ضد النسوية.. موقف من داخل الثقافة الغربية

ضد النسوية.. موقف من داخل الثقافة الغربية

في ذروة تألقها المهني في التلفزيون الألماني، وحصولها على لقب «أكثر مذيعة محبوبة في ألمانيا» عام 2006م أصدرت إيفا هيرمان كتابها «مبدأ حواء: من أجل أنوثة جديدة». أحدث الكتاب صدمة لكثير من متابعيها؛ ذلك أنها عرضت أفكارًا ومواقف ضد ما تمثله هي في حياة الألمان. دعت إيفا المرأة إلى العودة إلى البيت، والتفرغ لأطفالها، والاهتمام بأسرتها. كان كتابها مزيجًا من الانطباعات الشخصية والبحث القائم على أرقام وإحصاءات، خلاصته أن معدلات الزيادة السكانية تتناقص، وأن الأسر تتفكك، وأن هذا أمر لا يمكن التقليل من أهميته(1).

أفكار إيفا هيرمان لم تكن وليدة هذا الكتاب فقط، فقد كتبت مقالًا قبل ذلك بسنوات عنوانه: «التحرر- هل هو مغالطة؟» ناقشت فيها أسباب انخفاض معدل المواليد في ألمانيا، ورأت أن سبب هذا هو المفاهيم التي طرحتها الحركة النسوية؛ لأنها تدعو إلى أفكار ليست من طبيعة النساء، فالمكان الطبيعي للنساء هو البيت داخل الأسرة بمفهومها التقليدي. رأت هيرمان في هذه المقالة أن الحركة النسوية تحاول أن تجعل النساء مثل الرجال، في حين تعتقد أن كثيرًا من الأعمال لا تناسب إلا الرجال. لكن النساء في اقتحامهنّ الدؤوب لكل مجالات العمل الذكوري تخاطر بأن تحمل في ذاتها صفات ذكورية، وتبتعد من طبيعتها الأولى، وهذا سيؤدي إلى انخفاض المواليد. لم تكن إيفا هيرمان هي الصوت الوحيد من داخل الثقافة الغربية الذي خاطر بإعلان هذا الموقف المضاد. أصوات كثيرة رأت في جموح الحركة النسوية واندفاعها خطرًا يخلخل الأسس الاجتماعية التي قامت عليها المجتمعات الغربية، ويهدد بانقراضها. لقد غفلت الحركة النسوية في توحشها واتساع مجال تأثيرها عن مراجعة نفسها لتتبين إلى أن يصل بها كل ما قدمته من أفكار. إن ما بدا ملاكًا في أوائله تحول إلى شيطان في اللحظة الراهنة.

مفاهيم كبرى

إيفا هيرمان

يصعب في هذا السياق المحدود استكشاف الجذور التي آلت بالمرأة إلى هذا الوضع المعقد الآن. فالحركة النسوية بعيدة في بداياتها زمنيًّا، متسعة في تأثيرها جغرافيًّا، متشعبة في الأفكار التي طرحتها، ملتبسة في ردود الأفعال حولها. مع ذلك يمكن رصد جملة من المفاهيم الكبرى حاضرة في كل جدل حول المرأة. مفاهيم مثل: البطريركية patriarchy، والاضطهاد، والاختلاف، والهوية، والجنوسة. وهي مفاهيم جرت السيطرة عليها من النسويات الأوائل، وإعادة صياغتها لتتوافق مع الاتجاهات الكبرى للحركة النسوية. لكن يظل مفهوم البطريركية هو المظلة التي تتجمع حولها كل المفاهيم الأخرى، الكبرى منها والصغرى. يمكن لنا هنا أن نتحاور مع هذه المفاهيم من خارج الثقافة الغربية، ومن منطلقات أيديولوجية واجتماعية مغايرة لما طُرِح في البيئات الأصلية لها، لكني هنا سأعرض لنقد واحدة من أهم الأصوات النسوية الفرنسية: جوليا كريستيفا الفيلسوفة والناقدة البلغارية الأصل، وهي صاحبة الصياغة الأشهر لمصطلح «التناص». كانت كريستيفا صوتًا نسويًّا قويًّا، وجزءًا فاعلًا في الحركة النسوية الفرنسية التي توصف بأنها أهم الحركات النسوية في العالم بجانب النسوية الأميركية، وقد أفرزت أهم الأصوات في الحركة النسوية، لعل سيمون دي بوفوار وكتابها «الجنس الثاني»(2) وجملتها الأشهر «المرأة لا تُولَد امرأة، بل تصبح امرأة» هي التعبير الأبرز عن قوة النسوية الفرنسية.

لكن كريستيفا بدأت مبكرًا في مراجعة مسلّماتها النسوية، فانسحبت وكتبت أفكارها الخاصة. طرحت كريستيفا مفهوم «الأمومة maternity»، لم تواجه به البطريركية التي تفهمت أسباب وجودها، وقبلت جزئيًّا بعض تجلياتها، بل واجهت الأفكار النسوية. إن قراءة مجمل الموقف الجديد لكريستيفا يخلص إلى أنها ترى أن الأمومة هي واجب المرأة(3)، وهي تعتقد أن الرجال يخلقون عالم القوة والتمثيل representation، في حين تخلق المرأة الأطفال. الأمومة لديها مثال للخبرة التي تستدعي تساؤلًا عن الذات الموحدة، وتصبح الأمومة هي الذات في حالة تكون، وتطرح سؤالًا عن الحد بين الذات والآخر؛ لأن الجسد الأمومي يحتوي على آخر. مع الأمومة من المستحيل التمييز بين الذات والموضوع من دون الدخول في تقسيمات اعتباطية. وهي تحلل الأمومة كي تقدم رؤيتها التي ترى أن هذا التمييز بين الذات والموضوع، وكل التحديدات للذوات الموحدة، كلها أمور اعتباطية(4).

الاختلاف عن الرجل

إن المفهوم الآخر الذي دخلت معه كريستيفا في نقاش هو مفهوم «الاختلاف»، وهو مصطلح متجذر في أدبيات الحركات النسوية على تنوعها، يقصدن به في أبسط تعريف له «الاختلاف عن الرجل»، لكنه في الحقيقة مفهوم معقد يستدعي معه مفهومين أساسيين: «الجنوسة» و«الهوية». لقد كان مفهوم «الاختلاف» ملتبسًا عند النسويات، فعلى حين رتبن على الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة نتائج يتصل أغلبها بالجنس مما لا يتسع المقام لعرضه هنا، فإنهن لم يسلمن بأن لهذا الاختلاف البيولوجي آثارًا تتصل بتقسيم العمل بينهما. أما كريستيفا فقد سلمت بذلك، وأفردت مساحة كبيرة في كتاباتها النسائية لموضوع تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وأفردت مساحة لأهمية الإنجاب في حياة المرأة، وما يترتب على ذلك من آثار بعيدة المدى في طبيعة الوظائف التي يمكن أن تقوم بها، والحفاظ على الأسرة التي تنجب في إطارها، والبيت الذي ترعى فيه الطفل داخله. رأت كريستيفا أن اضطهاد المرأة يرجع جزئيًّا إلى اختزال الثقافة الغربية للنساء في موضوع الإنجاب، بينما يجب أن نعيد النظر في طبيعة العلاقة بين الأمرين، يجب أن نعيد الاعتبار للأمومة، وأن نعيد النظر في العلاقة بين الأم والطفل.

ركزت كريستيفا على مفهوم الاختلاف من الزاوية التي تطرحها الحركات النسوية، لقد رأت أنهم يتحدثون عن الاختلاف بمفهومه الواسع، أي اختلاف النساء عن الرجال من دون مراعاة للفروق الفردية داخل كل نوع، بينما ترى هي أنه «من الصعب الحديث باسم كل النساء»؛ لأن الحديث باسم المجموع يعني إنكار الفروق الفردية، ودمج الأفراد في المجموعات هو سلوك القطيع. نبع موقفها هذا من رؤيتها بأن النسوية هي حركة النساء البيض الغربيات من الطبقة الوسطى، ومن الصعب تعميم أطروحتها لتشمل كل النساء داخل هذه الثقافة من دون اعتبار للفروق الفردية، أو حتى الفروق الجماعية بين الطبقات. وإذا كانت هذه رؤية كريستيفا، فالأولى أن نقول معها كما قال أرنولد توينبي قبلها: إن بعض الأفكار قد تُكوِّن ملائكة في مجتمعاتها، لكنها تتحول إلى شياطين إذا انتقلت لمجتمعات أخرى(5). ما سبق لم يكن كل الموقف الذي أخذته كريستيفا من النسوية، لقد كانت لها آراء أخرى حول العلاقة بين الرمزي والسيميائي والموقف من المرأة، والكيفية التي يجري بها تأطير المرأة في سياق الثقافة الغربية، لكن مجمل موقفها لخصته في عبارة «السخرية من النسوية هي الحل».

