أول هذه النصوص قصة قصيرة بعنوان: بورخيس وأنا(2)؛ وفي هذا النص القصير، يبدو واضحًا، من العنوان نفسه، أن المبدأ الذي تأسس عليه التحليل النفسي عند فرويد: «الأنا ليست بسيدة بيتها الخاص»، هو المبدأ نفسه الذي تتأسس عليه هذه القصة القصيرة عند بورخيس: في الذات الواحدة، هناك «أنا» من جهة أولى، وهناك بورخيس من جهة ثانية، والاثنان هما معًا يشكلان الذات، بشكل يصعب معه، في النهاية، أن نحدد بالضبط مَنْ كاتب هذا النص القصصي: «حتى إني لا أعرف الآن من منا كتب هذه السطور»(3).

بلا شك، هناك تمايزات بين الاثنين: فالأنا تحب أن تتمشى في بوينس آيريس، وقد تتوقف لتتأمل شيئًا أثار انتباهها؛ إنها تعيش وتترك نفسها لعيشها وحياتها؛ في حين أن بورخيس تحدث له أمور أخرى، فأخباره تصل عبر البريد والمؤلفات، وهو يمارس الأدب، ويظهر في قائمة الأكاديميين أو في بعض معاجم الأعلام، وهو معروف بطريقته السمجة التي تجعل الأشياء تبدو كأنها مجرد تمثيل وتصنع، كما أنه معروف بطريقته المضللة في تشويه الأشياء وتهويلها. لكن سيكون من المبالغة والمغالاة، كما يقول النص، أن نعد علاقتهما عدائية؛ لأن هناك أشياء مشتركة ومتداخلة بينهما: فهما معًا يحبان الساعات الرملية، والخرائط، والفن الطباعي للقرن الثامن عشر، وأصول الكلمات، وطعم القهوة، ونثر ستفنسون.. والأكثر من ذلك، فإن أدب الآخر، بورخيس، هو الذي يبرر وجود الأنا، وإن كان غير قادر على إنقاذها من ضياعها ومصيرها، فإن هناك بضع شذرات من الأنا لن تنجو إلا من خلال ذلك الرجل: بورخيس.. كأن الأديب هو آخر الأنا، وكأن الأدب هو موطن ذلك الآخر، آخر الأنا.. وهو لا يقول الأنا كاملة، ولا يمكنه أن يقول إلا شذرات منها، لكنه وحده يقول شيئًا عنها، وحده الأدب يتحدث عن الأنا، وعن آخر الأنا.

هناك «أنا» من جهة أولى، وهناك «بورخيس» من جهة ثانية، وهو ما يعني أن الذات هي الأنا ونقيضها، وأن الذات «هي نوع من التناشز والانفصام»، والآخر هو شيء يقع خارج الذات، ولذلك يسميه النص بــ «ذلك الرجل» في أكثر من مكان، فالحياة التي تعيشها الأنا في شوارع بوينيس آيريس غير الحياة التي يعيشها بورخيس على صفحات الجرائد وقوائم الأكاديميين ومعاجم الأعلام، ويبدو كأن لكل واحد منهما حياته الخاصة؛ لكن النص يقدم من الدلائل ما يكشف أن ما بينهما ليس عداء، بل إنه نوع من التماهي، والأنا، على الرغم من محاولاتها، فهي لم تستطع التحرر من ذلك الآخر: «أما أنا فسأبقى على الدوام في بورخيس، وليس في نفسي، إذا كنت في الحقيقة كائنًا ما»(4)، فالأنا تذهب إلى حد الشك في وجودها بوصفها كائنًا حقيقيًّا؛ ذلك لأن وجودها لا يكون إلا من خلال ذلك الآخر: فالأنا هي الآخر(5)، لأنه في النهاية، سيكون مصير الأنا هو النسيان، ووحده ذلك الآخر سيبقى: «لقد انتهت الأشياء جميعًا إلى خسارة، سقط كل شيء في النسيان أو في يد ذلك الرجل»(6)؛ ولهذا، فالكاتب لا يعرف، في النهاية، مَنْ كاتب هذا النص: أهو أنا أم بورخيس أم هما معًا؟ وهو ما يعني أن الأنا ليست بالوحيدة التي تكتب النص، بل ربما أنها ليست بكاتبته، فالآخر ربما هو الكاتب، لكنه الذي لا يمكنه ألا يقول شيئًا، ولو قليلًا، عن الأنا، لما بينهما من علاقات، فالأنا هي الآخر، بما يعني أن الآخر هو الأنا، ولو جزئيًّا. لكن الذي يبقى هو ذلك «الرجل الآخر» الذي ينتمي إلى نظام الكتابة والأدب، أما الأنا التي تنتسب إلى نظام الواقع والعالم فإنك تنتهي إلى الموت والنسيان. وإجمالًا، يبدو بورخيس، في هذا النص على الأقل، كأنه يعيد كتابة فرويد، كأنه يعيد أسئلة التحليل النفسي إلى مائدة النقاش: ماذا عن الأنا؟ أهي موحدة منسجمة وسيدة بيتها أم أنها منقسمة منفصلة منفصمة؟ كيف يتأسس هذا الانقسام بين الأنا والآخر؟ ما دور الآخر في تشكيل الهوية؟ ما دور الغيرية في بناء الذاتية؟ كيف يمكن أن أكون آخر بالنسبة إلى أناي؟ لكن بورخيس يدرج الأدب في إطار هذه المسألة: ما علاقة الأدب بالأنا؟ أبإمكانه أن يقول الأنا في كليتها وشموليتها، أم أنه لا يقولها إلا جزئيًّا من خلال بضع شذرات منها؟ أيقول الأنا أم يقول الآخر، آخر الأنا؟ أليس الآخر بالذي يبقى في النهاية بعد أن تؤول الأنا إلى النسيان؟ ألا يعني ذلك أن الأدب هو هذا الذي وحده يحتفظ ولو بقليل من الأنا، وهو لا يقولها في كليتها، لكنه يحتفظ ربما بكثير عن آخرها؟ 

هي أسئلة تزداد استشكالًا وبخاصة عندما نستحضر نصًّا آخر عند بورخيس، عنوانه: الآخر(7). من بداية النص، يخبرنا السارد أن الأمر يتعلق بحدث وقع صباح أحد أيام شباط 1969م، وهو حدث عاشه هو نفسه، لكنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه؛ في ذلك الوقت. وهذا يعني أن الحدث عاشه السارد الكاتب، أي بورخيس نفسه. وهو يوضح أنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه، لأنه كان يريد نسيان ما وقع، خوفًا على عقله؛ لكن بعد انقضاء سنوات، قام بتسجيله على الورق، أولًا من أجل أن يقرأه الآخرون على أنه قصة، وثانيًا من أجل أن يتحول إلى مجرد قصة بالنسبة إليه أيضًا. وهذا يعني أن السارد الكاتب (بورخيس) يرى القصة (لنقل: الكتابة؟) شيئًا آخر غير الواقع، وإن كانت تبدو كأنها تنقل ما وقع، فالواقع عندما يروى، أي عندما ينتقل إلى نظام التدوين والكتابة، فإنه قد يتحول إلى شيء آخر؛ ولهذا، فالسارد الكاتب انتظر لسنوات قبل أن يروي ما حدث، من أجل أن يقرأه الآخرون على أنه قصة، ومن أجل أن يتحول إلى قصة بالنسبة إليه أيضًا. لكن، وبشكل مفارق، فالنص من بدايته يوضح أن ما حدث قد حدث فعلًا وحقيقة، والسارد الكاتب يريد من القارئ أن يقتنع بهذه الجزئية الأساس، بنقطة انطلاق ربما هي ضرورية إن أراد القارئ أن يتصور ما حدث، وأن يستوعب ما وقع، وأن يدرك أبعاد ما عاشه السارد الكاتب في ذلك الصباح من أيام شباط 1969م. لكن ما الذي حدث؟ ولماذا لم يعمل الكاتب على تدوين ما حدث وقت حدوثه؟ وماذا عن الحدث عندما ينتقل إلى نظام التدوين والكتابة؟

ما حدث هو شيء لا يتصوره العقل، ولهذا كان السارد الكاتب يريد أن ينسى ما عاشه خوفًا على عقله بالضبط، فالحدث كان، على حد تعبيره، «مرعبًا عندما وقع، وكان أكثر رعبًا في ليالي الأرق التي أعقبته»(8). وعلى الرغم من كل هذا الرعب، فالكاتب انتظر سنوات قبل أن يقرر نقل ما حدث رواية وكتابة. والأكثر من ذلك، فهو يوضح أن أثر ما وقع بالنسبة إليه لن يكون بالضرورة هو الأثر نفسه بالنسبة إلى مجرد قارئ لهذا الذي وقع: «لكن هذا لا يعني أن رواية ما حدث ستهز كل شخص آخر بالضرورة»(9). وذلك لأن الحدث كما عاشه الكاتب غيره عندما انتقل إلى نظام الرواية والتدوين، وأن أثره على من عاشه فعلًا وحقيقة غيره على من قرأه، وأن هناك فرقًا بين نظام الواقع والعالم ونظام الكتابة والقراءة.

ما حدث هو أن خورخي لويس بورخيس كان يجلس فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر «تشارلز»، وكانت الساعة نحو العاشرة صباحًا من أحد أيام فبراير 1969م، وكان هناك شخص جالس على الحافة الأخرى من المقعد نفسه، ولن يمر وقت كثير ليبدأ التعارف بينهما، وليكتشف خورخي لويس بورخيس أن هذا الشخص الجالس قريبًا منه اسمه خورخي لويس بورخيس أيضًا، لكن مع وجود فارق: فالأول يعيش بمبردج أواخر الستينيات، والثاني يعيش بجنيف في العقد الثاني من القرن العشرين، أي أن الأول أكبر سنًّا من الثاني، كأن بورخيس يلتقي الذي كانه في زمن مضى وانقضى، فبورخيس الأول يمثل المستقبل، في حين نجد الثاني يمثل الماضي. ودار حوار طويل بينهما، حول حقيقة ما يقع لهما وعلاقته بالحلم، حول الماضي والمستقبل، حول الكتب والكتابة. وهو الحوار الذي كشف عن عدد من الاختلافات بين الاثنين حول الناس والقراءات والأذواق، بحيث يبدو أنهما غير قادرين على التفاهم، على أن يفهم الواحد منهما الآخر، فقد كانا «متشابهين جدًّا ومختلفين جدًّا»(10). وقبل أن يفترقا، اتفقا على اللقاء في اليوم التالي «على المقعد نفسه الموجود في زمانين ومكانين مختلفين»(11)؛ لكن بورخيس الأول لم يحضر في اليوم التالي، ولا شك أن الآخر لم يحضر أيضًا.