جوليا كريستيفا

سيمون دي بوفوار

إن خطورة الحركة النسوية –كما أرى- أنها خلطت حقًّا كثيرًا بباطل أكثر، فأن تعيش المرأة بكرامة، وأن يكفّ الرجل عن اعتبارها نوعًا أدنى، وما يترتب على ذلك؛ فيتصرف في أمورها الشخصية فيما لا يحق له أن يفعل. كل هذه الأمور من حقوقها الإنسانية التي يحق لها أن تناضل من أجلها. لكن الحركة النسوية تجاوزت في مطالبها في ردة فعلها حول ما تسميه الاضطهاد الذكوري. وكان البحث العميق في الهوية الجنسية في أدبيات الحركة النسوية ثمرة جموحها في مطالبها. وقد أثمر هذا البحث اعتراف كثير من المجتمعات الغربية بالحقوق الطبيعية الجنسية لكل فرد، الذي قاد بطريق شديد التعقيد إلى إقرار زواج المثليين في أغلب الدول الأوربية، وفي أكثر الولايات الأميركية.

وعلى الرغم من ذلك فإن إيفا هيرمان وجوليا كريستيفا ليستا الأصوات الوحيدة المناهضة للحركة النسوية؛ توجد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في أثناء التصويت على قانون السماح بزواج المثليين صرحت بأنها لا ترى الزواج إلا بين رجل وامرأة، وبات روبرتسون القس الأميركي المتطرف الذي رشح نفسه في الانتخابات الأميركية؛ قال: إن النسوية حركة اشتراكية ضد الأسرة، حركة سياسية تدفع بالمرأة إلى أن تترك زوجها، وتقتل أطفالها، وتمارس قوة السحر، وتدمر الرأسمالية لتصبح سحاقية. وقس آخر هو جيري فالويل؛ قال: إن النسويات يكرهن الرجال، وهذه هي المشكلة.

أما في مجتمعاتنا العربية فلا بد من تفكيك أطروحات الحركة النسوية، وإجراء مناقشات عقلانية عميقة حول كل ما تقدم؛ لأن المغالطات التي تقدمها ستؤول بمجتمعاتنا إلى ما نراه في الغرب الآن. وهو مصير أرجو ألَّا نصل إليه.

هوامش‭:‬

1-Eva Herman, DAS EVA PRINZEP: Fuer eine neue Weiblichkeit- by Pendo Verlag GmbH& Co. KG Muenchen Und Zuerich- 2007

2- Simone de Beauvoir, The second Sex: First Vintage Books Edition, May 2011

3- Jones, Ann Rosalind: Julia Kristeva on Femininity: The limits of semiotic politics. Feminist Review 18 (Winter): 56- 73

4- Kelly Oliver: Julia Kristeva›s Feminist Revolutions- Hypatia, Vol 8 No. 3 (summer, 1993) p. 106

5-Ibid: 94- 104

«حافة الكوثر».. أحزان ليست عابرة

«حافة الكوثر».. أحزان ليست عابرة

تحتوي رواية «حافة الكوثر» لـعلي عطا على تمثيل مناسب للضغوط النفسية والاجتماعية والأسرية والمادية أو اجتماعها معًا داخل إنسان واحد وعبر حياته، فالسارد الرئيس يُدعَى حسينًا، وهو يعاني هنا ضغوطًا اجتماعية شتى مصدرها الأساس علاقاته بزوجته الأولى (دعاء) ثم زوجته الثانية (سلمى) ثم بنته (حنان) كما أنه بعد أن انتابته نوبة الاكتئاب الأولى، لأسباب عدة، شعر بأن الآخرين يراقبونه ويتحدثون عنه، عبر الفيسبوك وفي الحياة.

علي عطا

الزوجة الأولى، كما جاء وصفها في الرواية زوجة مسيطرة جدًّا، باردة جدًّا، مستحوذة جدًّا، وفي الرواية أيضًا وصف لحالة دعاء (زوجته الأولى) بعد أن أخبرها بزواجه الثاني، فقد كانت تظل مستيقظة ولا تنام حتى يستغرق في النوم وذلك كي تراقبه وتمنعه من الاتصال بسلمى زوجته الثانية. وهناك إشارات أيضًا لذلك السأم الذي أصابه من الحياة بشكل عام، سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا، وإشارات كذلك إلى أنه قد فقد الشغف بشكل عام كلية وشغفه في علاقته بزوجته الأولى دعاء بشكل خاص «ذلك الشغف لم يعد له وجود يا دعاء، ولذلك أستثقل إجباري على تصنعه ليجاري شغفًا يلازمك على مدار الساعة، ما دمنا غير متخاصمين».

ويتجلى فقدانه للشغف أيضًا في أحلامه، ومنها ذلك الحلم الذي رأى نفسه فيه، بينما كانت دعاء تنام بجواره، إنه غير قادر على الوصول إليها، كي يفي بوعد ما، على الرغم من أنه يحفظ رقم هاتفها وبيتها الذي جاء في الحلم، إنها تنتظره فيه منذ سنوات بعيدة، وهو حلم تزداد حيرته في تفسيره. لكنه في رأي حلم يدل على رغبته الخاصة في الحرية والتحرر، وهي رغبة كانت كامنة في أعماق لا شعوره، عبَّر عنها في أحلامه هكذا كان يشعر بضغوط متواصلة تلاحقه من كل صوب وحدب، وقد كان يحتاج ككاتب للحرية، لكنه كان محاصرًا في كل وقت، بل في كل لحظة، في بيته، وفي عمله، حتى في عالمه الافتراضي، وكذلك في عدم قدرته على كتابة ما يريد، فهو في الأصل مبدع، لكنه ضاع أو استنفد جهده في عمله الصحافي وفي متاهات الحياة، ومن ثم فقد كان ينتابه شعور دائم بأن روحه ضائعة وهائمة، وأنه قد تأخر كثيرًا في العثور عليها.

حنين إلى الماضي

هكذا انتابه أيضًا نوع من الحنين إلى الماضي، تجلى في صحوه وتجلى أيضًا في أحلامه، ازداد شوقه لبيتهم القديم، لعالم طفولته، وشارع شمس الدين وكذلك حنينه للأشياء والأماكن والبشر وكل ما لم يعد له وجود الآن، وقد تزايدت مشاعره هذه مع زيادة الاضطرابات في المجتمع، حرق الكنائس وقتل المتظاهرين ومشاعر الخوف العام وعدم الأمن، هكذا يزداد حنينه لمظاهر الريف التي تتلاشى شيئًا فشيئًا، للشوارع والمدارس والأسواق والطواحين والساحات الشعبية والمحلات وتمثال أم كلثوم، ولرموز مدينة المنصورة (بديع خيري – السنباطي- علي محمود طه- أنيس منصور- كامل الشناوي… إلخ) وبقايا عبق ذلك الماضي الذي لم يزل موجودًا هكذا يقول: «أماكن الطفولة تناديني ولا تكف عن اقتحام ذاكرتي».

لقد أسهمت المدينة، بكل ما عاناه فيها من تزايد شعوره بالغربة والاغتراب، ومن ثم كان يزداد شوقه واشتياقه لتلك اللحظات التي كانت الأشياء فيها شبه مؤكدة وشبه يقينية، في حين أنه فقد الآن الثقة وفقد اليقين، بالنسبة لذاته وبالنسبة للآخرين وبالنسبة للحياة بشكل عام. هكذا وقع في براثن ما يمكن تسميته بالاكتئاب المديني، فالاكتئاب بطبيعته مرتبط بالضغوط، والضغوط تفاقمت مع الحداثة، ومع زيادة المطالب الاستهلاكية للبشر، مع المظاهر والسطح والبريق والاستعراض.