هذا ملخص ما حدث بإيجاز شديد، وأفترض أنه يطرح، من منظور التحليل النفسي، ثلاث مسائل:

(أ) هل الأنا منقسمة متنافرة لا موحدة متجانسة؟

في أكثر من مكان في النص ما يؤكد أن انقسام الأنا أمر معروف ومسلّم به، فـ«ليس هناك من لا يجد نفسه مع نفسه في اليقظة»(12)، وهذا ما حدث لبورخيس في ذلك الصباح من أحد أيام فبراير 1969م، وجد نفسه مع نفسه، لكن ليس بمعنى أنه اختلى بنفسه، وليس بمعنى أنه يحدث نفسه في مونولوغ داخلي مثلًا. ذلك لأن هناك شيئًا مختلفًا في هذه الحالة، صاغه بورخيس بهذا الشكل الاستثنائي: «عدا أننا اثنان»(13): فالجديد هنا أننا أمام بورخيسين اثنين، هناك تشابه كبير بينهما، لكن هناك ما يفصل بينهما، ويجعل كل واحد منهما منفصلًا مختلفًا عن الآخر: هناك «الأنا» وهناك «الأنا الآخر»، وبينهما اختلافات كثيرة وعلى مستويات عديدة: فعلى المستوى العائلي، وبالنسبة إلى الأنا، فالأم حية ترزق، والأب ميت والجدة ميتة كذلك، لكنهم كلهم أحياء بالنسبة إلى الأنا الآخر؛ وعلى المستوى الشخصي: الأنا كاتب مشهور ومحاضر في كمبردج، أما الأنا الآخر فإنه لا يزال في بداياته، يقرأ رواية لدوستويفسكي التي لم تعد الأنا تتذكرها؛ وواضح أن بينهما اختلافات كبرى في تصور كل واحد منهما للقراءة والكتابة: فالأنا الآخر يتحدث عن كتاب يحتفل فيه بأخوة الإنسان وهو موجه إلى الجمهور الأعظم من المضطهدين والمنبوذين، في حين يوضح الأنا أن فكرة «الجمهور» تجريدية، إذ لا وجود في الواقع إلا للأفراد؛ والأنا الآخر يؤمن في الأدب بابتكار استعارات جديدة أو اكتشافها، فيما يؤمن الأنا بتلك الاستعارات التي تحمل شبهًا حميميًّا واضحًا، تلك الاستعارات التي ارتضاها خيالنا سلفًا (الشيخوخة والغروب، الأحلام والحياة، انسياب الزمن والمياه). والخلاصة أننا أمام اثنين مختلفين جدًّا: في واقعهما ومصيرهما، في أفكارهما وتصوراتهما، في قراءاتهما وكتاباتهما. وكان الحوار بينهما صعبًا: وإن كان بينهما كثير من التشابه، فإن كل واحد منهما يبدو كأنه «نسخة كاريكاتورية للآخر»(14)، كأنه لا يمكن لأي واحد منهما أن يكون صورة طبق الأصل من الآخر، لأن هناك وجه الشبه كما أن هناك وجه الاختلاف، وهو ما قد يعني أن هناك أنا تنقسم إلى أنوات مختلفة وإن كان هناك شبه بينها: أي أن الأنا ليست وحدة متطابقة ومنسجمة، موحدة ومتجانسة، بل إنها وحدة تنقسم وتنفصل، تتضاعف وتتعدد، تختلف وتتعارض. فما تفسير ذلك انطلاقًا من النص نفسه؟

(ب) هل الزمن هو الذي يقسم الأنا ويعددها ويغيرها؟

نفترض أن الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها بورخيس من خلال هذه القصة هي ضرورة الانتباه إلى الدور الكبير الذي يؤديه الزمن في حياة الأنا ووجودها، في انقسامها وتعددها، في اختلافها وتنافرها. وهكذا، فالخلاصة الأساس التي انتهت إليها الأنا هي أنها في زمن مضى وانتهى غيرها في الوقت الحاضر أو في الزمن المستقبل؛ والعنصر الأساس في هذه التغيرات التي تصيب الأنا، فتجعلها منقسمة متعددة، هو الزمن، فهذا هو ما انتهت إليه الأنا بعد ذلك الذي حدث في فبراير 1969م لما التقت الأنا الآخر وهو يعيش زمنًا آخر يعود إلى بداية القرن العشرين: «وإنسان الأمس غير إنسان اليوم» كما قال أحد الإغريق، وربما كنا نحن الجالسين على هذا المقعد في جنيف أو كمبردج دليلًا على ذلك(15). وليس من دون دلالة أن يكون ما فكرت فيه الأنا قبل أن يحدث ما حدث هو التفكير بالزمن من خلال صورة النهر عند هيراقليطس: «كنت جالسًا فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر تشارلز.. كانت المياه الرمادية تدفع الطوف الجليدي. وقد دفعني ذلك إلى التفكير بالزمن صورة هيراقليطس قبل ألف عام»(16). وهذه الفكرة التي يصوغها بورخيس تخييليًّا هي نفسها الفكرة التي يوضحها في نصوصه النظرية، ففي مقالته حول الزمن، نجده يقول:

«يشبه الزمن دائمًا نهر هيراقليطس، فنحن دائمًا نرجع إلى هذا المجاز القديم… فنحن دائمًا هيراقليطس يتأمل ظلّه في مياه النهر، وهو يفكر في أن هذا النهر ليس هو إياه؛ لأن المياه فيه قد تغيرت، ويفكر أيضًا في أنه ليس هيراقليطس نفسه؛ لأنه كان شخصًا آخر بين اللحظة التي رأى فيها النهر في المرة الفارطة وبين اللحظة الراهنة»(17).

في المقعد نفسه، في اللحظة نفسها، يلتقي بورخيس الذي نيف على السبعين وبورخيس الشاب الذي لم يبلغ العشرين، أي يلتقي الماضي والمستقبل، فالأنا هي مستقبل الأنا الآخر، وهذا الأخير هو ماضي الأنا، وبورخيس في اللحظة الراهنة هو الاثنان معًا. وبالنظر إلى طبيعة عقولنا وعقائدنا وإدراكاتنا، فإنه من غير الممكن أن نقبل بإمكانية أن يلتقي أحدكم بذلك الشخص الذي كانه في الزمن الماضي: أن يلتقي في اللحظة نفسها شخصك في الألفية الجديدة وشخصك في عقد من زمن الألفية المنصرمة؛ لأن عقولنا سلمت بأن ما مضى قد انتهى ومات، والواقع أن ليس هناك من دلائل على موته ونهايته، لأن الأمر لا يتعلق إلا بتصور للزمن سلمنا بأنه وحده الصحيح، ولهذا سيكتب بورخيس مقالة نظرية بعنوان شديد الدلالة: «دحض جديد للزمن»(18)، وفيها يوضح مفهومه للأنا وللزمن فيقول:

«الزمن نهر يجرفني لكنني أنا الزمن، إنه نمر يفترسني لكنني أنا النمر، إنه النار التي تلتهمني لكنني النار… فأنا بورخيس»(19). ما يمكن أن ننتهي إليه هو أن مفهوم الأنا لا يمكن تصوره من دون أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم الزمن، وأن تلك العلاقة الجدلية بينهما هي التي يمكن أن تفسر لنا لماذا ينبغي لنا أن نجدد من مفهوماتنا: لماذا يكون من الضروري أن ننظر إلى الأنا على أنها ليست وحدة موحدة متطابقة منسجمة متجانسة، بل إنها على عكس ذلك وحدة منقسمة متنافرة لا تعرف الانسجام والتجانس؟ ولماذا يكون من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار أن الأمس غير اليوم، وأن الماضي غير المستقبل، لكن الحاضر قد يكون هو ذلك كله، أي أن اللحظة الراهنة هي الماضي والمستقبل معًا، كما قد لا يكون هذا الحاضر أي شيء، كأنه غير موجود، ما يوجد هو الماضي أو المستقبل. وفي الأحوال كلها، فإن مفهومنا للزمن وللأنا يحتاج إلى التغيير: فالأنا يغيرها الزمن باستمرار، لكنها هي الزمن نفسه؟