ويتفاقم شعوره بالغربة هذا حتى بعد أن دخل إلى المصحة، يشعر بأنه غريب في مكان غريب بين أناس غرباء. ويزداد شعوره بالغربة والاغتراب مع تذكره لتاريخ عائلته لأبيه الذي دفن في مقابر الصدقة بالمنصورة، وكذلك جدته وأمه على الرغم من وجود مقابر لهم في المنصورة، ولتصوره أنه سيدفن أيضًا غريبًا في مقبرة خاصة به على طريق الواحات بمدينة 6 أكتوبر.

يصف حسين في هذه الرواية نوبات الاكتئاب العنيفة التي تهاجمه، وغالبًا ما تبدأ معه مصحوبة بشعور متزايد بالضجر مع صدور تأوهات عالية يسمعها من يحيط به، وكذلك كيف أنها تأتي إليه فجأة حتى لو كان موجودًا وسط جمهور غفير من البشر كتلك النوبة التي هاجمته حينما كان موجودًا في المسرح الكبير في الأوبرا في مؤتمر ملتقى الرواية ذات عام. أما ما بعد النوبات، فهناك شعور عام بالضجر أيضًا والإحباط والعجز إلى حد الاقتراب من الانتحار، مع فقدان للشهية الخاصة بالطعام والحب وكل شيء.

وفي الرواية وصف لطقوس الاستيقاظ والنوم وتناول الطعام والدواء ومشاهدة التلفزيون والزيارات في مصحة الكوثر، ووصف كذلك لتحول الناس الراشدين الناضجين إلى حالة تشبه الأطفال في كلامهم وسلوكهم واستسلامهم لقدرهم، في الكوثر هناك صغار وكبار، رجال ونساء، مسلمون ومسيحيون، أدباء ومحامون وضباط شرطة ومستشارون، وأساتذة جامعات ومديرو شركات وموظفون، الفئات والأعمار والمستويات كافة، وكأن الكوثر هنا مجتمع صغير فيه انطوى المجتمع الأكبر، أو كأنها مرآة ينعكس فيها حالة مجتمع يقف كله على حافة الكوثر أو حافة المرض والاكتئاب والانهيار، في المستشفى ذهانيون فصاميون وعصابيون وسواسيون واكتئابيون، وهناك أيضًا ضحايا حالات جرائم غامضة يشار إليها عبر الرواية على نحو صريح حينًا، وعلى نحو غامض خفي سريع أحيانًا أخرى.

غياب عن الوجود

يصف حسين حالته في الكوثر فيقول: «الأيام هنا مملة، ومع ذلك أحن إليها، وعندي ما يشبه اليقين أنني سأستعيدها يومًا، وإنني حتمًا سأعود إلى الكوثر، وقد يطول بي المقام فيها، مقارنة بالمرات السابقة». في الرواية سرد لأحلام حسين، أحلامه في حالات اليقظة، وأحلامه في حالات النوم يقول: «أحلم نائمًا ومستيقظًا» ويقول أيضًا: «الحلم هو بداية كل شيء عندي» وتصوير للاكتئاب على أنه نوع من الغياب، غياب عن الوجود وعن الوطن وعن الإحساس، بل عن الواقع الافتراضي أيضًا، غياب بالأدوية، أو بالوجود في مستشفى، أو في عالم النت الافتراضي، أو بالهجرة خارج الوطن وإشارات إلى الاكتئاب بأنه «لئيم لا تعرف متى يهاجمك، وعلى أي درجة من الضراوة سيكون، وإلى أي مصير يمكن أن يدفعك». وإشارات أيضًا إلى حالات المبدعين والفنانين الذين أصابهم الاكتئاب وانتحروا؛ صلاح جاهين، وسعاد حسني، وداليدا… إلخ.

في الرواية رصد للأحداث الكبرى في مصر منذ عام 1963م (تاريخ ميلاد السارد والكاتب) حتى تفجيرات المنصورة وثورة 30 يونيو 2014م، وهزيمة 1967م، وحرب أكتوبر 1973م، واغتيال السادات 1980م، وثورة 25 يناير 2011م. هكذا حتى الآن في الرواية تأكيد على قيمة الصداقة والتواصل حتى لو كان ذلك مع صديق واحد غائب أو افتراضي، وتأكيد كذلك على قيمة الكتابة والإبداع كوسيلة وأداة مواجهة للكآبة والاكتئاب والحزن بمصادرهم الخاصة والعامة أيضًا.

جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب

جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب

يعتمد ديوان «إنجيل الثورة وقرآنها – إصحاح الثورة» (المجلس الأعلى للثقافة) للشاعر المصري حسن طلب، على جدل السياسي والجمالي، وعبر جدلهما الخلاق تتشكل البنى المركزية للديوان، وتتحقق سمات خطابه الثوري، حيث يعتمد الديوان في بنيته على ثيمتين مركزيتين هما: الحب، والحرية، يتصلان اتصالًا وثيقًا بجوهر الشعر والثورة في الآن نفسه، ويعبران عن المنحيين الأساسيين داخل القصائد: (المنحى الرومانتيكي، والمنحى الواقعي) كما تبدو الإحالة إلى وقائع حقيقية، وأحداث زمانية ومكانية محددة: «جمعة الغضب – جمعة الرحيل 2011م»، من أهم الآليات الجمالية التي يعتمدها الشاعر في نصه، فضلًا عن الاعتماد على دوالّ مركزية في النص ومنحها أبعادًا جديدة تتجاوز أفقها المادي لتصل إلى فضاءات نفسية وإنسانية، على نحو ما يصنع الشاعر مع مفردته الأثيرة في الديوان «الميدان»، في ديوان شعري بدا مسكونًا بالتوظيف الدالّ للصيغ الأسلوبية ذات الطابع الإنشائي، والصور البلاغية التي تجدل ما بين المتخيَّل والواقعيّ، وتتماسّ مع المقدَّس تارةً، والأسطورة تارةً أخرى، مستخدِمة ذلك جميعه في التعبير الفني والدلالي عن الثورة، وتسعى هذه الدراسة إلى استجلاء جماليات النص الشعري التي وظفها الشاعر في التعبير عن موضوعه المركزي هنا «الثورة».

للديوان فواتح وخواتيم، حيث يستهله الشاعر «باسم الحب والحرية»، وينهيه بعزمه على وصال المحبوبة في قصيدته «سآتيك»، وما بينهما جملة من النصوص الشعرية التي تطرح حالة ثورية بامتياز، فتتخذ أحيانًا أسماء لوقائع زمانية فارقة، على نحو ما نرى في العناوين التالية: «يرحب الميدان»، و«جمعة الغضب»، و«جمعة الرحيل»، أو تتخذ نزوعًا ساخرًا على نحو ما نرى في: «قلة مندسّة»، و«حكماء الأمة»، أو تنحو عناوين القصائد صوب إقرار حالة ما، على نحو ما نرى في: «ترفرف الرايات»، و«يزداد العدد»، و«يختلف الهتاف»، و«تمرض الثورة»، أو تنحو صوب الفانتازيا مثلما نرى في قصيدتي: «على أجنحة الفراشة» و«تظهر إيزيس»، أو تحيل إلى تلك الثقة في المستقبل: «غدًا سنرى»، أو إجمالًا لمشهد عام: «تلك هي القصة»، وفي كل تتحرك نصوص الديوان بوصفها تعبيرًا جماليًّا عن الثورة المصرية في لحظاتها المختلفة، وتحولاتها المتعددة في مرحلة مفصلية من عمرها، يحددها الشاعر حين يضع بين يدي ديوانه ذلك الزمن المرجع، ويحدده بقوله: «كتبت قصائد (إصحاح الثورة) في المدة ما بين يناير 2011م إلى يناير 2012م»، ويعد التحديد الزمني هنا حاكمًا لقراءة النصوص محلّ الدراسة من جهة، وكاشفًا عن سياقاتها السياسية الثقافية من جهة ثانية.