(ج) هل الحلم هو المفتاح؟

   فكرت الأنا كثيرًا في هذا اللقاء الذي لم تروه لأحد، واعتقدت في النهاية أنها وجدت المفتاح: «كان اللقاء حقيقيًّا. أما الآخر فكان يحلم عندما تحاور معي»(20). وهذا يعني أن الحدث، حدث اللقاء، قد كان حقيقيًّا بالنسبة إلى الأنا: بورخيس في اللحظة الراهنة، وهو يشرف على السبعين سنة بإمكانه أن يتعرف إلى نفسه لما كان شابًّا لم يبلغ العشرين بعد، فهو يعرفه جيدًا، لأنه عاشه فعليًّا؛ لكن الأنا الآخر، أي ذلك الـ«بورخيس» الشاب لم يعش بعد بورخيس السبعين سنة، ولذلك لا يمكن للقاء أن يكون حقيقيًّا بالنسبة إليه، لا يمكنه أن يكون إلا حلمًا، ولهذا تقول الأنا: «لقد حلم بي الآخر، ولكنه لم يحلم بي تمامًا»(21). ومعنى هذا أن ما حدث لا يمكن تفسيره إلا بهذا المفتاح: الحلم، والحلم عند فرويد هو الطريق الملكي إلى اللاوعي(22)، والذي يحلم في أثناء الحلم ليس هو الأنا (الوعي؟)، بل إنه الأنا الآخر، فهل نقول مع التحليل النفسي: إن الآخر هو اللاوعي؟(23) لكن المسألة عند بورخيس وإن كان لها هذا البعد النفسي، فإن لها أبعادًا أخرى، ومنها بالأساس البعد الزمني: فالآخر هو بورخيس الشاب الذي يحلم بمستقبله، أي ببورخيس الشيخ، أي أن الآخر هو الماضي الذي يحلم بالمستقبل؛ وربما أن هذه الفكرة تعاكس فكرة فرويد التي تقول: إن الحلم يحكي رغبة مكبوتة منسية، أي أن اللاوعي يستعيد حدثًا من الماضي لم تنجزه الأنا فعليًّا، وحصل إنجازه حلميًّا في زمن لاحق؛ ذلك لأن بورخيس يقلب الأدوار: الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس العكس، الماضي هو الذي يحلم كأنه يريد أن يعرف مصيره ومنتهاه ومستقبله. وربما قد يتعلق الأمر بشيء آخر، كأن تكون تلك الفكرة عند فرويد بأن اللاوعي لا يعرف الزمن هي التي يحاول بورخيس بلورتها وتطويرها؟ يبقى أن بورخيس يترك النافذة مفتوحة أمام أسئلة مقلقة وغريبة دارت بين الأنا والأنا الآخر: من الحالم ومن المحلوم به: الأنا أم الأنا الآخر؟ ما الفرق بين الحلم والعالم؟ ماذا لو استمر الحلم ولم يتوقف؟ وهي أسئلة تمنح المسألة بعدًا وجوديًّا، أي أن الحلم، مثل الواقع، هو مستوى آخر من الحياة والوجود، ولا بد، يقول نص بورخيس: «أن نقبل بالحلم تمامًا كما نقبل بالعالم وبأننا نولد ونرى ونتنفس»(24).

قلب فرضيات فرويد رأسًا على عقب

هل أفترض أن بورخيس قد قرأ فرويد، وأنه قد أعاد كتابته بشكل من الأشكال، بمعنى أنه يسائله ويقوّمه ويطوره، فهو وإن كان ينطلق من الفرضية الأساس في التحليل النفسي الفرويدي بأن الأنا ليست بسيدة بيتها الخاص، أي أنها ليست وحدة متطابقة، وأنها تنقسم إلى أنوات متعددة وغير متجانسة كل التجانس، فإنه يلفت الانتباه إلى أبعاد أخرى للمسألة النفسانية، ويبدو كأنه يقلب بعض فرضيات فرويد رأسًا على عقب: الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس المستقبل بحالم بالماضي؛ الحلم ليس بمجرد استعادة لما عاشته الأنا في الماضي، ذلك لأن الحلم هو عالم آخر، هو مستوى آخر من الحياة والوجود. وبورخيس بذلك كله، يبدو كأنه يرفض تطبيق التحليل النفسي على الأدب، لكنه يفضل تطبيق الأدب على التحليل النفسي، بالمعنى الذي بلوره أحد قراء بورخيس الناقد والمحلل النفسي الفرنسي المعاصر بيير بيار(25)، ذلك لأن الأدب هو الأقدر دومًا على تجديد الأسئلة والمفهومات والتصورات النفسانية للإنسان ولغته وأدبه.

لكن إعادة قراءة فرويد، وإعادة كتابته، بما يعمل على تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن ليكون ممكنًا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن بورخيس يعمل قبل ذلك على اشتراط مفهوم جديد للكتابة الأدبية. لأنه لا بد من تصور جديد للأدب يكون قادرًا على مقاربة جديدة لتلك الأسئلة النفسانية والفلسفية. وقد رأينا أعلاه، وبخاصة مع النص الثاني، كيف يتحدث بورخيس عن كتابة، وإن كانت تنطلق من الواقع اليومي المعيش، إلا أنها سرعان ما تحلق عاليًا نحو فضاءات الخيال والرمز والغرابة وغير المعقول. فالتفصيلات اليومية مادة أساس في الكتابة، لكن هذه الأخيرة لا تكتفي بالنسخ والتسجيل، وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى لاقتناص ذلك الغريب في واقعنا ووجودنا، ومساءلة قدرنا الكوني واشتغالنا الذهنيّ والاجتماعيّ والتاريخي. وتتقدم الرؤية التي تنسجها نصوص بورخيس استشباحية (فانطاسماغورية) للأنا والزمن، للوجود والحياة. فمن الصعب في قصة بورخيس أن نعرف أيتعلق الأمر بحكاية واقعية حقيقية، أم أنها مجرد حلم أو استيهام، أيتعلق الأمر بواقعة حدثت فعلًا في الزمن والمكان، أم أن الأمر كله مجرد تهيؤات وتخيلات وأحلام؟ وكأن الأمر يتعلق بلغز يحاول النص التخييلي فك أسراره والوصول إلى حقيقته، لكنه بقي مفتوحًا على كل الاحتمالات من دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها الحقيقة، وتبقى الأسئلة مطروحة دون جواب: هل حدث اللقاء فعلًا بين بورخيس الشيخ وبورخيس الشاب؟ هل من الممكن أن يلتقي الشاب والشيخ، بوصفهما كائنين منفصلين وإن كانا متشابهين، في المقعد نفسه، لكن كل واحد منهما يوجد في تلك اللحظة بزمان ومكان مختلفين؟ هل الأمر واقع أو حلم؟ من الحالم ومن المحلوم به؟ ما الفرق بين الحلم والواقع؟ أليس الحلم شكلًا آخر من الحياة والوجود؟

يبدو أن ذلك كله قد يقود إلى المزيد من الأسئلة والشكوك، إلى حد أن أنطونيو تابوكي قد ذهب بعيدًا بالتفكير البورخيسي عندما تساءل: هل وجد بورخيس فعلًا؟ أو أنه مجرد اختراع من كتاب ومثقفين من الأرجنتين، وأن حياته مجرد كتابة: «من المسموح لنا أن نقول: إن خورخي لويس بورخيس هو شخصية من ابتداع شخص يحمل اسمه، لم يكن له وجود باعتباره هو»(26).

هوامش:

(1) تلحظ الناقدة وأستاذة الأدب الإسبانيّ مرسيديس بلانكو أنه من غير الممكن أن نميّز ما كان يعرفه بورخيس عن فرويد، فلا تصريحاته ولا أعماله النظرية تساعدنا على ذلك؛ لكن الشيء اليقين هو أن تلك الإحالات القليلة على التحليل النفسي في كتاباته تأتي مختزلة وسطحية ومتهكمة؛ ولمزيد من التفصيل، نحيل على دراستها:

Mercedes Blanco : «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», Savoirs  et clinique, 2005  / 1,N : 6

(2) بورخيس، خورخي لويس: «بورخيس وأنا»، ضمن مؤلف: سداسيات بابل، مختارات نقلها إلى العربية حسن ناصر، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013م.

(3) نفسه، ص 156.

(4) نفسه، ص 156.

(5) «الأنا هي آخر» هي أيضًا قولة مشهورة للشاعر أرتور رامبو في إحدى رسائله التي تعود إلى 15 مايو 1871م؛ وهي عنوان كتاب لأحد أكبر المنظرين للأتوبيوغرافيا في العصر الراهن: فليب لوجون في كتابه: الأنا هي آخر، الصادر عن دار سوي بباريس سنة 1980م.

(6) بورخيس: نفسه، ص 156.

(7) خورخي لويس بورخيس: «الآخر»، ضمن: كتاب الرمل، ترجمة سعيد الغانمي، الإصدار الثاني، أزمنة للنشر والتوزيع، الأردن، 1999م.

(8) نفسه، ص 14.

(9) نفسه.

(10) بورخيس: نفسه، ص 19.

(11) نفسه.

(12) نفسه، ص 16.

(13) نفسه.

(14) نفسه، ص 19.

(15) نفسه، ص 18.

(16) نفسه، ص 14.

(17) بورخيس: الزمن، ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، ترجمة وتقديم محمد آيت لعميم، المركز الثقافي العربي، البيضاء، بيروت، 2016م، ص 83.

(18) مقالة مذكورة ضمن حوار مع ألبرتو مانغويل، مترجم ومنشور ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، المذكور أعلاه.

(19) نفسه، ص 131، 132.

(20) بورخيس: الآخر، ص 20.

(21) نفسه.

(22) جان بيلمان نويل: التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997م، وبخاصة الفصل الثاني، وعنوانه: قراءة في اللاوعي.

(23) Roland Chemama : Dictionnaire de la psychanalyse, ed. Larousse,  Paris, 1993, p28.

(24) بورخيس: الآخر، ص 15.

(25)  Pierre Bayard : Peut-on appliqué la littérature à la  psychanalyse, ed.  Minuit, Paris, 2004.

(26) أنطونيو تابوكي: هل وجد بورخيس فعلًا؟، ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، سبق ذكره، ص251.

ثقافة المصلحة.. وضرورات المصالحة

ثقافة المصلحة.. وضرورات المصالحة

لم يعرف العرب في تاريخهم الحديث وضعًا كالذي يعيشونه اليوم. فالخرق ازداد اتساعًا بشكل يدعو إلى التساؤل عن كيفية الخروج من المأزق الذي دخل فيه العرب نتيجة تكالب المصالح وتضاربها. إن الحيرة وانسداد الأفق والترقب الحذر عناوين المرحلة الحالية التي تجتازها الأمة العربية والإسلامية، مما جعلها تلقي بظلالها على مختلف التحليلات والتوقعات. تتعدد التصورات حول ما يجري، وكلٌّ يَلغُو بلَغْوِه في واقع يقوم على التأزم والتشنج. ويبدو أن الخوض في التفاصيل والجزئيات لا يسهم إلا في انعدام أي مقاربة ترمي إلى النظر في عمق الأشياء وجذورها القائمة على تضارب المصالح وتجاذب المطامح في المنطقة العربية.

تحرك الدول مصالح معينة وملموسة تحدد توجهاتها وإستراتيجياتها المختلفة. فهل يمكننا الحديث عن مصلحة خاصة تعين مواقف الدول العربية وتصوراتها لمستقبل أوطانها وشعوبها؟ وأين هي المصلحة العربية في علاقتها بالمصلحة الأجنبية التي تتدخل في الشؤون العربية، وتسعى من وراء ذلك إلى رسم خارطة لما ينبغي أن يكون عليه الوضع العربي حالًا واستقبالًا؟ أرى أن هذا هو السؤال الذي يمكننا طرحه لتشخيص تأزم الواقع العربي حاليًّا بالصورة التي لم يُشهَد لها مثيل في كل تاريخه الحديث. كما أن الجواب عنه هو الذي يمكن أن يسهم في إعطاء المصلحة العربية ما تستدعيه من اهتمام وممارسة لتجنب الكوارث الواقعة والممكنة والمحتملة.