يتشكل الديوان من ثلاث وثلاثين قصيدة شعرية، تتفاوت فيما بينها في الطول والقصر تبعًا للحالة الشعورية التي يريد الشاعر أن يبثها إلى متلقيه، حيث تبدو القصائد الساعية صوب تشكيل عالم يمزج بين الثوري والرومانتيكي طويلة نسبيًّا على نحو ما نرى في القصيدة الأخيرة في الديوان «سآتيك»، كما تبدو القصائد التي ترصد مشهدًا بعينه من مشاهد الثورة أو حدثًا محددًا من حوادثها الفارقة قصيرة نسبيًّا على نحو ما نرى في قصيدتي: «جمعة الغضب»، و«جمعة الرحيل». يبرز في الديوان جدل الشعر والثورة، حيث يعد الديوان بقصائده جميعها تأريخًا للحظات مختلفة مرت بها الثورة المصرية، أو عطفًا على مشاهد حياتية مرت بها الجموع التي تحضر هنا بوصفها مجلى للعالم، وتكريسًا لعلاقة الذات الشاعرة بالسياق السياسي الثقافي المحيط. يتجادل السياسي والجمالي في «باسم الحب والحرية»، ويحضر الميدان منذ المفتتح، ويبدو الاستهلال الشعري ابنًا لصيغة حكائية، يتبناها الشاعر في نصه، حيث يقول: «منذُ أَنْ أشرقتِ الحريةُ اليومَ/ بِزِيّ امرأةٍ ريانةِ القدّ/ وميادتِهِ!/ أصبحَ الميدانُ بستانًا/ وضاعَ العطرُ ألوانًا/ وغنّى طائرُ الحُبّ لصيادتِهِ!». ويعمق الشاعر بنيته الحكائية عبر توظيفه لفعل القول «قالت»، في إشارة منه إلى «الحرية» التي تتماهى في القصيدة مع الميدان، فيقول: «قالتْ: / بابُ بيتِي أصبحَ الميدانَ»، بعد أن قدمت إليه كعروس بكر، في استعمال دالّ للاستعارة المكنية في النص: «فتهادتْ كالعروسِ البكرِ../ مِن سَلّتِها ألقتْ على الثوارِ/ نثرا مِن زهورِ النارِ».

وتتواتر الصيغ الإنشائية في القصيدة، مثل: «فأجيبوه/ اهتفوا/ وانسوا/ فاهتفوا باسمي»، وبما يفضي إلى مزيد من الحث لجمهرة المتلقين، الذين يسعى الشاعر لأن يقفوا على حافة الفعل، مثلما وقف المشاركون في الثورة في قلب الميدان. ويبدو المزج دالًّا ما بين ثيمتي الحب والحرية في النص، وبخاصة في المقطع الأخير الذي يستعير فيه الشاعر جزءًا من إرثه الشعري القديم، حين يستحضر في متنه الشعري كلًّا من قيس ليلى، وابن زيدون، وبما يعني أيضًا انفتاح النص على جملة من الدلالات التي يستدعيها ميراث الشعر والحب والتضحية أيضًا التي يمكن تلمُّسها في نصوص وحكايات العاشقين: قيس وليلى، وابن زيدون ووَلَّادة: «فاهتفُوا باسمِي/ وباسمِ الحُبّ: كي لا يُحرَمَ الشاعرُ مِن غادتِهِ/ فَتُرى مَن غَيرُهُ يُنشدُكُم/ أروعَ مما قالهُ قيسٌ لِلَيلَى/ وابنُ زيدونَ لولَّادتِهِ».

التاريخ المباشر للحدث

ويلجأ الشاعر في تثوير خطابه الشعري إلى الاتكاء على التأريخ المباشر للحدث، والنصية على زمان حدوثه، مثل قوله: «كانَ ثلاثاءُ الخامسِ والعشرينَ/ مِنَ الشهرِ الأولِ../ ميعاد الصحوهْ. فقصدنَا الميدانَ../ كأنّ ملائكةَ الرحمانِ تُحالفُنا/ وطيوفُ إلهاتِ الحبّ../ تُصادفُنا/ فتفيضُ عواطفُنا/ بوميضِ النخوهْ!». وتتواتر الدوالّ الزمانية في الديوان، في محاولة فنية لرصد الواقع السياسي بتجلياته المختلفة، على نحو ما نرى في الاستهلال الشعري لقصيدة «كان كذلك»، التي يستهلها الشاعر قائلًا: «أمسينَا: / قدْ غلبَ القهرُ/ وأصبحنا: قد نفِدَ الصبرُ!». كما يلجأ الشاعر أحيانًا إلى معارضة الموروث، ومحاولة صوغ وعي جديد يتسق والفعل الثوري ذاته، بما يحويه من وعي وجسارة حقيقيين، فالعبارة الشهيرة: «دع المُلك للمالِك» يعارضها الشاعر في نصه، بقوله: «لن نَدَعَ المُلك»، ثم يحوّر العبارة ذاتها، ويصوغها على نحو مختلف، واصلًا لمعنى عميق وجديد في الآن نفسه، موظفًا الجناس التام في جملته الشعرية: «لن ندعَ المُلك ولا المالِك»، حيث تُغايِر دلالةُ «المالِك» في النص الشعري هنا دلالتها في الوجدان الجمعي، ويصير المالك هنا بمعنى الحاكم، ومن ثَم لن يترك المصريون لا المُلك أي الحُكم، ولا المالِك أي الحاكم، وبخاصة مع انفتاح النص على أفق تأويلي شفيف: «كذلكَ كانَ الأمرُ.. فقلنَا: لا…/ لن ندعَ المُلكَ ولا المالكَ! كانَ الأمرُ كذلكَ../ أشعلنا ثورتَنَا/ ثم هتفنَا/ فتوهجتِ الجَذوةْ».

ويحضر الشعار السياسي بقوة في الديوان، ويعد أحد الآليات التي اعتمدها الشاعر في التعبير الجمالي عن الثورة، ويمكن أن نرى ذلك في مقاطع عديدة من النص، من أبرزها، قول الشاعر: «العدالةُ دينُنَا/ حريةُ الإنسانِ – أيًّا كانَ- غايتُنا/ وباسمِ كرامةِ المصريّ/ كانَ هتافُنَا/ وضميرُنا القائدْ!». في «إصحاح الثورة» نرى تماهيًا بين الميدان والمجموع، فيقدم الشاعر الميدان بوصفه مثل ثواره ينشد الحرية، ويطلب العدل والكرامة، موظفًا الصورة التشبيهية البلاغية توظيفًا دالًّا، فيقول: «كأنّهُ كانَ يعانِي مثلَنا!/ كأنهَ أحسّ ما نُحِسّهُ/ أو وجدَ الذي نجدْ». ويصبح «الميدان» بمنزلة الدال المركزي في الديوان، ليس فقط لتواتر حضوره في المتن الشعري للقصائد المختلفة، وإنما لمدلولاته الثرية التي يحملها ويحيل إليها من مقولات كبرى تتصل اتصالًا وثيقًا بمعاني الحرية وإنسانية الإنسان، وإمكانية تحويل العالم الافتراضي المتخيل الساكن خلف شاشات الكمبيوتر إلى عالم واقعي بامتياز، وهذا ما نجده وفق شاهد نصي من الديوان ذاته: «فنحنُ لولا ذلكَ الميدانُ/ كنا لا نزالُ نلتقِي/ عبرَ الجهازِ وحدَهُ/ نحتلُّ حيزَ الفضاءِ الافتراضي/ وراءَ الشاشةْ».

وتتحقق آليات تثوير الخطاب الشعري هنا عبر الإحالة إلى أحداث حقيقية في الواقع المعيش، ثم صوغها جماليًّا، على نحو ما رأينا في قصيدة: «ضابط يثور»، التي يشير فيها إلى التحية العسكرية التي قدمها أحد قادة المجلس العسكري للشهداء (المقصود هنا اللواء محسن الفنجري الذي قدم التحية العسكرية للشهداء في مشهد مهيب أذاعته القنوات المصرية والعالمية المختلفة)، في إشارة بالغة الدلالة تحيل إلى التلاحم الحقيقي بين الشعب المصري وجيشه الباسل: «إذ أدّى لروح ِالشهداءِ أروعَ الأداءِ/ بالتحيةْ». ويتحقق تثوير الخطاب الشعري أيضا عبر لجوء الشاعر إلى التنويع في الأساليب اللغوية المستخدمة، وما بين توظيف الصيغ الخبرية التي تفيد حالًا من الإقرار واليقين بانتصار الثورة، والصيغ الإنشائية التي تتواتر في النصوص جميعها؛ لأنها ترصد لحظات مرتبكة ومتحولة ومسكونة بالهواجس والأماني والغايات الكبرى، ومن ثَم سنجد حضورًا دالًّا لأسلوب النداء في مقاطع عديدة، من أبرزها الاستهلال الشعري الذي يفتتح به الشاعر قصيدته «يزداد العدد»، حيث يبدو اللجوء إلى المجموع طريقًا للخلاص: «يا أهلَنَا/ لا تتركونا وحدَنَا/ لا بد مِن أنْ نحتشدْ/ لو اجتمعنا كلنا/ فلن يردنا أحدْ/ لا تتركونا نكتب التاريخ وحدنا/ فأنتم المداد والمددْ/ يا أهلنا/ لا بدَّ مِن أن نتحدْ». ويكشف النداء في المقطع السابق عن رغبة في الاحتماء بالمجموع، من جهة، ووعي بالدور الفاعل للمثقف صوب ناسه من جهة ثانية، كما نرى حضورًا للجناس الناقص بين «المداد والمدد»، وتسهم الصورة الشعرية هنا في تعميق الرؤية الكلية التي يحملها المقطع، وتلعب الصورة التشبيهية «فأنتم المداد والمدد»، دورًا مركزيًّا في هذا السياق؛ إذ تجعل من دعم المجموع حبرًا يُكتَب به النصر، وعونًا في الشدائد جميعها.