إن الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا تربط مصلحتها الحيوية لفائدة دولها وشعوبها بالعمل على تثبيتها وضمانها ولو خارج حدودها، بل على حساب دول وشعوب خارجة عنها. إن هذا الخارج هو الذي يتيح لها تحقيق الرفاه لشعوبها واستقرار نظمها، واستمرار قوتها. تكرس هذا التصور مع الاستعمار الذي صاحب تشكل أوربا التي تدخلت في شؤون الدول المستعمرة بذريعة نشر الحضارة الغربية وقيمها. فكان نهب الخيرات واستغلال الثروات الخارجية لفائدتها، ولم تترك للشعوب المستعمرة أي فرصة للسؤال عن مصلحتها الخاصة التي ظلت مرتبطة بمصالح المحتلين. وبعد الاستقلالات السياسية، ظلت التبعية تحكم العلاقة التقليدية بينهما تحقيقًا للأغراض عينها.

ضياع مصلحة المواطن

يمكننا أن نتحدث، مع الدول المتقدمة والديمقراطية، عن ثقافة المصلحة التي تبرز في كون الحكومات المتعاقبة في تاريخها الحديث والمعاصر يحكمها في علاقتها بمواطنيها وأوطانها ميثاق محدد يتمثل في ضمان الاستقرار والأمن والرفاهية. تولدت هذه الثقافة ذات الجذور الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر تاريخ من الصراعات بين مختلف المكونات. وانتهى هذا التاريخ بالاحتكام إلى الشعب في مختلف المنعطفات الكبرى لتقرير المصلحة العامة، وضمان استمرارها. فكانت الاستفتاءات، والانتخابات في مختلف الاستحقاقات دليلًا بارزًا على كون الشعب يسهم بإعطاء صوته لمن يسهر على تأكيد تلك المصلحة ويضمن استمرارها. في الوطن العربي، لغياب هذه الثقافة وتقاليدها في الحياة العامة، تضيع مصلحة الوطن والمواطنين بين التحكم السياسي من جهة، والتدخل الخارجي الذي لا يمكن تحقيق مصلحته الخاصة إلا على حساب التفريط فيما يمس مصالح الدول المتدخل فيها من جهة أخرى. يتم هذا التدخل الخارجي، أوربيًّا كان أو أميركيًّا عبر التهديد بالعقوبات حينًا، والتدخل العسكري حينًا آخر. وينتج عن هذا عجز الدول المتدخل في شؤونها عن الاحتكام إلى شعوبها لضمان مصالحها، والتخطيط لما ينبغي أن يكون عليه واقع هذه الدول لاستمرار تحقق المصالح الخارجية.

منذ الاستقلالات العربية ظلت مصالح الوطن العربي مرهونة بمصالح الآخرين، فلم تتحقق المصالح الخاصة به أبدًا. وفي مختلف المحطات التاريخية الكبرى كان التفريط في المصالح الداخلية لحساب الخارجية. ويكفي أن نضرب مثالًا من القضية الفلسطينية ليتبين لنا لذلك. فمنذ الاحتلال البريطاني حتى زرع إسرائيل والحروب المختلفة التي خاضها العرب ضدها، لم ينتج عن تداعيات صراع المصالح في المنطقة سوى تأكيد المصلحة الإسرائيلية وأميركا التي ترى في استمرار وجودها ضمانًا للمصلحة الأميركية والغربية في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني. كما يمكننا من خلال التدخل في العراق باسم امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وبروز الإرهاب، والحرب عليه في العراق وسوريا ومختلف الدول التي يوجد فيها، وفي إملاء السياسات الاقتصادية على الدول العربية المختلفة؛ تقديم أمثلة دالة على استهداف المصالح العربية بمختلف المبررات والمسوغات، وتأكيد أن تحقيق المصلحة الغربية والأميركية في منطقة الشرق الأوسط لا يمكنها أن تتحقق إلا في غياب أي تفكير في المصلحة العربية.

وفي ظل هذا الواقع لا يمكن سوى التخطيط لإدامة تغييب المصلحة العربية عن طريق إضعاف الدول العربية باستنزاف خيرات أراضيها ومواطنيها، من جهة، وتعريض هذه الأرض لتكون بؤرة مشتعلة بالصراعات المفتعلة، بشكل دائم ومتواصل، من جهة ثانية، وأخيرًا العمل على تفريق وجهات النظر، والتخطيط لوضع خرائط ترمي إلى العمل على تقسيم البلاد، وخلق كيانات ضعيفة، وقابلة للحماية، عن طريق التمهيد لزرع بذور الشقاق والخلاف ليس فقط بين الدول العربية، لكن بين الشعوب التي تتشكل منها، لتثمر، مع الزمن دويلات لا مصلحة لها غير ما يمكن أن تخدم به مصلحة الآخرين.

ذهنية المؤامرة

يبدو لنا ذلك بشكل واضح في بروز مقولة «المؤامرة»، من جهة، ومقولة «ما بعد الاستعمار» من جهة ثانية. لقد صارت مقولة «ذهنية المؤامرة» في مختلف التحليلات السياسوية ترمي إلى اتهام من يقول بها بأنه متخلف عن العصر، وأن لا وجود للمؤامرة إلا في أذهان العاجزين عن فهم الأمور كما ينبغي أن ترى بالعين المجردة. وما الرجوع إلى «مقولة ما بعد الاستعمار» في أواخر التسعينيات، رغم كونها وليدة الستينيات، سوى دعم لنفي المؤامرة، بالقول بأن الاستعمار انتهى، وأن العلاقات بين الدول في العالم أجمع متكافئة، ومبنية على أساس القانون الدولي الذي بموجب الاتفاقات والتعاقدات بين الدول تتحدد مختلف العلاقات بينها، وليست هناك تبعية، أو تفريط في مصالح دول أو شعوب على حساب أخريات. لكن الواقع الحقيقي يبيِّن أن هناك صراع مصالح، وهو غير متوازن، ولا يقضي سوى بالتفريط في مصالح دول وشعوب لحساب شعوب ودول أخرى. وبذلك فالمؤامرة مستمرة، والاستعمار اتخذ وجهًا جديدًا.

حين نتأمل ما يجري في الوطن العربي حاليًّا من صراعات وحروب، وما يعرفه من انقسامات وشقاقات، وما يعانيه من تدخل بعضه في شؤون بعض بتلاؤم مع ما يدبره الآخر، ومباركته، واتهامات متبادلة بين مختلف مكوناته، وانسداد أي آفاق لتحقيق مصالح الشعوب العربية في الحرية والعيش الكريم، لا يمكننا سوى معاينة أن المؤامرة والاستعمار الجديد يرميان إلى ضمان مصالح خاصة تتصل بالآخر على مصالح العرب العامة. وحين نرى كيف تتحرك إيران وتركيا، من جهة، وأميركا وروسيا والغرب، من جهة ثانية، في الوطن العربي، وكيف تسير الدول العربية متخبطة وسط تضارب المصالح، منحازة إلى هذا الطرف أو ذاك، من جهة ثالثة، يسلمنا هذا إلى النظر إلى أسباب ضياع المصلحة العربية، سواء اتصلت بالدول أو الشعوب. متى يمكن أن يعرف العرب مصلحتهم الخاصة في تماسّ مع مصالح الآخرين، وبشكل متوازن ومتكافئ؟ كيف يمكن لثقافة المصلحة العربية أن تكون جزءًا من تفكير الدول والشعوب العربية؟ أرى أن السؤالين يختزلان الواقع السياسي – الثقافي العربي. ولا يمكن الجواب عنهما إلا بالتفكير في ضرورات المصالحة العربية.

صورة المثقف الموسوعي في يوميات «خواطر الصباح» للمفكر عبدالله العروي

صورة المثقف الموسوعي في يوميات «خواطر الصباح» للمفكر عبدالله العروي

يمكن القول: إن رباعية يوميات «خواطر الصباح» تجسد نمذجة فعلية لما يجدر أن تكون عليه كتابة «اليوميات»، سواء من حيث التحديد الزمني الذي يمتد نحو أربعين سنة: (من: 1967م إلى: 2007م)، أو الصوغ المتعمد للاقتصاد اللغوي، إذا ما ألمحنا للتراكم المعرفي والثقافي الذي تجسده تجربة الدكتور عبدالله العروي، والجامعة بين الفكري بمعناه الأوسع، والإبداعي. وهو ما يحيل على ثرائها، كما قيمتها حال تمثل الرأي والموقف. إن تجربة رباعية يوميات «خواطر الصباح» تتأطر في سياق التعبير عن الذات. وبالتالي فهي الامتداد لما تشكل سابقًا ضمن الرباعية الروائية: الغربة، واليتيم، والفريق، وأوراق، ثم النص المسرحي «رجل الذكرى»، إلى المذكرات المدونة عن الملك الراحل الحسن الثاني: مغرب الحسن الثاني، أو المغرب والحسن الثاني. والواقع أن الامتداد يجلو طبيعة التداخل والتقاطع في الوقائع والأحداث المتضمنة، إلى المواقف والآراء. وبذلك يكون الدكتور عبدالله العروي قد انخرط تعبيريًّا في أكثر من شكل من أشكال الكتابة عن الذات: السيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات.