ومثلما يبدأ الشاعر قصيدته «ويزداد العدد» بالنداء: «يا أهلَنَا»، فإنه يُنهيها به أيضًا، في توظيف دالّ لآلية البناء الدائريّ، حيث يبدأ النص من نقطة ما، ثم يعود إليها في المُختَتَم، فيصبح النداء في النهاية بمنزلة الشحنة الشعورية والانفعالية التي يريد الشاعر أن يبثها في متلقيه، دافعًا إياه إلى مزيد من المقاومة، وبخاصة حين يكسر أفق التوقع لدى قارئه في ختام القصيدة، قائلًا: «يا أهلنا/ لا تحزنوا مِن أجلنا/ كل شهيد قد فقدناهُ: / إضافةٌ!/ يحدث في ملحمة/ أن ينقصَ المعدود أحيانًا/ فيزداد العددْ». ويصبح هذا التنويع الأسلوبي سمةً من أهم سمات الديوان، وأداة من أدوات التعبير الجمالي عن الثورة داخله، وإن ظلت الصيغ الإنشائية مهيمنةً على النص، ومشكلة ما يعرف بالمستوى المسيطر داخل الديوان، حيث نرى أيضًا توظيفًا لصيغة التعجب الثانية، وأعني بها صيغة «أَجمِل بِـ» التي لا تستخدم كثيرًا في الحياة والكتابة، وتغاير في بنيتها صيغة «ما أَجملَ»، ويوظف الشاعر السياق التعجبيّ في مستهلّ قصيدته «مدينة فاضلة»، مقترنًا بامتداح الميدان، القادر على إثارة الدهشة والأسئلة طيلةَ الديوان، فيقول: «أَعجِب بذلك الكيانْ!/ أَحبِب بكائن وليدٍ/ جلّ أن يسمى/ أَعجِب بتلك الكتلة العظمى/ صارت بحيث انصهرتْ/ جبلة الإنسان والمكانِ/ ما أعجبنا ونحن في الميدانْ!».

الانتصار للقيم الفلسفية الكبرى

حسن طلب

ثمة شخصية متخيَّلة «شهد»، يستدعيها الشاعر في متن ديوانه، فتحضر على نحو بارز في القصائد المركزية التالية: «جمعة الغضب/ مجنون شهد/ جمعة الرحيل/ سآتيك»، ويقدم الشاعر «شهد» بوصفها الحبيبة تارة، وشريكة النضال تارة أخرى، والشاهدة الغائبة تارة ثالثة، والدافعة صوب الانتصار للقيم الفلسفية الكبرى: الحق/ الخير/ الجمال تارة رابعة، وفي كلٍّ تقترن شهد بالثورة، وتعد وجهًا من وجوهها الأصيلة والنبيلة في الآن نفسه، وتنويعة جديدة على متن الجدل الخلاق بين الحب والحرية، وهما الثيمتان المركزيتان في الديوان، واللتان تمتزجان في معظم قصائده. وعبر تقديم الشاعر لشخصيته المركزية في الديوان «شهد» تتكشف لنا جملة من الدلالات المهمة، ففي «جمعة الغضب» يبدو الشاعر خائفًا على محبوبته التي يقدمها بوصفها شخصية متماهية مع المجموع الصامت الذي خشي عليه الشاعر من أن ينخدع بخطبة جوفاء، أو دمعة زائفة، ويحضر النداء بوصفه خيارًا أسلوبيًّا يوظفه الكاتب دلاليًّا وجماليًّا على نحو مائز: «يا شهدُ../ يا صاحبةَ الوجهِ الصبوحِ الحرِّ/ والروحِ النزيهْ/ اليوم جمعة الغضبْ/ فإن بكى الطاغية الآنَ../ فلا تصدقيهْ/ وفتّشي عن السببْ/ دمعان لا تصدقيهما: فلا دمع التماسيحِ/ إذا سالَ../ ولا دمع الطغاة المنسكبْ/ قد يرتدي الطاغية اليومَ/ عباءة الفقيهْ/ قد يختفي/ خلف قناع البطل المأزومِ/ كي لا ينسحبْ!».

وفي «مجنون شهد» تحضر «شهد» من جديد، لكن على نحو مغاير، حيث باتت حاضرة في مشهد الثورة بطريقة أو بأخرى، فالذات الشاعرة تستفسر عن سر تأخُّرها، وكأنها قد استجابت لنداء الشاعر في «جمعة الغضب» حين ناداها طالبًا منها المجيء، وبما يعني أن ثمة تماسَّات رؤيوية ما بين نصوص الديوان المختلفة: «لم أرَ «شهد» أمس في الميدانِ../ واليوم مضى بي النهار كلهُ/ لم أرها!/ فما الذي ترى عن الثورة/ قد أخرها؟/ في ساحة الميدان كانوا يهتفونَ/ (يسقط النظامُ)/ لكن هتافي كانَ: (يسقط الفراقُ!)/ والرفاق يضحكونَ!/ لو رفيقٌ/ كان كلما هتفت باسمها/ أخبرها!/ فالهاتف المحمول مغلقٌ/ وذلك الميدان ضيقٌ/ أما الجماهير فما أغفرها!». إنه عاشق مختلف حقًّا، يبحث عن محبوبته، ويعاني أثر الفراق، فلم يعد ينهل من حبها المتجدد، الذي أحاله إلى مجنون جديد يضاف إلى جملة العشاق في تاريخ ثقافتنا العربية، وفي تماسّ بالغ الدلالة مع الوجدان الشعبي، الذي عرف «مجنون ليلى» على سبيل المثال، وها هو الآن يقف أمام «مجنون شهد»، الذي يرفع راية الثورة بيد، بينما يمسك باليد الأخرى عشقه، بما يعني أن التواشج الدالّ بين ثيمتي الحرية والحب يعد الأساس الذي اعتمدت عليه الرؤية الكلية للديوان.

مشاهدات‭ ‬حية‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الفعل‭ ‬الشعري

تحضر «شهد» في قصيدة «جمعة الرحيل» من زاوية مختلفة عن تلك التي وجدناها في «جمعة الغضب»، حيث يختفي الظل الرومانتيكي نسبيًّا، وتبدأ القصيدة بدعوة مباشرة من الذات الشاعرة لشخصيتها المتخيلة «شهد» كي تشهد جمعة الرحيل، وتصبح الدعوة مشفوعة بوعي الذي اقترب فرأى، ومن ثَم تبدو الرؤية الشعرية في النص رؤيةً من الداخل، فالشاعر يقدم لنا مشاهداته الحية، وينقل لنا ما يدور في مكان الفعل الشعري «الميدان»، وتحضر «شهد» أيضًا في القصيدة الأخيرة من الديوان، التي تحتل حيزًا كميًّا من المتن الشعري للديوان أكبر من القصائد الأخرى، حيث تقع في ست عشرة صفحة، وتصبح فيها «شهد» مرويًّا له في القصيدة، حيث تتوجه الذات الشاعرة بخطابها إليها، ومن خلفها جمهرة المتلقين على تنويعاتهم، وتبدو القصيدة رصدًا فنيًّا مجملًا لمشاهد من الثورة المصرية ذاتها، فضلًا عن إشارات ذكية ذات طابع استشرافي للمصاعب التي ستواجهها: «سآتيكِ/ إلا إذا ما سماسرة الدِّينِ/ خانوا اليمينَ/ فهاجوا وماجوا علينا/ على المؤمنات بحتمية الدولة المدنيةِ/ والمؤمنينَ!/ أتوا بالسيوفِ../ أتوا بالعصي../ وعاجوا على المتحف الفرعوني.. في طرف ميداننا/ ثم أهووا على ما رأوا من تماثيلِهِ/ بالمعاولْ!/ فضاع تراث القرونِ/ وبادت كنور الأوائلْ».

وتبدو دلالة المستقبل التي يحملها حرف السين في الفعل «سآتيكِ»، إشارة إلى وعد مسكون بالثقة قطعته الذات الشاعرة على نفسها، مفاده أنه مهما كانت التحديات، ومهما حال حائل، فإنها لن تتأخر عن الذهاب إلى «شهد» ووصالها، فتتجادل الثيمتان المركزيتان في الديوان من جديد: «الحرية والحب»، وتشكلان عبر جدلهما الخلاق أساسًا للنص الشعري الثائر الذي يحمله الديوان، ويرفده الشاعر بعناصر واقعية وأخرى رومانتيكية، والأهم أنه يظل خطابا منفتحا على أسئلة الشعر والثورة معا، خاصة مع تقاطع التسجيلي والتخييلي في متنه: «هل تنجح الثورةُ؟/ هل تصمد كي تكتمل الدورةُ؟/ واليوم ستأتي «شهدُ»؟/ أم تأتي غدًا؟/ أسئلةٌ تترى.. وما أكثرها!/ كيف استطاع العاشق الثوريُّ/ أن يجمع بين العشق والثورةِ!». يستخدم الشاعر آلية التناص في أكثر من موضع داخل الديوان، فتارة يستخدم التناص الأسطوري مثلما يفعل في قصيدته «وتظهر إيزيس»، والتي يستعيد فيها الأسطورة الفرعونية القديمة، بكل ما تحمله من حمولات معرفية ودلالية، وتارة يوظف الشاعر التناص القرآني، ليصبح في مواضع عديدة أحد أهم آليات التعبير الجمالي عن الثورة في الديوان، حيث يبدأ ديوانه بما أسماه «فاتحة»، ويقول في موضع آخر: «ما ينفع الناس – كما قيل لكم- / يمكث في الميدانِ../ حيث يذهب الزبد!».

ويتناص الشاعر في المقطع السابق مع الآية القرآنية الكريمة: ﴿ فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ﴾ (سورة الرعد، الآية 17)، ولكنه يجعل من «الميدان» أداة معيارية للحكم على ما ينفع الناس، وعلى الزبد في الآن نفسه، وكأن الميدان خط فاصل بين عالمين: أحدهما نافع، والآخر لا قيمة له. وبعد.. يعتمد الخطاب الشعري في «إنجيل الثورة وقرآنها/ إصحاح الثورة» على جدل التسجيلي والتخييلي، فعبر تقاطع الوقائع والأحداث الحقيقية المختلفة وتداخلها مع مساحات الحلم والفنتازيا تتحقق شعرية النص، وتبرز الإحالة إلى الراهن المعيش بأبعاده الزمانية والمكانية الدالة على الثورة، ثم محاولة صنع عالم تخييلي أساسه الصورة الشعرية وجوهره في آن.

شعرية التأمل الوجودي في «خرز الوقت» لعلي الدميني

شعرية التأمل الوجودي في «خرز الوقت» لعلي الدميني

يأتي ديوان «خرز الوقت» أحدث دواوين الشاعر السعودي علي الدميني، ليستأنف خطابًا جماليًّا لدى شاعر يبدو الشعر عنده سؤالًا وجوديًّا، تطرحه القصيدة من خلال مسعى الذات إلى تقديم رؤية للعالم، عبر فاعلية التأمل الوجودي الذي تمارسه القصيدة في معاينتها العالم الذي يبدو موضع تساؤل دائم كموضوع للذات التي تتدبر دائمًا أحوال هذا العالم وتحولاته. تبرز في الخطاب الشعري لعلي الدميني الذات التي يبدو صوتها واضحًا وجليًّا في تعبيرها عن وحدتها، وإعلانها عن عزلتها الوجودية الغالبة في تفاقُم اغتراباتها، لتمسي الذات نفسها موضوعًا لتأملها؛ فالأنا – لدى علي الدميني – تُحَدِّق في مراياها باستمرار بحثًا عن ذاتها، في ضياع سائد يُفاقِم قلقها الوجودي.

ماهية الوقت

من عنوان الديوان «خرز الوقت» تتبدى لنا رهافة الذات، وحساسية وعيها في تعاطي الوقت بإدراك تكويناته التمفصلية، وبنيته الوحدوية؛ لأنّ الوقت هو التمظهُر الدقيق والتجزئي للزمن، وهو ما يُبرِز أرق الوعي الشقي للذات بالزمن، فتقول الذات الشاعرة في قصيدة «خرز الوقت»:

خرز-الوقتللوقت رائحةُ القطار

ورعشة المرآة لامرأةٍ تزيّن صدرها بسحابةٍ عطشى،

وأغصانٍ من الولعِ المعذَّب بالغناءِ،

وللثواني

مثلُ رائحةِ الطفولة في الحقائب،

رنّة الأجراس في عنق الحصانِ،

وصوتُ وثبتهِ الأخيرة.

تعمل الذات على صناعة تَمثُّلات للوقت تُحيله من معطى مجرد إلى صور مادية، وتجسيدات ملموسة تكون بمثابة تجليات له على مرايا الوعي، كرائحة القطار بما يحمله القطار كعلامة دالة على الرحيل في المكان والزمان، وهو كرعشة المرآة بما تحمله المرآة من دلالة معاينة الذات لأناها، وقد يكون لقرينها في الآن، ثم يبدو الوقت كأغصان الولع المعذَّب بالغناء، وهو ما يعكس تَبطُّن الصورة بمشاعر الذات التي تصبغ الأشياء بها. وفيما يتبدى من الصياغة التصويرية لعلي الدميني تشجُّر الصورة؛ إذ يورق المشبَّه فروعًا للمُشبَّه به، كذلك أحيانًا ما تقوم الصياغة الفنية بعملية قلب على عكس البنية التركيبية التقليدية للتصوير وذلك بتقديم المشبَّه به كما في (للثواني) على المشبَّه (رائحةِ الطفولة في الحقائب، رنّة الأجراس في عنق الحصانِ) وفي هذه الحالة يُمكن أن يتبادل المشبَّه والمشبَّه به أدوارهما، وهو ما يخلق مراوحة تصويرية، ويجعل للصورة إيقاعًا دافقًا.

وفي تَمثُّل الذات الشاعرة للوقت لدى الدميني يبدو أنّ ثمة وشيجةً ما بينه والأحزان، كأنّ تفكُّر الذات في الوقت هو ما يؤجج شجون الذات ويبعث أحزانها:

الوقت نافذة على الأحزان

ثوبٌ من رماد العمر،

وجهٌ من أساور عزفِ شاعرة على ماء الكلامِ،

ورقصةُ التانغو،

وعودةُ بعض جُنْد الحربِ في التابوتِ،

كان الوقت مبتسمًا لأسرى في معارك لم يخوضوها،

ومنتشيًا بصوت القائد الحربيِّ في جيش تخلّى عن بنادقهِ،

وأنتَ تُطلّ مكسورًا على الشُّبّاكِ،

تقرأ عن جنون الطير في ملهاة «سيرفانتس»

علي الدميني

علي الدميني

ما الذي يجعل الوقت نافذة على الأحزان؟ هل هو شعور الذات بالفقد وتبدد العمر كالرماد؟ وما علاقة هذا الإحساس بالحزن المتفاقِم بعزف شاعرة على ماء الكلام؟ وكأنّ شعور الذات بالحزن وتبدد العمر بأثر عزف شاعرة. فيما هو بادٍ أنّ الذات تتمثل الوقت إيقاعًا متنوعًا في عديد من الحركات والصور كعزف الشاعرة على ماء الكلام، ورقصة التانغو، وعودة بعض جند الحرب في التابوت، إيقاعات متفاوتة بين النشوة والحزن، وإن كان الحزن هو الغالب، حتى ما قد تبدى من نشوة فهي نشوة زائفة لقائد حربي في جيش تخلى عن بنادقه. إحساسٌ عارم بالفقد، وشعورٌ طاغٍ بالهزيمة يساكن الذات إزاء الوقت.