إن رباعية «خواطر الصباح» تعكس حضور ثنائية المثقف/السياسي إذا جاز التعبير، علمًا بأن هذه القاعدة تبرز أيضًا على مستوى الأعمال السابقة، ولئن كان من الصعب حيال وضعية مؤلف كعبدالله العروي، التفريق بين المثقف والسياسي؛ إذ ليس المثقف الخبير في حيز تخصصه الدقيق، وإنما الموسوعي الذي طبع جيلًا من المفكرين والأدباء العرب من طه حسين إلى إدوارد سعيد. تحق الإشارة في هذا التقديم، إلى كون مؤلف «أوراق» بما هو سيرة إدريس الذهنية، مثل التجلي الإشكالي لمختلف أجناس الكتابة عن الذات، من السيرة الذاتية حيث تتماهى شخصية إدريس وعبدالله العروي، إلى الأوراق المحيلة على صيغة المذكرات، وتقتضي من السارد وشعيب لملمتها وترتيبها وفق المعنى المتغيا إنتاجه، إلى اليوميات والتعليقات على الكتب بالنقاش والمناظرة. من ثم يتفرد التأليف في بابه، ويستعصي على التحديد والضبط الأجناسي. إن اللافت والمثير على مستوى تلقي رباعية يوميات «خواطر الصباح»، كونه انحصر بشكل أساس إلا فيما ندر، في المهتمين بالدرس الفلسفي. وقد يكون لعامل المعنى المثار والمنتج ضمن الخواطر، وبالتالي لموسوعية الدكتور عبدالله العروي بلاغة أثره، علمًا بأن الدرس الأدبي لم يفرد لليوميات حيزًا على مستوى الدرس والنقد، بالنظر إلى حداثة الممارسة الإبداعية وجدتها، إلى قلق الأسئلة المتعلقة بالممارسة من حيث إشكالية النوع أو الجنس.  يبقى القول في ختام التقديم: إن حصيلة من الخلاصات والاستنتاجات التي انبنت على قراءة الجزء الأول أو الثاني من رباعية اليوميات، أكدت ضرورة إعادة النظر فيها ما دام منجز اليوميات اكتمل كمشروع بصدور الجزء الرابع الموسوم بـ«المغرب المستحب، أو مغرب الأماني»، والمؤطر زمنيًّا بين (1999/2007م).

المثقف الجامع

العروي-1

عبدالله العروي

إن ما يتحقق استجلاؤه من المعاني المعبر عنها في يوميات «خواطر الصباح»، صورة المثقف الموسوعي. والقصد، المثقف الجامع المتعدد الذي يصعب حصره في مجال تخصصي بذاته؛ فالتفكير ممارسة دالة عن وعي ينزع رباط الحقول والمجالات، بغاية تشكيل تصور ضمن بنية متكاملة تحيل على الكلي وليس الجزئي، إذا ما ألمحنا لكون الصورة متوارثة عن مرحلة جسدها بقوة التراث الكوني والإنساني، إلى طبيعة الخصوصية التي تسم المجتمعات الثالثية، وتحتم إذا في حال رغبنا في إعمال التفكير في ظاهرة التخلف، شمولية الإحاطة بما بالسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.

إن موسوعية عبدالله العروي المثقف والمؤلف، تتمثل تجلياتها في الآتي:

• التعدد: ويطول أشكال الخطاب وتمظهراته الجامعة بين الموضوع والموصوف.

• التنوع: ويمكن التمثيل له بحقل التعبير، حيث كتب الدكتور عبدالله العروي في أدب السيرة، وفن الرواية، والمسرحية تأليفًا وترجمة، واليوميات.

• التماسك: ويتجسد خاصة في كون التأليف تحقق من خلال مشروعات متكاملة ومتداخلة في معناها ومبناها.

• الدقة: ويحرص فيها على المنطقي والعقلاني، والموضوعية العلمية. ويمكن القول: إن الوارد سابقًا، اختزله الدكتور عبدالله العروي في قوله: «يمكن تجزئة أعمالي إلى أربعة محاور، كل محور مرتبط بأحد هذه الفصول: الأيديولوجيا، والبحث التاريخي، والتأصيل، والتعبير». (مجلة النهضة. م م).

تداخل الأحداث وتقاطعها

إن ملامسة صورة المثقف الموسوعي في اليوميات، لا تقتضي تقصيها ضمن الرباعية بصفة عامة، وإنما الاكتفاء بالجزء الواحد ما دام التدوين اليومياتي يتحقق وفق الإيقاع ذاته، وإن تغير الزمن ومسار الأحداث. ونجد بداية صورة المثقف المهتم المتابع للشأن السياسي العالمي، العربي والوطني. والواقع أن سعة الاهتمام وليدة التأثيرات التي تترتب على تداخل الأحداث وتقاطعها. ويمكن القول إضافة لما سبق: إن هذه الصورة تجسد مستويات نذكر منها: المتابع المحايد، والمحلل، والمعلق باختصار واقتضاب… ونجد صورة الأديب المبدع. وتتمظهر في إيلاء الفن مجسدًا في الموسيقا، ثم العمارة والتشكيل، والمسرح والرواية، مكانة ضمن الاهتمامات التي تعكس مظاهر الثقافة وتجلياتها بصفة عامة. إذ إن ما يكسب المثقف قوة حضوره، وسعة اهتمامه.

بيد أن اللافت -من خلال تعداد النماذج- الصورة التي يتداخل فيها المفكر بالمؤرخ، إذ تبرز دقة المعاينة وعمق التفكير، إلى سعة الإلمام بالتاريخ في امتداداته وتحولاته. والواقع أن التداخل يطرح على المتلقي استعصاء يتمثل في صعوبة التمييز بين ما يمكن أن يعد فكريًّا فلسفيًّا، وما يحسب على التاريخي، والديني، والاجتماعي، بحكم أن طبيعة صوغ بعض اليوميات تفرض مقاربتها من جوانب متعددة تتداخل وتتقاطع بعيدًا من التصنيف، وهو ما يعود إلى شخصية المدون، وما تتفرد به من عمق فكري جامع، أو ما أشرنا إليه بـالموسوعية. ومن صور العروي صورة الراصد الاجتماعي. وهي صورة تطالعنا حال توقف العروي أمام مشهد اجتماعي بهدف قراءته واستنطاق دلالته الرمزية؛ إذ الغاية حينها معرفة التحولات التي تسم المجتمع المغربي، وتعد مؤشرات على ما يمكن أن يصار إليه مستقبلًا. والواقع أن يوميات «خواطر الصباح»، وتأسيسًا من دقة الرصد الاجتماعي، تقدم مادة خصبة لعلماء الاجتماع.

صورة مفقودة

إن ما يمكن استخلاصه من مقاربة صورة عبدالله العروي المثقف والكاتب الموسوعي تأسيسًا من رباعية «خواطر الصباح» أن النموذج المعبر عنه لم يعد يمتلك حضوره في الراهن، بحكم سيادة ما يدعى بالتخصص والخبرة، وما إلى ذلك من التحديدات والتسميات. ومن ثم فالقيمة الأساس لهذه الخواطر، تتأسس من هذا النزوع والتوجه الدال على صنف من المثقفين الفاعلين، ليس في الحياة العربية وحسب، وإنما العالمية. ونمثل بالإضافة لعبدالله العروي بهشام جعيط، ومحمد أركون، وإدوارد سعيد، إلى المثقفين الأفارقة الذين يوسعون حقل الدراسات الثقافية أو النقد الثقافي مثل نغوجي واتينغو. والواقع أن هذه الصورة اليوم، وفي سياق التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية العاصفة، هي المطلوبة والمفقودة لمواجهة التخلف الجديد والمضاعف الذي يزحف على العالم كله، والموجه تأسيسًا من بعض الخطابات الغربية المراهنة على الكسب الاقتصادي.

ومن ثم فهذه الرباعية التي تقول الذات، والذاكرة والتاريخ، وثيقة جامعة شاملة عن مرحلة دالة في الحياة العربية بصفة عامة، وهي القيمة التي تستدعي تجديد قراءتها والتفاعل مع مضامينها.

تجربة في الكتابة

تبقى «خواطر الصباح» من خلال التحليل المعتمد، تجربة في الكتابة كما التعبير، من داخل جنس أدبي لم تتحقق عربيًّا الممارسة الإبداعية فيه، لسيادة أجناس نثرية أسست تقاليد الكتابة الإبداعية: القصة، والرواية، والمسرحية، علمًا بأن التأثيرات الأدبية الغربية فرضت سلطتها على أكثر من محفل إبداعي، من دون أن تفسح بلاغة هذه التأثيرات لتجذير فن كتابة اليوميات. والواقع أن الدكتور عبدالله العروي الكاتب المبدع وليس المفكر، اختط عبر مساره الإبداعي الكتابة في أجناس أدبية متعددة: المسرحية، والقصة، والسيرة الذاتية، والرواية، واليوميات، والمذكرات، على أن ما انتظم التعدد، إنتاج وعي إبداعي غايته الأساس كتابة الذاكرة وأسئلة الذات القلقة والمقلقة. ومن ثم فالدكتور عبدالله العروي يعد منجزه الإبداعي، رواية كبرى صيغت وفق تنويعات تحيل – على رغم التعدد والتداخل – على الواحد.

بيد أن ما تتفرد به يوميات «خواطر الصباح» هو: أولًا، تعدد المعاني والحقول؛ ذلك أن التدوين اليومياتي لم يحصر في الحقل الأدبي أو الفكري مثلما المألوف في كتابة اليوميات، وإنما شمل السياسي، بغاية تبيان توسع دوائر اهتمام المثقف، إلى الحقول التي يخوض الكتابة والتفكير فيها. ثانيًا، التماسك: ويحيل عليه الرهان على مكون الزمن، وبخاصة أن «خواطر الصباح»: أ- متابعة ورصد لما يمثل صورة عن أربعين سنة من تاريخ الحياة العربية والعالمية. ب- تخصيص كل مرحلة بتحديد زمني دقيق، علمًا بأن نواة هذه اليوميات تشكلت كما ورد في التقديم، في مرحلة مبكرة، وفق ما دلت عليه الروايتان: اليتيم وأوراق. ت- الجرأة والموضوعية: وتبرز في سياق سرد بعض الأحداث الفكرية والوقائع السياسية، حيث لا يكتفى بالتدوين، وإنما التعليق والنقد الرصين. ثالثًا، كتابة تاريخ الذات: وهنا تجدر الإشارة إلى كون رباعية يوميات «خواطر الصباح»، تشكل التوازي، والاستكمال، والاستمرار، لما عُبِّر عنه ضمن الرباعية الروائية: الغربة، والفريق، واليتيم، وأوراق، خاصة فيما يتعلق ويرتبط بالمسائل الذاتية والشخصية. ويمكن القول في الختام: إن هذه اليوميات على مستوى الأدب المغربي الحديث، تتباين عما أبدعه كل من: محمد شكري، ومحمد خير الدين، وعبداللطيف اللعبي، بحكم توسع المدة الزمنية، إلى تعدد الحقول وموسوعية عبدالله العروي الكاتب والمثقف.

التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة الشاعر محمد بنيس

التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة الشاعر محمد بنيس

يتطلب التعامل مع شعر محمد بنيس زادًا نظريًّا واستبصارًا بالأوضاع النصية التي تستقبل تلك المعرفة وتتحاور معها. ولهذا الحوار تاريخُه النصيُّ الذي يبدأ مع ديوانه الأول «ما قبل الكلام» (1969م)، من حيث طبيعة الاختيار الشعري، ذات الصلة بأوضاع التجارب المغربية والعربية في مطلع السبعينيات. وبتقدم الممارسة نحو سؤالها الخاص، ضمن تلك الأوضاع، كان التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة هذا الشاعر الذي ربط بين الممارسة والتنظير كفعل متوازٍ، له إستراتيجيته المعرفية المتواشجة مع الجغرافيات الشعرية في العالم. ويبدو أن ما نشره من نصوص في مجلة «مواقف» سنة 1969م، لم يكن من قبيل الاستثناء الاعتباطي أو العرضي الذي رافق المشهد الشعري المغربي بالأفق التقليدي في بعض المراكز المشرقية الأخرى، وإنما كان مغامرةً عمقت الوعي عنده بمرحلة السبعينيات، من حيث هي حالة فارقة في الثقافة المغربية، من أجل معرفة طموحاتها، وحاجاتها، ومستوى قدرتها على اقتراح ثقافة جديدة في الشعر وغيره. ولا شك أن البحث المتقدم عن الأسئلة العميقة، وبخاصة بعد اللقاء مع نتائج ثورة الطلاب بفرنسا سنة 1968م، كان عاملًا في إغناء الاختيار الشعري عند بنيس(1).

ومع نتائج أطروحته الجامعية «ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب» (1978)، وما خلقته من ردود أفعال متباينة، كان نصه يختبر أبنيةً في اللغة والخط والصفحة، فتعمق الوعيُ بضرورة استئناف المغامرة بقيم وأسئلة شعرية تزيد من تأزيم الأسئلة الأيديولوجية التي وسمت نقد الشعر بالمغرب. ومن اللافت للنظر أن اشتغاله بالتركيب وبناء الآية، في الثمانينيات، أفسح المجال أمام شعراء آخرين لالتماس مبدأ حرية الاقتراب من المختلف والمتعدد، رغم محدودية ذلك المطلب وقدرتهم على الصوغ المفهومي لذلك المنجز. وقد كان لـ»بيان الكتابة» الصادر سنة 1981م بمجلة الثقافة الجديدة، الأثرُ العميق في فهم وضع الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ورفع الالتباس عن أوجه التحديث التي اختلط فيها السياسي والثقافي، وهيمن على آفاقه وأسئلته التي كان من المفترض أن تجد مسوغها الإبداعي منذ الخمسينيات، بعيدًا عن المؤسسة وأيديولوجياتها المتكررة.

ولم يكن نقل هذا السؤال إلى الدرس الجامعي هيِّنًا، بل واكبتْه إشكالات عديدة، أبرزها صعوبة الحديث عن شعر مغربي معاصر لا يزال في طور التشكل والبحث عن هوية ممكنة بخصائص غير معلومة ومحددة؛ كي يكون موضوعَ درسٍ أكاديمي في مختلف المسالك. وقد تبلور الحوار الأكاديمي مع جيل الثمانينيات، من خلال الإنصات إلى رؤيةٍ مختلفة تقرأ المنجز المغربي الحديث بوسائل منهجية جديدة، وتضع كل الآراء موضع تساؤل، بدءًا من عملية توثيق النصوص، وإعداد ترجمات للشعراء، ثم وضع الأسئلة الممكنة للدراسة. وأول سؤال وضعه بنيس هو: «ماذا نعني بالشعر المغربي الحديث والمعاصر؟ وأين هي نصوصه الدالة عليه؟»؛ لكي ينجز المقدمات الأولى لحفريات الشعر المغربي. ولذلك كان هذا العمل من صميم اهتمامه بوضع الكتابة؛ لأن الرؤية المختلفة التي شيدها عن هذا الدرس لم تكن تجاوزًا للبيداغوجيات السائدة، بل كانت عملًا آخرَ ذا توجه نقدي، مكَّن الطالب/القارئ من مقاربة نسقية ومنهجية، في غياب اهتمام الجامعة بدراسة الشعر المغربي الحديث قبل السبعينيات، اللهم ما تناثر من كتابات تهم تاريخ الأدب.

وبقدر ما انشغل محمد بنيس بحفريات الشعريات العالمية، انكبَّ -في هذه المرحلة- على وَسْمِ نصه الشعري بإيقاع اللغة والبياض والصفحة المتعددة، فكان ديوان «مواسم الشرق» وديوان «ورقة البهاء» عملين مؤرِّخين لمشروع الكتابة، من حيث هو إبدالٌ واضحُ العناصر في التصور والبناء النصي. ورافق هذا المشروعَ سؤالُ الترجمة من جهة توسيع انفتاح الشعرية العربية على ما هو كوني في التاريخ والذات واللغة والمجتمع. ولما كانت الترجمة رهانًا ثقافيًّا وإبداعيًّا، كان التماسُ شرط الإبداع قيمةً مضافةً لفهم خاصية اللغة المترجَم إليها، سواء أكانت اللغة العربية أم غيرها. وللفعل الترجمي تاريخه الشعري الذي أنتج نصًّا باذخًا بإقدامه على ترجمة قصيدة «رمية نرد» للشاعر ملارمي؛ تلك القصيدة التي عاشت مع مشروع بنيس سؤالَي الكتابة والترجمة لأكثر من عشرين سنة، اقترن خلالها نص محمد بنيس بالفرنسية والتركية والإسبانية والألمانية وغيرها، إقامةً في المسكن الحر، مع مترجمين -شعراء وباحثين- من أجل قصيدة للعبور بين اللغات. هكذا عبر ديوان «كتاب الحب» وديوان «المكان الوثني» وديوان «نهر بين جنازتين» بنَفَسِ الكتابة وهي تحتمي بنقصانها وقلقها.

الكتابة والتأريخ

bbb-1أقدِّم، في مقاربة هذا الموضوع، بعضَ الاعتبارات المنهجية التي تُسيِّجُ الوضع الإبستمولوجي الوارد في صيغة الكتابة والتأريخ، وأختار مقدمتين متصلتين كما يلي:

1- لا تنظر الكتابة، في شعرية محمد بنيس، إلى تاريخها من حيث هو مُعطًى، بل تسعى إلى المعرفة التأثيلية، وتترك المعرفة التحصيلية به؛ وبهذا تكونُ الكتابةُ نفيًا لأي سلطة كيفما كانت.

2- وبتحقيقها لهذا الشرط تغدو موردًا لإنتاج السؤال في الممارسة والتنظير معًا؛ وبهذا تكونُ فعلًا نقديًّا.

وفي ضوء الصلة القائمة بين النظر والصوغ البنائي لفعل تأمل الكتابة، تضطلع أسئلة بنيس الكبرى بوضع هذه الكتابة ضمن مجال معرفي، لا تنفصل فيه الذاتُ عن المجتمع وعن التاريخ؛ وذلك هو مجال نقد منظومة المتعاليات في كليتها. ونقطة الانطلاق هي بيان الكتابة، بما هو إعلانٌ كشف التخلف المضاعف لمختلف الأنظمة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية.

يتعمق الدرسُ مرة أخرى، بعد خمس وثلاثين سنة من تجميع الشعرية المغربية لأعطابها؛ فيما الحاجة إلى سؤال تمثيل البيان في الثقافة العربية محسومة بتغيير جهة النظر، عندما نعلم أن لا شيء تغيَّرَ في المشاريع المجتمعية والثقافية، بل لا تزال الأنظمة الفكرية مقتنعة بتحيين المشاريع في غير زمنها. لم يكن سؤال الوعي بالزمن شرطًا أخلاقيًّا بقدر ما كان شرطَ وجوبٍ لممارسة الحرية والمغايرة والاختلاف، وبه يمتلك الشاعرُ لُغَتَهُ، تلك التي تتكلم عن اللغة، وتبينُ ما يفعل ويصنع بها الشاعرُ؛ كي يغدوَ هو وغيرُه محتوى هذه اللغة. وبهذا المحتوى يفك بيان الكتابة الارتباط بفكرة البداهة والارتجال. ولم تتغير ردودُ الأفعال، ولم تزد على ثلاثة مواقف: موقف يقوم على منطق التجريب ولا يستوعب مفهوم الإبدال فينتج فكرة التعطيل، وموقف يقوم على استعادة التاريخ ولا يستوعب حركية التاريخ فينتج فكرة عودة الماضي إلى ماضيه، وموقف يقوم على الحاجة إلى التنظير ولا يستوعب آلية الانتقال من اللغة إلى الخطاب فينتج وهم التماثل بشروط مغايرة.

وإذا كانت أهميةُ بيان الكتابة ماثلةً في وضع سؤال المعرفة داخل حركة التاريخ وليس على هامشها، فإن الوعيَ الذي استقبله كان وعيًا في حال اشتباه؛ لأن الممارسة النصية مشروطةٌ بوعيها بالزمن من حيث كونُه محركًا لفعل الإبداع بالمعنى الحداثي. وفي هذا المعنى يتأسس الاختلاف الذي يجلبه البيانُ إلى مختلف الخطابات، عبر إعطائه فاعليةَ التحديث، وعبر إدخاله إلى دائرة الحوار. ولكن هذه الخطابات حدست تهديد البيان لمركزيتها، فأنتجت الكثرةَ بدل التعدد.