وكما يبدو من استعمال الصوت الشعري لضمير المخاطب أنّ الذات في تحديقها في مرايا الوقت، إنّما هي في حالة انشطار تعاين من خلاله الذاتُ ظلَّها أو قرينَها الشبحي الذي يطل مكسورًا من الشباك. وكما هو بادٍ فإنّ مفردات كالنافذة والشباك تتردد بشكل لافت في تَمثُّل الذات للوقت، على رغم أنّها علامات مكانية بالأساس. وهو ما يعني ليس تمكينًا للزمن؛ أي جعل الزمن ذا أبعاد وعينات مكانية فحسب، إنّما يعكس كذلك إحساسًا ما لدى الذات بحاجة إلى الانفتاح على الخارج، غير أنّ هذا الخارج الذي تتوق الذات لمعاينته لا تجني منه غير الأحزان والانكسار. ولكأنّ الذات تتلبسها روحٌ «دون كيشوتية» في مواجهة رياح أقدارها العاتية ومصيرها غير الموات.

وفي وعي الذات بالوقت، يتبدى أنّ الليل هو الغالب والأكثر هيمنة على مشاهد العالَم، فيقول علي الدميني:

تحت شمسٍ ترتِّبُ أغصانها للمنامْ

يقفُ الليلُ مشتملًا بعباءتهِ، قربَ وقتي

ويكسِرُ بين يديهِ مجازَ اللغاتْ.

أمدُّ يديَّ إلى ظلّهِ

فيبارحني

ناشرًا ريشَهُ في أقاصي الجهاتْ

بلا راية للوداعِ

ولا وردةٍ للعتاب الأخيرْ!

يتجلى ميل الذات الشاعرة للنهار والشمس في استعارتها المجازية للشمس بأنها «ترتب أغصانها» لتمسي كشجرة في استعذاب الذات للشمس، في حين يبدو الليل هو المرابض قربَ وقت الذات، ما يكشف عن ذاتية ونفسانية هذا الوقت الذي تعيشه الذات وتعاينه، وهو ما يبرز في فعل هذا الوقت الليلي بكسر مجازات اللغات في إشارة لسطوته، كما يتبدى عدم سيطرة الذات على ذلك الوقت الليلي على رغم كونه نفسيًّا حتى إنّه يبدو منتشرًا ومهيمنًا في أقاصي الجهات، وكأنّ إحساس الذات بالليل يفيض منسكبًا على الوجود متسيدًا فضاءاته.

مراوحات المكان

البادي على الذات التي ترمق العالم بعيني التأمل ونظرات الاندهاش في شعر علي الدميني، هو توترها وقلقها بالمكان، والبادي على أمكنة علي الدميني أنّها مشحونة بوجع الذكرى ورائحة الفقد، وهو ما يجعل الذات غير مستقرة بالمكان الذي تعاين فيه الفقد والغياب، وتحسّ في ثناياه بالوحدة، فيقول الدميني:

خارجَ البيتِ، يفتحُ أغنيةً

لتلالٍ من الوجدِ تطرق باب المدينةِ،

عارية كاللغات

وحارقة كرحيق المدام.

(…)

داخل البيت، يطفئُ أغنيةً نائمةْ

عن نديمٍ توارى كطير بعيدٍ

ويرقد منزويًا

في السرير الذي يشبهُ المقبرةْ!

يتأسس الخطاب الشعري المتمركز حول (البيت) كبؤرة مركزية للمكان، كما أنّه قد يكون استعارة عن الذات نفسها، والـ(أغنية) كبؤرة مركزية أخرى لفعل الذات في الوجود، على مصفوفة من المتقابلات: الخارج/ الداخل، يفتح/ يُطفئ، ما يُغذِّي التوتر الدرامي للقصيدة النابضة بإيقاع نفسي مضطرب للذات، وسواء في الخارج أو الداخل، فلا ينال الذات إلا الوجد والفقد، بتواري النديم والرقاد والانزواء فيما يشبه الموات الذي تحسُّه الذات في الأشياء وموضوعات عالمها. ونلحظ أن مفردة الغناء ترد بشكل مستمر في خطاب الدميني الشعري، رُبما بفعل وعي إبداعي مسكون بموروث شفاهي يعتقد بالأثر الغنائي للشعر وتداوله.

تُنَوِّع الذات الشاعرة في استعمالات الضمائر التي تتكلم عبرها الذات بين المتكلم والمخاطب والغائب كما في هذه القصيدة، وكأنّ الذات تعاين نفسها من على مبعدة ما يُتيح لها تأمل أحوالها المتَقَلِّبة، هذا التنوع الضمائري في الإشارة  للمضمر نفسه بغير ضمير يبرز تعدد زوايا رؤية الذات نفسها كما يُنعِش إيقاع القصيد.

لغة الشاعر

مراوحات-المكانتبدو الذات الشاعرة في خطاب علي الدميني شديدة الحساسية تجاه لغتها، وكأنّ عين الذات على اللغة في استيعابها الأشياء، واحتوائها عناصر العالم، وتعبيرها عن الوجود، وتمثيلها الجمالي له شديدة الانتباه والتبصر، فيقول الدميني في قصيدته «تمثال الماء»:

الماءُ

هل كان الكلامُ يجيد وصفَ الماءِ،

حين يفرُّ من معناه،

عريانًا، نحيلًا، دونما صفةٍ،

ولا لُغَةٍ، ولا أسماءْ؟

إذا كان عنوان القصيدة «تمثال الماء» يحمل نوعًا مما يُمكن أن نصفه بـ«التنافر الضدّي» بين عنصري التركيب، فالتمثال أبرز ما يَسِمه هو الصلابة والجمود، في حين أنّ الماء يوسم بالانسيال والانسيابية، وهو ما يكون مضادًّا لصلابة التمثال؛ فإنّ ذلك يبرز فاعلية الشعر وعمل المجاز استثمارًا لما تتيحه رخصة «الكذب الجمالي» التي تبرز شيئًا من الحس السوريالي الذي يُغلِّف وعي الذات الشاعرة بموضوعات العالم.

وفي تَمثُّل علاقة (الكلام) الذي هو فعل الذات باستعمالاتها اللغوية إزاء (الماء) الذي هو موضوع العالم الذي تسعى الذات لإدراكه بفعل (الوصف)، يبدو هذا (الماء) عصيًّا على الوصف، يفرّ من معناه، بلا صفة أو لغة أو أسماء، في شعور ذاتي بانبهام موضوعات العالم وأشيائه، وهو ما يفجِّر تساؤلًا حول علاقة اللغة بالعالم، أيهما أسبق، وأيهما يخلق الآخر، هل اللغة هي التي تصنع العالم وتصيغ موضوعاته؟ أم أنّ العالم بأشيائه وعناصره هو الذي يُشكِّل اللغة ويُخلِّق الكلام؟

إذًا، فاللغة هي هاجس الذات الشاعرة ومناط تساؤلها في شعر علي الدميني، فتبحث الذات في علاقة اللغة بالعالم، وفعل العالم باللغة:

تتسلّلُ العنقاء حاملةً خطاياها إلى لغتي،

كما تتسلّلُ الأسرارُ من عينين مثقلتين بالتقوى

وبالصبواتِ،

توقدُ قربَ طاولتي مواعيد الخرافة في التفاتاتها،

وتهربُ

حين تفضحُني ارتباكاتُ القصيدةْ.

يتضح -لدينا- أنَّ الذات الشاعرة تدرك انتفاء سيادتها على لغتها في إدراك لفعل اللاوعي اللغوي الذي تتسلل إليه عناصر الخرافة. إذًا، فالعالم -لدى علي الدميني- هو الذي يُشكِّل اللغة ويكتبها، واللغةُ هي التي تكتب الذات، كما في الفكر ما بعد البنيوي، وكذلك وفقًا للمبدأ الهايدغري بأنّ اللغة هي التي تكتبنا أكثر من كوننا نحن الذين نكتب اللغة، وهو ما يفضي بالقصيدة إلى الارتباك الذي يفضح ذاتها الشاعرة.