لم تكن تاريخية الممارسة، في وضع الكتابة، توصيفًا أو استقراءً، بل حركةً تتفاعل بها في الزمن والتاريخ؛ وهو ما يفيد أن الكتابة، منذ البيان، غير معزولة عن التمثلات الفكرية، والتأويلات المرافقة لها، في امتدادها الذي يجعلها قوةً معرفية أساسًا. ولذلك فهي قارئة يقظة تجاه ذرائعية الوقائع في التاريخ، والبحث عن شرعية وهمية. وما لم ينتبه إليه نقد الشعر بالمغرب وغيره، هو أن الحقيقة في البيان هي الانفتاح الذي لا يعني الاستدراك والحاشية بمسمى الحوار والنقد والتوسيع. ولما كان فعل التنظير وفعل الممارسة متلازمين في مشروع بنيس، أمكن النظر إلى الانفتاح أفقًا نصيًّا تحتفل به القصيدة عبورًا للغة في الجسد، وللتاريخ في الممكن واحتمالاته في الخطاب.

يمكن أن نلامس ثلاث حركات كبرى في شعرية بنيس. وأستعمل الحركة هنا بالمعنى الذي يقدمه جيل دولوز، أي الحركة في الطية؛ حيث لا وجود لمقاطع ثابثة، ولا إعادة تشكيل الحركة مرة ثانية(2). ويبدو أن هذه الحركات هي: تفضية الكتابة -إعادة الكتابة- مادية الكتابة؛ وهي حركات غير منفصلة عن بعضها، بل متداخلة وفق مفاهيم إبداعية مؤطرة هي: النقصان، والمحو، والحبسة، بحيث تصير تجاذبًا نصيًّا، يجلّيه البناء وإنتاج الدلالية. وعلى الرغم من أن مصطلح القصيدة أضحى يضيق عما بدأه بنيس في التماس الكتابة وَسْمًا لممارسته النصية، فإن هجرة النصوص كانت مغامرةً لمستمر الإيقاع وممكنه؛ لأنه مستمرٌّ يضع تاريخية الكتابة ذاتًا تفكر في مَسِيرِ القلق باللغة وفي اللغة، ولذلك تسم هذه الهجرة فعل القراءة من جهة تقريب النصوص من بعضها مع مراعاة اختلافها في البناء.

تقوم الكتابة، إذن، على تجربة الفعل؛ إذ تتبنَّى اللغة ما يحدث أثناء الكتابة، وخاصة المفاجئ وغير المتوقع الذي يقتحم هذا الحدوث. ويأتي المفاجئ من عوالم، ومن فضاءات، ومن فنون مختلفة في آليات البناء والعرض، سواء أكان تشكيلًا، أم موسيقى، أم وثيقة… ولهذا الانفتاح لغته الثانية: لغة الحواس؛ حيث الدال النصيّ إيقاع شخصي يحيا في مناطق النسيان، ويتجاوب مع ما تتذكره العين والأذن والأدمة في غفلة عما تخطه يد الشاعر. ويتم صوغ هذا التقريب في مختلف دواوينه بدءًا من ديوان «وجه متوهج عبر امتداد الزمن»، علمًا بأن مقامات التقريب غير متماثلة وغير متشابهة، فقد تلتقي نوبة أندلسية مع لوحة فان جوخ، أو فيرير، وقد تلتقي صيرورة حجر مع سكون الفراغ في صفحة متعددة، وقد يلتقي صوت مع موال جبلي أو أمازيغي في مكان وثني يحتفل بجنازة الذات وجنازة اللغة.

لا شك أن مادية الكتابة ليست صيغة تجريدية لممارسة نصية، إنها تنأى عن أن تكون عرضًا يُحْمَلُ على فعل الكتابة نفسه؛ فهي إبدال مستمر وفاعل في مجال تاريخية الشعر. ويعني ذلك أن مادية الكتابة تستوعب إعادة الكتابة ولا تنفيها، إنها تصحبها إلى صوغٍ مغاير؛ كي تتيح للقراءة عناصر نظرية خاصة بها، تسمي ذاتيتها. ثم إن مادية الكتابة، بعدُ، هي في وضع حيادٍ مع التمثيل مهما تكن صوَرُهُ وأشكاله؛ لأن مادية الكتابة في أعمال بنيس قائمةٌ على الاختبار الموسوم بالمحو؛ أما التمثيل(3) فقائم على تمجيد الاستضافة؛ استضافةِ الآخر، والغريب، وتاريخه ولغته بالعربية وأفقها.

وبما أن مقول الفكر لا يعثر على وجوده إلا إذا صار عاجزًا عن قول ما يجب أن يبقى متعاليًا على الكلام، فإن الكتابةَ تفكيرٌ وتأملٌ في هذا العجز، لكي تجعلَ منه طاقةً فاعلةً أمام الأشياء؛ وتلك هي حُبسَةُ محمد بنيس؛ لأن كل شيء عدا الشعر قولٌ. تفيدنا كلمة ليفناس هذه في تعرف الكتابة خارج القول، أي خارج المشابهة والمعارضة اللتين تمثلان صيغةً من صيغ مقاومة دخول الآخر إليها. ولكن الكتابة تحمل الاختلاف إلى دائرة الآخر كي تتحقق صيغة الاستضافة. فمثلما استضاف بنيس نبيذ أبي نواس، استضاف نبيذ أبولينير، ونبيذ بوردو وبغداد؛ إنه مبدأ الكتابة بماديتها، وأفقٌ لحياة اللغة العربية التي عاشت في النص رحلة دانتي، ورمية ملارمي، وأناشيد عزرا باوند. فحينما يعترضُ النص حركةَ الإحالةِ نحو الإظهار، تكفُّ الكلمات عن الانمحاء أمام الأشياء، فتغدو الكلماتُ المكتوبةُ كلماتٍ لِذاتها. وعندما تبدأ اليدُ في خط أول حرف، وتتضامن بما يسري وبما يصنع الحدث، تقوم الكتابةُ بممارسة المجاورة، مجاورة النقطة العمياء، والنقطة الخرساء، وتقوم بمجاورة آثارهما. فبنيس يهيئ تجربة العمى كي لا تتعينَ الأشياءُ في حيز الاستعارة فقط، بل بالتركيب من حيث هو محاورة ومجاورة للأشياء في تناقضاتها وغيرِيّتِها. إن الغيريَّةَ تماسٌ في الكتابة يراهنُ عليها محمد بنيس كي تجعلكَ تراها من حيث هي رائيةٌ أيضًا، لتملك الكتابة قارئًا بوجهة نظر.

رهانٌ يعدِّدُ صيغ المساءلة، فتعددت أنماط الامتلاك؛ ومن أفق تداول السؤال بين القراءة والنظر، تحمي الكتابة تاريخيتها؛ لأنها إنصاتٌ وتعلمٌ دائمان: تتعرفُ بها مكانَ القدامةِ وحدودها، ومغامرة اللغة في متغير نسق اشتغالها، ومكان الحداثة وممكن الإقامة في المستقبل، ومنعقد أهوال العثور على الطريق نحو الطريقِ.

الكتابةُ بمُمْكِنِها

bbb-2ممكنُ الكتابة من ممكنِ النص من حيث هو مختبرٌ منفتحٌ على إيقاعه المتبدل. وليس لهذا الممكن جهةٌ يتعيَّنُ بها، أو عنصرٌ يحتمي به في البناء، وإنما هو دالٌّ في اللغة وما يحيط بها أثناء الكتابة. وحينما تختبر الكتابةُ نحوَ الشعر، أي بالانتقال من اللغة إلى الخطاب، يغدو مجهولُ فكر الشعر أحدَ ممكناتها. يكتبُ محمد بنيس هذا السفرَ بما تقدمه القصيدةُ -وهي تضيقُ عن هذا الاصطلاح متجهةً نحو الكتابة- من استشراف لأهوال الحواس:

أنا الذي سافرتُ في ليل القصيدة

وابتهاج المحوْ

أدعو الخطوطَ لمجدِ هاويةٍ

لها الهذيانُ

والهذيانْ (4)

سؤال الشعر سؤال كوني

لا يرتبط الشعر بالهويات والوطنيات، وإنما يشتغل بما هو إنساني وكوني، كي يغدوَ لسؤاله الحيوي معنى. ويبدو أن القرن الماضي دشن عهد الكونيِّ في مجالات معرفية وإبداعية مختلفة، من الفلسفة والعلوم المعرفية، إلى التشكيل والنحت والموسيقى. وما يقوم به محمد بنيس من حوار مع الشعريات العالمية، هو توسيعٌ لمداخل هذا السؤال، وتقريبٌ لوضع اللغة العربية من مبدأ الانفتاح والاستضافة. ولم تكن استضافة دانتي، وملارمي، وعزرا باوند، من قبيل الاستعارة، بل قراءة واعية لمعنى الحداثة في الثقافات واللغات، من حيث هي مطلبٌ إنساني يستجيب لإبدالات الزمن والذات والتاريخ. ولما كانت «حداثة السؤال» اختيارًا شعريًّا، يروم تغييرَ وجهات النظر، أصبح مبدأ حرية الكتابة عضُدَ السؤال وقوامَه في صوغ طرائق الكتابة، بما تتيحه اللغةُ العربية من إمكانات وآفاق، بدءًا من محاورة تاريخها وأوضاعه، وتوقًا نحو وضع البدهيات والمتعاليات ضمن السيرورة التاريخية للإبداع، من حيث هو ممارسة قبل كل شيء.

لغة الكتابة نمط حياة

ليست لغةُ الكتابة هي المكتوب فحسب، بل هي صيرورة تنظيمٍ للمبدأ المحرك للتركيب والمعجم والبناء؛ لذلك تكون هذه اللغة مشروعًا يتنامى في الاختلاف والتعدد. وإذا كانت اللغة ممارسةً خاصةً للإيقاع، بما هي ممارسة خاصة للذات، فإن الكتابة، لدى الشاعر بنيس، معرفةٌ تضطلعُ بمهمة الحفر خارج «التعبيرية» وبعيدًا عنها، أي ضد التصور الرومانسي بكل تجلياته.

وأن تكون اللغة نمطَ حياة، هو أن تعيش زمنها مستشرفةً مستقبلَها، بما يؤهلها وضعُها الاعتباري والاختباري لإعادة النظر في كل ما يأسرها ويحنطها، سواء أكان متعلقًا بالصياغة والبناء، أم بالمحمولات التي تَثْوِي بداخلها. وقد كانت المقدمة التي وضعها بنيس لأعماله الشعرية دالةً على نمط الحياة الذي لا يُقيِّدُ اللغةَ بالشخصي وغير الشخصي في الممارسة النصية. ومن الجلي أن «حياة في القصيدة» هي حياةٌ للكتابة التي ترى في اللغة ممارسةً للنقد تجاه لغاتٍ تدَّعي الوحدةَ في منظومة كلية. وبهذا تكون مصاحبة القصيدة غير منفصلة عن تجربته التنظيرية؛ فهي فعلٌ متكاملٌ للبحث عن الكتابة والذات والعالم، بما هي أمكنةٌ تولِّدُ سؤالَ المعرفة. وبقدر ما تمس «حياة في القصيدة» حياةَ الشاعر، تمس حياةَ القصيدة أيضًا، من حيث هي كائنٌ يتبدَّل جسدًا، ولغةً، ورغباتٍ، وأسئلةً. إنها تحيا إذ تسكنها قصائدُ أخرى، بلغات أخرى تهاجر فيها.

bbb-3أولًا: تتبنى سؤالها خارج التجريب؛ لأنها مرتبطة بالمعرفة الشعرية التي تنتجها لا التي تستدعيها. إن منطق التجريب منطقٌ أحادي؛ لأن الممارسة تظل مرتهنةً به، ويغدو هذا التجريبُ موضوعَها بوعي أو بدون وعي. وعندما اختارت ممارسة بنيس الإبدالَ صوغًا بنائيًّا في اللغة والذات والتاريخ، فإنما اختارته معرفةً شعريةً بالأساس؛ فارتبط النص بسؤاله في أوضاع مغايرة، وأماكن نظرية تنبع من داخله. ومن الصعب الحديث عن استدعاء لمعرفة تجريبية خارج نصية؛ لأن أي مقاربة ترومُ فصل الممارسة عن التنظير، لن تقوى على فهم حوارية النص بمعرفته، إزاء مبدأ التقريب الشعري الذي يسوغ، لدى بنيس، مبدأَي الضيافة والحوار. أما التداخل النصي فليس شرطًا ماديًّا لإنتاج شعرية العمل- الأعمال، إنما هو صيغةٌ من صيغ التقريب ليس غير. ولكن حينما يتحول إلى فعل إعادة الكتابة، فإنه يتلبس سؤالها بالنص وبأفقه الشعري في آنٍ.

ثانيًا: تبرز فاعليتها في القيمة والتداول من خلال لغتها، دون أن تنفصل عنها في ذاكرتها وفي أفقها التلفُّظي. وهذا الفعل الشعري هو ما دعوتُه بذاتية الكتابة، من حيث هو توقيع شخصي يمس كلية العمل؛ لأن تحقُّق تلك الذاتية ليس سمة إضافية تلحق بالنصوص لكي تسميَ عملًا أو ديوانًا دون غيره، بل هي قيمة وتداولٌ في تاريخية البناء الشعري لشعرية محمد بنيس؛ ففي اللغة يكون سؤال الكتابة اختبارًا لهذه المعرفة، أي أن الكتابةَ هي كلٌّ لا يظهر في اللغة ويحضر من لدن الذات حضورًا غيرَ مسبوق؛ لذلك تتضمن ممارسة بنيس شرطَ تجددها في بناء النصوص. ولم تكن هذه المغامرة تجريبًا لأشكال وأدوات نصية، بقدر ما كانت ممارسة ذات توقيع شخصي يتميز بقوة الفعل والأثر في المعرفة الشعرية وإمكاناتها أثناء تتبع القارئ لها. وبقراءته للمتن لا يحس بالمختلف، بل يعيه، وذلك هو رهان شعرية بنيس.

ثالثًا: لا تنجذب، في الممارسة النصية، إلى المقولات، بل تخلق وتبني باستمرار صِيَغاً لما يمكن أن يُكتب. قد يتعارضُ الممكنُ النصيُّ مع تلك المقولات، سواءٌ أكانت فلسفية أم شعرية أم جامعة بينهما؛ إذ تغدو -في هذه الحال- متعالية على جوهر الكتابة نفسِها، فتلغي فاعليتَها التي حفرتها بلغتها الخاصة. ولهذا السبب كان الممكن، في ممارسة بنيس، متعددًا وغير متعين بشكل أو صيغة، وإنما يتخذ من الصيغ ذلك المستمرَّ الذي يتأصَّلُ في المحو والنقصان. والحركاتُ الثلاث التي تحدَّثنا عنها آنفًا: تفضية الكتابة، وإعادة الكتابة، ومادية الكتابة، نابعةٌ من روح الإبدال الذي تخلقه النصوص أثناء البناء، بطريقة متداخلة ومتفاعلة مع بعضها؛ فكل حركة تفضي إلى الأخرى من غير أن يكون لإحداها الأسبقية أو الأولوية على الأخريين.

هي فعلٌ وليست ردَّ فعل

وهذا ما يفسر أنها نفيٌ لأيِّ سلطة كيفما كانت طبيعتها؛ ولا يأتي هذا النفي تَبَعًا أو ردَّ فعل بعدي لما يمكن أن تمارسَه تلك السلطة، بل هو مبدأ جوهرٌ وثابتٌ، يتحرك بهذا الأفق كلما كانت السلطة مهيأةً لتخريب أداة من أدواتها المنتجة.

وقد تكون هذه السلطةُ شعريةً وذاتَ خطاب يناقض خطابَ الكتابة من جهة النظر إلى الشعر في طبيعته ومآله، وإلى اعتباره سؤالَ حياة حديثة وحداثية. ولذلك فهي تشرعن الانفتاحَ سلطةً للشعر، بما هو حوارٌ له تاريخيته الكونية، وفعلٌ مثبَتٌ في النصوص القديمة والحديثة.

وبما أن الكتابة فعلٌ، فهي مراجعةٌ، بالقصيدة ومآلها، لهذا التاريخ الذي يظل مسكونًا باعتباراتٍ قد لا تكون شعريةً في أصلها، ومن الطبيعي ألا تكون ردَّ فعل تجاه بنية قَبْلية، سواء في النظر أم في الممارسة؛ ويعني ذلك أنها في غنى عن أي تبرير يمس أفق اختيارها إزاء بنية شعرية كالتقليدية أو الرومانسية؛ فقد تكون مناقضة لهما في التصور والبناء لكنها ليست ردَّ فعل تجاههما سلبًا أو إيجابًا؛ لأنها تروم سؤالًا مختلفًا لا يوجد في البنيتين معًا. وبهذا الاختلاف تنأى عن مسيرهما لتبنيَ فعلها الخاص دون إي إلغاء.

حوار‭ ‬الكتابة‭ ‬والنأي‭ ‬عن‭ ‬التعبيرية

bbb-4كلما اختبرت الكتابةُ شعريتَها في الأبنية النصية، تضاعفَ بحثُها عن ممكنها؛ غير أنه بحثٌ لا يتقصَّى النظريات ويسقطها قسرًا على النصوص، بل يكشف العناصر النظرية من داخلها عبر الحوار والمراجعة والتقريب. ذلك هو مناطُ سؤال الكتابة عن ذاتها لدى بنيس، الذي أقام عميقًا مع المتغيرات النظرية في الشعريات العالمية، سواء تلك التي اختارت الكتابةَ بديلًا مفهوميًّا عن الأدب، أم تلك التي رأت الكتابةَ نسقًا خاصًّا بإمكانه أن يغدوَ جنسًا في الشعر والنثر على السواء. وبالابتعاد عن التعبيرية أصبح «الانكتاب» أفقًا نصيًّا يضاعف احتمالات التركيب بكل تجاوباته لإنتاج الدلالية. وبهذه الصيغة توافقت «اليد الثالثة»، التي استشعرها بنيس في ممارسته، مع مجهول موريس بلانشو، ومع محتمل نيتشه، وغائب جورج باطاي. ولكنه توافقٌ يحتمي باللغة العربية، باعتبارها عنصرَ حوار يمجدُ ماء الكتابة عبر إعادة قراءة تاريخ منجزها الشعري وغير الشعري.

ومن اللافت للنظر أن النص المتعدد لدى بنيس، بعيدٌ كل البعد عن أي تمثيل كيفما كانت موارده وصيَغه. ويعني ذلك أن الكتابة ليست موضوعًا مباشرًا في نصوصه، وليست تمثيلًا موجِبًا لأي تصنيف موضوعاتي تحت مُسمَّى التجربة، ولكنها سياقٌ متجددُ الحضور من خلال نصوصٍ متجاورة ومتحاورة ومهاجرة بين مختلف الدواوين، لا تقف عند وضع واحد أو عنصر واحد ضمن آلية المشابهة. إنها بعيدة، في الآن نفسه، عن الترميز بحكم ماديتها التي تَحُولُ دون المجاز، علمًا بأنها تستدعيه لتبينَ حدودهُ المحمولةَ بالقول؛ ولهذا يفرق محمد بنيس بين القول والكتابة؛ التماسًا لذاكرة الحواس في حيويتها، بعيدًا عن قصيدة الذاكرة، وقصيدة المعادل الموضوعي والقناع وغيرها.

هذه بعض عناصر الاقتراب من مادية الكتابة، بما هي ذاتيةٌ تتشكل أثناء البناء، لا قبله ولا بعده. وفيه يجد محمد بنيس تاريخية ممارسته الشعرية بالحوار مع السلالات الشعرية الباذخة، عبورًا بين جنازة الذات وجنازة اللغة؛ حيث يرتفع نداء المنافي إلى بذرة المجهول وماء الكتابة في كتاب يسْطُره المستقبل.

———————————-

الهوامش:

(1) عز الدين الشنتوف: شعرية محمد بنيس: الذاتية والكتابة، دار توبقال للنشر، ط1،  2014، ص99.

(2) Gilles Deleuze, L’image-Mouvement, éd.Minuit, Paris, 1983, P9

(3) لا نقصد بالتمثيل الاصطلاح البلاغي الفج، بل نقصد به: représentation inconditionnée، كما صاغه بول ريكور في كتابه: la métaphore vive؛ أي ما تنتجه النصوص من إمكانات خاصة بها، في المعجم والتركيب والخطاب؛ التماسًا لخصيصة الكتابة. وقد أكدنا في نهاية المقال على غياب التمثيل بالمعنى الأول.

(4) محمد بنيس، الأعمال الشعرية، ورقة البهاء، ج1، ص 24.