زها حديد.. تصاميمها أعمال فنية

زها حديد.. تصاميمها أعمال فنية

حزنت على وفاة زها حديد بأزمة قلبية مفاجئة في الخامسة والستين من عمرها. هذه العبقرية الهندسية العراقية التي رفعت اسمًا عربيًّا مشرفًا في العالم كله طوال سنوات، وفي ظروف مناوئة تمامًا للعرب. التقيتها في القاهرة عام 2009م، عندما أتت لعرض تصميمها لأرض المعارض الجديدة الذي لم ينفذ. وكتبت عنها في مقالتي الأسبوعية بجريدة الأخبار المصرية. تابعت كثيرًا من مشروعاتها الفذة عبر العالم. هي ليست المهندسة العربية الوحيدة التي لمع اسمها عالميًّا فقط، بل هي المهندسة الوحيدة في العالم الأكثر شهرة، وثاني مهندس عربي يؤثر في العمارة العالمية بعد المصري حسن فتحي عبر التاريخ. فمتى يجود الزمان بمثلها؟

هي شخصية غير تقليدية، أحيانًا غريبة الأطوار، وانعكس ذلك في تصميماتها المعمارية. لها شخصية قوية وحضور طاغٍ، حتى إنها حازت لقب واحدة من أقوى نساء العالم؛ لذا فقد اكتسبت من اسمها صفته، وقالت ذات مرة مازجة الإنجليزية بالعربية: «Iam a Hadid» يعني «أنا حديد». ربما ساعدها تكوينها الشخصي على هذا الحضور، لكن الذكاء الواضح في عينيها الواسعتين هو الأهم، وثقتها بنفسها واضحة. بالغة النشاط، لا تحب النوم كثيرًا. أحببتها، فهي تقدم نموذجًا يحتذى للنساء عامة، ولنساء العرب خاصة. تصمم المشروعات، وتتابع تنفيذها، وتلقي المحاضرات، وتشارك في المؤتمرات والمعارض، فمن يحتذي؟

لديها نحو 1000 مشروع معماري في 44 بلدًا. هي ملكة الهندسة المعمارية الإبداعية في العصر الحديث. لم يكن لكلمة المستحيل مكان في حياتها، ولم تكن تتقيد بالقواعد سوى تلك التي تضعها لنفسها، وكان شعارها في الحياة كسر الحواجز. عندما أقيم معرض إكسبو العالمي في مدينة سرقسطة الإسبانية، صممت زها جسرًا طوله 275 مترًا، واستخدمته كجناح للعرض في الوقت نفسه. وصممت لشركة بي إم دبليو مصنعًا في مدينة لايبزغ تمر فيه السيارات عبر مكاتب الموظفين!!

أعلنت زها حديد الحرب على الزوايا، وبدأت منذ أيام الدراسة استلهام أشكال جديدة تتجاوز تصورات ما بعد الحداثة. سعت في هندستها المعمارية الديناميكية إلى تجاوز قانون الجاذبية، كما فعلت في منصة القفز في جبل إنسبروك النمساوي. وكذلك مكتبة الكلية الجديدة في جامعة فيينا التي تمثل مركبة فضائية في خدمة العلوم.

كانت زها حديد صارمة، ولا تقبل المساومة، وتصر على تنفيذ خطة البناء مهما ارتفعت التكاليف أو تأخر موعد الإنجاز. متحف الفن الحديث للقرن الواحد والعشرين في روما مثلًا أنجز بعد 11 سنة من الموعد المحدد. كانوا يقولون: إن هذا التصميم غير قابل للتنفيذ، وظلوا يرفضون لفترة طويلة عرض أعمال فنية في فضاء يتنافس مع الفن. كانت تدرك ذلك من البداية، وقالت: «أسلوبي غير مألوف في العمل. فهناك عملاء كثيرون يعتبرون تصاميمي ضربًا من الجنون. إنه صراع دائم ومُضنٍ في بعض الأحيان. لكن هذه المعركة والمواجهة المستمرة تجعلك في النهاية أشد قوة». وقالت في مناسبة أخرى: «يتعين علينا جميعًا تقديم تنازلات من حين لآخر، لكن عندما يطلب مني صاحب المشروع التنازل كليًّا عن جانب أساسي منه فعندها أرفض».

أحد أهم مشاريعها الأخيرة هو متحف «إم إم إم كورونيس» على قمة جبل كرونبلاتز من جبال الألب الإيطالية. هو نفق محفور في الجبل، ومشيد بالخرسانة المسلحة، ومكون من ثلاثة طوابق، ولا نرى منه من الخارج سوى مداخله. جدرانه كلها غير مستوية، هكذا تمكنت زها حديد من حفر بصمتها على الحجر. كانت تعشق عنصر الخفة وحيوية الحركة على سطح الأرض، ومساحة الحرية التي تمنح القدرة على التحليق فوق سطح الأرض.

ظلت مشروعاتها لسنوات عدة تصنف في خانة الفنون التي تعرض في صالة المعارض، فكانت تصاميمها تعد أعمالًا فنية أكثر منها مشروعات للتنفيذ أو غير قابلة للتنفيذ. تعتقد زها حديد أن فكرة الحداثة الجديدة لا تقتصر على وجود أشياء متطابقة في صورة واحدة، إنما هي عبارة عن أشياء مختلفة تجتمع في آن واحد. وأعتقد أن من أهم أسباب نجاحها هو تطلعها الشديد لاكتشاف جديد، تكتشفه من داخلها معتمدة على موهبتها، وما حصلته من علم وخبرة. لم تلق بالًا كثيرًا لما تحدثوا عنه من انتمائها للمدرسة التفكيكية في العمارة، فهي في الواقع كانت فوق المدارس والاتجاهات. هي خلقت مدرستها أو اتجاهها الخاص. بدأت بعد تخرجها في لندن بأعمال مفاهيمية بحتة، لكن مشروعها الرئيسي الأول كان تصميم مركز إطفاء في ألمانيا، انتهى تنفيذه عام 1993م. كان هيكلًا خرسانيًّا ضخمًا مائلًا وله جناح يخرج منه مائلًا ومنحنيًا نحو الأعلى كعلامة بصرية له. شكل هذا المبنى بداية أسلوب زها حديد المتميز. كما جاء تصميمها للمتحف الإيطالي الوطني لفنون القرن الواحد والعشرين في روما، الذي تم تنفيذه عام 2009م، ليؤكد مدرسة زها حديد في العمارة. وهو مزيج طموح من المنحنيات والأنابيب المتقاطعة، اعتبره نقاد العمارة عملًا رئيسيًّا.

اعتمدت زها على دخول المسابقات المعمارية؛ لإثبات تفردها، وقد فازت ببعضها، وخسرت بعضها. أحيانًا لا تعني الخسارة أن مشروعها ليس هو الأفضل، ولكنها المسابقات التي تحكمها ملابسات كثيرة. وهي في الوقت نفسه كانت طريقها للشهرة وللعالمية. هذا فضلًا عن حصولها على جوائز عالمية في العمارة. فكانت أول امرأة وأول مسلمة تحصل على جائزة المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين. لكن جائزة بريتزكر التي حصلت عليها عام 2004م غيرت كثيرًا في مسيرتها المهنية، فهي أول امرأة وأول مسلمة تحصل عليها، فقد جعلت الجائزة آخرين يغيرون آراءهم في تصاميمها التي كانوا يرونها غريبة جدًّا أو مبالغًا فيها، وربما أنثوية جدًّا. كانت تصاميمها يغلب عليها بالفعل هذه الصفات. حطمت أسقفًا زجاجية كثيرة في مجال التصميم المعماري. شكلت تصميماتها المنحنية الأضلاع، وهندسة الليزر الأنيقة التي استخدمتها، الانتقال من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين، أكثر مما فعلت أعمال أي معماري آخر.

أشارت زها أكثر من مرة إلى تعرضها للتمييز؛ بسبب الجنس وأصلها العربي، مما سبب لها مشكلات في عملها. قالت: «أدركت منذ وقت طويل أنه لا يسمح لي باقتحام عوالم معينة؛ لأنني امرأة وشابة ومن أصول أجنبية. وأعتقد بأن كوني امرأة كان هو العامل الحاسم في ذلك كله». خصصت «ديسبينا ستراتيجاكوس Despina Stratigakos» في كتابها الصادر حديثًا «أين المعماريات؟» فصلًا كاملًا لما وصفته «بالتمييز الجنسي الذي واجه زها عند كل منعطف». وهي، زها حديد، على كل حال لم تكن تفضل الحديث عنها كامرأة مهندسة. قالت لتلفزيون سي إن إن عام 2012م: «أنا مهندس، ولست مجرد امرأة مهندسة».

دفعت زها حديد بفن العمارة إلى أقصى ما هو ممكن. ويجب على نقاد ومؤرخي العمارة في العالم أن يفحصوا هذا الرأي مقارنة بمنجزات معاصريها من كبار المعماريين أمثال: ريتشارد ماير، وفرانك غيري، وألدو روسي، ونورمان فوستر، وكلهم حاز على جائزة بريتزكر قبل زها حديد.